الرسالة الثامنة
من النفسانيات العقليات في كمية أجناس الحركات
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ
اعلم أيها الأخ أنَّا قد فرغنا من رسالة البعث والقيامة، وكنا قد بيَّنا قبل ذلك ماهية الأجسام وكمية أنواعها، وبينا أيضًا أن الأجسام لا تنفك من الحركة والكون، وقد بيَّنا أن المحرك والمسكن للأجسام هي النفس في رسائلنا الطبيعيات والإلهيات، ونريد الآن أن نبين في هذه الرسالة ماهية الحركات وكمية أنواعها والجهات التي تتحرك المتحركات إليها، وفيها فنقول:
أولًا ما الحركة وما السكون؟ وذلك أن العلماء والحكماء قد اختلفوا في ماهية الحركة والسكون وحقيقتهما؛ فمنهم من أثبتهما، ومنهم من نفاهما وقال لا حقيقة لهما ولا معنى، ومنهم من قال إن الحركة لا تكون إلا مِن حي قادر، ومنهم من قال إنها هي الحياة نفسها، ويطول ذلك لو شرحنا اختلاف أقاويلهم واحتجاجاتهم، ولكن نقول:
إن الحركة هي صورة روحانية تجعلها النفس في الأجسام، فبها تكون الأجسام متحركة، كما تجعل الأشكال والنقوش والصور والألوان في الأجسام، وبها تكون الأجسام مصورة منقشة مشكلة متحركة، فالنفوس هي المحركة للأجسام، والأجسام هي المحركات والمسكنات بتحريك النفوس لها وتسكينها إياها، كما بيَّنا في رسالة الهيولى والصورة، والتحريك هو فعل النفس، والحركة هي صورة تجعلها النفس في الجسم بها يكون الجسم متحركًا، وأما التسكين فهو أيضًا فعل من أفعال النفس تحرك الجسم تارة وتسكنه أخرى؛ مثال ذلك أن الإنسان يحرك يده تارة ويسكنها أخرى.
وإذ قد تَبين مما ذكرنا ما الحركة وما السكون، فنريد الآن أن نذكر كمية أنواعها وماهية كل نوع منها، فنقول:
اعلم أن الحركة نوعان: جسماني وروحاني — كما سنبين — فالحركة الجسمانية ستة أنواع؛ وهي: الكون والفساد والزيادة والنقصان والتغير والنقلة. ونريد أن نتكلم أولًا في الحركات التي هي النقلة إذ كانت هي أَبْين وأظهر للحواس، ثم نذكر الخمسة الباقية إذ كانت هي أدق وألطف، فنقول: إن الحركة التي هي النقلة ثلاثة أنواع؛ مستقيمة ومستديرة ومركبة منهما. فالحركة المستقيمة نوعان؛ من المركز إلى المحيط ومن المحيط إلى المركز؛ يعني مركز العالم ومحيط العالم أو بين ذلك. وأما المستديرة فهي التي تكون حول المركز.
وإذ قد تبين بما ذكرنا كمية أنواع الحركات التي هي النقلة، فنريد أيضًا أن نذكر المحركات؛ إذ كانت هي أَبْين وأظهر للحواس، فنقول:
إن المحركات اثنا عشر نوعًا حسْب، لا أقل ولا أكثر؛ منها حركات الأفلاك التسعة، ومنها حركات الكواكب السيارة، ومنها حركات الكواكب ذوات الأذناب، ومنها حركات الشهب، ومنها حركات الهواء والرياح، ومنها حركات حوادث الجو والسحاب والغيوم، ومنها حركات مياه البحار والأنهار والأمطار، ومنها حركات ما يحدث في بواطن الأرض من الزلازل والخسوف، ومنها حركات الكائنات من الجواهر المعدنية في باطن الأرض، ومنها حركات النبات والأشجار على وجه الأرض، ومنها حركات الحيوانات في الجهات الست من البحر والبر والهواء.
وأما جهات الحركات فمختلفة جدًّا، كثيرة الضروب والصور، ولكن لا تخلو كلها إما أن تكون من مركز العالم نحو المحيط أو من المحيط نحو المركز أو حول المركز أو مؤربًا بين ذلك.
(١) فصل في تفصيل ذلك
فنقول: أما حركات الأفلاك التسعة فكلها حول الأرض؛ لأنها مركزها، والأرض مركز العالم بأسره، وهكذا أيضًا حركات الكواكب الثابتة حول مركز العالم، وأما حركات الكواكب السيارة السبعة فحول مركز أفلاكها المستديرة، وأما حركات الأفلاك حول مراكز أفلاك أخر تسمى الأفلاك الحاملة، وحركات تلك الأفلاك حول مركز الأفلاك الخارجة المركز من مركز الأرض، كما بين ذلك في المجسطي ببراهين هندسية ضرورية بشرح طويل.
وأما الحركات التي ترى الكواكب السيارة على توالي فلك البروج، وبالميل والعرض والرجوع والاستقامة وما شاكلها، فقد بيَّنا حقيقتها في رسالة السماء والعالم بمثالات ذكرناها، وأما شرحها فتجدها في المجسطي، وأما كمية تلك الحركات فتسع وأربعون حركة للسيارة، لكل واحد سبع حركات، وللكواكب الثابتة سبع أخرى، ولفلك البروج حركة واحدة، فذلك سبع وخمسون حركة. وأما الكواكب التي تسمى ذوات الأذناب فليست هي بكواكب بل هي نيرات تظهر دون فلك القمر في كرة الأثير، وأما حركاتها فمختلفة؛ تارة تكون نحو كرة المغرب مع دوران الفلك المحيط، وتارة على توالي فلك البروج نحو المشرق أو مائلًا طولًا وعرضًا بحسب ما يوجبه شكل الفلك وأحكام النجوم، وإن حدوثها يكون دون فلك القمر في كرة الأثير كما يكون حدوث الشهب ما بين كرة الأثير وكرة الزمهرير، والذي يكون مِن حدث البروق في كرة النسيم دون كرة الزمهرير.
وكل هذه حوادث تكون في عالم الكون والفساد بحسب موجبات أحكام النجوم يطول فيها القول في كيف وكم ومتى ولماذا، وأما كمية أنواع حركات الرياح فهي إلى ست؛ وذلك أن الرياح ليست شيئًا سوى تموج الهواء؛ لأن الهواء بحر لطيف ما بين السماء والأرض؛ فإذا تموج من المشرق إلى المغرب سمي الصبا، وإن تموج بالعكس سمي دبورًا، وإن تموج من الجنوب إلى الشمال سمي التيمن، وإن تموج بالعكس فهي الجربى، وإن تموج من أسفل إلى فوق سمي الزوائغ،١ وإن تموج بالعكس سمي الزمهرير، وبالفارسية أباددمه، وهي التي هلكت بها عاد، كانت نفخت عليهم من كرة الزمهرير سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا.
وأما التي تتحرك من غير هذه الجهات فتسمى النكباوات، وهي كثيرة الجهات، والمعروف منها أربع: نكباء الشمال، ونكباء الجنوب، ونكباء المشرق، ونكباء المغرب.
وأما الأسباب المحركة للهواء المموجة لها فمنها ما هو من جهة مطارح الشعاعات من الكواكب ونزول القمر منازله الثمانية والعشرين واتصالاته بالكواكب، وقد ذكرنا طرفًا من كيفية ذلك في رسالة الآثار العلوية فيطلب من هناك.
وأما حركات الشهب فهي أيضًا إلى الجهات الأربع أو نكباواتها بحسب القوة الدافعة لها من مطارح شعاعات الكواكب، وليست حركاتها بأسرع من حركات الكواكب في أفلاكها، ولكن لقربها منا نراها أسرع حركة من الكواكب.
وأما حركات السحاب والغيوم فإلى هذه الجهات الأربع أيضًا نكباواتها، وهي بحسب مهب الرياح التي تسوقها من سواحل البحار والآجام والأنهار إلى البلدان المقصود بها من البراري والقفار ورءوس الجبال منتصبًا أو مؤربًا.
وأما حركات قطر الأمطار فكلها تجري من جو الهواء إلى الأرض والبحار منتصبًا أو مؤربًا.
وأما حركات الأرض فهي ثلاثة أنواع؛ منها الزلازل ومنها الخسوف ومنها الأرجحنان، فأما سبب الزلزلة فهو البخار المحتقن في باطن الأرض يطلب الخروج فيهز بعض بقاع الأرض وتضطرب وترتعد كما يرتعد المحموم عند شدة الحمى؛ وسبب ذلك هو رطوبة عفنة في خلل الأبدان، فتشتعل منها الحرارة العرضية فتذيبها وتحللها وتصيِّرها دخانًا وبخارًا يخرج من مسام خلل الأبدان، فيهتز من ذلك البدن كله أو عضو منه ويرتعد، ولا يزال البدن كذلك إلى أن تخرج تلك البخارات والدخانات من هناك وتفنى مادتها وتخمد تلك وتسكن، وكذلك حركات بقاع الأرض عند الزلازل وربما ينشق ظاهر الأرض وتخرج تلك الرياح والدخانات والبخار المحتقن المحتبس دفعة واحدة وتنخسف الأرض والبقاع ويقع في تلك الأهوية كما ينخسف سقف البيت ويقع في أرضه.
وأما حركات الأرجحنان فعند الحكماء أنها تترجح تارة من الجنوب إلى الشمال، وتارة بالعكس، ولكن الناس لا يحسون بها لكبر الأرض وعظمها كما لا يحس أهل المراكب في البحر بحركاتها عند شدة سوق الرياح لها. وذكر هذا الحكيم أن علة تلك الحركة هي مرور الشمس، تارة من البروج الجنوبية إلى البروج الشمالية، وتارة من الشمالية إلى الجنوبية، وإنما تجذبها إلى حيث دارت ومعها كيف مالت كما تجذب نباتها من باطنها إلى ظاهرها، وكما تجذب أصول النبات وفروعها إلى الهواء، ومن الحكماء من قال إن سبب ذلك هو أنه من دوران الشمس فوق الأرض في ناحية الشمال ستة أشهر في الصيف، كما ذكر في المجسطي، سخنت أهوية تلك البلاد ومياهها وتحللت رطوبة تلك البلاد، وخلا ذلك الجانب وتحركت الأرض وترجحت وثقل الجانب الآخر وتحركت الأرض، وينقل المراكز البعد والثقل جميعًا، وترجحت الأرض ولكن لا يحس بها لكبرها، ولهم في هذا احتجاجات وكلام وأقاويل يطول شرحها.
فأما الذين أنكروا ذلك من الحكماء ودافعوا أن تترجح الأرض، فقالوا: لو كان القول كما قيل وكما زعموا، لكان يجب أن تختلف مسامتات الكواكب الثابتة لبقاع الأرض في الشتاء والصيف، وكان يجب أن يرتفع القطبان تارة وينخفضا تارة، وكان يجب أن يكون موضع خط الاستواء الذي تحت معدل النهر مختلفًا، ولسنا نجد الأمر كذلك، فدل على أن ما قالوه من أرجحنان الأرض باطل. وقد روي في الخبر أن الأرض في بدء الخلق كانت تترجح كما قال هؤلاء الحكماء، فلما أرساها الله تعالى وشيدها بالجبال الثقال، استثقلت وسكنت حركاتها.
وأما حكم حركات باطن أجزاء الأرض، فقد قدمنا طرفًا منها في رسالة المعادن، ولكن نذكر في هذا الفصل ما لا بُدَّ منه.
(٢) فصل
اعلم أن الأرض جسم كري بجميع ما عليها من الجبال والبحار والعمران والخراب، وهي واقفة في مركز العالم وليست مستدير ملساء ولا مصمتة صماء، بل كثيرة الارتفاع والانخفاض من الجبال والتلال والأودية والأهوية، كثيرة التخلخل والتجويفات والكهوف والغارات والمنافذ والظواهر والبواطن، وكلها ممتلئة مياهًا ورطوبات وبخارات دهنية وكبريتية تنعقد منها الجواهر المعدنية.
وتلك البخارات والدخانات والرطوبات في دائم الأوقات في الاستحالة والتغير والكون والفساد.
وهكذا حكم ظاهرها فإنها كثيرة البحار والأنهار والأودية والجداول والبطائح والآجام والغدران، وفيها منافذ وخليجات يجري بعضها إلى بعض في دائم الأوقات وأمواج البحار متصلة في دائم الأوقات ليلًا ونهارًا، لا تقر ولا تهدأ، وتصاريف الرياح كذلك، والغيوم والأمطار والسحاب والضباب دائمات الكون والفساد، والأمطار متصلة في دائم الأوقات في بلدان مختلفة البقاع شرقًا وغربًا وجنوبًا وشمالًا، بل حكم الليل والنهار والشتاء والصيف الموجودات في الأوقات في بلدان شتى يتعاقب على بقاع الأرض من كل جانب، والنبات والحيوان والمعادن في الكون والفساد متصل لا ينقطع، والسفاد والنكاح والتوالد والحس والحركة والنوم واليقظة والموت والحياة متصلة في الخليقة!
وما في الأرض موضع شبر إلا وهناك معدن أو نبات أو حيوان، قل أم كثر، صغر أم كبر، مختلف الأجناس والأنواع والأشخاص والأشكال والصور والطباع والمزاج والأخلاق والألوان والأصوات، لا يعلم أحد كنهها وكثرتها وتفصيلها إلا الله تعالى الذي خلقها وصوَّرها ودبَّرها كما شاء وكيف شاء، فتبارك الله رب العالمين.
وإذا تأملتَ يا أخي واعتبرت ما وصفنا من أحوال الحركات والمتحركات التي في العالم، علمت وتبين لك أن حكم العالم بجميع أجزائه ومجاري أموره تجري مجرى مدينة واحدة أو حيوان واحد أو إنسان واحد لا ينفك من الحركة والسكون، إما بكليته أو بجزئيته.
وقد بيَّنا في رسالة ماهية الطبيعة ورسالة السماء والعالم أن سبب حركات الأركان ومولداتها هو حركات الكواكب، وسبب حركات الكواكب دوران الأفلاك، والمحرك والمدبر للأفلاك هي النفس الكلية الفلكية، فإن النفس الكلية الفلكية هي مَلَك من الملائكة المقربين وجنوده وأعوانه، وهو الذي أشير إليه بقوله تعالى: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ، وقال تعالى: مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ، وهذا الملك وكَّله الله تعالى بإدارة الأفلاك وحركات الكواكب وما تحت فلك القمر من سائر الأركان ومولداتها من المعادن والنبات والحيوان أجمع، وهذا الملك هو أكبر من الفلك وأقوى منه وأعظم وأقدم وأشرف وأجلُّ وأعلى من سائر الخلائق الجسمانيين، وهو يَقْدر على تسكين الأفلاك والكواكب كما يقدر على تحريكها؛ لأن التسكين أسهل من التحريك يعلمه كل عاقل منصف بحكم العقل.
وأما حركات أشخاص الحيوانات فهي مختلفة الجهات والأشكال والهيئات والصور، لا يعلم عددها إلا الله الواحد القهار، ولا يقدر أحد على تفصيلها إلا هو.
ولكن نذكر منها طرفًا من فنون حركات أعضاء بدن الإنسان ومفاصل جسده ليكون دلالة على حركات أبدان سائر الحيوانات وأعضائها كلها المختلفة الأشكال والصور.
(٣) فصل في أن حركات أعضاء البدن نوعان
فنقول: اعلم أن حركات أعضاء البدن نوعان؛ طبيعية وإدارية، فالطبيعية مثل حركات نبض العروق الضوارب وحركات أضلاع صدره وفؤاده ورئته وحلقومه عند استنشاقه الهواء وإرساله في حال النوم واليقظة من غير إرادة منه ولا اختيار.
وأما الحركات الإرادية والاختيارية فمثل القيام والقعود والذهاب والمجيء والصنائع والأعمال والكلام والإشارات بأعضاء بدنه، فإنه لا يكون إلا بإرادة واختيار منه، وهي مائة ونيف وعشرون حركة، منها حركات لجفن العين بالفتح والإطباق.
ومنها حركة نقل حدقتيه إلى أربع جهات، فوق وتحت ويمين ويسار، يحركها بأعصاب ممتدة من الدماغ إلى جرم العين وبالعضلات المتصلة بالعين، فهو يقلب عينه بتلك العضلات والأعصاب متى شاء إلى الجهات كلها، كما يجذب الفارس لجام فرسه يمنة ويسرة ويصرفه كيف يشاء في تقلب عينه ويحركها إلى حيث يريد أن ينظر إليه بتلك الأعصاب.
ومنها حركات اللسان إلى ست جهات لمضغ الطعام وتقليبه تحت أسنانه للقطع والكسر والدق والطحن والقطع بالثنايا والكسر بالرباعيات والأنياب والدق والطحن بالأضراس والطواحن.
وأما حركات اللسان عند الكلام فإنا نذكرها في فصل آخر، منها حركات اللسان أيضًا عند قطع الشفتين لحدوث الحروف التي مجراها على اللسان، وهي أربعة عشر حرفًا في لغة العرب، وهي هذه «ت، ث، د، ذ، ر، ز، س، ش، ص، ض، ط، ظ، ل، ن». والأربعة عشر حرفًا الأخرى، فمخارجها مختلفة ليس للِّسان فيها مدخل.
ثم اعلم أن هذه الأحرف لا تحدث إلا بإرسال النفس المستنشق من الهواء وإرساله وقطع اللسان لها في مخارجها ومجاريها كما نبين ذلك في فصل آخر.
ومنها حركتان للشفتين بالفتح والضم، ومنها حركات عصبات الخياشم عند استنشاق الهواء والروائح بالمنخرين.
ومنها حركات المريء للبلع وازدراد الطعام والشراب وإيصالهما إلى المعدة، ومنها حركة الفك السفلاني إلى أربع جهات، ومنها حركات الرأس والرقبة إلى أربع جهات، ومنها حركات الكفين إلى أربع، ومنها حركات العضدين مثل ذلك، ومنها حركات الذراع إلى جهتين، ومنها حركات الكرسوع إلى أربع جهات، ومنها حركات الأصابع الأربع كل واحدة إلى جهتين، إلا الإبهام فإنها تتحرك إلى الجهات الأربع، ومنها حركات الظهر إلى أربع جهات، ومنها حركات الفخذين إلى أربع جهات، ومنها حركات الساقين إلى جهتين، ومنها حركات أصابع الرِّجل إلى جهتين، ومنها حركات السبيلين عند إطلاق البول والغائط؛ فهذه جملة مختصرة من تعديد أعضاء بدن الإنسان. فأما عللها فيطول شرحها، مذكور بعضها في كتب التشريح، وبعضها في كتاب منافع سائر الأعضاء لجالينوس. وأما حركات أعضاء أبدان سائر الحيوانات، فيطول شرحها لكثرة اختلافها وصورها وأشكال أعضائها، وقد ذكرنا طرفًا منها في رسالة الحيوانات على لسان رسول النحل عند ملك اللحن في الخطاب.
فأما حركات الصناع وأصحاب الحِرَف في صنائعهم وأعمالهم، فقد ذكرنا طرفًا منها في رسالة الصنائع العملية. فأما حركات الحواس الخمس عند إدراكها محسوساتها، فقد ذكرنا طرفًا منها في رسالة الحاس والمحسوس.
وأما حركات عصبات مقدم الدماغ ووسطه ومؤخره فقد ذكرناها في رسالة الآراء والمذاهب والديانات، وأما حركات النبات فقد بيَّنا طرفًا منها في رسالة النبات، وأما حركات الجواهر المعدنية ففي رسالة أخرى، وأما حركات الجو والهواء ففي رسالة الآثار العلوية، وأما حركات الأركان الأربعة فقد بيناها في رسالة الكون والفساد، وأما حركات الأفلاك والكواكب ففي رسالة السماء والعالم، وأما حركات الأصوات ففي رسالة الموسيقى، وحركات الآلام واللذات في رسالة أخرى؛ فقد ذكرنا في كل رسالة ما يليق بحسبه، وإنما طوَّلنا ذكر الحركات وزدنا في شرحها لأنها هي حياة العالم؛ وذلك أن حياة كل شيء من نبت وحيوان بالماء، وحياة الماء بالحركة، وحياة الأبدان بالنفس، وحياة النفس بالفكر والجَوَلان والخواطر، كما ذكرنا طرفًا منها في رسالة الإيمان، وهي لا تهدأ — أعني النفس — لا في النوم ولا في اليقظة عن الحركات والجولان.
فصل
ثم اعلم أن غرضنا من ذكر حركات العالم وحركات أجزائه الكليات والجزئيات وفنون تصاريفها هو بيان بطلان قول من يقول بقِدم العالم؛ وذلك لأن الحركات المختلفة تدل على اختلافها، والمتحرك والمختلف الأحوال لا يكون قديمًا؛ لأن القديم هو الذي يكون على حالة واحدة لا يتغير ولا يستحيل ولا يحدث له حال، وذلك ليس يوجد موجودٌ هذا شأنه إلا الله الواحد الأحد، ولا يمكن أن يوجد شيء سوى الله تعالى هذا شأنه.
ثم اعلم أن الذين قالوا بقدم العالم ظنوا بأنه ساكن، والساكن لا تختلف أحواله، وليس الأمر كما ظنوا وتوهموا من سكون العالم كما بيَّنا فيما تقدم بكثرة حركات كلياته وجزئياته ما لا تنكره العقول السليمة؛ فمنها حركات الكواكب، ودوران الأفلاك، واستحالات الأركان، وتكوين المولدات مما لا خفاء به.
ولَعمري أن الفلك المحيط هو جسم كروي محيط بسائر الأشياء والأفلاك، وهو ساكن في مقره لا ينتقل منه، ولكنه متحرك أجزاؤه كلها، وكل فلك من الأفلاك المستديرة والأفلاك الخارجة المراكز يدور كل واحد حول مركزه الخاص، لا يقر ولا يهدأ طرفة عين، ولا يمكن أن يتوهم بسرعة حركتها إلا شيء نذكره، وذلك أن الدوارة هي أسرع شيءٍ حركةً نشاهدها، وقد ذكر أصحاب المجسطي أن حركات الأفلاك والكواكب أسرع من ذلك، وقد بينوها ببراهين هندسية ضرورية؛ فمن ذلك ما قالوه في حركة الشمس أنها تتحرك في مقدار ما يشيل الإنسان رجله بخطوة من خطواته ويضعها تمشي فراسخ.
ثم اعلم أن كل حركة في متحرك فهي متحركة له، وهي سبب لشيء آخر، فمتى عدمت تلك الحركة بطل ذلك السبب.
مثال ذلك: حركة الرحى عن الدابة التي تديرها أو الماء، وهي سبب الطحن، فمتى وقفت الدابة وانقطع الماء سكنت الرحى وعدم الطحن! فهكذا حكم الدولاب متى وقفت الدابة سَكَن دوران الدولاب وعُدِم الاستقاء، وهكذا حكم الرياح وتحريكها المراكب والسفن والمياه، فمتى سكنت الرياح وقفت مراكب البحر عن السير وسكنت الأمواج، وهكذا أيضًا مراكب الأنهار والسماريات في جريانها، متى تُوُهِّم عدم الماء ووقوفها وجريان الأنهار، وقفت المراكب والسماريات والسفن، واقفة عن الانحدار والأصعاد، وهكذا متى سكنت حركات قوائم الحيوان ماتت، وهكذا متى سكنت حركات أبدانها وأعضائها عن النبض والتنفس ماتت وبطلت حياتها، وهكذا متى وقفت الكواكب السبعة السيارة في البروج عن دورانها وقفت الأمور التي تحت عالم الكون والفساد من الحيوان والنبات عن حركاتها وتكوينها، يَعرف حقيقةَ هذا من كان حاذقًا بصناعة النجوم وتكلَّم عليها.
والمثال في ذلك كرواحة متى وقفت عن الدوران سقطت بعدما كانت قائمة منتصبة عند حركاتها، فهكذا حكم العالم متى وقف الفلك المحيط عن الدوران وقفت الكواكب عن المسير والحركات، ووقفت عند ذلك مجاري الليل والنهار والشتاء والصيف، فيبطل عند ذلك الكون والفساد، ويبطل نظام العالم وتذهب الخلائق وتفارق النفس الكلية الجسم الكلي وتقوم القيامة الكبرى، وذلك أن العالم هو إنسان كبير، فإذا فارقت نفسُ العالم الجسمَ الكلي فقد مات الإنسان الكبير وقد قامت قيامته الكبرى، كما أن كل إنسان إذا فارقت النفسُ جسدَه فقد مات الإنسان الذي هو عالم صغير، وقد قامت قيامته؛ لأن القيامة قيامتان: قيامة كبرى وقيامة صغرى، كما قال عليه السلام: «من مات فقد قامت قيامته»، ثم بعد ذلك تبين للمنكرين ما كانوا يوعدون.
(٤) فصل في بيان مقدماتٍ عقلية ضرورية تدل على أن العالم محدَث مصنوع
فنقول: اعلم أن معنى قول الحكماء العالم هو إشارة إلى الفلك المحيط وما يحويه من سائر الأفلاك والكواكب والبروج والأركان الأربعة مولداتها التي هي الحيوان والمعاد. ثم نقول: اعلم أن الفلك المحيط وما يحويه من جميع ما ذكر كلها أجسام، ومما لا شك فيه عند الحكماء أن الجسم عبارة عن الشيء الطويل العريض العميق، وقولهم «الشيء» إشارة إلى الهيولى وهو الجوهر، والطول والعرض والعمق إشارة إلى الصورة التي صارت بها الهيولى جسمًا طويلًا عريضًا عميقًا. ثم اعلم أن من الأجسام ما هو متحرك دائمًا، وهي الأفلاك والكواكب، ومنها ما هي ساكنة بكليتها متحركة بأجزائها، وهي الأركان الأربعة؛ وذلك أن النار التي دون فلك القمر لا تبرح من مكانها، وهي المسمى الأثير؛ وهو هواء حار لين ليس له ضوء ودونه هواء بارد يسمى الزمهرير، وليس يبرح أيضًا من مكانه، ودونه النسيم المحيط بالأرض والبحار، وهو هواء معتدل بين الحرارة والبرودة، وكل هذه الأكر الثلاثة لا تبرح من مكانها، بل هي متحركة بأجزائها، ومنها ما هي متحركة تارة بكليتها وجزئيتها وتارة ساكنة بكليتها وجزئيتها، وهي المولدات الكائنة من الحيوان والنبات، وكل هذه الأجسام المتحركات والساكنات يقتضي محرِّكًا ومسكنًا.
بيان ذلك أن الفلك لما كان أجسامًا كريات مستديرات مشفات محيطات بعضها ببعض، الصغير منها في جوف الكبير والكبير في جوف ما هو أكبر منه إلى أن ينتهي إلى الفلك التاسع لمحيط بالكل.
وكل هذه الأفلاك متحركات حركات مستديرة مختلفة في السرعة والإبطاء، والجهات المختلفة شرقًا وغربًا وجنوبًا وشمالًا وطولًا وعرضًا.
وهكذا حكم حركات الكواكب فإنها كلها أجسام كريات مستديرات مضيئات بحركات مستديرة مختلفة، كما بين في المجسطي ببراهين هندسية عقلية ضرورية تدل هذه من أحوالها المختلفة الأشكال من الصغر والكبر والإبطاء والسرعة وغير ذلك، على أنها واقفة بقصد قاصد وصنع صانع وجعل جاعل وفعل فاعل حكيم قادر عالم.
وهكذا حكم الأركان الأربعة ومولداتها من الحيوان والنبات والمعادن، من اختلاف أحوالها وفنون تصاويرها وتغير أوصافها، تدل على أنها كلها من صنع صانع حكيم بصير قادر؛ وهو الله الواحد القهار العزيز الغفار.
فعند ذلك بطل قول المنجمين فيما يدعونه من تأثير الكواكب لقيام الأدلة بأنها مضطرة مسخرة؛ إذ المضطر لا فِعل له، والفعل لمن يضطره ويبعد عليه قدرته! ومَن تعدى هذا الحكم فقد ظلم، ولا يبعد الله إلا لظالم قال بما لا يعلم.
(٥) فصل في بيان مشاهدة العلماء الحكماء العارفين المستبصرين الذين هم أولياء الله المصطفَوْن الذين يرون صانع العالم بعين البصيرة
فنقول: اعلم أن الجسم ذو جهات لا يمكنه أن يتحرك إلى جميع جهاته دفعة واحدة، وليست حركته إلى جهة أَولى من جهة إلا لسبب أو علة بها تكون تلك الحركة من تحريك غيره إياه.
فاعلم أن صانع العالم، لما كان محتجبًا عن أبصار الناظرين الذين هم به جاهلون، أثرُ الصنعة في مصنوعاته ظاهر جلي بيِّن لا يخفى على كل عاقل منصف لعقله، وإن كان لا يدري الصنعة لمن هي، ومن عملها، ومتى صورها، ومن أي شيء خلقها، وكيف صورها، وواحد عمله أو أكثر، وإن كان العمل لواحد فعَلَى مثال احتذاه بفعله إياه أو يعرف مثال عمله، ولمَ فعل بعد أن لم يكن فعل؛ فمشاهدتهم أثر الصنعة في المصنوع — وهي التي ذكرنا من اختلاف أحوالها — دلالة على أنها كلها بقصد قاصد وصنع صانع وفعل حكيم قادر، وإن كانوا ليسوا يرونه ولا يدرون من هو لجهلهم به وقلة معرفتهم له، وهي الحجاب الذي بينه وبينهم، كما ذكر الله تعالى في ذَمِّهم: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ، والحجاب ها هنا هو جهالتهم وقلة معرفتهم به.
وأما أولياء الله وأصفياؤه والعلماء العارفون المستبصرون فإنهم يرونه ويشاهدونه في جميع أحوالهم ومتصرفاتهم ليلهم ونهارهم، لا يغيب عنهم طرفة عين، كما لا تغيب مصنوعاته ومخلوقاته ومصوراته عن أبصار الناظرين، كما وصفهم تعالى بقوله: شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ، وقال: إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ، سمَّاهم شهداء لمشاهدتهم لله تعالى في جميع أحوالهم كما قال: فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ، وقال: هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ ولا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا هو معهم أينما كانوا مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ، وقال: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ.
ولما تحقق أولياء الله تعالى فهْم هذه الآيات وعرفوها حق معرفتها، شرح الله قلوبهم ونوَّر أبصارهم وكشف الغطاء عنهم حتى رأوه وشاهدوه بأبصارهم كما عرفوه بقلوبهم، وكما ادعى أسد الله في الأرض «لو كشف الغطاء ما ازددت يقينًا» أراد بذلك: إني أراه في هذا الوقت مثل ما أراه في الآخرة.
(٦) فصل في أن وجود العالم عن الله
فنقول: اعلم أن وجود العالم عن الباري ليس كوجود الدار عن البنَّاء أو كوجود الكتاب عن الكاتب الثابت المستقل بذاته المستغني عن الكاتب بعد فراغه من الكتابة وعن البنَّاء بعد فراغه من أبنية الدار، ولكنْ كوجود الكلام عن المتكلم، الذي إن سكت بطل وجود الكلام، فالكلام يكون موجودًا ما دام المتكلم يتكلم به، ومتى سكت بطل وجوده؛ أو كوجود نور السراج في الهواء ما دام السراج باقيًا، فالنور باقٍ موجود؛ أو كوجود ضوء الشمس في الجو، فإن غابت الشمس بطل وجدان الضوء من الجو؛ أو كوجود الحرارة المسخنة في جسم النار لو انطفأت بطل ضوءها وحرارتها؛ أو كوجود العدد عن الواحد قبل الاثنين، كما بيَّنا في رسالة الأرثماطيقي.
ثم اعلم أن كلام المتكلم ليس هو جزءًا منه، بل فعلٌ فَعَله أو عملٌ عَمِلَه وأظهره بعد أن لم يكن، وهكذا حكم النور الذي يرى في الجو عن جرم الشمس ليس هو جزءًا منها، بل هو أشخاص منها وفيض وفضل منها، وهكذا حكم حرارة النار المنتشرة منها حولها ليست بجزء منها، بل هي فيض يفيض منها، وهكذا الحكم والمثال في وجود العالم عن الباري، وذلك أن العالم ليس بجزء منه، بل فضل تفضل به وفيض جود أفاضه وفعل فعله بعد أن لم يكن فعل، كما أن المتكلم أظهر الكلام بعدما لم يكن تكلم، وليس الكلام جزءًا من المتكلم، بل فعل فعله وصنع أظهره. فقد تبين إذَنْ بما ذكرنا من هذه المثالات التي تقدمت كيفية وجود العالم عن الله تعالى، ولا تقدر أيضًا ولا ينبغي أن تظن أن وجود العالم عن الله تعالى طبعًا بلا اختيار منه، مثل وجود نور الشمس في الجو طبعًا لا اختيارًا منها، ولا تقدر أن تمنع نورها وفيضها لأنها مطبوعة على ذلك، طبعها رب العالمين.
فأما الباري تعالى فمختار في فعله إن شاء فعل وإن شاء أمسك عن الفعل تركا، مثل المتكلم القادر على الكلام إن شاء تكلم وإن شاء أمسك وسكت، وهكذا حكم إيجاد الباري تعالى واختراعه، إن شاء أفاض جوده وفضله ونعمته وإحسانه وإظهار رحمته وحكمته، وإن شاء أمسك عن الفعل تركًا، وإن شاء لم يمتنع عن إيجاده فعله صنعًا؛ إذ هو قادر على الفعل وترك الفعل مختارًا، كما ذكر في كتابه: إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ، وقال: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ولا يشغله شأن عن شأن.
وإذ قد تبين بما ذكرنا حدوثُ العالم وكيفية حدوثه عن الله تعالى، فنريد الآن أن نذكر ونبين أيضًا كيفية بوار العالم وخراب الأفلاك وطي السموات كطي السجل للكتب بمقدمات عقلية ضرورية صادقة، ينتج عنها ما ذكرنا من بوار العالم وخراب الأفلاك.
فصل
فنقول: اعلم أن الفاعل المختار هو الذي يقدر على الفعل وتركه متى شاء، فهذه مقدمة موجبة صادقة. ومقدمة أخرى: كل فاعل حكيم مختار فله في فعله غرض، فهذه موجبة صادقة. ومقدمة أخرى نشرحها، فنقول: الغرض هو عناية سابقة في علم الصانع قبل إظهار صنعته ومن أجله يفعل ما يفعله، فإذا بلغ إلى غرضه قطع الفعل وأمسك عن العمل.
فهذه مقدمات ثلاث موجبات صادقات. ومقدمة أخرى: كل حكيم صانع إذا علم علمًا يقينيًّا أنه لا يبلغ إلى غرضه في فعله، فإنه لا يعمل شيئًا ولا يطلبه، وهذه مقدمة كلية موجبة صادقة. ومقدمة خامسة: محرك الأفلاك والكواكب فاعل مختار حكيم قادر، وهذه مقدمات موجبة.
فينتج من هذه المقدمات أن العالم سيخرب يومًا؛ بيان ذلك أنه إن كان قد يبلغ محرك الأفلاك إلى غرضه في تحريكها فسببه أن يمسك عن تحريكها وإدارتها، وإن كان لم يبلغ إلى الغرض فالغاية في ذلك بلوغ الغرض، وإن كان يعلم أنه لا يبلغ غرضه ومطلبه فسبيله أن يمسك عن فعله إن كان حكيمًا، وإن كان يعلم أنه سيبلغه، فإذا بلغ غرضه ومطلبه قطع الفعل وأمسك عن العمل.
وإذا أمسك محركُ الأفلاك عن التحريك لها وَقَفَت الأفلاك عن الدوران، ووقفت الكواكب عن المسير في البروج، ووقفت مجاري الليل والنهار والشتاء والصيف، وبطل ترتيب الزمان، ووقف الكون والفساد في المولدات الثلاثة، وفسد النظام. وفي ذلك يكون بطلان العالم وبوار الكل؛ لأنا قد بيَّنا في فصول قبل هذه أن قوام العالم وصلاح الخلائق هو بالحركة التي هي حياة العالم وصلاحه، وبها يكون الخير والشر والسعود والمعارف أجمع.
فقد تبين بما ذكرنا كيفيةُ بوار العالم وطيِّ السموات والأرضين التي هي القيامة الكبرى. فأما حديث عالم الأرواح وبقائها ودوامها وكيفية تصاريف أهلها، فقد ذكرنا طرفًا منها في رسالة البعث والقيامة بشرحها.
(٧) فصل في بيان الضرر لمن يعتقد أن العالم قديم غير مصنوع
فنقول: إن من يعتقد أن العالم قديم غير مصنوع أو يظن ذلك، فإن نفسه نائمة نوم الغفلة ويموت بموت الجهالة؛ وذلك أنه لا يخطر بباله ولا يجول في خلده ولا في فكره كيفية صنعة العالم وتكوينه، ولا يسأل عن صانعه مَن هو ولا من خلقه، أو متى أحدثه، ومن أي شيء خلقه، وكيف صوَّره، ولِمَ فَعَل بعد أن لم يكن فعل، وما الذي أراد بما فعله، وما شاكل هذه المباحث والسؤالات التي فيها وفي أجوبتها انتباه النفس من نوم الغفلة، وحياة لها وخلاص من البؤس والشدة. فإذا لم يخطر بباله لا يسأل عنه، وإذا لم يسأل عنه لا يجاب، وإذا لم يُجَبْ لا يعلم، وإذا لم يكن عالمًا فنفسه تنام في غفلتها، وتعمى عن الاعتبار للمشاهدات، وتصم عن استماع الأذكار والخطاب، وتموت في ظلمات الجهالة التي هي ظلماتٌ بعضها فوق بعض، ويشتغل حينئذٍ بالأكل والشرب والجماع وطلب الشهوات الجسمانية واللذات الجرمانية؛ إذ هو جاهل بنفسه، مصرٌّ على سوء فعله، مستكبر في حياته إلى الممات، ثم يفارق الدنيا على رُغمٍ منه كارهًا حزينًا خاسرًا، لا يُرجى له بعد الموت ثواب، ولا يؤمل له إحسان؛ إذ لم يكن له ما يجازى به إحسانًا، وهو قوله: خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ.
فأما من يَعتقد خلاف ذلك — وهو يعتقد أن العالم محدث مصنوع بقصد قاصد وفعل حكيم — فإنه يعرض له عند ذلك خواطر عجيبة وفكر وروية واعتبار وبصيرة وسؤالات طريفة ومباحث لطيفة عن العلوم الشريفة، ويكون في ذلك النجاة والسبب لانتباه النفس من نوم الغفلة، وتنفتح له عين البصيرة، ويحيا حياة العلماء ويعيش عيش السعداء في الدنيا والآخرة جميعًا؛ وذلك أنه يخطر بباله ويعرض في فكره أن يبحث ويسأل، فيقول: من هذا الصانع الذي خلق العالم؟ ومتى خلق؟ ومن أي شيء عمل؟ وكيف صنع وصور؟ ولِمَ فعل بعد أن لم يكن فعل ما فعل؟ وما الذي أراد بذلك؟ ولماذا؟ وما شاكل هذه المباحث والسؤالات التي في أجوبتها حياة النفس من موت الجهالة، ويقظة لها من الغفلات، والخروج من ظلمات الخطيئة. وإن وُفِّق لفهمها بإلهام من الله تعالى فذلك هو الوحي والنبوة، وإن عز عليه فعليه بمجالسة الحكماء والمباحثة معهم، فإذا فَهِم ما قالوه — حسبما بيَّنا في رسائلنا الإلهيات — صارت نفسه مثل نفوسهم، ويكون معهم حيث كانوا في درجات الجنان، وتنتبه نفسه من نوم الغفلة، ويحيا حياة العلماء ويعيش عيش السعداء، ويرفع إلى ملكوت السماء، ويصير في زمرة الأنبياء الذين أخلصوا بخالصة ذكرى الدار، وتصير نفسه من ورثة جنة النعيم وسكان السموات وقاطني الأفلاك، ويبقى هنالك خالدًا مخلدًا منعمًا ملذذًا أبد الآبدين.
فصل
ثم اعلم أن لكل شيء من الموجودات قسطًا من السعادة، قلَّت أم كثرت، وهي أن يبقى ذلك الشيء موجودًا أطول ما يمكن على أحسن حالاته وأتم نهاياته، ولكن أسعد السعادات وأتم النهايات وأرفع المقامات ما يناله أولياء الله الذين هم صفوته وأهل مودته، وهو ثلاث خصال؛ أولها: معرفتهم بربهم. والثانية: قصدهم نحوه بهممهم. والثالثة: طلابهم مرضاته بسعيهم وأعمالهم.
فأما معرفتهم بربهم فهو أن يعلم أن كل نفس جزئية هي قوة منبجسة فائضة من النفس الكلية، ويعلم أن النفس الكلية هي أيضًا قوة منبجسة فائضة من العقل الكلي، ويعلم أن العقل الكلي هو أيضًا نور فائض من وجود الباري تعالى، ويعلم أن الله تعالى هو نور الأنوار ومحض الوجود ومعدن الجود ومعطي الفضائل والخيرات والسعادات، وهو باقٍ أبدًا سرمدًا، وأن النفس الجزئية هي أيضًا أنوار وضياء وإشراقات فائضة من النفس الكلية منبثة منها في العالم سارية في الأجسام من لدن فلك المحيط إلى منتهى مركز الأرض؛ فهذا أصل علم أولياء الله تعالى ومعرفتهم بربهم.
وأما قصدهم نحوه بهمم نفوسهم فإنه فكرتهم آناء الليل وأطراف النهار في عجائب مصنوعاته وغرائب مخترعاته وأصناف خلائقه، واعتبارهم تصاريف أحوالها وكيفية الوصول إليها وإلى صانعها وبارئها، ومحبتهم له واشتياقهم إليه من كثرة ما يرون من إحسانه وإنعامه عليهم وعلى الخلق أجمعين، وقد جبلت القلوب على حب من أحسن إليها. وأما طلابهم مرضاته بسعيهم وأعمالهم فهو قبولهم وصايا ربهم تعالى التي جاءت بها الأنبياء والرسل عليهم السلام، والعمل بجميع ما أشاروا إليه، فهُم في ليلهم ونهارهم لا يغفلون عنه ولا يسهون عن أسراره في القيام والقعود والممر والمجيء والأكل والشرب والأفعال والأعمال والانقلاب في جميع أحوالهم ومتصرفاتهم؛ فهم في جميع أعمالهم كأنهم يرون ربهم بعين القلب لا شك ولا ريب، كما قال سيد المرسلين عليه السلام لما سئل عن الإحسان؛ فقال ﷺ: «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك»، والله لا يضيع أجر من أحسن عملًا إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ، إِنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ.
وفقك الله وإيانا وجميع إخواننا إلى طريق السداد، وهداك وإيانا وجميع إخواننا سبيل الرشاد، إنه رءوف بالعباد.
(تمت رسالة كمية أجناس الحركات، ويليها رسالة في العلل والمعلولات.)