الفصل الرابع
الجوانب العملية
أ- المجاهدة
ب- الزهد
ج- الذكر
د- آداب الصحبة
المجاهدة
الأصل اللغوي والشرعي
المجاهدة في اللغة العربية تعني المحاربة وفي الاصطلاح تعني: محاربة النفس الأمارة بالسوء ، بتحميلها ما يشق عليها بما هو مطلوب في الشرع ، وتعني المجاهدة أيضاً: حمل النفس البدنية ،أي التي لها تعلق برغبات الجسد وميوله وأهوائه ، ومخالفة الهوى على كل حال(1). أمّا الأصل الشرعي للمجاهدة ، فهو مستمد من قوله تعالى: "واللذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا"(2) وهذه الآية ، عدّها الصوفية أمراً صريحاً من الله تعالى لعابده ، باتخاذ المجاهدة – بشقيها الأصغر والأكبر – وسيلة للنجاة والهداية والاستقامة على الصراط. وفي السنة فهو مستمد من حديث النبي محمد (r) : "المجاهد من جاهد نفسه في الله"(3) وهذا الحديث ، يتضمن دلالة واضحة على تفضيل مجاهدة النفس على مجاهدة أعداء الله تعالى ومجادلتهم بالسيوف ، لأن مجاهدة النفس تشتمل على مشقة أكبر وهي تتصف بالاستمرارية والدوام ، لأنها باقية ما بقى الإنسان على قيد الحياة ، وهي أصعب لأن الخصم فيها يكون أشد مراوغة وأكثر خفاءً ، وأخيراً فهي أكبر لأن نتيجتها هي التي تحدد مصير العبد في آخرته ، إذ تهديه إلى ثواب أو تؤدي به إلى عقاب.
أهمية المجاهدة
لقد ثبت من خلال سيرة النبي محمد (r) وصحابته الكرام وتابعيهم ، وسيرة من سبق من الأنبياء والمرسلين ، أن مدار التكليف في جميع الشرائع والكتب السماوية يدور على مجاهدة العبد نفسه "وفطمها عن المألوفات وحملها على خلاف هواها في عموم الأوقات"(1) وهذا المحور ، هو نفسه الذي تدور حوله النظم الأخلاقية الوضعية بمشاربها كافة ، فهي جميعاً تتفق على ضرورة سعي الإنسان للتخلي عن صفاته الذميمة، وفي المقابل التحلي ببدائلها.
الصوفية من جانبهم يرون أنه لا عمل يقرّب العبد من مولاه مثل المجاهدة ، ولا عبادة يُعبد بها الله تعالى مثل مخالفة النفس والهوى(2). إن المجاهدة ، تتضمن فعل كل ما يرضي الله تعالى وترك كل ما يسخطه ، فهي إذن سفينة النجاة التي تنتهي بصاحبها إلى بر السلامة ، وهي السبيل الوحيد الذي تُنال به المراتب الروحية وتستحصل من خلاله المعارف الربُانية ، وهذه النقطة هي التي تشكل مدعاة فخر الصوفية على خصومهم فهم يرون أن معارفهم لا تأخذ من الكتب ولا من القيل والقال ولا مما تركه الأموات وإنما هي توخذ حياً عن حي وتُنال عن طريق الجوع وترك الدنيا وقطع المألوفات.
معنى المجاهدة
ولأهمية المجاهدة في السلوك الصوفي ، فقد اتفق الصوفية على: أن من لم يكن في بدايته صاحب مجاهدة ، لم يجد من الطريقة شمّة(3). لأن المجاهدة ، تعني التمكن من معرفة النفس ، وقد علمنا أنه لا وصول بغير تلك المعرفة ، وغير ذلك ، فإن مجاهدة النفس تعني السعي إلى تصفيتها وجلوها لتلقي أنوار المشاهدات وهو معنى قول سهل بن عبد الله التستري (ت – 283 هـ) ((أن المشاهدات هي مواريث المجاهدات))(4). فالمجاهدة إذن إضافة إلى كونها مورداً أخلاقياً ، تعد منبعاً معرفياً يستقي منه الصوفية علومهم وأسرارهم. على أننا لو ضممنا الأخلاق إلى المعرفة لحزنا على ثمرة الفعالية الصوفية برمتها ، فالتصوف هو المجاهدة هي التصوف ، ولا يمكن للصوفي في أية مرحلة من مراحل سلوكه أن يستغني عن مجاهدة نفسه ، فهي فعل مستمر ومتغير مع استمرارية التحولات النفسية عند الصوفي ، فمجاهدة المتزهدين تختلف حتماً عن مجاهدة الزاهدين ومجاهدة المريدين تختلف عن مثيلتها عن المرادين وتأتي أهمية المجاهدة أخيراً من أنها تعتمد على همّة العبد وجهده ، فهي سبب المجازاة والمكافآت وبغيرها لا يرتجى الفوز ولا ترتقب النجاة.
المجاهدة عند الشيخ عبد القادر
يسمي الشيخ عبد القادر ، مجاهدة النفس بـ (جهاد الباطن) في مقابل (جهاد الظاهر) الذي هو مجالدة الكفاّر. وهو يرى أن الأول منهما أصعب من الثاني وأشق لأن فيه قطع مألوفات النفس وهجرانها بأمتثال أوامر الشرع والانتهاء عن نواهيه(1). على أن الصعوبة الحقيقية تكمن عنده في المواجهة المستمرة مع النفس ، إذ ما دامت للنفس صولات وجولات ، وهذه لا تنتهي ، فالمجاهدة باقية ، على أن هذه المجاهدة لا تقتصر على تخميد جذوة الشهوات واللذات الجسدية ، وهو ما تجسده مراحلها الابتدائية بل هي تمتد لتشمل كل ساحة العبادات والقربات والأحوال والمراتب الروحية ، حيث يمكن أن ينال العبد من أبواب الخير تلك ، مزالق ومهاوٍ ، قد تودي به إلى التهلكة. فالعبادات مثلاً ، إذا داوم عليها العبد وزاد فيها وتواصل ، من غير مراقبة وتحّرز وإنتباه ، فإنها قد تورثه العجب والكبر والاستعلاء على الخلق ، وهذه (الأمراض) أشد ضرراً على قلب المريد ن من حب الشهوات والميل إلى الدنيا. وهكذا يمكننا أن نلمس تعقد آلية عمل المجاهدة مع تقدم المريد في سلوكه الصوفي ، فلا هوادة مع النفس ولا راحة نهائية من أهوائها لا بل أن الجهد الذي يكابده المريد في بداية مجاهدته ، يكاد لا يذكر في مقابل ما يظهر من خفايا تطلعات النفس في مراحل النضج المتأخرة ، ففي مقام الإخلاص ، على سبيل المثال ، وهو من مقامات العارفين ، فإن العبد إذا نظر إلى إخلاصه ، فإنه سيخرج عن حد الإخلاص الذي يفترض عدم النظر إلى غير فضل الله تعالى ومنته.
المجاهدة فعل دائم
يولي الشيخ عبد القادر ، المجاهدة ، أهمية استثنائية ، بحث إنه يؤكد على الالتزام بها عبر مفاصل نظريته الصوفية كافة ، ولعل السر وراء ذلك يكمن في عدّها من جانبه بكونها الفعل الصوفي الدائم الذي يرافق المريد ، منذ باكورة سلوكه الصوفي وحتى بلوغه اليقين المعرفي الذي يتحقق بارتفاع الحجب الظلمانية عن النفس والقلب والسر. على أن المجاهدة لا تعني عنده أكثر من كونها عقوبة وعصى طاعة ، تلقى على النفس المراوغة والمخاتلة والمحتالة والمليئة بالدواهي والمسلحة بالمكر وألوان الخداع ، والتي يمكن ، أمام التلويح لها بالعصا والعقوبة ، أن تتناوم وتظهر الطمأنينة والذل والتواضع والموافقة في الخير ، بينما هي تبطن خلاف ذلك فإذا ما إغترّ بها صاحبها وإطمأن إليها وفترت همته تجاهها ، فإنها ستعود إلى سيرتها الأولى والى إظهار ما إنطوت عليه(1). وعليه فإن الاستمرار في المجاهدة يعني الاستمرار على تطويع النفس وترويضها وتقويمها ، من أجل أن تكون ، بدلاً من التمرد والانفلات ، عوناً للمريد ومطية سهلة تصل به إلى مبتغاه ، بأمان ومن دون مخاطر. إذن فالنفس مع المجاهدة ، تصير مطمئنة ، ((وتصير كلها خيراً في خير))(2) وإن أصل طمأنتها ومنبع خيرها يأتي من طاعتها وتجردها وعدم تعلقها بشيء من المخلوقات ، وأما قبل ذلك ، فلا يمكن للمرء أن يتوقع منها إلا المخالفة والميل إلى اقتراف الشر والتطلع إلى مضارب المحرمات.
إذن ففي منهج الشيخ عبد القادر الصوفي ، لا يوجد وصولاً نهائياً ولا صفاءً أبدياً ولا خلاصاً مضموناً ، وإنما الأمر يحتاج إلى متابعة مستمرة ومراقبة لا تشوبها غفلة ، لأنه ما دامت هنالك نفس ، إذن فهنالك حاجة مستمرة إلى شد الأحزمة والتلويح بعصا العقوبة ، وهذا يكون في حق كل السالكين دون استثناء لأن سلوك طريقة الحق مشروط بالمداومة على تهذيب النفس ((السيئة الأدب))(3) كي تنفتح عيناها وتزول عداوتها لربها ، وهذا بالتأكيد ، يحتاج إلى صبر ووقت طويل ، لأنه يعني السير ضد التيار ومخالفة الطبع. فإذا ما ثبت المريد على فعل المجاهدة ، فإنه سيكتسب أهم صفتين تقربانه من الله تعالى وهما: الصدق ومحبة المولى تعالى.
المجاهدة والتقوى
إن المجاهدة بما أنها تعني مخالفة الهوى وتحصين النفس وعصمتها عن المألوفات وحرمانها من الشهوات واللذات ، وحملها وإكراهها على تقبل خلاف ما تهوى وتريد فإن هذا يعني اشتمالها على جهد بالغ ومشقة عظيمة قد تفوق وتتجاوز طاقة البشر. وعليه فلنا أن نتساءل: من أين يستمد العبد القدرة على إتيان ذلك؟ يرى الشيخ عبد القادر ، أن المصدر الممد لهذه العزائم هو: التقوى والخوف من الله تعالى وهذان هما من أقسى السياط التي تخشى النفس التعرض لها ، لأن العبد إذا كان تقياً حاضر الخوف من ربه ، فإنه سيكون محصناً صعب الاختراق ، فالتقوى تجنبه الخوض في الشبهات والخوف يجنبه التطلع إلى المحرمات ، وعليه فلا يبقى أمامه إلاّ الضروري من سبل الحلال ، مما تقل معه حظوظ النفس وتُسد فيه مجاري الأهواء.
المجاهدة والمراقبة
على أن ملاك فعل المجاهدة ، لا يكتمل بالتقوى والخوف من الله تعالى ، بل إنه يحتاج إلى عامل آخر ، وهو: المراقبة التي يعرّفها الشيخ عبد القادر بأنها: إطلاع الرب سبحانه على العبد ، واستدامة العبد لهذا العلم يتم بمراقبته لربه(1) على أن المراقبة عنده لا تعني أكثر من الإحسان الذي ورد ذكره في الحديث النبوي الشهير المسمى بحديث (جبريل) والذي جاء فيه: الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تره فإنه يراك(2).
إن المراقبة في السلوك الصوفي ، تعدّ أصلاً لكل خير دنيوي وأخروي ، على أنها بوصفها حالاً صوفياً ، لا تُنال جزافاً أو بيسر ومن دون جهد وقصد ، بل إنها لا تأتي إلاّ بعد أن يلتزم العبد بمحاسبة نفسه وإصلاح حاله والمواظبة على لزوم طريق الحق وإحسان مراعاة القلب بينه وبين الله تعالى إلى درجة يلزم معها حفظ الأنفاس وهو ما يعني المراقبة الدقيقة للخطرات والهواجس والحركات والسكنات الظاهرة منها والباطنة كافة ، أي بمعنى آخر ، أن يبذل العبد جهده ، كي لا يصدر منه أي فعل مخالف. فإذا ما علم العبد وأيقن ، بعد تمكنه من حال المراقبة ، بأن الله تعالى ، عليه رقيب ومن قلبه قريب ، وأنه عالم بجميع أحواله وحاضر في كل أوقاته وناظر إلى جميع أفعاله وسامع لكل أقواله ومحيط بكل دقائقه وأسراره ، فإنه سيكون دائماً في غاية الاستعداد والتأهب فلا ينوشه الوهن ولا يتطرق إليه التكاسل ، وسيعتريه بشدةٌ الخزف والحياء من ربه فيزداد بذلك إلتزامه بحدود الله تعالى. وهكذا دواليك ، فإن حال المراقبة الذي يورث قلب العبد الشعور بالخوف والحياء تجاه الله تعالى ، فإن هذه (المشاعر) ستعمل من جانبها على دعم حال المراقبة وإدامته ، وبذلك يكون البناء الصوفي كاملاً وتاماً ومتلازماً(1).
إن المراقبة تعني أيضاً القرب من الله تعالى ، إذ إن مداومة الصوفي عليها ، يعني أنه سيكون في مقام من الله شريف ، إذ الحذر سيصحبه في جميع أفعاله وستكون جوارحه وقلبه في حفظ مولاه ، والخوف كذلك ، سوف لا يفارق قلبه ، لعلمه بسطوة مولاه وأما الحياء الذي هو من مدارج أهل الخصوص ، والذي يتولد من تعظيم منوط بود(2) ، فهو شعور مصاحب للقرب ، لأنه ينبع من علم العبد بنظر الحق إليه ، فيدفعه ذلك إلى تحمل وطأة المجاهدة. وأما محصلة كل ذلك ، فهي أن مداومة قلب العبد على الإحساس بالمراقبة،سيورثه حتماً المزيد من الحب لمولاه ، وهذا هو غاية ما يتمناه الصوفي ويسعى إليه. المراقبة إذن ، مقام للعلماء بالله تعالى الخائفين العارفين الأتقياء الورعين(1) وهي من المقامات الرفيعة التي لا ينالها المريد إلاّ في مراحل سلوكه المتأخرة ، بحيث يكون عندها قد هيأ نفسه تماماً للسكون تحت نظر الله تعالى ، نعم إن كل العباد هم تحت نظر الله تعالى ، ولكن فرق العارفين عن غيرهم ، هو كونهم يعون هذه الحالة ويتعايشون معها في كل أوقاتهم وأحوالهم ، ومن ثم فهم أكثر إنضباطاً من غيرهم وأكثر إرضاءً لمولاهم وهذا يعني أنهم أكثر قرباً وأكثر حبّاً له.
الأهمية القصوى للمراقبة ، تأتي من كونها تمثل أحد الأركان الثلاثة التي يبنى عليها الهيكل الروحي للمريد ، وهي: الورع الذي يخرج العبد ويبعده عن المعاصي والزلات ثم المراقبة التي تذكر العبد بنظر الحق عز وجل الدائم إليه وحضوره معه وإحاطته بعالمه ، ثم أخيراً المجاهدة التي تتحدد حصراً بمحاربة النفس والهوى والشيطان. علماً أن السيرة الصوفية بمراحلها كافة ، لا يمكن تخيلها من دون أي من هذه الأركان الثلاثة إذ لا غنى للصوفي ، في طول مسيرته الروحية ، عن الورع والمراقبة والمجاهدة. ومن جانب آخر ، فإن هذه الأركان مترابطة ومتلازمة فيما بينها، بحيث يلزم أحدها عن الآخر ، فالعبد الذي ينتهج الورع بكونه سلوكاً دينياً ، يصبح بالضرورة مجاهداً لنوازعه النفسية وشاعراً بمراقبة ربه له ، وكذلك الحال مع صاحب المراقبة والمجاهد لنفسه.
شروط صحة المجاهدة
فإذا ما عقد المريد العزم على المجاهدة ، فإنه لابد من أن تتوفر فيه عشر خصال ، يرى الشيخ عبد القادر ، أنه لو أقامها وأحكم العمل بها ، فإنها ستكون كفيلة وضامنة لبلوغه إلى المنازل الأخلاقية العالية والمراتب الروحية الشريفة.
أولها: أن لا يحلف العبد بالله تعالى ، صادقاً ولا كاذباً ، عامداً ولا ساهياً ، فإذا ما أحكم ذلك من نفسه ، وإعتاد لسانه عليه بحيث صار يتجنبه في كل الأحوال ، فتح الله تعالى له باباً من بركة أنواره ، فيعرف منفعة ذلك في قلبه ، ويلمس معه رفعة في درجته وقوة في عزمه ونفاذاً في بصيرته(1) إذ إن كل عمل شرعي يلتزم به العبد ظاهراً ، فأنه لابدّ أن يلمس فائدته باطناً.
إن تجنب الحلف في كل الأحوال ، يعّد من المسائل المهمة التي أكدها الشرع الإسلامي كثيراً ، لأنه يتضمن إضمار الهيبة والإجلال للذات الإلهية ، وذلك بعدم تعريضها للمعاملات الدنيوية. ولاشك في أن حرص العبد على حفظ الهيبة وإظهار الإجلال وعدم التبسط في علاقته بالذات الإلهية ، يحوي الكثير من أدب العبودية وحفظ الحرمة والتذلل والخضوع ، وهو ما يطمح إلى التحلي به الصوفية كافة وفي كل الأزمان. وفيما عدا ذلك ، فأن في الحلف مزالق جمة قد تدفع بصاحبها إلى اعتياد الكذب وفقدان الثقة بالنفس ، وهو ما يولد اختلالاً أخلاقياً ونفسياً ملحوظاً ، وهو أيضاً معنى قول أهل الخبرة بأن: تجنب الحلف يورث المرء الهيبة والاتزان والثقة بالنفس.
الثانية: أن يتجنب العبد الكذب جاداً كان أم هازلاً. وبالطبع ، فأن هذه الخصلة لا تحتاج إلى كثير جهد لبيان صحتها وإظهار فائدتها ، إذ إن الكذب مذموم في كل الشرائع والملل والأديان وحتى النظم الأخلاقية الوضعية ، وفي المقابل ، فأن الصدق ، وبشكل مطلق ، يعد محموداً في المواطن كلها ، لا بل حتى المهلك منها. إذن فاجتناب الكذب يعدّ من البدائه الأخلاقية التي يتعامل بها الناس ، حتى في حياتهم اليومية ، ولكن تأكيد الصوفية على هذه الخصلة ، فيه إشارة إلى ما يقف وراءها من فوائد روحية وفيرة لا غنى لأي مريد عن امتلاكها والتحلي بها ، وهذا هو بالضبط ما سيعمل الشيخ عبد القادر على إظهاره.
إن المريد إذا تجنب الكذب في كل الأحوال ، وأحكم ذلك في نفسه ، وإعتاد عليه لسانه شرح الله تعالى به صدره وصفّى به علمه ، حتى صار كأنه لا يعرف الكذب ، وإذا سمعه من غيره ، استهجنه وعابه عليه. إذن فالشيخ عبد القادر ، يحاول في ذكره هذه (الخصلة) ، أن يسلط الضوء إ ضافة إلى الجوانب الشرعية والأخلاقية ، على الجوانب الروحية والمعرفية ، إذ إن شرح الصدر وصفاء العلم ، هما من أعزّ المواهب التي يسعى المريد إلى تحصيلها والتنعم بثمارها. على أن هذه الفوائد لا تشكل ، في الحقيقة وازعاً إضافياً يدفع المريد إلى تجنب الكذب ورفضه ، إذ إن ذلك يعدّ من القواعد المطلقة التي لا يختلف عليها اثنان ، ولكنه فقط يشير إلى طبيعة تعامل الصوفية مع الأشياء وكونهم ينظرون إلى ما تخفيه السطور وما تحويه الخبايا من أسرار.
الخصلة الثالثة: حذر المريد من أن يعد أحداً شيئاً فيخلفه إياه ، وهو يقدر عليه ، إلاّ من عُذر بيّن فأنه أقوى لأمره وأقصد لطريقته ، لأن الخلف من الكذب ، فإذا فعل ذلك فتح له باب السخاء ومنح درجة الحياء، و أعطى مودة في الصادقين، ورفعة عند الله (1) تعالى فأمّا باب السخاء فلعطائه ونبذه للشح ، وأما درجة الحياء فلحرصه على عدم الاتصاف بالخلف والكذب ، وأما المودة في الصادقين فلتواصله معهم بالعطاء واتصافه بصفاتهم الآنفة الذكر ، فإذا ما اتصف العبد بكل ما سبق، فإنه سينال عند الله تعالى رفعة وقبولاً، فهو من عباده الكرام الصادقين ، وهاتان هما من أكثر الصفات التي تقرّب العبد من مولاه.
الخصلة الرابعة: ينبغي على المريد أن يتجنب لعن شيء من الخلق ، أو يؤذي ذرة فما فوقها ، لأنه إن فعل ذلك ، فسيلحق بمرتبة الأبرار الصادقين. وهذه الخصلة، لا تقتصر الدعوة لها عند الشيخ عبد القادر ، بل إن التصوف الإسلامي برمّته يدعو المريدين إلى أن يغرسوا في قلوبهم رحمة كبيرة تتسع للمخلوقات كافة بجمادها وحيوانها ونباتها وبصغيرها وكبيرها. وهذه الدعوة التي يمكن بسهولة أن يلحقها بعضهم بالفلسفات الزهدية الهندية ، يكون من باب أولى أن تلحق بمبادئ الدين الإسلامي، بمصدريه الرئيسيين: الكتاب والسنة ، فلقد أشار القرآن الكريم إلى رحمة الله تعالى التي وسعت كل شيء(2). وأمّا السنة فهي مفعمة بالكثير من الوصايا والتعاليم التي تأمر بالرأفة بجميع المخلوقات ، وبالضعيفة منها على وجه الخصوص.
إن الدور الذي رسمه الصوفية للمريد ، بكونه موضع نظر الله تعالى ، وكونه التجسيد الأمثل لرحمته تعالى والساعي بين الخلق بالخير والصلاح والجامع لقلوبهم على هدف واحد ، وهو: حب الله تعالى وطلب القرب منه ، هو الذي يدفع بالمريد إلى تحري أدق التفاصيل في سعيه للتحلي بالحميد من الصفات والحسن من الخصال ، فهو لا يرضى فقط بما تيسر منها وكان سهل المنال ، وإنما هو يسعى دائماً وبشكل مستمر ، وراء الأصعب والأشد والأبعد غوراً ، من الأمور كافة التي لها علاقة بمجاهدة النفس ورفعة الدرجات.
الخصلة الخامسة: يجتنب المريد ، أن يدعو على أحدٍ من الخلق وإن ظلمه ، فلا يقطعه بلسانه ولا يكافئه بفعاله بل يحتمل ذلك لله تعالى. إن دعوة الشيخ عبد القادر لمريده بتحمل الأذى من الآخرين ، مستمدة أصلاً من مبادئ التربية الروحية المستمدة من أنوار المقامات الصوفية التي بلغها المريد وشعت في نفسه وأضاءت له الطريق فالصبر هو الذي يحمل العبد على تحمل الأذى ، والرضا يحمله على أن لا يدعو على أحدٍ من ظالميه ، فإذا ما عكسنا المسألة ، فأنها تصح أيضاً ، إذ إن سكون النفس مع تحملها الأذى سيثيبها حتماً مقام الصبر ، كما أن عدم الاعتراض على أفعال الخلق سيهديها حتماً إلى مقام الرضا. ومن جانب آخر ، فأن على المريد أن يعتقد جازماً: بأن كل ما يلاقيه من سوء وأذى من الآخرين ، ما هو في حقيقته إلاّ اختبار من الله تعالى عليه اجتيازه بنجاح كي ينال بذلك الدرجات وكي يكمل تأديب نفسه وتصفيتها ، من أجل أن ينجز دوره المنوط به بوصفه مرشداً ودليلاً للآخرين ، لسلوك سبيل الرشاد.
الخصلة السادسة: أن لا يقطع الشهادة على أحدٍ من أهل القبلة بشركٍ ولا كفرٍ ولا نفاق، فأن ذلك أقرب للرحمة وأعلى للدرجة.
إن هذه الخصلة تدعو المريد إلى أن يكون متفهماً ومتسامحاً ، إزاء منطق جميع الطوائف والملل الإسلامية المعتدلة ، والتي لا تخرجها عقائدها عن حدود الشرع وأصول الدين ، إذ إن اختلاف مشارب الناس ومذاهبهم ، لا يلغي اجتماعهم أخيراً على هدف واحد وشعار واحد ، وهو: عبادة الله تعالى الواحد الأحد ، ومن جهة أخرى فإنه يكره للمريد السالك ، أن يميل مع طائفة إسلامية دون أخرى ، لأنه ينبغي عليه أن يكون قدوة لغيره في توحيد القلوب والهمم ، وهذا المقصد لا يتحقق له إلاّ إذا ترفّع عن التلفت صوب التفاصيل والفروقات غير الجوهرية ، إن المبادئ الصوفية ، هي مبادئ الحبّ الإلهي والتوحيد الحقيقي والصفاء الروحي ، وهذه المبادئ ضرورة ، لا تنمو بغير تربة السمو الفكري والانتماء الحقيقي لروح الدين. وتبدو دعوة الشيخ عبد القادر هذه ، في غاية الأهمية ، فيما لو استرجعنا تفاصيل التناقضات الفكرية والاجتماعية والدينية التي كانت تحكم علاقات وروابط المجتمع الإسلامي في زمنه ، ومن الجانب الآخر ، فإن هذه الدعوة تسلط الضوء على الدور الإصلاحي الذي اضطلع بع الصوفية بعامة والشيخ عبد القادر بوجه خاص ، تجاه مجتمعاتهم ، وهو الدور الذي يدفع عنهم وبشكل قاطع ، تهمة الخمول واللاإنتماء.
الخصلة السابعة: يتجنب المريد ، النظر والنزوع إلى شيء من المعاصي ، في الظاهر والباطن ، وأن يكف عنها جوارحه ، فأن ذلك من أسرع الأعمال ثواباً للقلب والجوارح في عاجل الدنيا وآجل الآخرة(1).
إن مطالبة الشيخ عبد القادر المريد هنا ، لا تتعلق بترك اقتراف المحرمات ، لأن ذلك أمر مفروغ منه شرعاً ، وفعله واجب على كل مسلم ، وإنما هو يطالبه بعدم النظر أو حتى التفكير في ذلك ، لأن هذا الفعل ، يدخل في ميدان أعمال القلوب والخواطر ، وهو عين الميدان الذي يخوض فيه الصوفية منازلاتهم ويظهرون صلابة هممهم ، فالصوفي يكون في غاية الوهم والانخداع ، فيما لو طلب النزاهة الباطنية والصفاء النفسي وترك حبل خواطره الرديئة على الغارب. إن إحكام القبضة يبدأ من هنا ، أي من منافذ الوساوس والطمع والميل إلى الشهوات ، وهو ما يلقي بظلمة ظلاله على القلوب والأرواح ، فيؤخر ذلك حتماً ، زمن عروجها نحو عالم الملكوت.
الخصلة الثامنة: يعمل المريد على أن لا يطالب أحداً من الخلق إعالته ، ولا يطلب منه مؤونة ، مهما صغرت أو كبرت ، بل يرفع ذلك عن الخلق أجمعين ، حتى وإن كان ذا فقرٍ بادٍ وحاجة ملحّة ، لأن ذلك فيه تمام عز العابدين وكمال شرف المتقين ، وبه يقوى المريد على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ويكون الخلق أجمعين عنده ، بمنزلة واحدة ، أي في الحق سواء(2).
ولا يخفى ما لهذه الخصلة من تعلق بمجاهدة النفوس وزهد القلوب ، وبصرف أنظار الهمم عن التطلع صوب عطاء الخلق وفضلهم ، لما في هذا التطلع من أثر في شرخ صرح التوحيد وتشتيت خطى الإقبال الخالص على الله تعالى ، وثم ثلمُ عزة القلوب المستمدة من غناها بربّ العالمين ، فأما علاقة هذه (الخصلة) بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فمرجعها هو اعتقاد المريد ، بأن صدق كلمته وقوتها وشدة تأثيرها في الآخرين ، يأتي من استغنائه عنهم وانقطاع أمله بهم ، واعتقاده أيضاً ، بأن دعوته لابد من أن تكون أخروية ربانية صرفة ، بحيث لا تشوبها شائبة مع طمع أو سعي وراء ثواب عاجل. ولهذه الخصلة وجه آخر له تعلق بالعملية الإصلاحية التي سعى الشيخ عبد القادر إلى إنجازها في الحقل الصوفي خاصة ، إذ إن الفصل القاطع بين دور المريد إلأرشادي، وعلاقاته المادية غير المتكافئة مع الآخرين ، فيه سدًّ مقصود لكثير من ذرائع ذوي الطمع من الدخلاء اللذين ابتلى بهم التصوف الإسلامي قديماً وحديثاً بحيث صار من السهل على الناس أن يربطوا بين الصوفية الحقيقيين وهؤلاء الكسالى والمتطفلين عليهم.
الخصلة التاسعة: ينبغي على المريد أن يقطع طمعه في الآدميين وأن لا تميل نفسه إلى شيء مما في أيديهم ، فإن تحقق في ذلك ، فإن له العزّ الأكبر والغنى الخالص والملك العظيم والفخر الجليل واليقين الصادق والتوكل الشافي الصحيح وهو باب من أبواب الثقة بالله عز وجل ، وهو أيضاً ، باب من أبواب الزهد ، وبه يُنال الورع ويكمل النسك، وهو أخيراً من علامات المنقطعين إلى الله تعالى(1). وتجدر الإشارة إلى أن هذه الخصلة ، لا علاقة لها بسابقتها ، كما يبدو عليه ظاهر الحال ، إذ إن اعتماد المريد المتزهد في معيشته على الآخرين ، لا يشبه ضرورة طمعه بما في أيديهم ، فالأول إذا كان يمثل خطأً مرحلياً يعيق المسيرة الصوفية للمريد ، فإن الثاني يمثل إنحرافاً نفسياً واخلاقياً يخرج بصاحبه عن المسار الصوفي برمته. وتتجلى الفروقات بين الحالتين أكثر ، فيما لو قارنا بين النتائج الروحية الإيجابية المترتبة على تجنبهما، فإذا كنّا قد رأينا أن تجنب الأولى يورث صاحبه الصدق والعز والشرف، فإن تجنب الثانية يورثه التوكل والورع والزهد الصحيح ، وهي خصائص روحية أساسية لا تكمل الشخصية الصوفية إلاّ بها.
الخصلة العاشرة: وهي الأخيرة ، وفيها ينصح الشيخ عبد القادر المريد بالتواضع ، فبه يُشد محل العابد ويثبت قدمه وتعلو درجته ويستكمل العزّ والرفعة عند الله تعالى وعند الخلق ، وبه يقدر على ما يريد من أمر الدنيا والآخرة(2). إن التواضع هو أصل الطاعات كلها بفروعها وأصولها ، وبه يدرك المريد منازل الصالحين الراضين عن الله تعالى في السراء والضراء ، وهو أيضاً كمال التقوى ، ولا يرضى الشيخ عبد القادر من تواضع العبد ، بأقل من أن لا يلقى المريد أحداً من الخلق ، إلاّ ويرى له الفضل على نفسه ، ويرى أنه قد يكون عند الله تعالى ، خير منه منزلة وأرفع درجة ، وأما مجاهدة النفس ، فإن للتواضع فيها أهمية بالغة ، إذ إن تأثيره يطال جميع الفعاليات العبادية والصوفية ، ولذلك فقد سمّاه الشيخ عبد القادر بـ ((ملح العبادة وغاية شرف الزاهدين))(1) وأخيراً ، فبدون التواضع ، لا يمكن للمريد أن يتخلص من كثير من أمراض النفس الخطيرة مثل الكبر والعجب والإحساس بالتفوق على الآخرين.
وفي الخلاصة ، فأنه يمكننا أن نلاحظ ، من خلال هذه (الوصايا العشر) أن الشيخ عبد القادر ، يؤكد في أغلبها على علاقة المريد ببقية الناس ، وفي هذا ما فيه من إلفات النظر إلى أن المجال الحقيقي الذي يعمل فيه التصوف ، هو مجال أخلاقي بحت ، وإنه لا يشتمل على غاية تقف وراء التخلق بالخلق الحسن ، وإنه لا خير في سلوك صوفي لا يزيد من أدب المرء مع الخلق ومع الخالق ، وهذا هو غاية ما تسعى جميع الشرائع والأديان إلى التبشير به وإفشائه بين الناس.
إن الحاجة الملحّة للتجمل بالآداب والتحلي بالأخلاق الحسنة ، المقبولة شرعاً والمرضية عند الخلق ، تنبع من نيّة المريد في أن يكون له دورٌ إيجابيّ بين الناس وهو دور المرشد والواعظ والدليل والداعي إلى الله تعالى ، وهو ممّا يفترض حضوراً عميقاً وفعالاً في المجتمع ، كي يتحقق بذلك مبدأ التأثر والتأثير وكي تصحّ عملية الغرس والإنبات.
ويمكننا أن نلاحظ أيضاً ، أن جميع تلك الوصايا ، مستمدة من الشرع الإسلامي وهو ما يعني في الواقع ، أنها واجبة على كل مسلم عاقل بالغ ، وهو ما يعني أيضاً أنه لا توجد هناك ميزة للصوفي السالك تميزه من غيره من العباد ، سوى ما يجتهد ويسعى هو إليه، من زيادة التمسك والحرص على الالتزام الصادق بجميع الخصال الحميدة ، ما صغر منها وما كبر. على أن المريد ، لا يتمكن من الالتزام بهذا (الالتزام) إلاّ إذا تخلص أولاً من الجذب المضاد الذي تسلطه عليه نفسه قبل مجاهدتها وتأديبها وقتلها بسيف المخالفة ، وهو القتل الذي لا يعني في الحقيقة إزالتها من الوجود أو محق طباعها بالكامل ، وإنما يعني السعي إلى نزع الخصال السيئة عنها وتهيئتها لأن تحيا حياة جدية لا تشتمل إلاّ على الصالح من الخصال. وهذا الأمر لا يتم عند الشيخ عبد القادر ، دفعة واحدة والى الأبد ، لأن ذلك ضرب من الوهم ، إذ إن النفس الإنسانية لا تركن بشكل قاطع إلى الخير أو تقيم فيه ، بل هي تتحين الفرص على صاحبها وتنتهز منه الغفلات ، كي تنازعه وتطالبه بتلبية شهواتها والسير وراء أهوائها. وليس ذلك مرضاً أو خللاً في النفس ، بل هي فطرة فطرها اله تعالى عليها ، كي يتواصل الإنسان مع عبادته وكي يدوم فقرة لربه ، وكي يحوجه دائماً إلى الانتباه والى المجاهدة والمراقبة والمتابعة ، من جديد وباستمرار ، وكي يكسب من أجل ذلك ثواباً دائماً وأجراً متواصلاً ، إذ أنه بمجاهدته نفسه ، يتقرب إلى الله عز وجل ويوافقه على أمره ، ويكون في الوقت نفسه قد بلغ درجة عالية من الموالاة والعبودية والقرب منه ، وهو معنى قول الشيخ عبد القادر: أن العبادة كل العبادة في مخالفة المرء نفسه(1). وهذا القول ، يرى أنه مستمد من قوله تعالى: "ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله"(2) إذن فلا توجد ضلالة أكثر من اتباع الهوى ولا توجد هداية أكثر من مخالفة الهوى ، والشيخ عبد القادر يستشهد هنا بحكاية يذكر أنها مشهورة عن أبي يزيد البسطامي وهي: أنه رأى ربّ العزة في المنام ، فقال له البسطامي كيف السبيل إليك؟ فقال: أترك نفسك وتعال. فقال البسطامي ، فإنسلخت من نفسي كما تنسلخ الحية من جلدها ، فإذا الخير كله في معاداتها في الجملة وفي كل الأحوال(3) وهو ما يعني أن النفس إذا كانت في جهة ، فأن الوصول إلى ربّ العزة سيكون حتماً في الجهة الأخرى ، وإنه إذا كانت للنفس أحوال متباينة وأوقات مختلفة فإن الخير كله يكمن في تركها بالجملة ، بحيث لا يقبل منها عذر ولا يؤخذ منها سبب.
وسائل مجاهدة النفس
فإذا ما سلمّنا بأهمية المجاهدة في السلوك الصوفي ، يبقى علينا أن نذكر ما هي الوسائل الناجعة أو (السياط)(4) كما يسميها الشيخ عبد القادر – التي على المريد أن يستخدمها في مجاهدته نفسه وفي سيطرته على نوازعها وفي كبحه جماحها. إنها الجوع والعطش والإذلال والخلوة وملازمة صحبة الشيوخ ، وهي بمجموعها تمثل فنون الزهد التي لابد على كل مريد من أن يخوض تجربتها(1). لا لأجل التجربة بحدّ ذاتها ، ولكن لأجل تحصيل نتائجها الباهرة التي قد تغيّر في بعض مركبّات نفسه ، وثمَّ تصوغها صياغة جديدة ، هي ضرورة أقل خطورة وأقرب للنجاة.
الجوع والعطش
فأما الجوع والعطش ، فأنها من أبجديات المجاهدة التي لابد على كل مريد من أن يبتدئ بها خطواته الصوفية ، إن أراد لها أن تكون واثقة وثابتة. إن الجوع والعطش يعدّان أيضاً من الأعمال التي لا تطلب لذاتها ، وإنما لتأثيرها الملحوظ في قوى النفس لأنهما يمسان أقرب الشهوات إليها وألصق الحاجات بها ، وإذا ما عوقبت بهما ، فأنها سوف تضعف عن المطالبة ببعض مطامعها ، وبالعكس من ذلك ، فأنها لو شبعت وإرتوت فسيصيبها البطر والأشر وسترنو إلى المزيد الذي لا نهاية له. فإذا كان الجوع والعطش من الوسائل لا الغايات ، فإنه يمكن للمريد ، فيما لو ارتقى من التزهد إلى الزهد ، أن يأخذ ما يشاء من الطيبات ، لأنها ستكون بعيدة عن التأثير في نفسه وقلبه وهذا لا يعني إلغاء الحاجة إلى المجاهدة ، ولكنه يعني الدخول في مرحلة أكثر تقدماً منها وأكثر تعقيداً.
ولكن هناك من يعترض على جوع الصوفية وعطشهم ويرى في ذلك إقترافاً لمخالفتين شرعيتين الأولى بكون أن الطعام والشراب من الطيبات التي أحلها الله تعالى ومن ثم فلا يجوز تحريمها ، والثانية بكون إجاعة النفس وإضمائها يعني تعذيبها، وهذا منهي عنه قطعاً. والجواب على ذلك، هو أن هذه الأعمال – أي الجوع والعطش – تؤخذ على وفق نية فاعلها ، وهي عند المريد تعد من الوسائل التي يستعين بها على التقرب إلى مولاه، وهو في ذلك يرجع إلى قول النبي محمد (r): ما من عمل أحب إلى الله تعالى من الجوع والعطش(1). وقوله (r): الشيطان يجري من بني آدم مجرى الدم فضيقوا مجاري الشيطان بالجوع والعطش(2) فالحديث الأول يبين أهمية هذه الأعمال والحديث الثاني يبين السبب الذي يقف وراء تلك الأهمية. وتجدر الإشارة إلى أن الأخذ بعامل الجوع والعطش والإجهاد ، لا يعني ترك الطعام والشراب والنوم واللباس بالمرة ، وإنما يعني أخذ الكفاف من ذلك ، مما يقم الأود ويستر العورة من دون طلب المزيد مما تشتهيه النفس وتميل إليه ، وهي سُنة من سلف من الصحابة والصالحين.
إذلال النفس
وأما إذلال النفس ، فإنه يأتي بالمرتبة الثانية ، من حيث الفعالية ، بعد الجوع والعطش ويبغي المريد من وراء معاملة نفسه بالقهر والإذلال ، أن يستأسرها ويجعلها مطيته كي يقطع بها فيافي الدنيا ويتقدم بها إلى سبل الملكوت(3). وإن في إذلال النفس وجاءً لها من أمراض الكبر والزهد والعجب ، وتذكيراً لها بأسوأ حالاتها وبحقيقة ما يمكن أن تكون عليه في مواجهة عقوبة الآخرة. على أن أخذ النفس بعامل الذل ، لا يعني وضعها باستمرار في مواضع الإهانة والصغار أمام الآخرين ، وإنما يعني تهوين أمرها في عين صاحبها ، كي لا تحلو له أعمالها ، فيناله منها ما يسوؤه ، وكي يعظم في عينه شأن الآخرين ، فلا يعلو عليهم ولا يتكبر ، ومن إذلال النفس عدم إراحتها ويتم ذلك بقيام الليل وكثرة العبادة ، فإذا ما أصابها الجهد والتعب فإنها سوف تضعف عن التنمر والإيذاء ، كالوحش المروض يتناسى طبيعته من أجل إرضاء سيده. وغير العقوبة ، فأن للذل معنىً آخر ، وهو تجميل المعنى الباطني للعبد على حساب صورته الظاهرة أمام الآخرين ، والمريد إذا ما صدق في نيته ، فأنه سيعلم حتماً أن الحق عز وجل لا يطلب منه حسن صورته ، وإنما يطلب تمام معناه الذي هو: ((توحيده وإخلاصه وإزالة حب الدنيا والآخرة من قلبه ، فأذا تم له هذا ، أحبه وقربه ورفعه على غيره))(1).
الخلوة
وبعد الجوع والعطش والإذلال, في الأهمية ، يأتي دور الخلوة ، وهي عند الشيخ عبد القادر تعني: ((أن يركن العبد إلى موضع لا أنيس فيه من الخلق))(2). والخلوة تعد ركناً أساسياً من أركان التصوف ، وأساسها أن يعزل العبد نفسه ويحبس بدنه عن الناس، لئلا يؤذيهم بأخلاقه الذميمة ، وهي تساعد النفس على ترك مألوفاتها وحبس حواسها الظاهرية ، وثم فتح الحواس الباطنية وتأكيد نية الإخلاص والموت بالإرادة. ويرتجى من الخلوة زيادة التفكير والمراقبة وخلوص الذكر لله تعالى.
وتعد الخلوة من أصعب وأخطر الفعاليات الصوفية ، لأن المريد فيها يكون في مواجهة مكشوفة مع نفسه ومع الشيطان ومع خواطر وهواجس ورؤى لا قبل له على إحتمالها ولذلك كان لابد في الخلوة من مباركة ورعاية مباشرة من لدن شيخ عارف مرشد حي له خبرة ودراية أكيدة.
أما الأساس الشرعي للخلوة ، فهو الاعتكاف ، وهو من السنن المؤكدة التي عمل بها النبي محمد (r) قبل البعثة وبعدها(3) ، ولا تستغرق الخلوة عمر المريد كله، بل إنّ لها مدداً محددة لا تتجاوز عند أغلب الصوفية أربعين يوماً، وهو ما يسمى عندهم بـ (الأربعينية) ، وهي تستحب لكل الصوفية وفي مختلف مراتبهم لأن فوائدها غزيرة وغير محددة ، إذ يدخلها المبتدئون لأجل تقويم نفوسهم ولأجل خلوص قلوبهم لربهم ويدخلها العارفون طلباً للسعة الروحية وارتفاع المرتبة. والخلوة لا تعني اعتزال الناس والتزام الصمت فقط ، وإنما هي فعالية ذات منهج محدد يمليه شيخ الطريقة ، وهذا المنهج يتضمن صياماً من نوع خاص وإفطارا من نوع خاص يكاد يصل أحياناً إلى التمرة الواحدة في اليوم ، وأوراداً متواصلة تشغل الليل والنهار ، مع ترك الكلام وتجنب الاختلاط وعدم الإفضاء بكل ما يطرق على قلب وبصيرة المريد ، إلاّ إلى شيخه الذي يكون ضرورة قريباً من مكان الإختلاء.
فأما الفائدة المرجوة من الخلوة ، فهي إضافة إلى الهبات الروحية التي تحسب على الأسرار الصوفية ، فأنها تمكن المريد من عبادة التفكر والتأمل وتمكنه من السيطرة على خواطره والتحكم في نوازع نفسه وأهوائها، وتمكنه أيضاً من التوجه الحقيقي لربه والخلوص في عبادته والأهم من ذلك أنها تمكنه من ذكر القلب ، فيكون المريد بعدها ذاكراً ربه في كل حالاته وأوقاته ، وهو غاية ما يطلبه ويتمناه ، وأما الزهد والتجرد والتوكل والرضا ، فيمكن القول إنها لا وجود حقيقي لها في قلب المريد وعقيدته قبل خروجه من الخلوة. وفي الخلاصة فإن في الخلوة أسراراً كثيرة يحتكر معرفتها فقط الصوفية وبعض الصادقين من العشاق.
صحبة الشيوخ
وأما صحبة الشيوخ فلا غنى عنها أيضاً لأي مريد حتى ولو كان واسع العلم جمّ الأدب وافر المعرفة ، والصحابة الكرام ، لم تكن حتى تلاوة القرآن تغنيهم عن صحبة الرسول (r) لا بل إن هذه الصحبة ، كانت من أخص خصائصهم وأعلى مراتبهم وتأتي أهمية الصحبة في كونها تمثل الإقتداء بالأحسن والأمثل وأنها تمثل التجربة الحية والمعاشة مع الدين ، لكون الشيخ عند الصوفية يمثل الدين الحي الذي يمشي على قدمين ولكونه يمثل ظلاً وانعكاساً لوجود النبي في أمته.
إن الإنسان عاجز بمفرده عن النظر إلى عيوبه ومعرفة نقائصه وأمراضه ، ومن هنا تأتي أهمية وضرورة الصحبة ، وإذا كان الأمر كذلك ، فإن صحبة الصالحين والشيوخ الكاملين ، هي أفضلها ، فهم أصدق الناس وأعرفهم بالنفوس وأقربهم إلى الله تعالى وقد ورد في الحديث الشريف أن النبي محمداً (r) سئل عن خير الجلساء فقال: "من ذكركم الله رؤيته وزاد في عملكم منطقه وذكركم في الآخرة عمله"(1) . فالصحبة تطلب للعمل والتأدب وزيادة الصلاح.
إن صحبة الشيوخ تحوي جماع الأدب وحسن السلوك وإذلال النفس المتكبرة وتعويدها على الطاعة وحسن الأتباع ، وقد ورد عن الشيخ عبد القادر قوله: ((أنا قد تربيت على خشونة كلام المشايخ وخشونة الغربة والفقر))(1) والصحبة مع الشيوخ ، هي الطريقة عينها وهي التربية بحد ذاتها ، لأن المشايخ في مواجهة نفوس مريديهم لا يداهنون ولا يجاملون ، بل يضعون الأمور في مواضعها الصحيحة ، وهذه هي الأمانة التي أمروا بحملها ، ويرى الشيخ عبد القادر أن صحبة الشيوخ وطاعتهم ، وهي الخطوة الأولى والأهم في ترك الهوى ومخالفة النفس ، وهو ينصح مريديه ، بأن يكونوا أرضاً تحت أقدام الشيوخ وتراباً بين أيديهم(2). أي بمعنى أن لا تكون لهم إرادة ولا اعتراض لجهلهم بأنفسهم أولاً وعدم درايتهم بمهاوي الطريق ثانياً. وسيأتي تفصيل الكلام في الصحبة وأنواعها وآدابها في موضع لاحق من هذا الفصل.
إذن فمجاهدة النفس ليست من التجارب السهلة التي يمكن لأي إنسان أن يخوضها ومن دون الاستعانة بما سبق من شروط. إنها تجربة روحية شاقة تحتاج إلى جهد بالغ وشجاعة فائقة ، وهي مثل مجالدة الخصوم في ساحة الوغى تتطلب كثيراً من الجلادة والصبر ، لا بل هي تتطلب أكثر من ذلك ، لأن الأعداء فيها هم الأهوية والطباع والغرائز وأقران السوء ، وهؤلاء هم أكثر مراوغة وأشد مراساً من سباقيهم. ولأجل كل ذلك ، فإن الذي يفلح في مجاهدته لنفسه، يكون قد نال مقاماً عالياً لا يوصف شرفه لأن فيه ، فقط ، يتحقق القرب من المولى تعالى، ولأن فيه فقط يتحقق الموت الإرادي أو (الموت الأحمر)(3) كما يسميه الشيخ عبد القادر ، وهذا الموت هو أقصى ما يمكن أن تناله النفس من عملية التصفية التي هي كنه التجربة الصوفية والمكافأة المرجوة من بعد تحمل أعباء المجاهدة ، والتي بغيرها لا يكون هنالك قرب ولا وصول لأنه لا يصلح لمجالسة المولى ، إلا الطاهر عن أجناس الذنوب والزلات و((الله عز وجل لا يقبل من عبده إلا الطيب))(4) إذن فقرب العبد من مولاه مشروط بموت نفسه ، ولا يتم ذلك له إلا إذا أصبح بمنأىً عن متابعة هواه وطباعه وعاداته ، وفي منأىً عن متابعة الخلق وأسبابهم والطمع فيما في أيديهم ، أي إلاّ بعد أن يجعل أعماله كلها خالصة لوجهه تعالى. وبهذا فقط يُفعم قلبه بحب مولاه وترفع عن نفسه الحجب والظلمات.
على أن تجربة مجاهدة النفس ، بخطوطها العامة ومستوياتها الأولية ، ليست ضرورة حكراً على الصوفية دون سواهم ، بل هي تجربة إنسانية بناءة يمكن أن ينتفع من نتائجها كثير من الناس ، فمبادئ مثل: التخلي عن بعض الأخلاق السيئة والتحلي بالحسن منها ، والقناعة والصبر واحتمال أذى الآخرين ، تعد من الأخلاق الاجتماعية العامة التي تزيد من الرقي الروحي للناس وتزيد من تماسك الجماعات ولذلك ترى أن كثيراً من النحل والأديان غير السماوية ، تحاول أن تضع لنفسها مناهج خاصة في التربية الروحية ومجاهدة النفس ، وهذه الحالة لا تشير ضرورةً إلى مبدأ التأثر والتأثير، ولكنها من باب أولى تشير إلى الفائدة العظيمة التي يمكن لأي إنسان أن يجنيها من جراء سيطرته على نوازع نفسه وهو ما يُعد من بدائه معرفة الإنسان لنفسه.
ثمار المجاهدة
يرى الشيخ عبد القادر ، أن حقيقة ما يطمح المريد من الوصول إليه ، من وراء مجاهدته نفسه ، هو أن يعود بها إلى سيرتها الأولى ، أي سيرة آدم (u) قبل هبوطه إلى الأرض ، وآدم هنا يمثل باكورة الوجود الأولي الذي صنعه الله تعالى بيديه فهو الطهر السماوي والصفاء الفطري المحض الذي استطاع أن يجاور الحضرة الإلهية وأن يتجاوز محدودية بشريته ، حيث الخلود وحيث لا شقاء ولا ألم ولا عري ولا جوع وحيث هو بمنزلة الملائكة ، إن لم يكن أرفع منهم منزلة باعتبار عملية السجود. ولكن لم يدم الأمر على تلك الشاكلة ، لأن ما في آدم من ظلمة الأرض وثقل الطين جذبه إلى غفلة العصيان ، وتلك هي خطيئته الأولى ، وهي أولى العلائق التي أثقلت النفس فهبطت بها إلى عالم الأرض ، ((عالم الجوع والعري والشقاء عالم البعد الهجر والجفاء))(1)وكان هذا هو الامتحان الأكبر الذي وضع فيه أبناء آدم إلى يوم القيامة بحيث صار على أحدهم ، إما أن ينجو بنفسه ، آخذاً بيدها إلى حيث الأمن والخلاص وذلك عبر السلسلة السقيمة التي تتضمنها المجاهدات والرياضات والأعمال الشاقة ، أو أن يغفل عن نفسه ، فيترك لها حبل هواها ويكون هو تبعاً لها ومطية ، فتقتاده عبر السلسلة المريحة التي تنتظمها الملذات والشهوات والشبهات ، إلى حيث الهلكة والضياع.
على أن آدم هنا ، هو رمز القدر والرهان الصعب الكامن في دواخل كل البشر ، وأما آدم النبي(u)فيشير الشيخ عبد القادر ، إلى أنه قد تجاوز الغفلة واستدرك بما فيه من نور السماء فقال: ((ربنا ظلمنا أنفسنا ، بكى على فرقة محله الأول ، قال: من اين لي جَلَدٌ على فراق محبوبي ، قيل: يا آدم ، المعصية حجاب بينك وبين ربك ، حضرته طاهرة لا توطأ بأقدام ملوثة بمخالفة المحبوب))(1) فآدم(u)هو أول المطرودين والهابطين ، وقد عمل جاهداً على التكفير عن خطيئته ، ولكن قدره قد عمّ ، فأصبح لزاماً على كل بنيه ، إلى يوم القيامة ، أن يعاودوا تجربة التكفير ذاتها ويعملوا على حث خطى العودة إلى المحل الأول والمقام العزيز ، مقام القرب والرضا والإرضاء.
إن ما يرمي إليه الصوفية من وراء مجاهدة النفس ، هو ليس تطويعها بحد ذاته لأن تلك نتيجة قلقة سريعة الزوال ، وإنما هم يرمون إلى محاولة تغيير معدن النفس وكسر بعض طبائعها ، وهو معنى قول الشيخ عبد القادر: أن المجاهدة تعني قلب دولة. إن أخطر ما يواجهه الإنسان من مزالق وعقبات تقف في طريق تحرره الروحي ، يصدر عن خصومه الداخليين ، المتمثلين بالطبائع والأهواء والسيئ من الصفات ، فلو استطاع الإنسان أن يتغلب على هؤلاء الخصوم ، فسيكون بمنأىً عن ذلك وسيكون من الخواص ذوي النجاة ، وسيتحقق له وجدوه الثاني أو وجوده الممتاز الذي يتجلى في الإنسان الكامل بحده الأقصى.
إن الشيخ عبد القادر ، لا يغفل عن التذكير ، بأن مجاهدة النفس ، هذا الفعل الشاق والخارق لا يمكن لأي إنسان أن يمضي فيه قدماً أو يخطو فيه خطوة واحدة ، من دون أن تدركه يد العناية الإلهية وسابق مشيئتها ، فإذا ما قدر الأجتباء وغلبت عساكر جذبات العناية ، ((ذلت ولاية القلوب وراضت مطامع النفوس الأمارة بلجام رياضة "وجاهدوا في الله حق جهاده"(1) وأدخلت جبابرة الأهوية في سجن التقوى وسلاسل المجاهدة))(2) نعم يمكن للإنسان أن يُجري على نفسه ألواناً متعددة من الرياضات يبغي من ورائها غايات محددة ، كتطويع الجسد أو زيادة فاعلية الحواس أو حتى إظهار القدرات الخفية الكامنة في أعماقه ، ولكن أن يجاهد نفسه جهاداً مستمراً ، لا يبغي من ورائه إلا وجه الله تعالى وطلب القرب منه ، فأن ذلك فعل مشروط بأيمانه أولاً وبهداية الله تعالى وتوفيقه ثانياً وبرعاية مباشرة من لدن شيخ حي مرشد عارف.
إن تحقيق السمو الخلقي والرقي الروحي والوجود الحقيقي غير المشوب بالأوهام ، تعد من النتائج الأساسية والمضمونة التي يحصل عليها المريد الصادق ، من جراء صبره على تحمل المجاهدة بصورها الثقيلة كافة وإذا كان ينتظر المؤمن الذي يقاتل ويقتل في سبيل الله تعالى مكافأة عظيمة جداً ، وهي نوال الرزق الدائم والحياة الأبدية ، فأن المريد الذي يواجه نفسه بالجهاد الأكبر ، سينال حتماً مكافأة تليق بعمله ، وهي تصفية نفسه ومطالعتها للأنوار الإلهية ، وتهيئة قلبه من أجل أن يكون عرشاً للرحمن. والمريد من جانبه ، كلما ازداد إصراراً على مجاهدة نفسه ومحاصرتها ، أو بالأحرى إماتتها فأنه سينال في مقابل ذلك حياة جديدة روحية صافية وخالصة ودائمة تؤهله لنوال مقام العبودية الحقة. إنها تجارة رابحة حقاً ، إذ إن موته الإرادي والمختار عن الهوى والإرادة والميل إلى الخلق ، سيفضي به إلى حياة لا موت بعدها ، وغنى لا فقر بعده وعطاءً لا منع بعده وتمنحه راحة لا شقاء بعدها ، ويُنعم عليه بنعمة لا بؤس بعدها ويعلم بعلمٍ لا جهل بعده ، ويسعد فلا يشقى ويرفع فلا يوضع ويطهر فلا يدنس. ويكون بتلك المجاهدة قد نال الشرف الأعظم ، وهو وراثة النبي محمد (r) ويكون بهذه الوراثة قد أًصبح باب رحمة لأهل زمانه ، إذ تكشف به الكروب ويدفع البلاء ويستجلب الخير ويقصده القاصي والداني طلباً لبركته(3). إذن فقوة الإنسان وضعفه ، لهما تعلق بإرادته وبإصراره على الانتصار على داخله ، وهو الانتصار الذي تتوقف عليه الكثير من الانتصارات الأخرى.
(1) الجرجاني – التعريفات – ص316.
(2) العنكبوت ، 69.
(3) حديث صحيح – رواه الترمذي وإبن حبّان عن فضالة بن عبيد – شرح الجاع الأخير – ج/4 ص325.
(1) التقشيري - الرسالة القشيرية – ص82.
(2) عماد الدين الأموي – حياة القلوب في كيفية الوصول إلى المحبوب – هامش كتاب قوت القلوب – ص238.
(3) القشيري – الرسالة القشيرية – ص81.
(4) الهجويري – كشف المحجوب – بيروت – 1980 – ص432.
(1) الجيلاني – الفتح الرباني والفيض الرحماني – ص83.
(1) الجيلاني – الفتح الرباني والفيض الرحماني – ص283.
(2) الجيلاني – المصدر نفسه – ص10.
(3) الجيلاني – المصدر نفسه – ص209.
(1) الجيلاني – الغنية لطالبي الحق عز وجل – ج/3 – ص1326.
(2) حديث صحيح متفق عليه – رواه مسلم والبخاري عن أبي هريرة – الجامع الصغير – ج/1 – ص210.
(2) الهروي – منازل السائرين – ص54.
(1) الجيلاني – الغنية لطالبي طريق الحق عز وجل – ج/3 – ص1328.
(1) الجيلاني – الغنية لطالبي الحق عز وجل – ج/3 – ص1333.
(1) الجيلاني – الغنية لطالبي طريق الحق عز وجل – ج/3 – ص1333.
(2) إشارة إلى قوله تعالى: "ورحمتي وسعت كل شيء" – الأعراف/ 156.
(1) الجيلاني – الغنية لطالبي طريق الحق عز وجل – ج/3 – ص1334.
(2) الجيلاني – المصدر نفسه – ج/3 – ص1335.
(1) الجيلاني – الغنية لطالبي طريق الحق عز وجل – ج/3 – ص1335.
(2) الجيلاني – المصدر نفسه – ج/3 – ص1335.
(1) الجيلاني – الغنية لطالبي طريق الحق عز وجل – ج/3 – ص1336.
(1) الجيلاني – رسالة في التصوف – مخطوطة.
(2) ص/ 26.
(3) الجيلاني – فتوح الغيب – على هامش كتاب بهجة الأسرار ومعدن الأنوار – ص24.
(4) الجيلاني – الفتح الرباني والفيض الرحماني – ص57.
(1) وورد عن الشيخ عبد القادر قوله" دخلت في ألف فن في الزهد حتى أستريح من دنياكم وماكنت أعرف إلاّ بالتخارس والبله والجنون وكنت أمشي حافياً في الشوك وغيره وما هالني شئ إلاّ سلكته ولا غلبتني نفسي فيما تريده قط ولا أعجبني شئ من زينة الدنيا قط فملت إليه – الشنطوفي – بهجة الأسرار ومعدن الأنوار – ص85.
(1) سنن إبن ماجه – ج/ 1 – ص565.
(2) سنن إبن ماجه – ج/1 -= ص566.
(3) الجيلاني – الفتح الرباني والفيض الرحماني – ص165
(1) الجيلاني – الفتح الرباني والفيض الرحماني – ص151.
(2) الجيلاني – المصدر نفسه – ص57.
(3) للتفضيل حول ذلك يراجع أحمد بن دحلان – السيرة النبوية – بيروت – 1983 – ج/1 –ص163 فما بعدها.
(1) حديث صحيح رواه أبو يعلي – مجمع الزوائد – ج/10 – ص266.
(1) الجيلاني – الفتح الرباني والفيض الروحاني – ص24.
(2) الجيلاني – الغنية لطالبي طريق الحق عز وجل – ج/3 – ص1280.
(3) الجيلاني – الفتح الرباني والفيض الرحماني – ص212.
(4) التونسي – رياض البساتين – ص69.
(1) الشطنوفي – بهجة الأسرار ومعدن الأنوار – ص26.
(1) الشطنوفي – المصطر نفسه – ص26.
(1) الحج / 78.
(2) الجيلاني – خمسة عشر مكتوباً في التصوف – مخطوطة.
(3) الجيلاني – المصدر نفسه
الجوانب العملية
أ- المجاهدة
ب- الزهد
ج- الذكر
د- آداب الصحبة
المجاهدة
الأصل اللغوي والشرعي
المجاهدة في اللغة العربية تعني المحاربة وفي الاصطلاح تعني: محاربة النفس الأمارة بالسوء ، بتحميلها ما يشق عليها بما هو مطلوب في الشرع ، وتعني المجاهدة أيضاً: حمل النفس البدنية ،أي التي لها تعلق برغبات الجسد وميوله وأهوائه ، ومخالفة الهوى على كل حال(1). أمّا الأصل الشرعي للمجاهدة ، فهو مستمد من قوله تعالى: "واللذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا"(2) وهذه الآية ، عدّها الصوفية أمراً صريحاً من الله تعالى لعابده ، باتخاذ المجاهدة – بشقيها الأصغر والأكبر – وسيلة للنجاة والهداية والاستقامة على الصراط. وفي السنة فهو مستمد من حديث النبي محمد (r) : "المجاهد من جاهد نفسه في الله"(3) وهذا الحديث ، يتضمن دلالة واضحة على تفضيل مجاهدة النفس على مجاهدة أعداء الله تعالى ومجادلتهم بالسيوف ، لأن مجاهدة النفس تشتمل على مشقة أكبر وهي تتصف بالاستمرارية والدوام ، لأنها باقية ما بقى الإنسان على قيد الحياة ، وهي أصعب لأن الخصم فيها يكون أشد مراوغة وأكثر خفاءً ، وأخيراً فهي أكبر لأن نتيجتها هي التي تحدد مصير العبد في آخرته ، إذ تهديه إلى ثواب أو تؤدي به إلى عقاب.
أهمية المجاهدة
لقد ثبت من خلال سيرة النبي محمد (r) وصحابته الكرام وتابعيهم ، وسيرة من سبق من الأنبياء والمرسلين ، أن مدار التكليف في جميع الشرائع والكتب السماوية يدور على مجاهدة العبد نفسه "وفطمها عن المألوفات وحملها على خلاف هواها في عموم الأوقات"(1) وهذا المحور ، هو نفسه الذي تدور حوله النظم الأخلاقية الوضعية بمشاربها كافة ، فهي جميعاً تتفق على ضرورة سعي الإنسان للتخلي عن صفاته الذميمة، وفي المقابل التحلي ببدائلها.
الصوفية من جانبهم يرون أنه لا عمل يقرّب العبد من مولاه مثل المجاهدة ، ولا عبادة يُعبد بها الله تعالى مثل مخالفة النفس والهوى(2). إن المجاهدة ، تتضمن فعل كل ما يرضي الله تعالى وترك كل ما يسخطه ، فهي إذن سفينة النجاة التي تنتهي بصاحبها إلى بر السلامة ، وهي السبيل الوحيد الذي تُنال به المراتب الروحية وتستحصل من خلاله المعارف الربُانية ، وهذه النقطة هي التي تشكل مدعاة فخر الصوفية على خصومهم فهم يرون أن معارفهم لا تأخذ من الكتب ولا من القيل والقال ولا مما تركه الأموات وإنما هي توخذ حياً عن حي وتُنال عن طريق الجوع وترك الدنيا وقطع المألوفات.
معنى المجاهدة
ولأهمية المجاهدة في السلوك الصوفي ، فقد اتفق الصوفية على: أن من لم يكن في بدايته صاحب مجاهدة ، لم يجد من الطريقة شمّة(3). لأن المجاهدة ، تعني التمكن من معرفة النفس ، وقد علمنا أنه لا وصول بغير تلك المعرفة ، وغير ذلك ، فإن مجاهدة النفس تعني السعي إلى تصفيتها وجلوها لتلقي أنوار المشاهدات وهو معنى قول سهل بن عبد الله التستري (ت – 283 هـ) ((أن المشاهدات هي مواريث المجاهدات))(4). فالمجاهدة إذن إضافة إلى كونها مورداً أخلاقياً ، تعد منبعاً معرفياً يستقي منه الصوفية علومهم وأسرارهم. على أننا لو ضممنا الأخلاق إلى المعرفة لحزنا على ثمرة الفعالية الصوفية برمتها ، فالتصوف هو المجاهدة هي التصوف ، ولا يمكن للصوفي في أية مرحلة من مراحل سلوكه أن يستغني عن مجاهدة نفسه ، فهي فعل مستمر ومتغير مع استمرارية التحولات النفسية عند الصوفي ، فمجاهدة المتزهدين تختلف حتماً عن مجاهدة الزاهدين ومجاهدة المريدين تختلف عن مثيلتها عن المرادين وتأتي أهمية المجاهدة أخيراً من أنها تعتمد على همّة العبد وجهده ، فهي سبب المجازاة والمكافآت وبغيرها لا يرتجى الفوز ولا ترتقب النجاة.
المجاهدة عند الشيخ عبد القادر
يسمي الشيخ عبد القادر ، مجاهدة النفس بـ (جهاد الباطن) في مقابل (جهاد الظاهر) الذي هو مجالدة الكفاّر. وهو يرى أن الأول منهما أصعب من الثاني وأشق لأن فيه قطع مألوفات النفس وهجرانها بأمتثال أوامر الشرع والانتهاء عن نواهيه(1). على أن الصعوبة الحقيقية تكمن عنده في المواجهة المستمرة مع النفس ، إذ ما دامت للنفس صولات وجولات ، وهذه لا تنتهي ، فالمجاهدة باقية ، على أن هذه المجاهدة لا تقتصر على تخميد جذوة الشهوات واللذات الجسدية ، وهو ما تجسده مراحلها الابتدائية بل هي تمتد لتشمل كل ساحة العبادات والقربات والأحوال والمراتب الروحية ، حيث يمكن أن ينال العبد من أبواب الخير تلك ، مزالق ومهاوٍ ، قد تودي به إلى التهلكة. فالعبادات مثلاً ، إذا داوم عليها العبد وزاد فيها وتواصل ، من غير مراقبة وتحّرز وإنتباه ، فإنها قد تورثه العجب والكبر والاستعلاء على الخلق ، وهذه (الأمراض) أشد ضرراً على قلب المريد ن من حب الشهوات والميل إلى الدنيا. وهكذا يمكننا أن نلمس تعقد آلية عمل المجاهدة مع تقدم المريد في سلوكه الصوفي ، فلا هوادة مع النفس ولا راحة نهائية من أهوائها لا بل أن الجهد الذي يكابده المريد في بداية مجاهدته ، يكاد لا يذكر في مقابل ما يظهر من خفايا تطلعات النفس في مراحل النضج المتأخرة ، ففي مقام الإخلاص ، على سبيل المثال ، وهو من مقامات العارفين ، فإن العبد إذا نظر إلى إخلاصه ، فإنه سيخرج عن حد الإخلاص الذي يفترض عدم النظر إلى غير فضل الله تعالى ومنته.
المجاهدة فعل دائم
يولي الشيخ عبد القادر ، المجاهدة ، أهمية استثنائية ، بحث إنه يؤكد على الالتزام بها عبر مفاصل نظريته الصوفية كافة ، ولعل السر وراء ذلك يكمن في عدّها من جانبه بكونها الفعل الصوفي الدائم الذي يرافق المريد ، منذ باكورة سلوكه الصوفي وحتى بلوغه اليقين المعرفي الذي يتحقق بارتفاع الحجب الظلمانية عن النفس والقلب والسر. على أن المجاهدة لا تعني عنده أكثر من كونها عقوبة وعصى طاعة ، تلقى على النفس المراوغة والمخاتلة والمحتالة والمليئة بالدواهي والمسلحة بالمكر وألوان الخداع ، والتي يمكن ، أمام التلويح لها بالعصا والعقوبة ، أن تتناوم وتظهر الطمأنينة والذل والتواضع والموافقة في الخير ، بينما هي تبطن خلاف ذلك فإذا ما إغترّ بها صاحبها وإطمأن إليها وفترت همته تجاهها ، فإنها ستعود إلى سيرتها الأولى والى إظهار ما إنطوت عليه(1). وعليه فإن الاستمرار في المجاهدة يعني الاستمرار على تطويع النفس وترويضها وتقويمها ، من أجل أن تكون ، بدلاً من التمرد والانفلات ، عوناً للمريد ومطية سهلة تصل به إلى مبتغاه ، بأمان ومن دون مخاطر. إذن فالنفس مع المجاهدة ، تصير مطمئنة ، ((وتصير كلها خيراً في خير))(2) وإن أصل طمأنتها ومنبع خيرها يأتي من طاعتها وتجردها وعدم تعلقها بشيء من المخلوقات ، وأما قبل ذلك ، فلا يمكن للمرء أن يتوقع منها إلا المخالفة والميل إلى اقتراف الشر والتطلع إلى مضارب المحرمات.
إذن ففي منهج الشيخ عبد القادر الصوفي ، لا يوجد وصولاً نهائياً ولا صفاءً أبدياً ولا خلاصاً مضموناً ، وإنما الأمر يحتاج إلى متابعة مستمرة ومراقبة لا تشوبها غفلة ، لأنه ما دامت هنالك نفس ، إذن فهنالك حاجة مستمرة إلى شد الأحزمة والتلويح بعصا العقوبة ، وهذا يكون في حق كل السالكين دون استثناء لأن سلوك طريقة الحق مشروط بالمداومة على تهذيب النفس ((السيئة الأدب))(3) كي تنفتح عيناها وتزول عداوتها لربها ، وهذا بالتأكيد ، يحتاج إلى صبر ووقت طويل ، لأنه يعني السير ضد التيار ومخالفة الطبع. فإذا ما ثبت المريد على فعل المجاهدة ، فإنه سيكتسب أهم صفتين تقربانه من الله تعالى وهما: الصدق ومحبة المولى تعالى.
المجاهدة والتقوى
إن المجاهدة بما أنها تعني مخالفة الهوى وتحصين النفس وعصمتها عن المألوفات وحرمانها من الشهوات واللذات ، وحملها وإكراهها على تقبل خلاف ما تهوى وتريد فإن هذا يعني اشتمالها على جهد بالغ ومشقة عظيمة قد تفوق وتتجاوز طاقة البشر. وعليه فلنا أن نتساءل: من أين يستمد العبد القدرة على إتيان ذلك؟ يرى الشيخ عبد القادر ، أن المصدر الممد لهذه العزائم هو: التقوى والخوف من الله تعالى وهذان هما من أقسى السياط التي تخشى النفس التعرض لها ، لأن العبد إذا كان تقياً حاضر الخوف من ربه ، فإنه سيكون محصناً صعب الاختراق ، فالتقوى تجنبه الخوض في الشبهات والخوف يجنبه التطلع إلى المحرمات ، وعليه فلا يبقى أمامه إلاّ الضروري من سبل الحلال ، مما تقل معه حظوظ النفس وتُسد فيه مجاري الأهواء.
المجاهدة والمراقبة
على أن ملاك فعل المجاهدة ، لا يكتمل بالتقوى والخوف من الله تعالى ، بل إنه يحتاج إلى عامل آخر ، وهو: المراقبة التي يعرّفها الشيخ عبد القادر بأنها: إطلاع الرب سبحانه على العبد ، واستدامة العبد لهذا العلم يتم بمراقبته لربه(1) على أن المراقبة عنده لا تعني أكثر من الإحسان الذي ورد ذكره في الحديث النبوي الشهير المسمى بحديث (جبريل) والذي جاء فيه: الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تره فإنه يراك(2).
إن المراقبة في السلوك الصوفي ، تعدّ أصلاً لكل خير دنيوي وأخروي ، على أنها بوصفها حالاً صوفياً ، لا تُنال جزافاً أو بيسر ومن دون جهد وقصد ، بل إنها لا تأتي إلاّ بعد أن يلتزم العبد بمحاسبة نفسه وإصلاح حاله والمواظبة على لزوم طريق الحق وإحسان مراعاة القلب بينه وبين الله تعالى إلى درجة يلزم معها حفظ الأنفاس وهو ما يعني المراقبة الدقيقة للخطرات والهواجس والحركات والسكنات الظاهرة منها والباطنة كافة ، أي بمعنى آخر ، أن يبذل العبد جهده ، كي لا يصدر منه أي فعل مخالف. فإذا ما علم العبد وأيقن ، بعد تمكنه من حال المراقبة ، بأن الله تعالى ، عليه رقيب ومن قلبه قريب ، وأنه عالم بجميع أحواله وحاضر في كل أوقاته وناظر إلى جميع أفعاله وسامع لكل أقواله ومحيط بكل دقائقه وأسراره ، فإنه سيكون دائماً في غاية الاستعداد والتأهب فلا ينوشه الوهن ولا يتطرق إليه التكاسل ، وسيعتريه بشدةٌ الخزف والحياء من ربه فيزداد بذلك إلتزامه بحدود الله تعالى. وهكذا دواليك ، فإن حال المراقبة الذي يورث قلب العبد الشعور بالخوف والحياء تجاه الله تعالى ، فإن هذه (المشاعر) ستعمل من جانبها على دعم حال المراقبة وإدامته ، وبذلك يكون البناء الصوفي كاملاً وتاماً ومتلازماً(1).
إن المراقبة تعني أيضاً القرب من الله تعالى ، إذ إن مداومة الصوفي عليها ، يعني أنه سيكون في مقام من الله شريف ، إذ الحذر سيصحبه في جميع أفعاله وستكون جوارحه وقلبه في حفظ مولاه ، والخوف كذلك ، سوف لا يفارق قلبه ، لعلمه بسطوة مولاه وأما الحياء الذي هو من مدارج أهل الخصوص ، والذي يتولد من تعظيم منوط بود(2) ، فهو شعور مصاحب للقرب ، لأنه ينبع من علم العبد بنظر الحق إليه ، فيدفعه ذلك إلى تحمل وطأة المجاهدة. وأما محصلة كل ذلك ، فهي أن مداومة قلب العبد على الإحساس بالمراقبة،سيورثه حتماً المزيد من الحب لمولاه ، وهذا هو غاية ما يتمناه الصوفي ويسعى إليه. المراقبة إذن ، مقام للعلماء بالله تعالى الخائفين العارفين الأتقياء الورعين(1) وهي من المقامات الرفيعة التي لا ينالها المريد إلاّ في مراحل سلوكه المتأخرة ، بحيث يكون عندها قد هيأ نفسه تماماً للسكون تحت نظر الله تعالى ، نعم إن كل العباد هم تحت نظر الله تعالى ، ولكن فرق العارفين عن غيرهم ، هو كونهم يعون هذه الحالة ويتعايشون معها في كل أوقاتهم وأحوالهم ، ومن ثم فهم أكثر إنضباطاً من غيرهم وأكثر إرضاءً لمولاهم وهذا يعني أنهم أكثر قرباً وأكثر حبّاً له.
الأهمية القصوى للمراقبة ، تأتي من كونها تمثل أحد الأركان الثلاثة التي يبنى عليها الهيكل الروحي للمريد ، وهي: الورع الذي يخرج العبد ويبعده عن المعاصي والزلات ثم المراقبة التي تذكر العبد بنظر الحق عز وجل الدائم إليه وحضوره معه وإحاطته بعالمه ، ثم أخيراً المجاهدة التي تتحدد حصراً بمحاربة النفس والهوى والشيطان. علماً أن السيرة الصوفية بمراحلها كافة ، لا يمكن تخيلها من دون أي من هذه الأركان الثلاثة إذ لا غنى للصوفي ، في طول مسيرته الروحية ، عن الورع والمراقبة والمجاهدة. ومن جانب آخر ، فإن هذه الأركان مترابطة ومتلازمة فيما بينها، بحيث يلزم أحدها عن الآخر ، فالعبد الذي ينتهج الورع بكونه سلوكاً دينياً ، يصبح بالضرورة مجاهداً لنوازعه النفسية وشاعراً بمراقبة ربه له ، وكذلك الحال مع صاحب المراقبة والمجاهد لنفسه.
شروط صحة المجاهدة
فإذا ما عقد المريد العزم على المجاهدة ، فإنه لابد من أن تتوفر فيه عشر خصال ، يرى الشيخ عبد القادر ، أنه لو أقامها وأحكم العمل بها ، فإنها ستكون كفيلة وضامنة لبلوغه إلى المنازل الأخلاقية العالية والمراتب الروحية الشريفة.
أولها: أن لا يحلف العبد بالله تعالى ، صادقاً ولا كاذباً ، عامداً ولا ساهياً ، فإذا ما أحكم ذلك من نفسه ، وإعتاد لسانه عليه بحيث صار يتجنبه في كل الأحوال ، فتح الله تعالى له باباً من بركة أنواره ، فيعرف منفعة ذلك في قلبه ، ويلمس معه رفعة في درجته وقوة في عزمه ونفاذاً في بصيرته(1) إذ إن كل عمل شرعي يلتزم به العبد ظاهراً ، فأنه لابدّ أن يلمس فائدته باطناً.
إن تجنب الحلف في كل الأحوال ، يعّد من المسائل المهمة التي أكدها الشرع الإسلامي كثيراً ، لأنه يتضمن إضمار الهيبة والإجلال للذات الإلهية ، وذلك بعدم تعريضها للمعاملات الدنيوية. ولاشك في أن حرص العبد على حفظ الهيبة وإظهار الإجلال وعدم التبسط في علاقته بالذات الإلهية ، يحوي الكثير من أدب العبودية وحفظ الحرمة والتذلل والخضوع ، وهو ما يطمح إلى التحلي به الصوفية كافة وفي كل الأزمان. وفيما عدا ذلك ، فأن في الحلف مزالق جمة قد تدفع بصاحبها إلى اعتياد الكذب وفقدان الثقة بالنفس ، وهو ما يولد اختلالاً أخلاقياً ونفسياً ملحوظاً ، وهو أيضاً معنى قول أهل الخبرة بأن: تجنب الحلف يورث المرء الهيبة والاتزان والثقة بالنفس.
الثانية: أن يتجنب العبد الكذب جاداً كان أم هازلاً. وبالطبع ، فأن هذه الخصلة لا تحتاج إلى كثير جهد لبيان صحتها وإظهار فائدتها ، إذ إن الكذب مذموم في كل الشرائع والملل والأديان وحتى النظم الأخلاقية الوضعية ، وفي المقابل ، فأن الصدق ، وبشكل مطلق ، يعد محموداً في المواطن كلها ، لا بل حتى المهلك منها. إذن فاجتناب الكذب يعدّ من البدائه الأخلاقية التي يتعامل بها الناس ، حتى في حياتهم اليومية ، ولكن تأكيد الصوفية على هذه الخصلة ، فيه إشارة إلى ما يقف وراءها من فوائد روحية وفيرة لا غنى لأي مريد عن امتلاكها والتحلي بها ، وهذا هو بالضبط ما سيعمل الشيخ عبد القادر على إظهاره.
إن المريد إذا تجنب الكذب في كل الأحوال ، وأحكم ذلك في نفسه ، وإعتاد عليه لسانه شرح الله تعالى به صدره وصفّى به علمه ، حتى صار كأنه لا يعرف الكذب ، وإذا سمعه من غيره ، استهجنه وعابه عليه. إذن فالشيخ عبد القادر ، يحاول في ذكره هذه (الخصلة) ، أن يسلط الضوء إ ضافة إلى الجوانب الشرعية والأخلاقية ، على الجوانب الروحية والمعرفية ، إذ إن شرح الصدر وصفاء العلم ، هما من أعزّ المواهب التي يسعى المريد إلى تحصيلها والتنعم بثمارها. على أن هذه الفوائد لا تشكل ، في الحقيقة وازعاً إضافياً يدفع المريد إلى تجنب الكذب ورفضه ، إذ إن ذلك يعدّ من القواعد المطلقة التي لا يختلف عليها اثنان ، ولكنه فقط يشير إلى طبيعة تعامل الصوفية مع الأشياء وكونهم ينظرون إلى ما تخفيه السطور وما تحويه الخبايا من أسرار.
الخصلة الثالثة: حذر المريد من أن يعد أحداً شيئاً فيخلفه إياه ، وهو يقدر عليه ، إلاّ من عُذر بيّن فأنه أقوى لأمره وأقصد لطريقته ، لأن الخلف من الكذب ، فإذا فعل ذلك فتح له باب السخاء ومنح درجة الحياء، و أعطى مودة في الصادقين، ورفعة عند الله (1) تعالى فأمّا باب السخاء فلعطائه ونبذه للشح ، وأما درجة الحياء فلحرصه على عدم الاتصاف بالخلف والكذب ، وأما المودة في الصادقين فلتواصله معهم بالعطاء واتصافه بصفاتهم الآنفة الذكر ، فإذا ما اتصف العبد بكل ما سبق، فإنه سينال عند الله تعالى رفعة وقبولاً، فهو من عباده الكرام الصادقين ، وهاتان هما من أكثر الصفات التي تقرّب العبد من مولاه.
الخصلة الرابعة: ينبغي على المريد أن يتجنب لعن شيء من الخلق ، أو يؤذي ذرة فما فوقها ، لأنه إن فعل ذلك ، فسيلحق بمرتبة الأبرار الصادقين. وهذه الخصلة، لا تقتصر الدعوة لها عند الشيخ عبد القادر ، بل إن التصوف الإسلامي برمّته يدعو المريدين إلى أن يغرسوا في قلوبهم رحمة كبيرة تتسع للمخلوقات كافة بجمادها وحيوانها ونباتها وبصغيرها وكبيرها. وهذه الدعوة التي يمكن بسهولة أن يلحقها بعضهم بالفلسفات الزهدية الهندية ، يكون من باب أولى أن تلحق بمبادئ الدين الإسلامي، بمصدريه الرئيسيين: الكتاب والسنة ، فلقد أشار القرآن الكريم إلى رحمة الله تعالى التي وسعت كل شيء(2). وأمّا السنة فهي مفعمة بالكثير من الوصايا والتعاليم التي تأمر بالرأفة بجميع المخلوقات ، وبالضعيفة منها على وجه الخصوص.
إن الدور الذي رسمه الصوفية للمريد ، بكونه موضع نظر الله تعالى ، وكونه التجسيد الأمثل لرحمته تعالى والساعي بين الخلق بالخير والصلاح والجامع لقلوبهم على هدف واحد ، وهو: حب الله تعالى وطلب القرب منه ، هو الذي يدفع بالمريد إلى تحري أدق التفاصيل في سعيه للتحلي بالحميد من الصفات والحسن من الخصال ، فهو لا يرضى فقط بما تيسر منها وكان سهل المنال ، وإنما هو يسعى دائماً وبشكل مستمر ، وراء الأصعب والأشد والأبعد غوراً ، من الأمور كافة التي لها علاقة بمجاهدة النفس ورفعة الدرجات.
الخصلة الخامسة: يجتنب المريد ، أن يدعو على أحدٍ من الخلق وإن ظلمه ، فلا يقطعه بلسانه ولا يكافئه بفعاله بل يحتمل ذلك لله تعالى. إن دعوة الشيخ عبد القادر لمريده بتحمل الأذى من الآخرين ، مستمدة أصلاً من مبادئ التربية الروحية المستمدة من أنوار المقامات الصوفية التي بلغها المريد وشعت في نفسه وأضاءت له الطريق فالصبر هو الذي يحمل العبد على تحمل الأذى ، والرضا يحمله على أن لا يدعو على أحدٍ من ظالميه ، فإذا ما عكسنا المسألة ، فأنها تصح أيضاً ، إذ إن سكون النفس مع تحملها الأذى سيثيبها حتماً مقام الصبر ، كما أن عدم الاعتراض على أفعال الخلق سيهديها حتماً إلى مقام الرضا. ومن جانب آخر ، فأن على المريد أن يعتقد جازماً: بأن كل ما يلاقيه من سوء وأذى من الآخرين ، ما هو في حقيقته إلاّ اختبار من الله تعالى عليه اجتيازه بنجاح كي ينال بذلك الدرجات وكي يكمل تأديب نفسه وتصفيتها ، من أجل أن ينجز دوره المنوط به بوصفه مرشداً ودليلاً للآخرين ، لسلوك سبيل الرشاد.
الخصلة السادسة: أن لا يقطع الشهادة على أحدٍ من أهل القبلة بشركٍ ولا كفرٍ ولا نفاق، فأن ذلك أقرب للرحمة وأعلى للدرجة.
إن هذه الخصلة تدعو المريد إلى أن يكون متفهماً ومتسامحاً ، إزاء منطق جميع الطوائف والملل الإسلامية المعتدلة ، والتي لا تخرجها عقائدها عن حدود الشرع وأصول الدين ، إذ إن اختلاف مشارب الناس ومذاهبهم ، لا يلغي اجتماعهم أخيراً على هدف واحد وشعار واحد ، وهو: عبادة الله تعالى الواحد الأحد ، ومن جهة أخرى فإنه يكره للمريد السالك ، أن يميل مع طائفة إسلامية دون أخرى ، لأنه ينبغي عليه أن يكون قدوة لغيره في توحيد القلوب والهمم ، وهذا المقصد لا يتحقق له إلاّ إذا ترفّع عن التلفت صوب التفاصيل والفروقات غير الجوهرية ، إن المبادئ الصوفية ، هي مبادئ الحبّ الإلهي والتوحيد الحقيقي والصفاء الروحي ، وهذه المبادئ ضرورة ، لا تنمو بغير تربة السمو الفكري والانتماء الحقيقي لروح الدين. وتبدو دعوة الشيخ عبد القادر هذه ، في غاية الأهمية ، فيما لو استرجعنا تفاصيل التناقضات الفكرية والاجتماعية والدينية التي كانت تحكم علاقات وروابط المجتمع الإسلامي في زمنه ، ومن الجانب الآخر ، فإن هذه الدعوة تسلط الضوء على الدور الإصلاحي الذي اضطلع بع الصوفية بعامة والشيخ عبد القادر بوجه خاص ، تجاه مجتمعاتهم ، وهو الدور الذي يدفع عنهم وبشكل قاطع ، تهمة الخمول واللاإنتماء.
الخصلة السابعة: يتجنب المريد ، النظر والنزوع إلى شيء من المعاصي ، في الظاهر والباطن ، وأن يكف عنها جوارحه ، فأن ذلك من أسرع الأعمال ثواباً للقلب والجوارح في عاجل الدنيا وآجل الآخرة(1).
إن مطالبة الشيخ عبد القادر المريد هنا ، لا تتعلق بترك اقتراف المحرمات ، لأن ذلك أمر مفروغ منه شرعاً ، وفعله واجب على كل مسلم ، وإنما هو يطالبه بعدم النظر أو حتى التفكير في ذلك ، لأن هذا الفعل ، يدخل في ميدان أعمال القلوب والخواطر ، وهو عين الميدان الذي يخوض فيه الصوفية منازلاتهم ويظهرون صلابة هممهم ، فالصوفي يكون في غاية الوهم والانخداع ، فيما لو طلب النزاهة الباطنية والصفاء النفسي وترك حبل خواطره الرديئة على الغارب. إن إحكام القبضة يبدأ من هنا ، أي من منافذ الوساوس والطمع والميل إلى الشهوات ، وهو ما يلقي بظلمة ظلاله على القلوب والأرواح ، فيؤخر ذلك حتماً ، زمن عروجها نحو عالم الملكوت.
الخصلة الثامنة: يعمل المريد على أن لا يطالب أحداً من الخلق إعالته ، ولا يطلب منه مؤونة ، مهما صغرت أو كبرت ، بل يرفع ذلك عن الخلق أجمعين ، حتى وإن كان ذا فقرٍ بادٍ وحاجة ملحّة ، لأن ذلك فيه تمام عز العابدين وكمال شرف المتقين ، وبه يقوى المريد على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ويكون الخلق أجمعين عنده ، بمنزلة واحدة ، أي في الحق سواء(2).
ولا يخفى ما لهذه الخصلة من تعلق بمجاهدة النفوس وزهد القلوب ، وبصرف أنظار الهمم عن التطلع صوب عطاء الخلق وفضلهم ، لما في هذا التطلع من أثر في شرخ صرح التوحيد وتشتيت خطى الإقبال الخالص على الله تعالى ، وثم ثلمُ عزة القلوب المستمدة من غناها بربّ العالمين ، فأما علاقة هذه (الخصلة) بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فمرجعها هو اعتقاد المريد ، بأن صدق كلمته وقوتها وشدة تأثيرها في الآخرين ، يأتي من استغنائه عنهم وانقطاع أمله بهم ، واعتقاده أيضاً ، بأن دعوته لابد من أن تكون أخروية ربانية صرفة ، بحيث لا تشوبها شائبة مع طمع أو سعي وراء ثواب عاجل. ولهذه الخصلة وجه آخر له تعلق بالعملية الإصلاحية التي سعى الشيخ عبد القادر إلى إنجازها في الحقل الصوفي خاصة ، إذ إن الفصل القاطع بين دور المريد إلأرشادي، وعلاقاته المادية غير المتكافئة مع الآخرين ، فيه سدًّ مقصود لكثير من ذرائع ذوي الطمع من الدخلاء اللذين ابتلى بهم التصوف الإسلامي قديماً وحديثاً بحيث صار من السهل على الناس أن يربطوا بين الصوفية الحقيقيين وهؤلاء الكسالى والمتطفلين عليهم.
الخصلة التاسعة: ينبغي على المريد أن يقطع طمعه في الآدميين وأن لا تميل نفسه إلى شيء مما في أيديهم ، فإن تحقق في ذلك ، فإن له العزّ الأكبر والغنى الخالص والملك العظيم والفخر الجليل واليقين الصادق والتوكل الشافي الصحيح وهو باب من أبواب الثقة بالله عز وجل ، وهو أيضاً ، باب من أبواب الزهد ، وبه يُنال الورع ويكمل النسك، وهو أخيراً من علامات المنقطعين إلى الله تعالى(1). وتجدر الإشارة إلى أن هذه الخصلة ، لا علاقة لها بسابقتها ، كما يبدو عليه ظاهر الحال ، إذ إن اعتماد المريد المتزهد في معيشته على الآخرين ، لا يشبه ضرورة طمعه بما في أيديهم ، فالأول إذا كان يمثل خطأً مرحلياً يعيق المسيرة الصوفية للمريد ، فإن الثاني يمثل إنحرافاً نفسياً واخلاقياً يخرج بصاحبه عن المسار الصوفي برمته. وتتجلى الفروقات بين الحالتين أكثر ، فيما لو قارنا بين النتائج الروحية الإيجابية المترتبة على تجنبهما، فإذا كنّا قد رأينا أن تجنب الأولى يورث صاحبه الصدق والعز والشرف، فإن تجنب الثانية يورثه التوكل والورع والزهد الصحيح ، وهي خصائص روحية أساسية لا تكمل الشخصية الصوفية إلاّ بها.
الخصلة العاشرة: وهي الأخيرة ، وفيها ينصح الشيخ عبد القادر المريد بالتواضع ، فبه يُشد محل العابد ويثبت قدمه وتعلو درجته ويستكمل العزّ والرفعة عند الله تعالى وعند الخلق ، وبه يقدر على ما يريد من أمر الدنيا والآخرة(2). إن التواضع هو أصل الطاعات كلها بفروعها وأصولها ، وبه يدرك المريد منازل الصالحين الراضين عن الله تعالى في السراء والضراء ، وهو أيضاً كمال التقوى ، ولا يرضى الشيخ عبد القادر من تواضع العبد ، بأقل من أن لا يلقى المريد أحداً من الخلق ، إلاّ ويرى له الفضل على نفسه ، ويرى أنه قد يكون عند الله تعالى ، خير منه منزلة وأرفع درجة ، وأما مجاهدة النفس ، فإن للتواضع فيها أهمية بالغة ، إذ إن تأثيره يطال جميع الفعاليات العبادية والصوفية ، ولذلك فقد سمّاه الشيخ عبد القادر بـ ((ملح العبادة وغاية شرف الزاهدين))(1) وأخيراً ، فبدون التواضع ، لا يمكن للمريد أن يتخلص من كثير من أمراض النفس الخطيرة مثل الكبر والعجب والإحساس بالتفوق على الآخرين.
وفي الخلاصة ، فأنه يمكننا أن نلاحظ ، من خلال هذه (الوصايا العشر) أن الشيخ عبد القادر ، يؤكد في أغلبها على علاقة المريد ببقية الناس ، وفي هذا ما فيه من إلفات النظر إلى أن المجال الحقيقي الذي يعمل فيه التصوف ، هو مجال أخلاقي بحت ، وإنه لا يشتمل على غاية تقف وراء التخلق بالخلق الحسن ، وإنه لا خير في سلوك صوفي لا يزيد من أدب المرء مع الخلق ومع الخالق ، وهذا هو غاية ما تسعى جميع الشرائع والأديان إلى التبشير به وإفشائه بين الناس.
إن الحاجة الملحّة للتجمل بالآداب والتحلي بالأخلاق الحسنة ، المقبولة شرعاً والمرضية عند الخلق ، تنبع من نيّة المريد في أن يكون له دورٌ إيجابيّ بين الناس وهو دور المرشد والواعظ والدليل والداعي إلى الله تعالى ، وهو ممّا يفترض حضوراً عميقاً وفعالاً في المجتمع ، كي يتحقق بذلك مبدأ التأثر والتأثير وكي تصحّ عملية الغرس والإنبات.
ويمكننا أن نلاحظ أيضاً ، أن جميع تلك الوصايا ، مستمدة من الشرع الإسلامي وهو ما يعني في الواقع ، أنها واجبة على كل مسلم عاقل بالغ ، وهو ما يعني أيضاً أنه لا توجد هناك ميزة للصوفي السالك تميزه من غيره من العباد ، سوى ما يجتهد ويسعى هو إليه، من زيادة التمسك والحرص على الالتزام الصادق بجميع الخصال الحميدة ، ما صغر منها وما كبر. على أن المريد ، لا يتمكن من الالتزام بهذا (الالتزام) إلاّ إذا تخلص أولاً من الجذب المضاد الذي تسلطه عليه نفسه قبل مجاهدتها وتأديبها وقتلها بسيف المخالفة ، وهو القتل الذي لا يعني في الحقيقة إزالتها من الوجود أو محق طباعها بالكامل ، وإنما يعني السعي إلى نزع الخصال السيئة عنها وتهيئتها لأن تحيا حياة جدية لا تشتمل إلاّ على الصالح من الخصال. وهذا الأمر لا يتم عند الشيخ عبد القادر ، دفعة واحدة والى الأبد ، لأن ذلك ضرب من الوهم ، إذ إن النفس الإنسانية لا تركن بشكل قاطع إلى الخير أو تقيم فيه ، بل هي تتحين الفرص على صاحبها وتنتهز منه الغفلات ، كي تنازعه وتطالبه بتلبية شهواتها والسير وراء أهوائها. وليس ذلك مرضاً أو خللاً في النفس ، بل هي فطرة فطرها اله تعالى عليها ، كي يتواصل الإنسان مع عبادته وكي يدوم فقرة لربه ، وكي يحوجه دائماً إلى الانتباه والى المجاهدة والمراقبة والمتابعة ، من جديد وباستمرار ، وكي يكسب من أجل ذلك ثواباً دائماً وأجراً متواصلاً ، إذ أنه بمجاهدته نفسه ، يتقرب إلى الله عز وجل ويوافقه على أمره ، ويكون في الوقت نفسه قد بلغ درجة عالية من الموالاة والعبودية والقرب منه ، وهو معنى قول الشيخ عبد القادر: أن العبادة كل العبادة في مخالفة المرء نفسه(1). وهذا القول ، يرى أنه مستمد من قوله تعالى: "ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله"(2) إذن فلا توجد ضلالة أكثر من اتباع الهوى ولا توجد هداية أكثر من مخالفة الهوى ، والشيخ عبد القادر يستشهد هنا بحكاية يذكر أنها مشهورة عن أبي يزيد البسطامي وهي: أنه رأى ربّ العزة في المنام ، فقال له البسطامي كيف السبيل إليك؟ فقال: أترك نفسك وتعال. فقال البسطامي ، فإنسلخت من نفسي كما تنسلخ الحية من جلدها ، فإذا الخير كله في معاداتها في الجملة وفي كل الأحوال(3) وهو ما يعني أن النفس إذا كانت في جهة ، فأن الوصول إلى ربّ العزة سيكون حتماً في الجهة الأخرى ، وإنه إذا كانت للنفس أحوال متباينة وأوقات مختلفة فإن الخير كله يكمن في تركها بالجملة ، بحيث لا يقبل منها عذر ولا يؤخذ منها سبب.
وسائل مجاهدة النفس
فإذا ما سلمّنا بأهمية المجاهدة في السلوك الصوفي ، يبقى علينا أن نذكر ما هي الوسائل الناجعة أو (السياط)(4) كما يسميها الشيخ عبد القادر – التي على المريد أن يستخدمها في مجاهدته نفسه وفي سيطرته على نوازعها وفي كبحه جماحها. إنها الجوع والعطش والإذلال والخلوة وملازمة صحبة الشيوخ ، وهي بمجموعها تمثل فنون الزهد التي لابد على كل مريد من أن يخوض تجربتها(1). لا لأجل التجربة بحدّ ذاتها ، ولكن لأجل تحصيل نتائجها الباهرة التي قد تغيّر في بعض مركبّات نفسه ، وثمَّ تصوغها صياغة جديدة ، هي ضرورة أقل خطورة وأقرب للنجاة.
الجوع والعطش
فأما الجوع والعطش ، فأنها من أبجديات المجاهدة التي لابد على كل مريد من أن يبتدئ بها خطواته الصوفية ، إن أراد لها أن تكون واثقة وثابتة. إن الجوع والعطش يعدّان أيضاً من الأعمال التي لا تطلب لذاتها ، وإنما لتأثيرها الملحوظ في قوى النفس لأنهما يمسان أقرب الشهوات إليها وألصق الحاجات بها ، وإذا ما عوقبت بهما ، فأنها سوف تضعف عن المطالبة ببعض مطامعها ، وبالعكس من ذلك ، فأنها لو شبعت وإرتوت فسيصيبها البطر والأشر وسترنو إلى المزيد الذي لا نهاية له. فإذا كان الجوع والعطش من الوسائل لا الغايات ، فإنه يمكن للمريد ، فيما لو ارتقى من التزهد إلى الزهد ، أن يأخذ ما يشاء من الطيبات ، لأنها ستكون بعيدة عن التأثير في نفسه وقلبه وهذا لا يعني إلغاء الحاجة إلى المجاهدة ، ولكنه يعني الدخول في مرحلة أكثر تقدماً منها وأكثر تعقيداً.
ولكن هناك من يعترض على جوع الصوفية وعطشهم ويرى في ذلك إقترافاً لمخالفتين شرعيتين الأولى بكون أن الطعام والشراب من الطيبات التي أحلها الله تعالى ومن ثم فلا يجوز تحريمها ، والثانية بكون إجاعة النفس وإضمائها يعني تعذيبها، وهذا منهي عنه قطعاً. والجواب على ذلك، هو أن هذه الأعمال – أي الجوع والعطش – تؤخذ على وفق نية فاعلها ، وهي عند المريد تعد من الوسائل التي يستعين بها على التقرب إلى مولاه، وهو في ذلك يرجع إلى قول النبي محمد (r): ما من عمل أحب إلى الله تعالى من الجوع والعطش(1). وقوله (r): الشيطان يجري من بني آدم مجرى الدم فضيقوا مجاري الشيطان بالجوع والعطش(2) فالحديث الأول يبين أهمية هذه الأعمال والحديث الثاني يبين السبب الذي يقف وراء تلك الأهمية. وتجدر الإشارة إلى أن الأخذ بعامل الجوع والعطش والإجهاد ، لا يعني ترك الطعام والشراب والنوم واللباس بالمرة ، وإنما يعني أخذ الكفاف من ذلك ، مما يقم الأود ويستر العورة من دون طلب المزيد مما تشتهيه النفس وتميل إليه ، وهي سُنة من سلف من الصحابة والصالحين.
إذلال النفس
وأما إذلال النفس ، فإنه يأتي بالمرتبة الثانية ، من حيث الفعالية ، بعد الجوع والعطش ويبغي المريد من وراء معاملة نفسه بالقهر والإذلال ، أن يستأسرها ويجعلها مطيته كي يقطع بها فيافي الدنيا ويتقدم بها إلى سبل الملكوت(3). وإن في إذلال النفس وجاءً لها من أمراض الكبر والزهد والعجب ، وتذكيراً لها بأسوأ حالاتها وبحقيقة ما يمكن أن تكون عليه في مواجهة عقوبة الآخرة. على أن أخذ النفس بعامل الذل ، لا يعني وضعها باستمرار في مواضع الإهانة والصغار أمام الآخرين ، وإنما يعني تهوين أمرها في عين صاحبها ، كي لا تحلو له أعمالها ، فيناله منها ما يسوؤه ، وكي يعظم في عينه شأن الآخرين ، فلا يعلو عليهم ولا يتكبر ، ومن إذلال النفس عدم إراحتها ويتم ذلك بقيام الليل وكثرة العبادة ، فإذا ما أصابها الجهد والتعب فإنها سوف تضعف عن التنمر والإيذاء ، كالوحش المروض يتناسى طبيعته من أجل إرضاء سيده. وغير العقوبة ، فأن للذل معنىً آخر ، وهو تجميل المعنى الباطني للعبد على حساب صورته الظاهرة أمام الآخرين ، والمريد إذا ما صدق في نيته ، فأنه سيعلم حتماً أن الحق عز وجل لا يطلب منه حسن صورته ، وإنما يطلب تمام معناه الذي هو: ((توحيده وإخلاصه وإزالة حب الدنيا والآخرة من قلبه ، فأذا تم له هذا ، أحبه وقربه ورفعه على غيره))(1).
الخلوة
وبعد الجوع والعطش والإذلال, في الأهمية ، يأتي دور الخلوة ، وهي عند الشيخ عبد القادر تعني: ((أن يركن العبد إلى موضع لا أنيس فيه من الخلق))(2). والخلوة تعد ركناً أساسياً من أركان التصوف ، وأساسها أن يعزل العبد نفسه ويحبس بدنه عن الناس، لئلا يؤذيهم بأخلاقه الذميمة ، وهي تساعد النفس على ترك مألوفاتها وحبس حواسها الظاهرية ، وثم فتح الحواس الباطنية وتأكيد نية الإخلاص والموت بالإرادة. ويرتجى من الخلوة زيادة التفكير والمراقبة وخلوص الذكر لله تعالى.
وتعد الخلوة من أصعب وأخطر الفعاليات الصوفية ، لأن المريد فيها يكون في مواجهة مكشوفة مع نفسه ومع الشيطان ومع خواطر وهواجس ورؤى لا قبل له على إحتمالها ولذلك كان لابد في الخلوة من مباركة ورعاية مباشرة من لدن شيخ عارف مرشد حي له خبرة ودراية أكيدة.
أما الأساس الشرعي للخلوة ، فهو الاعتكاف ، وهو من السنن المؤكدة التي عمل بها النبي محمد (r) قبل البعثة وبعدها(3) ، ولا تستغرق الخلوة عمر المريد كله، بل إنّ لها مدداً محددة لا تتجاوز عند أغلب الصوفية أربعين يوماً، وهو ما يسمى عندهم بـ (الأربعينية) ، وهي تستحب لكل الصوفية وفي مختلف مراتبهم لأن فوائدها غزيرة وغير محددة ، إذ يدخلها المبتدئون لأجل تقويم نفوسهم ولأجل خلوص قلوبهم لربهم ويدخلها العارفون طلباً للسعة الروحية وارتفاع المرتبة. والخلوة لا تعني اعتزال الناس والتزام الصمت فقط ، وإنما هي فعالية ذات منهج محدد يمليه شيخ الطريقة ، وهذا المنهج يتضمن صياماً من نوع خاص وإفطارا من نوع خاص يكاد يصل أحياناً إلى التمرة الواحدة في اليوم ، وأوراداً متواصلة تشغل الليل والنهار ، مع ترك الكلام وتجنب الاختلاط وعدم الإفضاء بكل ما يطرق على قلب وبصيرة المريد ، إلاّ إلى شيخه الذي يكون ضرورة قريباً من مكان الإختلاء.
فأما الفائدة المرجوة من الخلوة ، فهي إضافة إلى الهبات الروحية التي تحسب على الأسرار الصوفية ، فأنها تمكن المريد من عبادة التفكر والتأمل وتمكنه من السيطرة على خواطره والتحكم في نوازع نفسه وأهوائها، وتمكنه أيضاً من التوجه الحقيقي لربه والخلوص في عبادته والأهم من ذلك أنها تمكنه من ذكر القلب ، فيكون المريد بعدها ذاكراً ربه في كل حالاته وأوقاته ، وهو غاية ما يطلبه ويتمناه ، وأما الزهد والتجرد والتوكل والرضا ، فيمكن القول إنها لا وجود حقيقي لها في قلب المريد وعقيدته قبل خروجه من الخلوة. وفي الخلاصة فإن في الخلوة أسراراً كثيرة يحتكر معرفتها فقط الصوفية وبعض الصادقين من العشاق.
صحبة الشيوخ
وأما صحبة الشيوخ فلا غنى عنها أيضاً لأي مريد حتى ولو كان واسع العلم جمّ الأدب وافر المعرفة ، والصحابة الكرام ، لم تكن حتى تلاوة القرآن تغنيهم عن صحبة الرسول (r) لا بل إن هذه الصحبة ، كانت من أخص خصائصهم وأعلى مراتبهم وتأتي أهمية الصحبة في كونها تمثل الإقتداء بالأحسن والأمثل وأنها تمثل التجربة الحية والمعاشة مع الدين ، لكون الشيخ عند الصوفية يمثل الدين الحي الذي يمشي على قدمين ولكونه يمثل ظلاً وانعكاساً لوجود النبي في أمته.
إن الإنسان عاجز بمفرده عن النظر إلى عيوبه ومعرفة نقائصه وأمراضه ، ومن هنا تأتي أهمية وضرورة الصحبة ، وإذا كان الأمر كذلك ، فإن صحبة الصالحين والشيوخ الكاملين ، هي أفضلها ، فهم أصدق الناس وأعرفهم بالنفوس وأقربهم إلى الله تعالى وقد ورد في الحديث الشريف أن النبي محمداً (r) سئل عن خير الجلساء فقال: "من ذكركم الله رؤيته وزاد في عملكم منطقه وذكركم في الآخرة عمله"(1) . فالصحبة تطلب للعمل والتأدب وزيادة الصلاح.
إن صحبة الشيوخ تحوي جماع الأدب وحسن السلوك وإذلال النفس المتكبرة وتعويدها على الطاعة وحسن الأتباع ، وقد ورد عن الشيخ عبد القادر قوله: ((أنا قد تربيت على خشونة كلام المشايخ وخشونة الغربة والفقر))(1) والصحبة مع الشيوخ ، هي الطريقة عينها وهي التربية بحد ذاتها ، لأن المشايخ في مواجهة نفوس مريديهم لا يداهنون ولا يجاملون ، بل يضعون الأمور في مواضعها الصحيحة ، وهذه هي الأمانة التي أمروا بحملها ، ويرى الشيخ عبد القادر أن صحبة الشيوخ وطاعتهم ، وهي الخطوة الأولى والأهم في ترك الهوى ومخالفة النفس ، وهو ينصح مريديه ، بأن يكونوا أرضاً تحت أقدام الشيوخ وتراباً بين أيديهم(2). أي بمعنى أن لا تكون لهم إرادة ولا اعتراض لجهلهم بأنفسهم أولاً وعدم درايتهم بمهاوي الطريق ثانياً. وسيأتي تفصيل الكلام في الصحبة وأنواعها وآدابها في موضع لاحق من هذا الفصل.
إذن فمجاهدة النفس ليست من التجارب السهلة التي يمكن لأي إنسان أن يخوضها ومن دون الاستعانة بما سبق من شروط. إنها تجربة روحية شاقة تحتاج إلى جهد بالغ وشجاعة فائقة ، وهي مثل مجالدة الخصوم في ساحة الوغى تتطلب كثيراً من الجلادة والصبر ، لا بل هي تتطلب أكثر من ذلك ، لأن الأعداء فيها هم الأهوية والطباع والغرائز وأقران السوء ، وهؤلاء هم أكثر مراوغة وأشد مراساً من سباقيهم. ولأجل كل ذلك ، فإن الذي يفلح في مجاهدته لنفسه، يكون قد نال مقاماً عالياً لا يوصف شرفه لأن فيه ، فقط ، يتحقق القرب من المولى تعالى، ولأن فيه فقط يتحقق الموت الإرادي أو (الموت الأحمر)(3) كما يسميه الشيخ عبد القادر ، وهذا الموت هو أقصى ما يمكن أن تناله النفس من عملية التصفية التي هي كنه التجربة الصوفية والمكافأة المرجوة من بعد تحمل أعباء المجاهدة ، والتي بغيرها لا يكون هنالك قرب ولا وصول لأنه لا يصلح لمجالسة المولى ، إلا الطاهر عن أجناس الذنوب والزلات و((الله عز وجل لا يقبل من عبده إلا الطيب))(4) إذن فقرب العبد من مولاه مشروط بموت نفسه ، ولا يتم ذلك له إلا إذا أصبح بمنأىً عن متابعة هواه وطباعه وعاداته ، وفي منأىً عن متابعة الخلق وأسبابهم والطمع فيما في أيديهم ، أي إلاّ بعد أن يجعل أعماله كلها خالصة لوجهه تعالى. وبهذا فقط يُفعم قلبه بحب مولاه وترفع عن نفسه الحجب والظلمات.
على أن تجربة مجاهدة النفس ، بخطوطها العامة ومستوياتها الأولية ، ليست ضرورة حكراً على الصوفية دون سواهم ، بل هي تجربة إنسانية بناءة يمكن أن ينتفع من نتائجها كثير من الناس ، فمبادئ مثل: التخلي عن بعض الأخلاق السيئة والتحلي بالحسن منها ، والقناعة والصبر واحتمال أذى الآخرين ، تعد من الأخلاق الاجتماعية العامة التي تزيد من الرقي الروحي للناس وتزيد من تماسك الجماعات ولذلك ترى أن كثيراً من النحل والأديان غير السماوية ، تحاول أن تضع لنفسها مناهج خاصة في التربية الروحية ومجاهدة النفس ، وهذه الحالة لا تشير ضرورةً إلى مبدأ التأثر والتأثير، ولكنها من باب أولى تشير إلى الفائدة العظيمة التي يمكن لأي إنسان أن يجنيها من جراء سيطرته على نوازع نفسه وهو ما يُعد من بدائه معرفة الإنسان لنفسه.
ثمار المجاهدة
يرى الشيخ عبد القادر ، أن حقيقة ما يطمح المريد من الوصول إليه ، من وراء مجاهدته نفسه ، هو أن يعود بها إلى سيرتها الأولى ، أي سيرة آدم (u) قبل هبوطه إلى الأرض ، وآدم هنا يمثل باكورة الوجود الأولي الذي صنعه الله تعالى بيديه فهو الطهر السماوي والصفاء الفطري المحض الذي استطاع أن يجاور الحضرة الإلهية وأن يتجاوز محدودية بشريته ، حيث الخلود وحيث لا شقاء ولا ألم ولا عري ولا جوع وحيث هو بمنزلة الملائكة ، إن لم يكن أرفع منهم منزلة باعتبار عملية السجود. ولكن لم يدم الأمر على تلك الشاكلة ، لأن ما في آدم من ظلمة الأرض وثقل الطين جذبه إلى غفلة العصيان ، وتلك هي خطيئته الأولى ، وهي أولى العلائق التي أثقلت النفس فهبطت بها إلى عالم الأرض ، ((عالم الجوع والعري والشقاء عالم البعد الهجر والجفاء))(1)وكان هذا هو الامتحان الأكبر الذي وضع فيه أبناء آدم إلى يوم القيامة بحيث صار على أحدهم ، إما أن ينجو بنفسه ، آخذاً بيدها إلى حيث الأمن والخلاص وذلك عبر السلسلة السقيمة التي تتضمنها المجاهدات والرياضات والأعمال الشاقة ، أو أن يغفل عن نفسه ، فيترك لها حبل هواها ويكون هو تبعاً لها ومطية ، فتقتاده عبر السلسلة المريحة التي تنتظمها الملذات والشهوات والشبهات ، إلى حيث الهلكة والضياع.
على أن آدم هنا ، هو رمز القدر والرهان الصعب الكامن في دواخل كل البشر ، وأما آدم النبي(u)فيشير الشيخ عبد القادر ، إلى أنه قد تجاوز الغفلة واستدرك بما فيه من نور السماء فقال: ((ربنا ظلمنا أنفسنا ، بكى على فرقة محله الأول ، قال: من اين لي جَلَدٌ على فراق محبوبي ، قيل: يا آدم ، المعصية حجاب بينك وبين ربك ، حضرته طاهرة لا توطأ بأقدام ملوثة بمخالفة المحبوب))(1) فآدم(u)هو أول المطرودين والهابطين ، وقد عمل جاهداً على التكفير عن خطيئته ، ولكن قدره قد عمّ ، فأصبح لزاماً على كل بنيه ، إلى يوم القيامة ، أن يعاودوا تجربة التكفير ذاتها ويعملوا على حث خطى العودة إلى المحل الأول والمقام العزيز ، مقام القرب والرضا والإرضاء.
إن ما يرمي إليه الصوفية من وراء مجاهدة النفس ، هو ليس تطويعها بحد ذاته لأن تلك نتيجة قلقة سريعة الزوال ، وإنما هم يرمون إلى محاولة تغيير معدن النفس وكسر بعض طبائعها ، وهو معنى قول الشيخ عبد القادر: أن المجاهدة تعني قلب دولة. إن أخطر ما يواجهه الإنسان من مزالق وعقبات تقف في طريق تحرره الروحي ، يصدر عن خصومه الداخليين ، المتمثلين بالطبائع والأهواء والسيئ من الصفات ، فلو استطاع الإنسان أن يتغلب على هؤلاء الخصوم ، فسيكون بمنأىً عن ذلك وسيكون من الخواص ذوي النجاة ، وسيتحقق له وجدوه الثاني أو وجوده الممتاز الذي يتجلى في الإنسان الكامل بحده الأقصى.
إن الشيخ عبد القادر ، لا يغفل عن التذكير ، بأن مجاهدة النفس ، هذا الفعل الشاق والخارق لا يمكن لأي إنسان أن يمضي فيه قدماً أو يخطو فيه خطوة واحدة ، من دون أن تدركه يد العناية الإلهية وسابق مشيئتها ، فإذا ما قدر الأجتباء وغلبت عساكر جذبات العناية ، ((ذلت ولاية القلوب وراضت مطامع النفوس الأمارة بلجام رياضة "وجاهدوا في الله حق جهاده"(1) وأدخلت جبابرة الأهوية في سجن التقوى وسلاسل المجاهدة))(2) نعم يمكن للإنسان أن يُجري على نفسه ألواناً متعددة من الرياضات يبغي من ورائها غايات محددة ، كتطويع الجسد أو زيادة فاعلية الحواس أو حتى إظهار القدرات الخفية الكامنة في أعماقه ، ولكن أن يجاهد نفسه جهاداً مستمراً ، لا يبغي من ورائه إلا وجه الله تعالى وطلب القرب منه ، فأن ذلك فعل مشروط بأيمانه أولاً وبهداية الله تعالى وتوفيقه ثانياً وبرعاية مباشرة من لدن شيخ حي مرشد عارف.
إن تحقيق السمو الخلقي والرقي الروحي والوجود الحقيقي غير المشوب بالأوهام ، تعد من النتائج الأساسية والمضمونة التي يحصل عليها المريد الصادق ، من جراء صبره على تحمل المجاهدة بصورها الثقيلة كافة وإذا كان ينتظر المؤمن الذي يقاتل ويقتل في سبيل الله تعالى مكافأة عظيمة جداً ، وهي نوال الرزق الدائم والحياة الأبدية ، فأن المريد الذي يواجه نفسه بالجهاد الأكبر ، سينال حتماً مكافأة تليق بعمله ، وهي تصفية نفسه ومطالعتها للأنوار الإلهية ، وتهيئة قلبه من أجل أن يكون عرشاً للرحمن. والمريد من جانبه ، كلما ازداد إصراراً على مجاهدة نفسه ومحاصرتها ، أو بالأحرى إماتتها فأنه سينال في مقابل ذلك حياة جديدة روحية صافية وخالصة ودائمة تؤهله لنوال مقام العبودية الحقة. إنها تجارة رابحة حقاً ، إذ إن موته الإرادي والمختار عن الهوى والإرادة والميل إلى الخلق ، سيفضي به إلى حياة لا موت بعدها ، وغنى لا فقر بعده وعطاءً لا منع بعده وتمنحه راحة لا شقاء بعدها ، ويُنعم عليه بنعمة لا بؤس بعدها ويعلم بعلمٍ لا جهل بعده ، ويسعد فلا يشقى ويرفع فلا يوضع ويطهر فلا يدنس. ويكون بتلك المجاهدة قد نال الشرف الأعظم ، وهو وراثة النبي محمد (r) ويكون بهذه الوراثة قد أًصبح باب رحمة لأهل زمانه ، إذ تكشف به الكروب ويدفع البلاء ويستجلب الخير ويقصده القاصي والداني طلباً لبركته(3). إذن فقوة الإنسان وضعفه ، لهما تعلق بإرادته وبإصراره على الانتصار على داخله ، وهو الانتصار الذي تتوقف عليه الكثير من الانتصارات الأخرى.
(1) الجرجاني – التعريفات – ص316.
(2) العنكبوت ، 69.
(3) حديث صحيح – رواه الترمذي وإبن حبّان عن فضالة بن عبيد – شرح الجاع الأخير – ج/4 ص325.
(1) التقشيري - الرسالة القشيرية – ص82.
(2) عماد الدين الأموي – حياة القلوب في كيفية الوصول إلى المحبوب – هامش كتاب قوت القلوب – ص238.
(3) القشيري – الرسالة القشيرية – ص81.
(4) الهجويري – كشف المحجوب – بيروت – 1980 – ص432.
(1) الجيلاني – الفتح الرباني والفيض الرحماني – ص83.
(1) الجيلاني – الفتح الرباني والفيض الرحماني – ص283.
(2) الجيلاني – المصدر نفسه – ص10.
(3) الجيلاني – المصدر نفسه – ص209.
(1) الجيلاني – الغنية لطالبي الحق عز وجل – ج/3 – ص1326.
(2) حديث صحيح متفق عليه – رواه مسلم والبخاري عن أبي هريرة – الجامع الصغير – ج/1 – ص210.
- إلى جانب مبدأ المراقبة ، يأخذ أصحاب الطريقة القادرية ، إلى الوقت الحاضر ، بمبدأ المرابطة مع شيخ الطريقة ، والذي مفاده: أن يربط المريد الذاكر ، قلبه مع قلب شيخه وأن يستحضر روحانية شيخه في فعالياته العبادية ومعاملاته الدنيوية كافة ، فإذا ما داوم على ذلك ، فإنه سيبلغ حال المراقبة ، وهذا الشعور الأخير ، سيلزمه حتماً ، بالحذر والورع والتأهب وحسن المعاملة مع الخلق ومع الشيخ ومع الله تعالى.
(2) الهروي – منازل السائرين – ص54.
(1) الجيلاني – الغنية لطالبي طريق الحق عز وجل – ج/3 – ص1328.
(1) الجيلاني – الغنية لطالبي الحق عز وجل – ج/3 – ص1333.
(1) الجيلاني – الغنية لطالبي طريق الحق عز وجل – ج/3 – ص1333.
(2) إشارة إلى قوله تعالى: "ورحمتي وسعت كل شيء" – الأعراف/ 156.
(1) الجيلاني – الغنية لطالبي طريق الحق عز وجل – ج/3 – ص1334.
(2) الجيلاني – المصدر نفسه – ج/3 – ص1335.
(1) الجيلاني – الغنية لطالبي طريق الحق عز وجل – ج/3 – ص1335.
(2) الجيلاني – المصدر نفسه – ج/3 – ص1335.
(1) الجيلاني – الغنية لطالبي طريق الحق عز وجل – ج/3 – ص1336.
(1) الجيلاني – رسالة في التصوف – مخطوطة.
(2) ص/ 26.
(3) الجيلاني – فتوح الغيب – على هامش كتاب بهجة الأسرار ومعدن الأنوار – ص24.
(4) الجيلاني – الفتح الرباني والفيض الرحماني – ص57.
(1) وورد عن الشيخ عبد القادر قوله" دخلت في ألف فن في الزهد حتى أستريح من دنياكم وماكنت أعرف إلاّ بالتخارس والبله والجنون وكنت أمشي حافياً في الشوك وغيره وما هالني شئ إلاّ سلكته ولا غلبتني نفسي فيما تريده قط ولا أعجبني شئ من زينة الدنيا قط فملت إليه – الشنطوفي – بهجة الأسرار ومعدن الأنوار – ص85.
(1) سنن إبن ماجه – ج/ 1 – ص565.
(2) سنن إبن ماجه – ج/1 -= ص566.
(3) الجيلاني – الفتح الرباني والفيض الرحماني – ص165
(1) الجيلاني – الفتح الرباني والفيض الرحماني – ص151.
(2) الجيلاني – المصدر نفسه – ص57.
(3) للتفضيل حول ذلك يراجع أحمد بن دحلان – السيرة النبوية – بيروت – 1983 – ج/1 –ص163 فما بعدها.
(1) حديث صحيح رواه أبو يعلي – مجمع الزوائد – ج/10 – ص266.
(1) الجيلاني – الفتح الرباني والفيض الروحاني – ص24.
(2) الجيلاني – الغنية لطالبي طريق الحق عز وجل – ج/3 – ص1280.
(3) الجيلاني – الفتح الرباني والفيض الرحماني – ص212.
(4) التونسي – رياض البساتين – ص69.
(1) الشطنوفي – بهجة الأسرار ومعدن الأنوار – ص26.
(1) الشطنوفي – المصطر نفسه – ص26.
(1) الحج / 78.
(2) الجيلاني – خمسة عشر مكتوباً في التصوف – مخطوطة.
(3) الجيلاني – المصدر نفسه
تعليق