إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

التصوّف عند الشيخ عبد القادر الجيلاني 4

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • التصوّف عند الشيخ عبد القادر الجيلاني 4

    الفصل الرابع
    الجوانب العملية

    أ- المجاهدة
    ب- الزهد
    ج- الذكر
    د- آداب الصحبة


    المجاهدة

    الأصل اللغوي والشرعي

    المجاهدة في اللغة العربية تعني المحاربة وفي الاصطلاح تعني: محاربة النفس الأمارة بالسوء ، بتحميلها ما يشق عليها بما هو مطلوب في الشرع ، وتعني المجاهدة أيضاً: حمل النفس البدنية ،أي التي لها تعلق برغبات الجسد وميوله وأهوائه ، ومخالفة الهوى على كل حال(1). أمّا الأصل الشرعي للمجاهدة ، فهو مستمد من قوله تعالى: "واللذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا"(2) وهذه الآية ، عدّها الصوفية أمراً صريحاً من الله تعالى لعابده ، باتخاذ المجاهدة – بشقيها الأصغر والأكبر – وسيلة للنجاة والهداية والاستقامة على الصراط. وفي السنة فهو مستمد من حديث النبي محمد (r) : "المجاهد من جاهد نفسه في الله"(3) وهذا الحديث ، يتضمن دلالة واضحة على تفضيل مجاهدة النفس على مجاهدة أعداء الله تعالى ومجادلتهم بالسيوف ، لأن مجاهدة النفس تشتمل على مشقة أكبر وهي تتصف بالاستمرارية والدوام ، لأنها باقية ما بقى الإنسان على قيد الحياة ، وهي أصعب لأن الخصم فيها يكون أشد مراوغة وأكثر خفاءً ، وأخيراً فهي أكبر لأن نتيجتها هي التي تحدد مصير العبد في آخرته ، إذ تهديه إلى ثواب أو تؤدي به إلى عقاب.

    أهمية المجاهدة


    لقد ثبت من خلال سيرة النبي محمد (r) وصحابته الكرام وتابعيهم ، وسيرة من سبق من الأنبياء والمرسلين ، أن مدار التكليف في جميع الشرائع والكتب السماوية يدور على مجاهدة العبد نفسه "وفطمها عن المألوفات وحملها على خلاف هواها في عموم الأوقات"(1) وهذا المحور ، هو نفسه الذي تدور حوله النظم الأخلاقية الوضعية بمشاربها كافة ، فهي جميعاً تتفق على ضرورة سعي الإنسان للتخلي عن صفاته الذميمة، وفي المقابل التحلي ببدائلها.

    الصوفية من جانبهم يرون أنه لا عمل يقرّب العبد من مولاه مثل المجاهدة ، ولا عبادة يُعبد بها الله تعالى مثل مخالفة النفس والهوى(2). إن المجاهدة ، تتضمن فعل كل ما يرضي الله تعالى وترك كل ما يسخطه ، فهي إذن سفينة النجاة التي تنتهي بصاحبها إلى بر السلامة ، وهي السبيل الوحيد الذي تُنال به المراتب الروحية وتستحصل من خلاله المعارف الربُانية ، وهذه النقطة هي التي تشكل مدعاة فخر الصوفية على خصومهم فهم يرون أن معارفهم لا تأخذ من الكتب ولا من القيل والقال ولا مما تركه الأموات وإنما هي توخذ حياً عن حي وتُنال عن طريق الجوع وترك الدنيا وقطع المألوفات.

    معنى المجاهدة


    ولأهمية المجاهدة في السلوك الصوفي ، فقد اتفق الصوفية على: أن من لم يكن في بدايته صاحب مجاهدة ، لم يجد من الطريقة شمّة(3). لأن المجاهدة ، تعني التمكن من معرفة النفس ، وقد علمنا أنه لا وصول بغير تلك المعرفة ، وغير ذلك ، فإن مجاهدة النفس تعني السعي إلى تصفيتها وجلوها لتلقي أنوار المشاهدات وهو معنى قول سهل بن عبد الله التستري (ت – 283 هـ) ((أن المشاهدات هي مواريث المجاهدات))(4). فالمجاهدة إذن إضافة إلى كونها مورداً أخلاقياً ، تعد منبعاً معرفياً يستقي منه الصوفية علومهم وأسرارهم. على أننا لو ضممنا الأخلاق إلى المعرفة لحزنا على ثمرة الفعالية الصوفية برمتها ، فالتصوف هو المجاهدة هي التصوف ، ولا يمكن للصوفي في أية مرحلة من مراحل سلوكه أن يستغني عن مجاهدة نفسه ، فهي فعل مستمر ومتغير مع استمرارية التحولات النفسية عند الصوفي ، فمجاهدة المتزهدين تختلف حتماً عن مجاهدة الزاهدين ومجاهدة المريدين تختلف عن مثيلتها عن المرادين وتأتي أهمية المجاهدة أخيراً من أنها تعتمد على همّة العبد وجهده ، فهي سبب المجازاة والمكافآت وبغيرها لا يرتجى الفوز ولا ترتقب النجاة.

    المجاهدة عند الشيخ عبد القادر


    يسمي الشيخ عبد القادر ، مجاهدة النفس بـ (جهاد الباطن) في مقابل (جهاد الظاهر) الذي هو مجالدة الكفاّر. وهو يرى أن الأول منهما أصعب من الثاني وأشق لأن فيه قطع مألوفات النفس وهجرانها بأمتثال أوامر الشرع والانتهاء عن نواهيه(1). على أن الصعوبة الحقيقية تكمن عنده في المواجهة المستمرة مع النفس ، إذ ما دامت للنفس صولات وجولات ، وهذه لا تنتهي ، فالمجاهدة باقية ، على أن هذه المجاهدة لا تقتصر على تخميد جذوة الشهوات واللذات الجسدية ، وهو ما تجسده مراحلها الابتدائية بل هي تمتد لتشمل كل ساحة العبادات والقربات والأحوال والمراتب الروحية ، حيث يمكن أن ينال العبد من أبواب الخير تلك ، مزالق ومهاوٍ ، قد تودي به إلى التهلكة. فالعبادات مثلاً ، إذا داوم عليها العبد وزاد فيها وتواصل ، من غير مراقبة وتحّرز وإنتباه ، فإنها قد تورثه العجب والكبر والاستعلاء على الخلق ، وهذه (الأمراض) أشد ضرراً على قلب المريد ن من حب الشهوات والميل إلى الدنيا. وهكذا يمكننا أن نلمس تعقد آلية عمل المجاهدة مع تقدم المريد في سلوكه الصوفي ، فلا هوادة مع النفس ولا راحة نهائية من أهوائها لا بل أن الجهد الذي يكابده المريد في بداية مجاهدته ، يكاد لا يذكر في مقابل ما يظهر من خفايا تطلعات النفس في مراحل النضج المتأخرة ، ففي مقام الإخلاص ، على سبيل المثال ، وهو من مقامات العارفين ، فإن العبد إذا نظر إلى إخلاصه ، فإنه سيخرج عن حد الإخلاص الذي يفترض عدم النظر إلى غير فضل الله تعالى ومنته.

    المجاهدة فعل دائم


    يولي الشيخ عبد القادر ، المجاهدة ، أهمية استثنائية ، بحث إنه يؤكد على الالتزام بها عبر مفاصل نظريته الصوفية كافة ، ولعل السر وراء ذلك يكمن في عدّها من جانبه بكونها الفعل الصوفي الدائم الذي يرافق المريد ، منذ باكورة سلوكه الصوفي وحتى بلوغه اليقين المعرفي الذي يتحقق بارتفاع الحجب الظلمانية عن النفس والقلب والسر. على أن المجاهدة لا تعني عنده أكثر من كونها عقوبة وعصى طاعة ، تلقى على النفس المراوغة والمخاتلة والمحتالة والمليئة بالدواهي والمسلحة بالمكر وألوان الخداع ، والتي يمكن ، أمام التلويح لها بالعصا والعقوبة ، أن تتناوم وتظهر الطمأنينة والذل والتواضع والموافقة في الخير ، بينما هي تبطن خلاف ذلك فإذا ما إغترّ بها صاحبها وإطمأن إليها وفترت همته تجاهها ، فإنها ستعود إلى سيرتها الأولى والى إظهار ما إنطوت عليه(1). وعليه فإن الاستمرار في المجاهدة يعني الاستمرار على تطويع النفس وترويضها وتقويمها ، من أجل أن تكون ، بدلاً من التمرد والانفلات ، عوناً للمريد ومطية سهلة تصل به إلى مبتغاه ، بأمان ومن دون مخاطر. إذن فالنفس مع المجاهدة ، تصير مطمئنة ، ((وتصير كلها خيراً في خير))(2) وإن أصل طمأنتها ومنبع خيرها يأتي من طاعتها وتجردها وعدم تعلقها بشيء من المخلوقات ، وأما قبل ذلك ، فلا يمكن للمرء أن يتوقع منها إلا المخالفة والميل إلى اقتراف الشر والتطلع إلى مضارب المحرمات.

    إذن ففي منهج الشيخ عبد القادر الصوفي ، لا يوجد وصولاً نهائياً ولا صفاءً أبدياً ولا خلاصاً مضموناً ، وإنما الأمر يحتاج إلى متابعة مستمرة ومراقبة لا تشوبها غفلة ، لأنه ما دامت هنالك نفس ، إذن فهنالك حاجة مستمرة إلى شد الأحزمة والتلويح بعصا العقوبة ، وهذا يكون في حق كل السالكين دون استثناء لأن سلوك طريقة الحق مشروط بالمداومة على تهذيب النفس ((السيئة الأدب))(3) كي تنفتح عيناها وتزول عداوتها لربها ، وهذا بالتأكيد ، يحتاج إلى صبر ووقت طويل ، لأنه يعني السير ضد التيار ومخالفة الطبع. فإذا ما ثبت المريد على فعل المجاهدة ، فإنه سيكتسب أهم صفتين تقربانه من الله تعالى وهما: الصدق ومحبة المولى تعالى.

    المجاهدة والتقوى


    إن المجاهدة بما أنها تعني مخالفة الهوى وتحصين النفس وعصمتها عن المألوفات وحرمانها من الشهوات واللذات ، وحملها وإكراهها على تقبل خلاف ما تهوى وتريد فإن هذا يعني اشتمالها على جهد بالغ ومشقة عظيمة قد تفوق وتتجاوز طاقة البشر. وعليه فلنا أن نتساءل: من أين يستمد العبد القدرة على إتيان ذلك؟ يرى الشيخ عبد القادر ، أن المصدر الممد لهذه العزائم هو: التقوى والخوف من الله تعالى وهذان هما من أقسى السياط التي تخشى النفس التعرض لها ، لأن العبد إذا كان تقياً حاضر الخوف من ربه ، فإنه سيكون محصناً صعب الاختراق ، فالتقوى تجنبه الخوض في الشبهات والخوف يجنبه التطلع إلى المحرمات ، وعليه فلا يبقى أمامه إلاّ الضروري من سبل الحلال ، مما تقل معه حظوظ النفس وتُسد فيه مجاري الأهواء.

    المجاهدة والمراقبة

    على أن ملاك فعل المجاهدة ، لا يكتمل بالتقوى والخوف من الله تعالى ، بل إنه يحتاج إلى عامل آخر ، وهو: المراقبة التي يعرّفها الشيخ عبد القادر بأنها: إطلاع الرب سبحانه على العبد ، واستدامة العبد لهذا العلم يتم بمراقبته لربه(1) على أن المراقبة عنده لا تعني أكثر من الإحسان الذي ورد ذكره في الحديث النبوي الشهير المسمى بحديث (جبريل) والذي جاء فيه: الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تره فإنه يراك(2).

    إن المراقبة في السلوك الصوفي ، تعدّ أصلاً لكل خير دنيوي وأخروي ، على أنها بوصفها حالاً صوفياً ، لا تُنال جزافاً أو بيسر ومن دون جهد وقصد ، بل إنها لا تأتي إلاّ بعد أن يلتزم العبد بمحاسبة نفسه وإصلاح حاله والمواظبة على لزوم طريق الحق وإحسان مراعاة القلب بينه وبين الله تعالى إلى درجة يلزم معها حفظ الأنفاس وهو ما يعني المراقبة الدقيقة للخطرات والهواجس والحركات والسكنات الظاهرة منها والباطنة كافة ، أي بمعنى آخر ، أن يبذل العبد جهده ، كي لا يصدر منه أي فعل مخالف. فإذا ما علم العبد وأيقن ، بعد تمكنه من حال المراقبة ، بأن الله تعالى ، عليه رقيب ومن قلبه قريب ، وأنه عالم بجميع أحواله وحاضر في كل أوقاته وناظر إلى جميع أفعاله وسامع لكل أقواله ومحيط بكل دقائقه وأسراره ، فإنه سيكون دائماً في غاية الاستعداد والتأهب فلا ينوشه الوهن ولا يتطرق إليه التكاسل ، وسيعتريه بشدةٌ الخزف والحياء من ربه فيزداد بذلك إلتزامه بحدود الله تعالى. وهكذا دواليك ، فإن حال المراقبة الذي يورث قلب العبد الشعور بالخوف والحياء تجاه الله تعالى ، فإن هذه (المشاعر) ستعمل من جانبها على دعم حال المراقبة وإدامته ، وبذلك يكون البناء الصوفي كاملاً وتاماً ومتلازماً(1).
    إن المراقبة تعني أيضاً القرب من الله تعالى ، إذ إن مداومة الصوفي عليها ، يعني أنه سيكون في مقام من الله شريف ، إذ الحذر سيصحبه في جميع أفعاله وستكون جوارحه وقلبه في حفظ مولاه ، والخوف كذلك ، سوف لا يفارق قلبه ، لعلمه بسطوة مولاه وأما الحياء الذي هو من مدارج أهل الخصوص ، والذي يتولد من تعظيم منوط بود(2) ، فهو شعور مصاحب للقرب ، لأنه ينبع من علم العبد بنظر الحق إليه ، فيدفعه ذلك إلى تحمل وطأة المجاهدة. وأما محصلة كل ذلك ، فهي أن مداومة قلب العبد على الإحساس بالمراقبة،سيورثه حتماً المزيد من الحب لمولاه ، وهذا هو غاية ما يتمناه الصوفي ويسعى إليه. المراقبة إذن ، مقام للعلماء بالله تعالى الخائفين العارفين الأتقياء الورعين(1) وهي من المقامات الرفيعة التي لا ينالها المريد إلاّ في مراحل سلوكه المتأخرة ، بحيث يكون عندها قد هيأ نفسه تماماً للسكون تحت نظر الله تعالى ، نعم إن كل العباد هم تحت نظر الله تعالى ، ولكن فرق العارفين عن غيرهم ، هو كونهم يعون هذه الحالة ويتعايشون معها في كل أوقاتهم وأحوالهم ، ومن ثم فهم أكثر إنضباطاً من غيرهم وأكثر إرضاءً لمولاهم وهذا يعني أنهم أكثر قرباً وأكثر حبّاً له.

    الأهمية القصوى للمراقبة ، تأتي من كونها تمثل أحد الأركان الثلاثة التي يبنى عليها الهيكل الروحي للمريد ، وهي: الورع الذي يخرج العبد ويبعده عن المعاصي والزلات ثم المراقبة التي تذكر العبد بنظر الحق عز وجل الدائم إليه وحضوره معه وإحاطته بعالمه ، ثم أخيراً المجاهدة التي تتحدد حصراً بمحاربة النفس والهوى والشيطان. علماً أن السيرة الصوفية بمراحلها كافة ، لا يمكن تخيلها من دون أي من هذه الأركان الثلاثة إذ لا غنى للصوفي ، في طول مسيرته الروحية ، عن الورع والمراقبة والمجاهدة. ومن جانب آخر ، فإن هذه الأركان مترابطة ومتلازمة فيما بينها، بحيث يلزم أحدها عن الآخر ، فالعبد الذي ينتهج الورع بكونه سلوكاً دينياً ، يصبح بالضرورة مجاهداً لنوازعه النفسية وشاعراً بمراقبة ربه له ، وكذلك الحال مع صاحب المراقبة والمجاهد لنفسه.

    شروط صحة المجاهدة


    فإذا ما عقد المريد العزم على المجاهدة ، فإنه لابد من أن تتوفر فيه عشر خصال ، يرى الشيخ عبد القادر ، أنه لو أقامها وأحكم العمل بها ، فإنها ستكون كفيلة وضامنة لبلوغه إلى المنازل الأخلاقية العالية والمراتب الروحية الشريفة.

    أولها: أن لا يحلف العبد بالله تعالى ، صادقاً ولا كاذباً ، عامداً ولا ساهياً ، فإذا ما أحكم ذلك من نفسه ، وإعتاد لسانه عليه بحيث صار يتجنبه في كل الأحوال ، فتح الله تعالى له باباً من بركة أنواره ، فيعرف منفعة ذلك في قلبه ، ويلمس معه رفعة في درجته وقوة في عزمه ونفاذاً في بصيرته(1) إذ إن كل عمل شرعي يلتزم به العبد ظاهراً ، فأنه لابدّ أن يلمس فائدته باطناً.

    إن تجنب الحلف في كل الأحوال ، يعّد من المسائل المهمة التي أكدها الشرع الإسلامي كثيراً ، لأنه يتضمن إضمار الهيبة والإجلال للذات الإلهية ، وذلك بعدم تعريضها للمعاملات الدنيوية. ولاشك في أن حرص العبد على حفظ الهيبة وإظهار الإجلال وعدم التبسط في علاقته بالذات الإلهية ، يحوي الكثير من أدب العبودية وحفظ الحرمة والتذلل والخضوع ، وهو ما يطمح إلى التحلي به الصوفية كافة وفي كل الأزمان. وفيما عدا ذلك ، فأن في الحلف مزالق جمة قد تدفع بصاحبها إلى اعتياد الكذب وفقدان الثقة بالنفس ، وهو ما يولد اختلالاً أخلاقياً ونفسياً ملحوظاً ، وهو أيضاً معنى قول أهل الخبرة بأن: تجنب الحلف يورث المرء الهيبة والاتزان والثقة بالنفس.

    الثانية: أن يتجنب العبد الكذب جاداً كان أم هازلاً. وبالطبع ، فأن هذه الخصلة لا تحتاج إلى كثير جهد لبيان صحتها وإظهار فائدتها ، إذ إن الكذب مذموم في كل الشرائع والملل والأديان وحتى النظم الأخلاقية الوضعية ، وفي المقابل ، فأن الصدق ، وبشكل مطلق ، يعد محموداً في المواطن كلها ، لا بل حتى المهلك منها. إذن فاجتناب الكذب يعدّ من البدائه الأخلاقية التي يتعامل بها الناس ، حتى في حياتهم اليومية ، ولكن تأكيد الصوفية على هذه الخصلة ، فيه إشارة إلى ما يقف وراءها من فوائد روحية وفيرة لا غنى لأي مريد عن امتلاكها والتحلي بها ، وهذا هو بالضبط ما سيعمل الشيخ عبد القادر على إظهاره.

    إن المريد إذا تجنب الكذب في كل الأحوال ، وأحكم ذلك في نفسه ، وإعتاد عليه لسانه شرح الله تعالى به صدره وصفّى به علمه ، حتى صار كأنه لا يعرف الكذب ، وإذا سمعه من غيره ، استهجنه وعابه عليه. إذن فالشيخ عبد القادر ، يحاول في ذكره هذه (الخصلة) ، أن يسلط الضوء إ ضافة إلى الجوانب الشرعية والأخلاقية ، على الجوانب الروحية والمعرفية ، إذ إن شرح الصدر وصفاء العلم ، هما من أعزّ المواهب التي يسعى المريد إلى تحصيلها والتنعم بثمارها. على أن هذه الفوائد لا تشكل ، في الحقيقة وازعاً إضافياً يدفع المريد إلى تجنب الكذب ورفضه ، إذ إن ذلك يعدّ من القواعد المطلقة التي لا يختلف عليها اثنان ، ولكنه فقط يشير إلى طبيعة تعامل الصوفية مع الأشياء وكونهم ينظرون إلى ما تخفيه السطور وما تحويه الخبايا من أسرار.

    الخصلة الثالثة: حذر المريد من أن يعد أحداً شيئاً فيخلفه إياه ، وهو يقدر عليه ، إلاّ من عُذر بيّن فأنه أقوى لأمره وأقصد لطريقته ، لأن الخلف من الكذب ، فإذا فعل ذلك فتح له باب السخاء ومنح درجة الحياء، و أعطى مودة في الصادقين، ورفعة عند الله (1) تعالى فأمّا باب السخاء فلعطائه ونبذه للشح ، وأما درجة الحياء فلحرصه على عدم الاتصاف بالخلف والكذب ، وأما المودة في الصادقين فلتواصله معهم بالعطاء واتصافه بصفاتهم الآنفة الذكر ، فإذا ما اتصف العبد بكل ما سبق، فإنه سينال عند الله تعالى رفعة وقبولاً، فهو من عباده الكرام الصادقين ، وهاتان هما من أكثر الصفات التي تقرّب العبد من مولاه.

    الخصلة الرابعة: ينبغي على المريد أن يتجنب لعن شيء من الخلق ، أو يؤذي ذرة فما فوقها ، لأنه إن فعل ذلك ، فسيلحق بمرتبة الأبرار الصادقين. وهذه الخصلة، لا تقتصر الدعوة لها عند الشيخ عبد القادر ، بل إن التصوف الإسلامي برمّته يدعو المريدين إلى أن يغرسوا في قلوبهم رحمة كبيرة تتسع للمخلوقات كافة بجمادها وحيوانها ونباتها وبصغيرها وكبيرها. وهذه الدعوة التي يمكن بسهولة أن يلحقها بعضهم بالفلسفات الزهدية الهندية ، يكون من باب أولى أن تلحق بمبادئ الدين الإسلامي، بمصدريه الرئيسيين: الكتاب والسنة ، فلقد أشار القرآن الكريم إلى رحمة الله تعالى التي وسعت كل شيء(2). وأمّا السنة فهي مفعمة بالكثير من الوصايا والتعاليم التي تأمر بالرأفة بجميع المخلوقات ، وبالضعيفة منها على وجه الخصوص.

    إن الدور الذي رسمه الصوفية للمريد ، بكونه موضع نظر الله تعالى ، وكونه التجسيد الأمثل لرحمته تعالى والساعي بين الخلق بالخير والصلاح والجامع لقلوبهم على هدف واحد ، وهو: حب الله تعالى وطلب القرب منه ، هو الذي يدفع بالمريد إلى تحري أدق التفاصيل في سعيه للتحلي بالحميد من الصفات والحسن من الخصال ، فهو لا يرضى فقط بما تيسر منها وكان سهل المنال ، وإنما هو يسعى دائماً وبشكل مستمر ، وراء الأصعب والأشد والأبعد غوراً ، من الأمور كافة التي لها علاقة بمجاهدة النفس ورفعة الدرجات.

    الخصلة الخامسة: يجتنب المريد ، أن يدعو على أحدٍ من الخلق وإن ظلمه ، فلا يقطعه بلسانه ولا يكافئه بفعاله بل يحتمل ذلك لله تعالى. إن دعوة الشيخ عبد القادر لمريده بتحمل الأذى من الآخرين ، مستمدة أصلاً من مبادئ التربية الروحية المستمدة من أنوار المقامات الصوفية التي بلغها المريد وشعت في نفسه وأضاءت له الطريق فالصبر هو الذي يحمل العبد على تحمل الأذى ، والرضا يحمله على أن لا يدعو على أحدٍ من ظالميه ، فإذا ما عكسنا المسألة ، فأنها تصح أيضاً ، إذ إن سكون النفس مع تحملها الأذى سيثيبها حتماً مقام الصبر ، كما أن عدم الاعتراض على أفعال الخلق سيهديها حتماً إلى مقام الرضا. ومن جانب آخر ، فأن على المريد أن يعتقد جازماً: بأن كل ما يلاقيه من سوء وأذى من الآخرين ، ما هو في حقيقته إلاّ اختبار من الله تعالى عليه اجتيازه بنجاح كي ينال بذلك الدرجات وكي يكمل تأديب نفسه وتصفيتها ، من أجل أن ينجز دوره المنوط به بوصفه مرشداً ودليلاً للآخرين ، لسلوك سبيل الرشاد.

    الخصلة السادسة: أن لا يقطع الشهادة على أحدٍ من أهل القبلة بشركٍ ولا كفرٍ ولا نفاق، فأن ذلك أقرب للرحمة وأعلى للدرجة.

    إن هذه الخصلة تدعو المريد إلى أن يكون متفهماً ومتسامحاً ، إزاء منطق جميع الطوائف والملل الإسلامية المعتدلة ، والتي لا تخرجها عقائدها عن حدود الشرع وأصول الدين ، إذ إن اختلاف مشارب الناس ومذاهبهم ، لا يلغي اجتماعهم أخيراً على هدف واحد وشعار واحد ، وهو: عبادة الله تعالى الواحد الأحد ، ومن جهة أخرى فإنه يكره للمريد السالك ، أن يميل مع طائفة إسلامية دون أخرى ، لأنه ينبغي عليه أن يكون قدوة لغيره في توحيد القلوب والهمم ، وهذا المقصد لا يتحقق له إلاّ إذا ترفّع عن التلفت صوب التفاصيل والفروقات غير الجوهرية ، إن المبادئ الصوفية ، هي مبادئ الحبّ الإلهي والتوحيد الحقيقي والصفاء الروحي ، وهذه المبادئ ضرورة ، لا تنمو بغير تربة السمو الفكري والانتماء الحقيقي لروح الدين. وتبدو دعوة الشيخ عبد القادر هذه ، في غاية الأهمية ، فيما لو استرجعنا تفاصيل التناقضات الفكرية والاجتماعية والدينية التي كانت تحكم علاقات وروابط المجتمع الإسلامي في زمنه ، ومن الجانب الآخر ، فإن هذه الدعوة تسلط الضوء على الدور الإصلاحي الذي اضطلع بع الصوفية بعامة والشيخ عبد القادر بوجه خاص ، تجاه مجتمعاتهم ، وهو الدور الذي يدفع عنهم وبشكل قاطع ، تهمة الخمول واللاإنتماء.

    الخصلة السابعة: يتجنب المريد ، النظر والنزوع إلى شيء من المعاصي ، في الظاهر والباطن ، وأن يكف عنها جوارحه ، فأن ذلك من أسرع الأعمال ثواباً للقلب والجوارح في عاجل الدنيا وآجل الآخرة(1).

    إن مطالبة الشيخ عبد القادر المريد هنا ، لا تتعلق بترك اقتراف المحرمات ، لأن ذلك أمر مفروغ منه شرعاً ، وفعله واجب على كل مسلم ، وإنما هو يطالبه بعدم النظر أو حتى التفكير في ذلك ، لأن هذا الفعل ، يدخل في ميدان أعمال القلوب والخواطر ، وهو عين الميدان الذي يخوض فيه الصوفية منازلاتهم ويظهرون صلابة هممهم ، فالصوفي يكون في غاية الوهم والانخداع ، فيما لو طلب النزاهة الباطنية والصفاء النفسي وترك حبل خواطره الرديئة على الغارب. إن إحكام القبضة يبدأ من هنا ، أي من منافذ الوساوس والطمع والميل إلى الشهوات ، وهو ما يلقي بظلمة ظلاله على القلوب والأرواح ، فيؤخر ذلك حتماً ، زمن عروجها نحو عالم الملكوت.

    الخصلة الثامنة: يعمل المريد على أن لا يطالب أحداً من الخلق إعالته ، ولا يطلب منه مؤونة ، مهما صغرت أو كبرت ، بل يرفع ذلك عن الخلق أجمعين ، حتى وإن كان ذا فقرٍ بادٍ وحاجة ملحّة ، لأن ذلك فيه تمام عز العابدين وكمال شرف المتقين ، وبه يقوى المريد على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ويكون الخلق أجمعين عنده ، بمنزلة واحدة ، أي في الحق سواء(2).

    ولا يخفى ما لهذه الخصلة من تعلق بمجاهدة النفوس وزهد القلوب ، وبصرف أنظار الهمم عن التطلع صوب عطاء الخلق وفضلهم ، لما في هذا التطلع من أثر في شرخ صرح التوحيد وتشتيت خطى الإقبال الخالص على الله تعالى ، وثم ثلمُ عزة القلوب المستمدة من غناها بربّ العالمين ، فأما علاقة هذه (الخصلة) بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فمرجعها هو اعتقاد المريد ، بأن صدق كلمته وقوتها وشدة تأثيرها في الآخرين ، يأتي من استغنائه عنهم وانقطاع أمله بهم ، واعتقاده أيضاً ، بأن دعوته لابد من أن تكون أخروية ربانية صرفة ، بحيث لا تشوبها شائبة مع طمع أو سعي وراء ثواب عاجل. ولهذه الخصلة وجه آخر له تعلق بالعملية الإصلاحية التي سعى الشيخ عبد القادر إلى إنجازها في الحقل الصوفي خاصة ، إذ إن الفصل القاطع بين دور المريد إلأرشادي، وعلاقاته المادية غير المتكافئة مع الآخرين ، فيه سدًّ مقصود لكثير من ذرائع ذوي الطمع من الدخلاء اللذين ابتلى بهم التصوف الإسلامي قديماً وحديثاً بحيث صار من السهل على الناس أن يربطوا بين الصوفية الحقيقيين وهؤلاء الكسالى والمتطفلين عليهم.

    الخصلة التاسعة: ينبغي على المريد أن يقطع طمعه في الآدميين وأن لا تميل نفسه إلى شيء مما في أيديهم ، فإن تحقق في ذلك ، فإن له العزّ الأكبر والغنى الخالص والملك العظيم والفخر الجليل واليقين الصادق والتوكل الشافي الصحيح وهو باب من أبواب الثقة بالله عز وجل ، وهو أيضاً ، باب من أبواب الزهد ، وبه يُنال الورع ويكمل النسك، وهو أخيراً من علامات المنقطعين إلى الله تعالى(1). وتجدر الإشارة إلى أن هذه الخصلة ، لا علاقة لها بسابقتها ، كما يبدو عليه ظاهر الحال ، إذ إن اعتماد المريد المتزهد في معيشته على الآخرين ، لا يشبه ضرورة طمعه بما في أيديهم ، فالأول إذا كان يمثل خطأً مرحلياً يعيق المسيرة الصوفية للمريد ، فإن الثاني يمثل إنحرافاً نفسياً واخلاقياً يخرج بصاحبه عن المسار الصوفي برمته. وتتجلى الفروقات بين الحالتين أكثر ، فيما لو قارنا بين النتائج الروحية الإيجابية المترتبة على تجنبهما، فإذا كنّا قد رأينا أن تجنب الأولى يورث صاحبه الصدق والعز والشرف، فإن تجنب الثانية يورثه التوكل والورع والزهد الصحيح ، وهي خصائص روحية أساسية لا تكمل الشخصية الصوفية إلاّ بها.

    الخصلة العاشرة: وهي الأخيرة ، وفيها ينصح الشيخ عبد القادر المريد بالتواضع ، فبه يُشد محل العابد ويثبت قدمه وتعلو درجته ويستكمل العزّ والرفعة عند الله تعالى وعند الخلق ، وبه يقدر على ما يريد من أمر الدنيا والآخرة(2). إن التواضع هو أصل الطاعات كلها بفروعها وأصولها ، وبه يدرك المريد منازل الصالحين الراضين عن الله تعالى في السراء والضراء ، وهو أيضاً كمال التقوى ، ولا يرضى الشيخ عبد القادر من تواضع العبد ، بأقل من أن لا يلقى المريد أحداً من الخلق ، إلاّ ويرى له الفضل على نفسه ، ويرى أنه قد يكون عند الله تعالى ، خير منه منزلة وأرفع درجة ، وأما مجاهدة النفس ، فإن للتواضع فيها أهمية بالغة ، إذ إن تأثيره يطال جميع الفعاليات العبادية والصوفية ، ولذلك فقد سمّاه الشيخ عبد القادر بـ ((ملح العبادة وغاية شرف الزاهدين))(1) وأخيراً ، فبدون التواضع ، لا يمكن للمريد أن يتخلص من كثير من أمراض النفس الخطيرة مثل الكبر والعجب والإحساس بالتفوق على الآخرين.

    وفي الخلاصة ، فأنه يمكننا أن نلاحظ ، من خلال هذه (الوصايا العشر) أن الشيخ عبد القادر ، يؤكد في أغلبها على علاقة المريد ببقية الناس ، وفي هذا ما فيه من إلفات النظر إلى أن المجال الحقيقي الذي يعمل فيه التصوف ، هو مجال أخلاقي بحت ، وإنه لا يشتمل على غاية تقف وراء التخلق بالخلق الحسن ، وإنه لا خير في سلوك صوفي لا يزيد من أدب المرء مع الخلق ومع الخالق ، وهذا هو غاية ما تسعى جميع الشرائع والأديان إلى التبشير به وإفشائه بين الناس.

    إن الحاجة الملحّة للتجمل بالآداب والتحلي بالأخلاق الحسنة ، المقبولة شرعاً والمرضية عند الخلق ، تنبع من نيّة المريد في أن يكون له دورٌ إيجابيّ بين الناس وهو دور المرشد والواعظ والدليل والداعي إلى الله تعالى ، وهو ممّا يفترض حضوراً عميقاً وفعالاً في المجتمع ، كي يتحقق بذلك مبدأ التأثر والتأثير وكي تصحّ عملية الغرس والإنبات.

    ويمكننا أن نلاحظ أيضاً ، أن جميع تلك الوصايا ، مستمدة من الشرع الإسلامي وهو ما يعني في الواقع ، أنها واجبة على كل مسلم عاقل بالغ ، وهو ما يعني أيضاً أنه لا توجد هناك ميزة للصوفي السالك تميزه من غيره من العباد ، سوى ما يجتهد ويسعى هو إليه، من زيادة التمسك والحرص على الالتزام الصادق بجميع الخصال الحميدة ، ما صغر منها وما كبر. على أن المريد ، لا يتمكن من الالتزام بهذا (الالتزام) إلاّ إذا تخلص أولاً من الجذب المضاد الذي تسلطه عليه نفسه قبل مجاهدتها وتأديبها وقتلها بسيف المخالفة ، وهو القتل الذي لا يعني في الحقيقة إزالتها من الوجود أو محق طباعها بالكامل ، وإنما يعني السعي إلى نزع الخصال السيئة عنها وتهيئتها لأن تحيا حياة جدية لا تشتمل إلاّ على الصالح من الخصال. وهذا الأمر لا يتم عند الشيخ عبد القادر ، دفعة واحدة والى الأبد ، لأن ذلك ضرب من الوهم ، إذ إن النفس الإنسانية لا تركن بشكل قاطع إلى الخير أو تقيم فيه ، بل هي تتحين الفرص على صاحبها وتنتهز منه الغفلات ، كي تنازعه وتطالبه بتلبية شهواتها والسير وراء أهوائها. وليس ذلك مرضاً أو خللاً في النفس ، بل هي فطرة فطرها اله تعالى عليها ، كي يتواصل الإنسان مع عبادته وكي يدوم فقرة لربه ، وكي يحوجه دائماً إلى الانتباه والى المجاهدة والمراقبة والمتابعة ، من جديد وباستمرار ، وكي يكسب من أجل ذلك ثواباً دائماً وأجراً متواصلاً ، إذ أنه بمجاهدته نفسه ، يتقرب إلى الله عز وجل ويوافقه على أمره ، ويكون في الوقت نفسه قد بلغ درجة عالية من الموالاة والعبودية والقرب منه ، وهو معنى قول الشيخ عبد القادر: أن العبادة كل العبادة في مخالفة المرء نفسه(1). وهذا القول ، يرى أنه مستمد من قوله تعالى: "ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله"(2) إذن فلا توجد ضلالة أكثر من اتباع الهوى ولا توجد هداية أكثر من مخالفة الهوى ، والشيخ عبد القادر يستشهد هنا بحكاية يذكر أنها مشهورة عن أبي يزيد البسطامي وهي: أنه رأى ربّ العزة في المنام ، فقال له البسطامي كيف السبيل إليك؟ فقال: أترك نفسك وتعال. فقال البسطامي ، فإنسلخت من نفسي كما تنسلخ الحية من جلدها ، فإذا الخير كله في معاداتها في الجملة وفي كل الأحوال(3) وهو ما يعني أن النفس إذا كانت في جهة ، فأن الوصول إلى ربّ العزة سيكون حتماً في الجهة الأخرى ، وإنه إذا كانت للنفس أحوال متباينة وأوقات مختلفة فإن الخير كله يكمن في تركها بالجملة ، بحيث لا يقبل منها عذر ولا يؤخذ منها سبب.

    وسائل مجاهدة النفس


    فإذا ما سلمّنا بأهمية المجاهدة في السلوك الصوفي ، يبقى علينا أن نذكر ما هي الوسائل الناجعة أو (السياط)(4) كما يسميها الشيخ عبد القادر – التي على المريد أن يستخدمها في مجاهدته نفسه وفي سيطرته على نوازعها وفي كبحه جماحها. إنها الجوع والعطش والإذلال والخلوة وملازمة صحبة الشيوخ ، وهي بمجموعها تمثل فنون الزهد التي لابد على كل مريد من أن يخوض تجربتها(1). لا لأجل التجربة بحدّ ذاتها ، ولكن لأجل تحصيل نتائجها الباهرة التي قد تغيّر في بعض مركبّات نفسه ، وثمَّ تصوغها صياغة جديدة ، هي ضرورة أقل خطورة وأقرب للنجاة.

    الجوع والعطش


    فأما الجوع والعطش ، فأنها من أبجديات المجاهدة التي لابد على كل مريد من أن يبتدئ بها خطواته الصوفية ، إن أراد لها أن تكون واثقة وثابتة. إن الجوع والعطش يعدّان أيضاً من الأعمال التي لا تطلب لذاتها ، وإنما لتأثيرها الملحوظ في قوى النفس لأنهما يمسان أقرب الشهوات إليها وألصق الحاجات بها ، وإذا ما عوقبت بهما ، فأنها سوف تضعف عن المطالبة ببعض مطامعها ، وبالعكس من ذلك ، فأنها لو شبعت وإرتوت فسيصيبها البطر والأشر وسترنو إلى المزيد الذي لا نهاية له. فإذا كان الجوع والعطش من الوسائل لا الغايات ، فإنه يمكن للمريد ، فيما لو ارتقى من التزهد إلى الزهد ، أن يأخذ ما يشاء من الطيبات ، لأنها ستكون بعيدة عن التأثير في نفسه وقلبه وهذا لا يعني إلغاء الحاجة إلى المجاهدة ، ولكنه يعني الدخول في مرحلة أكثر تقدماً منها وأكثر تعقيداً.

    ولكن هناك من يعترض على جوع الصوفية وعطشهم ويرى في ذلك إقترافاً لمخالفتين شرعيتين الأولى بكون أن الطعام والشراب من الطيبات التي أحلها الله تعالى ومن ثم فلا يجوز تحريمها ، والثانية بكون إجاعة النفس وإضمائها يعني تعذيبها، وهذا منهي عنه قطعاً. والجواب على ذلك، هو أن هذه الأعمال – أي الجوع والعطش – تؤخذ على وفق نية فاعلها ، وهي عند المريد تعد من الوسائل التي يستعين بها على التقرب إلى مولاه، وهو في ذلك يرجع إلى قول النبي محمد (r): ما من عمل أحب إلى الله تعالى من الجوع والعطش(1). وقوله (r): الشيطان يجري من بني آدم مجرى الدم فضيقوا مجاري الشيطان بالجوع والعطش(2) فالحديث الأول يبين أهمية هذه الأعمال والحديث الثاني يبين السبب الذي يقف وراء تلك الأهمية. وتجدر الإشارة إلى أن الأخذ بعامل الجوع والعطش والإجهاد ، لا يعني ترك الطعام والشراب والنوم واللباس بالمرة ، وإنما يعني أخذ الكفاف من ذلك ، مما يقم الأود ويستر العورة من دون طلب المزيد مما تشتهيه النفس وتميل إليه ، وهي سُنة من سلف من الصحابة والصالحين.

    إذلال النفس


    وأما إذلال النفس ، فإنه يأتي بالمرتبة الثانية ، من حيث الفعالية ، بعد الجوع والعطش ويبغي المريد من وراء معاملة نفسه بالقهر والإذلال ، أن يستأسرها ويجعلها مطيته كي يقطع بها فيافي الدنيا ويتقدم بها إلى سبل الملكوت(3). وإن في إذلال النفس وجاءً لها من أمراض الكبر والزهد والعجب ، وتذكيراً لها بأسوأ حالاتها وبحقيقة ما يمكن أن تكون عليه في مواجهة عقوبة الآخرة. على أن أخذ النفس بعامل الذل ، لا يعني وضعها باستمرار في مواضع الإهانة والصغار أمام الآخرين ، وإنما يعني تهوين أمرها في عين صاحبها ، كي لا تحلو له أعمالها ، فيناله منها ما يسوؤه ، وكي يعظم في عينه شأن الآخرين ، فلا يعلو عليهم ولا يتكبر ، ومن إذلال النفس عدم إراحتها ويتم ذلك بقيام الليل وكثرة العبادة ، فإذا ما أصابها الجهد والتعب فإنها سوف تضعف عن التنمر والإيذاء ، كالوحش المروض يتناسى طبيعته من أجل إرضاء سيده. وغير العقوبة ، فأن للذل معنىً آخر ، وهو تجميل المعنى الباطني للعبد على حساب صورته الظاهرة أمام الآخرين ، والمريد إذا ما صدق في نيته ، فأنه سيعلم حتماً أن الحق عز وجل لا يطلب منه حسن صورته ، وإنما يطلب تمام معناه الذي هو: ((توحيده وإخلاصه وإزالة حب الدنيا والآخرة من قلبه ، فأذا تم له هذا ، أحبه وقربه ورفعه على غيره))(1).

    الخلوة

    وبعد الجوع والعطش والإذلال, في الأهمية ، يأتي دور الخلوة ، وهي عند الشيخ عبد القادر تعني: ((أن يركن العبد إلى موضع لا أنيس فيه من الخلق))(2). والخلوة تعد ركناً أساسياً من أركان التصوف ، وأساسها أن يعزل العبد نفسه ويحبس بدنه عن الناس، لئلا يؤذيهم بأخلاقه الذميمة ، وهي تساعد النفس على ترك مألوفاتها وحبس حواسها الظاهرية ، وثم فتح الحواس الباطنية وتأكيد نية الإخلاص والموت بالإرادة. ويرتجى من الخلوة زيادة التفكير والمراقبة وخلوص الذكر لله تعالى.

    وتعد الخلوة من أصعب وأخطر الفعاليات الصوفية ، لأن المريد فيها يكون في مواجهة مكشوفة مع نفسه ومع الشيطان ومع خواطر وهواجس ورؤى لا قبل له على إحتمالها ولذلك كان لابد في الخلوة من مباركة ورعاية مباشرة من لدن شيخ عارف مرشد حي له خبرة ودراية أكيدة.

    أما الأساس الشرعي للخلوة ، فهو الاعتكاف ، وهو من السنن المؤكدة التي عمل بها النبي محمد (r) قبل البعثة وبعدها(3) ، ولا تستغرق الخلوة عمر المريد كله، بل إنّ لها مدداً محددة لا تتجاوز عند أغلب الصوفية أربعين يوماً، وهو ما يسمى عندهم بـ (الأربعينية) ، وهي تستحب لكل الصوفية وفي مختلف مراتبهم لأن فوائدها غزيرة وغير محددة ، إذ يدخلها المبتدئون لأجل تقويم نفوسهم ولأجل خلوص قلوبهم لربهم ويدخلها العارفون طلباً للسعة الروحية وارتفاع المرتبة. والخلوة لا تعني اعتزال الناس والتزام الصمت فقط ، وإنما هي فعالية ذات منهج محدد يمليه شيخ الطريقة ، وهذا المنهج يتضمن صياماً من نوع خاص وإفطارا من نوع خاص يكاد يصل أحياناً إلى التمرة الواحدة في اليوم ، وأوراداً متواصلة تشغل الليل والنهار ، مع ترك الكلام وتجنب الاختلاط وعدم الإفضاء بكل ما يطرق على قلب وبصيرة المريد ، إلاّ إلى شيخه الذي يكون ضرورة قريباً من مكان الإختلاء.

    فأما الفائدة المرجوة من الخلوة ، فهي إضافة إلى الهبات الروحية التي تحسب على الأسرار الصوفية ، فأنها تمكن المريد من عبادة التفكر والتأمل وتمكنه من السيطرة على خواطره والتحكم في نوازع نفسه وأهوائها، وتمكنه أيضاً من التوجه الحقيقي لربه والخلوص في عبادته والأهم من ذلك أنها تمكنه من ذكر القلب ، فيكون المريد بعدها ذاكراً ربه في كل حالاته وأوقاته ، وهو غاية ما يطلبه ويتمناه ، وأما الزهد والتجرد والتوكل والرضا ، فيمكن القول إنها لا وجود حقيقي لها في قلب المريد وعقيدته قبل خروجه من الخلوة. وفي الخلاصة فإن في الخلوة أسراراً كثيرة يحتكر معرفتها فقط الصوفية وبعض الصادقين من العشاق.

    صحبة الشيوخ


    وأما صحبة الشيوخ فلا غنى عنها أيضاً لأي مريد حتى ولو كان واسع العلم جمّ الأدب وافر المعرفة ، والصحابة الكرام ، لم تكن حتى تلاوة القرآن تغنيهم عن صحبة الرسول (r) لا بل إن هذه الصحبة ، كانت من أخص خصائصهم وأعلى مراتبهم وتأتي أهمية الصحبة في كونها تمثل الإقتداء بالأحسن والأمثل وأنها تمثل التجربة الحية والمعاشة مع الدين ، لكون الشيخ عند الصوفية يمثل الدين الحي الذي يمشي على قدمين ولكونه يمثل ظلاً وانعكاساً لوجود النبي في أمته.

    إن الإنسان عاجز بمفرده عن النظر إلى عيوبه ومعرفة نقائصه وأمراضه ، ومن هنا تأتي أهمية وضرورة الصحبة ، وإذا كان الأمر كذلك ، فإن صحبة الصالحين والشيوخ الكاملين ، هي أفضلها ، فهم أصدق الناس وأعرفهم بالنفوس وأقربهم إلى الله تعالى وقد ورد في الحديث الشريف أن النبي محمداً (r) سئل عن خير الجلساء فقال: "من ذكركم الله رؤيته وزاد في عملكم منطقه وذكركم في الآخرة عمله"(1) . فالصحبة تطلب للعمل والتأدب وزيادة الصلاح.

    إن صحبة الشيوخ تحوي جماع الأدب وحسن السلوك وإذلال النفس المتكبرة وتعويدها على الطاعة وحسن الأتباع ، وقد ورد عن الشيخ عبد القادر قوله: ((أنا قد تربيت على خشونة كلام المشايخ وخشونة الغربة والفقر))(1) والصحبة مع الشيوخ ، هي الطريقة عينها وهي التربية بحد ذاتها ، لأن المشايخ في مواجهة نفوس مريديهم لا يداهنون ولا يجاملون ، بل يضعون الأمور في مواضعها الصحيحة ، وهذه هي الأمانة التي أمروا بحملها ، ويرى الشيخ عبد القادر أن صحبة الشيوخ وطاعتهم ، وهي الخطوة الأولى والأهم في ترك الهوى ومخالفة النفس ، وهو ينصح مريديه ، بأن يكونوا أرضاً تحت أقدام الشيوخ وتراباً بين أيديهم(2). أي بمعنى أن لا تكون لهم إرادة ولا اعتراض لجهلهم بأنفسهم أولاً وعدم درايتهم بمهاوي الطريق ثانياً. وسيأتي تفصيل الكلام في الصحبة وأنواعها وآدابها في موضع لاحق من هذا الفصل.

    إذن فمجاهدة النفس ليست من التجارب السهلة التي يمكن لأي إنسان أن يخوضها ومن دون الاستعانة بما سبق من شروط. إنها تجربة روحية شاقة تحتاج إلى جهد بالغ وشجاعة فائقة ، وهي مثل مجالدة الخصوم في ساحة الوغى تتطلب كثيراً من الجلادة والصبر ، لا بل هي تتطلب أكثر من ذلك ، لأن الأعداء فيها هم الأهوية والطباع والغرائز وأقران السوء ، وهؤلاء هم أكثر مراوغة وأشد مراساً من سباقيهم. ولأجل كل ذلك ، فإن الذي يفلح في مجاهدته لنفسه، يكون قد نال مقاماً عالياً لا يوصف شرفه لأن فيه ، فقط ، يتحقق القرب من المولى تعالى، ولأن فيه فقط يتحقق الموت الإرادي أو (الموت الأحمر)(3) كما يسميه الشيخ عبد القادر ، وهذا الموت هو أقصى ما يمكن أن تناله النفس من عملية التصفية التي هي كنه التجربة الصوفية والمكافأة المرجوة من بعد تحمل أعباء المجاهدة ، والتي بغيرها لا يكون هنالك قرب ولا وصول لأنه لا يصلح لمجالسة المولى ، إلا الطاهر عن أجناس الذنوب والزلات و((الله عز وجل لا يقبل من عبده إلا الطيب))(4) إذن فقرب العبد من مولاه مشروط بموت نفسه ، ولا يتم ذلك له إلا إذا أصبح بمنأىً عن متابعة هواه وطباعه وعاداته ، وفي منأىً عن متابعة الخلق وأسبابهم والطمع فيما في أيديهم ، أي إلاّ بعد أن يجعل أعماله كلها خالصة لوجهه تعالى. وبهذا فقط يُفعم قلبه بحب مولاه وترفع عن نفسه الحجب والظلمات.

    على أن تجربة مجاهدة النفس ، بخطوطها العامة ومستوياتها الأولية ، ليست ضرورة حكراً على الصوفية دون سواهم ، بل هي تجربة إنسانية بناءة يمكن أن ينتفع من نتائجها كثير من الناس ، فمبادئ مثل: التخلي عن بعض الأخلاق السيئة والتحلي بالحسن منها ، والقناعة والصبر واحتمال أذى الآخرين ، تعد من الأخلاق الاجتماعية العامة التي تزيد من الرقي الروحي للناس وتزيد من تماسك الجماعات ولذلك ترى أن كثيراً من النحل والأديان غير السماوية ، تحاول أن تضع لنفسها مناهج خاصة في التربية الروحية ومجاهدة النفس ، وهذه الحالة لا تشير ضرورةً إلى مبدأ التأثر والتأثير، ولكنها من باب أولى تشير إلى الفائدة العظيمة التي يمكن لأي إنسان أن يجنيها من جراء سيطرته على نوازع نفسه وهو ما يُعد من بدائه معرفة الإنسان لنفسه.
    ثمار المجاهدة


    يرى الشيخ عبد القادر ، أن حقيقة ما يطمح المريد من الوصول إليه ، من وراء مجاهدته نفسه ، هو أن يعود بها إلى سيرتها الأولى ، أي سيرة آدم (u) قبل هبوطه إلى الأرض ، وآدم هنا يمثل باكورة الوجود الأولي الذي صنعه الله تعالى بيديه فهو الطهر السماوي والصفاء الفطري المحض الذي استطاع أن يجاور الحضرة الإلهية وأن يتجاوز محدودية بشريته ، حيث الخلود وحيث لا شقاء ولا ألم ولا عري ولا جوع وحيث هو بمنزلة الملائكة ، إن لم يكن أرفع منهم منزلة باعتبار عملية السجود. ولكن لم يدم الأمر على تلك الشاكلة ، لأن ما في آدم من ظلمة الأرض وثقل الطين جذبه إلى غفلة العصيان ، وتلك هي خطيئته الأولى ، وهي أولى العلائق التي أثقلت النفس فهبطت بها إلى عالم الأرض ، ((عالم الجوع والعري والشقاء عالم البعد الهجر والجفاء))(1)وكان هذا هو الامتحان الأكبر الذي وضع فيه أبناء آدم إلى يوم القيامة بحيث صار على أحدهم ، إما أن ينجو بنفسه ، آخذاً بيدها إلى حيث الأمن والخلاص وذلك عبر السلسلة السقيمة التي تتضمنها المجاهدات والرياضات والأعمال الشاقة ، أو أن يغفل عن نفسه ، فيترك لها حبل هواها ويكون هو تبعاً لها ومطية ، فتقتاده عبر السلسلة المريحة التي تنتظمها الملذات والشهوات والشبهات ، إلى حيث الهلكة والضياع.

    على أن آدم هنا ، هو رمز القدر والرهان الصعب الكامن في دواخل كل البشر ، وأما آدم النبي(u)فيشير الشيخ عبد القادر ، إلى أنه قد تجاوز الغفلة واستدرك بما فيه من نور السماء فقال: ((ربنا ظلمنا أنفسنا ، بكى على فرقة محله الأول ، قال: من اين لي جَلَدٌ على فراق محبوبي ، قيل: يا آدم ، المعصية حجاب بينك وبين ربك ، حضرته طاهرة لا توطأ بأقدام ملوثة بمخالفة المحبوب))(1) فآدم(u)هو أول المطرودين والهابطين ، وقد عمل جاهداً على التكفير عن خطيئته ، ولكن قدره قد عمّ ، فأصبح لزاماً على كل بنيه ، إلى يوم القيامة ، أن يعاودوا تجربة التكفير ذاتها ويعملوا على حث خطى العودة إلى المحل الأول والمقام العزيز ، مقام القرب والرضا والإرضاء.

    إن ما يرمي إليه الصوفية من وراء مجاهدة النفس ، هو ليس تطويعها بحد ذاته لأن تلك نتيجة قلقة سريعة الزوال ، وإنما هم يرمون إلى محاولة تغيير معدن النفس وكسر بعض طبائعها ، وهو معنى قول الشيخ عبد القادر: أن المجاهدة تعني قلب دولة. إن أخطر ما يواجهه الإنسان من مزالق وعقبات تقف في طريق تحرره الروحي ، يصدر عن خصومه الداخليين ، المتمثلين بالطبائع والأهواء والسيئ من الصفات ، فلو استطاع الإنسان أن يتغلب على هؤلاء الخصوم ، فسيكون بمنأىً عن ذلك وسيكون من الخواص ذوي النجاة ، وسيتحقق له وجدوه الثاني أو وجوده الممتاز الذي يتجلى في الإنسان الكامل بحده الأقصى.

    إن الشيخ عبد القادر ، لا يغفل عن التذكير ، بأن مجاهدة النفس ، هذا الفعل الشاق والخارق لا يمكن لأي إنسان أن يمضي فيه قدماً أو يخطو فيه خطوة واحدة ، من دون أن تدركه يد العناية الإلهية وسابق مشيئتها ، فإذا ما قدر الأجتباء وغلبت عساكر جذبات العناية ، ((ذلت ولاية القلوب وراضت مطامع النفوس الأمارة بلجام رياضة "وجاهدوا في الله حق جهاده"(1) وأدخلت جبابرة الأهوية في سجن التقوى وسلاسل المجاهدة))(2) نعم يمكن للإنسان أن يُجري على نفسه ألواناً متعددة من الرياضات يبغي من ورائها غايات محددة ، كتطويع الجسد أو زيادة فاعلية الحواس أو حتى إظهار القدرات الخفية الكامنة في أعماقه ، ولكن أن يجاهد نفسه جهاداً مستمراً ، لا يبغي من ورائه إلا وجه الله تعالى وطلب القرب منه ، فأن ذلك فعل مشروط بأيمانه أولاً وبهداية الله تعالى وتوفيقه ثانياً وبرعاية مباشرة من لدن شيخ حي مرشد عارف.

    إن تحقيق السمو الخلقي والرقي الروحي والوجود الحقيقي غير المشوب بالأوهام ، تعد من النتائج الأساسية والمضمونة التي يحصل عليها المريد الصادق ، من جراء صبره على تحمل المجاهدة بصورها الثقيلة كافة وإذا كان ينتظر المؤمن الذي يقاتل ويقتل في سبيل الله تعالى مكافأة عظيمة جداً ، وهي نوال الرزق الدائم والحياة الأبدية ، فأن المريد الذي يواجه نفسه بالجهاد الأكبر ، سينال حتماً مكافأة تليق بعمله ، وهي تصفية نفسه ومطالعتها للأنوار الإلهية ، وتهيئة قلبه من أجل أن يكون عرشاً للرحمن. والمريد من جانبه ، كلما ازداد إصراراً على مجاهدة نفسه ومحاصرتها ، أو بالأحرى إماتتها فأنه سينال في مقابل ذلك حياة جديدة روحية صافية وخالصة ودائمة تؤهله لنوال مقام العبودية الحقة. إنها تجارة رابحة حقاً ، إذ إن موته الإرادي والمختار عن الهوى والإرادة والميل إلى الخلق ، سيفضي به إلى حياة لا موت بعدها ، وغنى لا فقر بعده وعطاءً لا منع بعده وتمنحه راحة لا شقاء بعدها ، ويُنعم عليه بنعمة لا بؤس بعدها ويعلم بعلمٍ لا جهل بعده ، ويسعد فلا يشقى ويرفع فلا يوضع ويطهر فلا يدنس. ويكون بتلك المجاهدة قد نال الشرف الأعظم ، وهو وراثة النبي محمد (r) ويكون بهذه الوراثة قد أًصبح باب رحمة لأهل زمانه ، إذ تكشف به الكروب ويدفع البلاء ويستجلب الخير ويقصده القاصي والداني طلباً لبركته(3). إذن فقوة الإنسان وضعفه ، لهما تعلق بإرادته وبإصراره على الانتصار على داخله ، وهو الانتصار الذي تتوقف عليه الكثير من الانتصارات الأخرى.


    (1) الجرجاني – التعريفات – ص316.

    (2) العنكبوت ، 69.

    (3) حديث صحيح – رواه الترمذي وإبن حبّان عن فضالة بن عبيد – شرح الجاع الأخير – ج/4 ص325.

    (1) التقشيري - الرسالة القشيرية – ص82.

    (2) عماد الدين الأموي – حياة القلوب في كيفية الوصول إلى المحبوب – هامش كتاب قوت القلوب – ص238.

    (3) القشيري – الرسالة القشيرية – ص81.

    (4) الهجويري – كشف المحجوب – بيروت – 1980 – ص432.

    (1) الجيلاني – الفتح الرباني والفيض الرحماني – ص83.

    (1) الجيلاني – الفتح الرباني والفيض الرحماني – ص283.

    (2) الجيلاني – المصدر نفسه – ص10.

    (3) الجيلاني – المصدر نفسه – ص209.

    (1) الجيلاني – الغنية لطالبي الحق عز وجل – ج/3 – ص1326.

    (2) حديث صحيح متفق عليه – رواه مسلم والبخاري عن أبي هريرة – الجامع الصغير – ج/1 – ص210.
    1. إلى جانب مبدأ المراقبة ، يأخذ أصحاب الطريقة القادرية ، إلى الوقت الحاضر ، بمبدأ المرابطة مع شيخ الطريقة ، والذي مفاده: أن يربط المريد الذاكر ، قلبه مع قلب شيخه وأن يستحضر روحانية شيخه في فعالياته العبادية ومعاملاته الدنيوية كافة ، فإذا ما داوم على ذلك ، فإنه سيبلغ حال المراقبة ، وهذا الشعور الأخير ، سيلزمه حتماً ، بالحذر والورع والتأهب وحسن المعاملة مع الخلق ومع الشيخ ومع الله تعالى.

    (2) الهروي – منازل السائرين – ص54.

    (1) الجيلاني – الغنية لطالبي طريق الحق عز وجل – ج/3 – ص1328.

    (1) الجيلاني – الغنية لطالبي الحق عز وجل – ج/3 – ص1333.

    (1) الجيلاني – الغنية لطالبي طريق الحق عز وجل – ج/3 – ص1333.

    (2) إشارة إلى قوله تعالى: "ورحمتي وسعت كل شيء" – الأعراف/ 156.

    (1) الجيلاني – الغنية لطالبي طريق الحق عز وجل – ج/3 – ص1334.

    (2) الجيلاني – المصدر نفسه – ج/3 – ص1335.

    (1) الجيلاني – الغنية لطالبي طريق الحق عز وجل – ج/3 – ص1335.

    (2) الجيلاني – المصدر نفسه – ج/3 – ص1335.

    (1) الجيلاني – الغنية لطالبي طريق الحق عز وجل – ج/3 – ص1336.

    (1) الجيلاني – رسالة في التصوف – مخطوطة.

    (2) ص/ 26.

    (3) الجيلاني – فتوح الغيب – على هامش كتاب بهجة الأسرار ومعدن الأنوار – ص24.

    (4) الجيلاني – الفتح الرباني والفيض الرحماني – ص57.

    (1) وورد عن الشيخ عبد القادر قوله" دخلت في ألف فن في الزهد حتى أستريح من دنياكم وماكنت أعرف إلاّ بالتخارس والبله والجنون وكنت أمشي حافياً في الشوك وغيره وما هالني شئ إلاّ سلكته ولا غلبتني نفسي فيما تريده قط ولا أعجبني شئ من زينة الدنيا قط فملت إليه – الشنطوفي – بهجة الأسرار ومعدن الأنوار – ص85.

    (1) سنن إبن ماجه – ج/ 1 – ص565.

    (2) سنن إبن ماجه – ج/1 -= ص566.

    (3) الجيلاني – الفتح الرباني والفيض الرحماني – ص165

    (1) الجيلاني – الفتح الرباني والفيض الرحماني – ص151.

    (2) الجيلاني – المصدر نفسه – ص57.

    (3) للتفضيل حول ذلك يراجع أحمد بن دحلان – السيرة النبوية – بيروت – 1983 – ج/1 –ص163 فما بعدها.

    (1) حديث صحيح رواه أبو يعلي – مجمع الزوائد – ج/10 – ص266.

    (1) الجيلاني – الفتح الرباني والفيض الروحاني – ص24.

    (2) الجيلاني – الغنية لطالبي طريق الحق عز وجل – ج/3 – ص1280.

    (3) الجيلاني – الفتح الرباني والفيض الرحماني – ص212.

    (4) التونسي – رياض البساتين – ص69.

    (1) الشطنوفي – بهجة الأسرار ومعدن الأنوار – ص26.

    (1) الشطنوفي – المصطر نفسه – ص26.

    (1) الحج / 78.

    (2) الجيلاني – خمسة عشر مكتوباً في التصوف – مخطوطة.

    (3) الجيلاني – المصدر نفسه



  • #2
    ثانياً: الزهد

    الزهد في اللغة والاصطلاح

    الزهد في اللغة: هو ترك الميل إلى الشيء ، ويقال: زهد فيه وعنه زهداً وزهادة أي أعرض عنه وتركه ، لأحتقاره أو لتحرجه عنه ، وفي اصطلاح أهل الحقيقة ، هو بغض الدنيا والأعراض عنها ، وقيل هو ترك راحة الدنيا طلباً لراحة الآخرة ، وقيل هو أن يخلو القلب مما خلت منه اليد(1).

    ويرى بعضهم أن الزهد هو أساس الأحوال الرضية والمراتب السنية ، وهو أول قدم القاصدين إلى الله عز وجل والمنقطعين إليه والراضين عنه والمتوكلين عليه فمن لم يحكم أساسه في الزهد لم يصح له شيء مما بعده ، لأن حب الدنيا رأس كل خطيئة والزهد في الدنيا رأس كل خير وطاعة ، ولكن شرط الزهد ، أن يكون في الحلال الموجود ، وأما الحرام والشبهة فتركها واجب(2). وعكس الزهد ، تأتي الرغبة في الدنيا، وهي من ضعف اليقين ، لأن العبد لو قوى يقينه ، نظر بنوره إلى الآجل فغاب في نظره العاجل ، فزهد فيما غاب وأحب الحاضر ، وعليه فلا يمكن لعبد أن يعرف الزهد حتى يعرف ماهية الدنيا وأي شيء هي(3). ولا يمكن لعبد أن يطمع في محبة الله تعالى وهو محب للدنيا ، لأن الله تعالى يمقتها.

    درجات الزهد


    والزهد لا يمكن أن يقدم بمفهوم واحد لكل الناس ن بل هو يتدرج على وفق درجاتهم الثلاث التي تعارف عليها الصوفية ، وهي أولاً: زهد المبتدئين ، وهم اللذين خلت أيديهم من الأملاك وخلت قلوبهم مما خلت منه أيديهم ، وهو معنى قول الجنيد: الزهد هو أن تخلي الأيدي من الأملاك ، وتخلي القلوب من الطمع ، وقول السري السقطي: الزهد أن يخلو قلب العبد مما خلت منه يداه. ويتبين لنا من خلال هذا (الصنف) الأول ، أن الزهد هنا له علاقة مباشرة بالدنيا وحاجاتها وشهواتها ، وأنه فعل إرادي ، لأن له علاقة بما يملكه العبد وليس بما يقع خارج متناول يده ، ثم وهو الأهم أن يتابع القلب ما تعافه الأيدي ، لأن القلب إذا لم يوافق ويسكن إلى ترك الدنيا ، فأنه ليس بزاهد ، بل مقهور على فعل ذلك. ثانياً: المتحققون في الزهد ، وهو معنى قول رويم حين سئل عن الزهد فقال: ترك حظوظ النفس من جميع ما في الدنيا ، فهذا زهد المتحققين ، لأن في الزهد في الدنيا حظاً للنفس، لمّا في الزهد من الراحة والثناء والمحمدة واتخاذ الجاه عند الناس ، فمن زهد بقلبه في هذه الحظوظ ، فهو المتحقق في زهده. وهذا الزهد ، هو حقاً أرفع مقاما من سابقه ، لأنه يرتقي إلى مستويات أكثر تجريداً ، فالزهد في الزهد وفي محامده وحظوظه ، يحتاج حتماً إلى قلب أكثر مراساً وتمكناً في المعاملات والخواطر النفسية من سواه. وأما في المستوى الأعلى ، فيأتي دور الذين علموا وتيقنوا: أن لو كانت الدنيا كلها لهم ملكاً حلالاً ولا يحاسبون عليها في الآخرة ، ولا ينقص ذلك مما لهم عند الله شيئاً ، ثم زهدوا فيها لله عز وجل ، لكان زهدهم في شيء ، أي فيه شائبة لغير الله تعالى ، لأن الزاهد لابد من أن يزهد في شيء ، والدنيا في حقيقتها لا شيء وهي منذ خلقها الله تعالى ما نظر إليها ، وهو معنى قول الشبلي: أن الزهد غفلة لأن الدنيا لاشيء والزهد في لاشئ غفلة(1) ، على أن قول الشبلي هذا ، لا يلغي الزهد برمته بل هو يحرمه فقط على الواصلين من أهل المعرفة(2). لأن هؤلاء خرجوا عن الدنيا بالكلية ولم يعد في أنفسهم حاجة للتخلي عنها. ويشترط في الزهد الصحيح ، أن يكون خالصاً مجرداً غير مقرون بهدف أو عوض أو غرض ، لأن العبد إذا زهد في شيء لطلب شيء آخر ، فأنه سيكون طامعاً وليس زاهداً إن الزهد إذا كان خالصاً ، فأنه يحسب على الطاعات ، لا بل هو رأس كل طاعة على خلاف حب الدنيا الذي هو رأس كل خطيئة. وهو ما حسب كذلك إلا لأن العبد خاضه هرباً إلى ربه وطلباً للقرب منه.

    إن الزهد يُعد بشكل من الأشكال سلوكاً وطريقة عيش ، يهدف العبد من خلالها إلى السمو بنفسه – أي بميوله وغرائزه وشهواته – فوق كثير من الحاجات والرغبات الوهمية والمتدنية ، وثم تربية نفسه ذاتياً عن طريق تطويعها وترويضها وعن طريق تقوية إرادته بالصبر والمخالفة ، كي يقل التصاقه بهذه الحياة الدنيا وثم يزيد انتباهه وتعلقه بالحياة الآخرة وبحياة الروح بوجه عام ، ولأجل ذلك فأن كثيراً من الأديان والملل ، اتخذت من الزهد دعوة وشعاراً ، ورأت فيه خير وسيلة لأعداد اتباع الصالحين.

    الزهد في الإسلام


    في الدين الإسلامي بخاصة ، نجد أن الدعوة إلى الزهد في الدنيا كانت واضحة وملموسة إلى درجة كبيرة جداً ، وفي كل مفاصله وأقسامه ، إلى الدرجة التي نجد معها أن المسلمين الأوائل لم يسعهم أن يفرقوا بين الزهد و حقيقة الإيمان ، ولا غرابة في ذلك ، إذ إن حياة الإنسان على هذه الأرض ، ما سميت في الخطاب الإسلامي بالحياة الدنيا ، إلا لدناءتها وحقارة شأنها ، ولوجود الحياة الآخرة البديلة عنها والمتفوقة عليها بكل أشكال الكمال والديمومة والثبات. على أنه يمكن القول: أن الدين الإسلامي ، هو الدين الوحيد تقريباً ، من بين جميع الأديان ، الذي كان يؤكد على ضرورة الموازنة بين طموح الروح ومتطلبات الجسد ، بين حظوظ الدنيا وأحكام الآخرة ، فإذا كان حقاً على الإنسان أن يزهد تقرباً إلى بارئه ، فأن عليه في الوقت نفسه حقاً آخر وهو أن لا ينسى نصيبه من الدنيا ، وهذا النصيب هو من الأقسام والأرزاق التي كتبها الله تعالى له ، فلا يمكنه من أن يتخلى عنها أو يردها ومقدمة للكلام فأنه يمكن القول: إن الزهد الذي عدّ بكونه حلقة من حلقات التصوف الإسلامي لا يعني الترهب والانقطاع وإفراغ اليد والعزوف المطلق عن الحياة ، وإنما يعني ، بالفهم الصحيح ، إخراج الدنيا من القلب كي لا يشتغل بها عن ذكر مولاه ، ولعل من نافلة القول أن نشير إلى: أن إخراج الدنيا من القلب ، لا يعني ضرورة التخلي عنها أو الهروب منها إلى الأبد ، إذ يمكن للزاهد المتمكن في زهده ، أن يمتلك أقساماً من الدنيا من دون أية خسائر في مكاسب الروح أو تنازل عن تطلعات القلب.

    لقد حفل القرآن الكريم بكثير من الآيات التي تتضمن الدعوة إلى التبتل والزهد والتقليل من شأن الدنيا وملذاتها والى عدها وهماً زائلاً وغروراً وسراباً ، وفي مقابل ذلك كثير من الآيات التي تذكر بالآخرة وما تشتمل عليه من خير دائم وعز مقيم وحياة لا يشوبها كدر ولا يطالها فناء ، لا بل إننا نجد أن أكثر الآيات التي تناولت هذا الموضوع ، كانت قد أشارت إلى الوجهين معاً ، وهو شكل من أشكال الترهيب والترغيب في الوقت نفسه كقوله تعالى: "قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن أتقى"(1) وهي آية تتضمن صراحة الترجيح لكفة الآخرة على كفة الدنيا. وقوله تعالى: "اعلموا أن الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد ، كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفراً ثم يكون حطاماً وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور"(2) الدنيا إذن سريعة العطب سريعة الزوال ، وهي وإن وصفها خالقها بأنها متاع ، إلا أن على الإنسان أن لا يغتر بها ، لأن الذي ينتظره بعدها هو السؤال والمحاسبة. وقوله تعالى: "وإن كل ذلك لمتاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين"(3) أي أن غير المتقين لا نصيب لهم في الآخرة ، وبالتأكيد فأن الزاهدين في الدنيا هم على رأس هؤلاء المتقين. وأخيراً وليس آخراً ، قوله تعالى: "فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا ، فأن الجحيم هي المأوى وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فأن الجنة هي المأوى"(4) وهذه هي أكثر الآيات بياناً في الدعوة إلى الزهد في الدنيا ومجاهدة النفس عن طريق مخالفتها ونهيها عن مجاراة هواها ، وفي هذه الآية أيضاً رد شرعي على من يرى في مجاهدة النفس ظلماً لها وحرماناً من طيبات ما أحل لها ربها.

    وأما السنة النبوية فقد حفلت أيضاً بكثير من الأحاديث الشريفة الداعية إلى التقشف في العيش في الحياة الدنيا وعدم الإقبال على زينتها وشهواتها ، واحتمال الصبر عنها إحتساباً على الله تعالى وترقباً لعيش الآخرة. كقوله (r): "اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة"(1) وقوله (r): "ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليم فلينظر بم يرجع"(2) وهذه مقارنة تظهر استحالة المقارنة بين قلة شأن الدنيا وعظم شأن الآخرة. وقوله (r): "إزهد في الدنيا يحبك الله وإزهد فيما عند الناس يحبك الناس"(3) وهذا الحديث يجعل من الزهد سبيلاً وحيداً لبلوغ مقام حب الله تعالى ورضاه، ولتجنب أذى الناس باستمالة قلوبهم. وإضافة إلى الأحاديث الشريفة الكثيرة ، فأنه يمكن القول إن سيرة النبي محمد (r) كانت تمثل تجسيداً واضحاً لحياة الزهد والفقر الإراديين ، إذ يؤثر عنه (r) أنه كان يميل– رغم قدرته على فعل العكس– إلى التخشن في المأكل والملبس والمنام وإنه ما تاقت نفسه إلى التنعم قط، منذ بعثته حتى انتقاله إلى جوار ربه(4).

    تعريف الزهد

    يعد الزهد من (الوحدات) الصوفية التي لم يجد ، لا الفقهاء ولا غيرهم سبيلاً إلى الاعتراض عليها أو تفنيدها ، وهو معنى قول أبي بكر الكتائي (ت 322 هـ): "الشيء الذي لم يخالف فيه كوفيي ولا مدني ولا عراقي ولا شامي ، الزهد في الدنيا وسخاوة النفس والنصيحة للخلق"(5). فالجميع متفقون على أهمية الزهد وعلى مشروعيته ، بكونه من أنواع العبادات الصحيحة ، وإن اختلفوا في تعريفه أو تفسيره ، إذ رأى بعضهم: أن الزهد في الدنيا يعني قصر الأمل ولا يعني أكل الغليظ من الطعام ولا لبس الخشن من الثياب. وهذه (الرؤية) سيتبناها الشيخ عبد القادر فيما بعد ، لأنها تتماشى ومنهجه الصوفي الإصلاحي الذي يؤكد على المعاني والمقاصد الباطنية أكثر من تأكيده على الظاهر منها. ويرى آخرون أن الزهد يعني: ترك الدنيا ، ثم عدم المبالاة بمن أخذها ، مؤمناً كان أم كافراً(1) ويعني الزهد أيضاً: أن تنظر إلى الدنيا بعين الزوال لتصغر في عينيك ، فيسهل عليك الإعراض عنها. ويعني أيضاً: سلوا القلب عن الأسباب ونفض الأيدي من الأملاك ، وأيضاً: عزوف النفس عن الدنيا دون تكلف. وأيضاً خلو القلب عما خلت منه اليد. ويمكن للزهد أن ينشئ علاقة جديدة بين العبد وربه, إذ يعني: الثقة بالله تعالى(2) ويمكننا أن نلاحظ ، من خلال جميع معاني الزهد السابقة، أن أغلب مفكري وصوفية الإسلام ، أكدوا على أن الزهد في حقيقته ومعناه شأن باطني قلبي نفسي ، له تعلق ، بالدرجة الأساس ، بإرادة الإنسان وعقيدته ، فهو لا يقتصر على المظاهر الخارجية ، من تشعيث الشعر وترقيع الثياب والاعتزال التام عن الناس ، كما آل إليه الأمر في مراحل الانحدار الفكري والاجتماعي ، التي مرت بها الحضارة الإسلامية فيما بعد ، والتي كانت دعوة الشيخ عبد القادر وطريقته ، تعد إحدى أهم المحاولات التي عملت على تصحيح مسار التصوف وإعادة الأمور إلى سابق عهدها وإصلاح بعض ما أفسده الدهر.

    علاقة الزهد بالتصوف


    إن أهمية الزهد في التاريخ الصوفي الإسلامي ، تأتي من كونه يُعد مرحلة طفولة ونشوء في عمر التصوف الإسلامي الطويل الذي امتد إلى الوقت الحاضر ، على أن عَدّ الزهد بكونه مرحلةً متقدمة في عمر التصوف ، لا يلغي وجوده وأهميته في مرحلة (البلوغ) ، بل على العكس من ذلك إذ ظل في نظر الصوفية أحد أهم الأركان التي يرتكز عليها الصرح الصوفي برمته ، بحيث يمكن القول: إنه لا يمكن لأي تجربة صوفية أن تنجح من دون هذا الركن. على أنه لا يغير من حقيقة الزهد ومعناه في شيء، فيما لو دخلنا في زحمة المجادلات (الكلامية) التي يميل بعضها إلى الدمج بين الزهد والتصوف ، ويميل الآخر إلى تأكيد العكس ، أو يرى آخرون أن التصوف هو ناتج طبيعي لنضج تجربة الزهد في الإسلام وزيادة تعقد الحياة الاجتماعية بكثرة ما طرأ عليها من تغيرات وكثرة ما ورد إليها من فلسفات وآداب وأفكار غريبة. أو يعمد آخرون إلى البحث عن نقاط تلاق أو اختلاف بين الاثنين(1). إن الذي يعنينا هنا هو: تأكيد واقعية ظاهرة الزهد ومشروعيتها في الإسلام ، وأنها ليست ظاهرة أجنبية غريبة تلاقفها المسلمون ونفثوا فيها صبغتهم ، ولعل من نافلة الكلام أن نقول إن الزهد في الإسلام ، كان قد استمد ضرورته ومشروعيته ، أولاً: من سيرة النبي محمد (r) وصحابته الكرام ، بما انطوت عليه تلك السيرة من تبتل وعبادات شاقة وعزوف عن زينة الحياة الدنيا وزخرفها ، ومن مجاهدة مستمرة للنفس ولأعداء الله تعالى. وثانياً: مما آلت إليه الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في ذلك العهد الذي امتاز بكثرة وافرة من الفتن الداخلية والفتوحات الخارجية ، وما أورثته تلك الفتن وتلك الفتوحات من قلاقل واضطرابات وعدم استقرار اجتماعي من جهة ، ومن غنائم وثروات وملاه وملذات لا عهد للمسلمين بها من قبل ، من جهة أخرى. على أنه خلال القرنين الأولين من التاريخ الهجري الإسلامي ، كان الزهد قد اتخذ شكله المحدد والناضج والمنظر له وبخاصة في حاضرتي العراق ، الكوفة والبصرة ، وكان قد اشتهر من بين أعلامه البارزين كل من: الحسن البصري الذي يقوم مذهبه في الزهد على الشعور باحتقار الدنيا والورع الدائم والخوف المفرط من الله تعالى ، ورابعة العدوية التي مزجت زهدها بمذهبها الشهير بالحب الإلهي.

    الزهد عند الشيخ عبد القادر الجيلاني


    يتخذ مفهوم الزهد عند الشيخ عبد القادر ، منحى فيه الكثير من النضج والوضوح ، وهو ما ينسجم ومنهجه العملي ورسالته في نشر التصوف الصحيح بين الناس ، فهو يرى ابتداءً أن الزهد بكونه سلوكاً حياتياً عبادياً ، لا يطلب لذاته ، لأنه ليس بغاية يسعى الصوفي إلى بلوغها من دون هدف أو قصد ، وإنما هو يطلب لمرامٍ أخرى منها: إماتة النفوس الضعيفة الغارقة في اللذات والواقعة تحت تأثير نوازعها الرديئة وخصالها السيئة ، وثم إحياؤها بحلة جديدة وقوة طالما كانت كامنة فيها. ومنها اعتياد الإنسان على التسليم الصحيح لرب العالمين والاتكال الإيجابي عليه. ومنها أيضاً: الارتقاء بعبادة القلوب كي تصل إلى التوحيد الحقيقي الذي لا تخالطه شائبة من شرك خفي أم ظاهر.

    إذن فمعنى الزهد عند الشيخ عبد القادر ، لا يقتصر ، فقط على صيام النهار وقيام الليل، والأخذ بأسباب التخشن في المطعم والملبس ، وإنما يعني ، إضافة إلى ذلك مجاوزة الإنسان مراتب نفسه الدنيا والتغلب على البؤس والجهل العالق بها وأيضاً ((ترك رؤية الخلق))(1) أي ترك ترقب وانتظار صدور الخير أو الشر ، العطاء أو المنع ، منهم ومن دون إذن وإرادة من الله تعالى. على أن قول الشيخ عبد القادر بترك رؤية الخلق ، لا يعني اعتقاده بالجبرية المطلقة في كل الأحوال ، واستحالة صدور الأفعال على الأصالة إلا من الله تعالى ، أو أن أفعال البشر ، ما هي على الحقيقة ، إلا تطبيقات حرفية لعلم سابق ومشيئة حتمية فرضت عليهم وهم لا يملكون عنها محيصاً. إن هذا الاعتقاد له علاقة بالمقام الروحي الذي بلغه المريد ، وبخاصة بعد اجتيازه مرحلة الزهد ، إذ يُفترض به أن يكون على علاقة مع ربه ، هي أكثر التصاقاً ، حتماً من علاقة بقية البشر بربهم. على أن اعتقاد هؤلاء ، بأنه لا ضار ولا نافع على الحقيقة إلا الله تعالى ، وإنه تعالى هو واضع الأسباب ومقدر الأقدار ، وإن أي شيء في الكون لا يؤثر في أي شيء ، إلا بأذن منه ، لا يلغي عندهم الفعل ولا الإرادة ولا السعي ولا الكسب ، ولا يسقط عنهم التكاليف وإنما هو على العكس من ذلك، إذ يزيد من ثقتهم بربهم ويزيل عنهم الكثير من الأوهام والمخاوف ، لتأكدهم وإيقانهم ، بأنه لا شيء يضرهم دون علم أو نظر الله تعالى. إن هذه التهمة ، أي تهمة الرهبنة والتكاسل طالماً ألصقت بالصوفية من قبل خصومهم إذ عدوا قوماً متواكلين لا يؤمنون بالأسباب ولا بالحركة ولا بالسعي إلى الكسب أو إدامة مقومات الحياة ووسائل العيش. وهذا القول إن كان ينطبق على الدخلاء على النهج الصوفي الصحيح من اللذين اتخذوا منه ستاراً ومغنماً ، فانه لا ينطبق على ذوي الاعتقاد السليم الذين لا يحيدون عن تعاليم الإسلام ومبادئه ، والذين يرون في التصوف ، هبة ربانية يستعينون بها على تزكية نفوسهم وتصفية قلوبهم وثم التقرب إلى بارئهم.
    حقيقة الزهد


    إن حقيقة الزهد عند الشيخ عبد القادر ، تكمن في الاستعداد الباطني وخلوص نية العبد وثبات إرادته ، ولكن هذه الرؤية (الباطنية) لا تلغي عنده أهمية أفعال الزهد الظاهرية ، التي يقف على رأسها الجوع والعطش. إذ إن هذه الأفعال تحتل مساحة واسعة من رياضات الصوفية ومجاهداتهم ، ثم أن الشرع الإسلامي ، أكد عليها كثيراً وأعطاها أهمية خاصة وجعلها من أفضل الأعمال التي يمكن أن يتقرب بها العبد المؤمن إلى ربه ، كما سبق تفصيل الكلام حول ذلك. ومن جهة أخرى ، فأنه لا يخفى على كل مجرب ذي دراية ، سواء أكان متديناً أم غير متدين ، ما لأعمال مثل الجوع والعطش والسهر ، إن مارسها الإنسان عن قصد وإرادة ذاتية ، من تأثير فائق في تصفية السرائر وإلهاب القرائح وتصعيد المكامن الرحية السامية فيه وهذا هو عين ما يؤكده الشيخ عبد القادر ، إذ إنه يجعل الخير كل الخير في اتخاذ الجوع وصالاً ، أي وسيلة من وسائل الوصول والقرب من الحضرة الإلهية ، فبالجوع عنده تفتح باب القوة الملكوتية الكامنة في ورح الإنسان ، وتظهر معها الحقيقة النورانية الخافية وراء حاجز الجسد ومتطلباته ، وبالجوع تستولي الأنوار الصمدية على ذات وجود العبد ، فتحرق بأنوارها ظلم الأجسام ، وهي حالة الفناء الشهودي التي تمحى فيها الطبائع وتتلاشى الأبعاد والصفات الذاتية للشاهد ، ثم لا ترجع إليه حاسة طبعه الجسماني إلا بعد إتمامه دورة الأسماء والأوراد ، أياماً متواصلة ، من الذكر والتسبيح الدائم ، الذي سيشكل فيما لو واظب عليه المريد ، واسطة ترد من خلالها الأنوار الإلهية والفتوح الغيبية على قلبه.
    إن إظهار الشيخ عبد القادر ، محاسن الجوع والعطش ، وإدراجهما ضمن فقرات منهجه الصوفي الأساسية ، لا يعني تبنيه لهما ، منهجاً دائماً وسلوكاً مستمراً في حياة الإنسان ، كما يفعل ذلك دعاة الرهبانية والتنسك ، بل هو على العكس من ذلك إذ يؤكد على مريديه أن لا يغالوا في الأخذ بأسباب الجوع والعطش ، حتى لا يمنعهم ذلك عن القيام بواجباتهم العبادية الأخرى ، أو عن تذكير الناس وإرشادهم لأن هذا هو الأهم في التجربة الصوفية ، ولأن فعل الجوع والعطش ما أخذ به العارفون إلا لتحسين أداء قلوبهم تجاه ربهم وتجاه الناس(1). فهو من مبادئ القوم ووسائلهم المساعدة ، وأما نهايات طريقهم اوم طموحاتهم الروحية ، فهي: "أن تخرق أجسادهم حجب الغيوب وتفجر أنوارهم ينابيع الحكم من خزائن القلوب ، وأن يصفو عيشهم لربهم ، فلا يكون طعامهم إلا من كلامه وتعالى ، الذي هو القرآن الكريم ، ولا يكون شرابهم إلا من سنة نبيه (r)(2) إذن فالصوفي مهما حلق في عنان سماء الروح ، وسعت نفسه إلى الإنعتاق واشرأبت الى الهرب بعيداً عن وطأة الجسد ، فأن مصيره مربوط إلى أرض الشرع الإسلامي ، وهو محرم عليه أن يلقط من غير هذا المرتع أو أن يرضع من غير تلك المراضع.

    فإذا كان الزهد عند الشيخ عبد القادر ، لا يعدو كونه وسيلة يتعكز عليها المريد في بدايات سلوكه في الطريق الصوفي ، فأنه ضرورة لا يعني ترك الدنيا مرة واحدة والى الأبد بل إن الأمر لا يخرج عنده عن كونه فعلاً تأديبياً تربوياً ، يراد من خلاله نقل المريد من حالته الدنيا إلى اعتاد التعايش معها ، إلى حالة بديلة ، هي رغم صعوبة تقبلها في البداية ، أكثر أمناً وسلاماً للمريد ، من حالة مداهنة النفس والانصياع لرغباتها إلى حالة معاداتها وكبح جماحها ، من حالة متابعة الهوى ومجاراة الشهوات إلى حالة المخالفة والتطويع والترويض. فإذا ما رسخ القدم وتم الأمر وتحقق الانسجام بين النفس والقلب والعقل ، صار المريد من المرادين المحققين الواصلين وأهل الولاية العارفين وأمر حينئذ بأخذ جميع أقسامه وأرزاقه وحظوظه التي فاتته أولاً ، لأنها من ضمن أقداره التي قدرت له لا لغيره. إذن ففي البداية الترك وفي النهاية الأخذ ، في البداية تكليف القلب بترك الدنيا وشهواتها وفي النهاية تناولها. الأول هو نهج المتقين اللذين يتلمسون طريقهم القويم وسط وعورة الشبهات والثاني هو نهج الواصلين المتحققين في طاعة الله عز وجل وذكره.



    علاقة الصوفي بالدنيا


    إن تصوير الدنيا بطالع الشؤم وبالوجه الكالح ، عند الصوفية بعامة وعند الشيخ عبد القادر بخاصة ، إذ هو يذهب إلى أكثر من ذلك ، فيشبهها بالجيفة القذرة التي تُسد إزاءها العيون والأنوف(1). لا يعني إسقاطها تماماً من حسابات المريد ، فمفهوم الدنيا عندهم ، لا ينضوي تحته ما كان منها ضرورياً ومباحاً في الشرع وأساسياً لإقامة أود العيش وإدامة المجتمعات الإسلامية الصالحة ، فليس من بطر العيش والترف الزائد مثلاً البيت الذي يُكن العبد الصالح ولا اللباس النظيف الذي يستره ويقيه الحر والقر ولا الطعام الحلال الذي يشبعه ولا حتى الزوجة التي يسكن إليها. إن مفهوم الحياة الدنيا، السلبي ينحصر عند الشيخ عبد القادر فقط فيما يدفع بالعبد ((إلى الإقبال على الخلق والأدبار عن الحق))(2) أي فقط الحاجات والرغبات التي مصدرها الطمع ومبعثها الشره وضعف الثقة بالله تعالى. وهذه ما عاداها الصوفية ولا حذروا منها ولا تجنبوها إلا للنتائج السيئة التي تترتب على التعاطي بها، وهي مثلها في ذلك مثل الحرام الذي ما حرم على الخلق ، إلا للضرر المؤكد الذي يلحق بمقترفه ، فالشهوات ما أردفت بالتحذير والتنفير ، في بدايات السلوك الصوفي ، إلا لأنها إن تعشقت بالقلب الضعيف الغافل والنفس الطامعة غير المروضة ، فأنها ستعمل عملها في إشغال العبد وإلهائه عن ذكر ربه وإبعاده عن محيط رضاه ، ومن كان هذا حاله ، فأنه سيكون حتماً بعيداً عن الخير وأهله قريباً من الشر وأهله ، وفي هذا إشارة إلى قوة الترابط بين الحالتين وتأكيد العلاقة الطردية القائمة بينهما ، فالعبد كلما كان قريباً من ربه خائضاً في بحر ذكره كان أدنى إلى فعل الخير وأقرب من أهله ، والعكس يصح أيضاً ، فالعبد كلما كان بعيداً عن ربه متغافلاً عن ذكره كان أدنى إلى اقتراف الشر وأقرب من أهله. وتجدر الإشارة إلى أن مسألة التحليل والتحريم والخير والشر ، تعد من مسائل الخلاف العقلية القائمة بين القائلين بالاختيار وهم أهل العدل والتوحيد والقائلين بالجبر ، فأما الفريق الأول فأنهم يأخذون بالأسباب ويقولون أن الحرام ما حرم إلا للضرر الذي يلحقه بالأفراد والمجتمعات ، كفعل السرقة وقول الزور وإنتهاك الحرمات ، وإن الإنسان قادر بقدراته العقلية أن يميز ذلك ويجتنبه ، وأما الفريق الثاني ، فأنهم يرون أن الحرام ما حرم إلا لأن الله تعالى ، أراد له أن يكون كذلك وكذلك الحلال وكذلك الخير والشر(1).

    إن إقبال الإنسان ، في إصلاحه نفسه وفي تقربه من مولاه ، على نهج الزهد ، يأتي من موقعه الوجودي الحرج الذي وضعه تكوينه فيه ، فهو يتوسط ، كما يرى الشيخ عبد القادر ، في صفاته ، بين صفات الحيوانات وصفات الملائكة ، بين ثقل الجسد وحاجاته وتطلعات الروح وآفاقها. غير أن هذا التوسط القلق ، لا يُعد أمراً مفروغاً منه بحيث يستحيل التزحزح عنه أو الانفلات منه ، بل إن حقيقة الإنسان تتجسد في صعوده وهبوطه المتواصل ، نحو هذا الطرف أو ذاك ، وإن هذه المكوكية مقرونة بعمله الذي يصدر عنه ، فأن تردى وابتعد عن موقفه الديني تجاه ربه وموقفه الأخلاقي تجاه الآخرين وتجاه ذاته ، وأهمل تربية نفسه وأغرقها في الشهوات ، فسيكون عندئذ إلى صفات الحيوان أقرب ، أو كما يسميه الشيخ عبد القادر: (إنساناً حيوانياً)(2). وهذا الإنسان سيكون من الصعب عليه ، فيما لو هبط إلى هذا المستوى ، واضعاً نفسه في قفص العادات والمخالفات أن ينقذ نفسه أو يطلق سراحها ، لأنه في هذه الحالة ، سيكون سجيناً في ظلمة طبعه ، محروماً من قبس النور الذي غرسه الله تعالى في عباده حين خلقهم وأخذ عليهم العهد في عالم الذر(3). وهذا النور الذي لا يمكن لأي إنسان أن يسمو أو يترقى روحياً دونه ، وضع الله تعالى مصيره ، بيد الإنسان ذاته ،فأما إلى ضياع وتلاشي وأما إلى نماء وزيادة سطوع ، وهذا الاحتمال الثاني هو الذي تبناه الإنسان الصوفي الذي تعهد نفسه بالتربية والزهد وأنواع الرياضات والمجاهدات ، وهو بذلك سيكون إلى صفات الملائكة أقرب ، أي يكون إنساناً ملائكياً(4). لا بل إنه قد يصل بأمانته المحفوظة ونوره المكنون ، إلى مستوى من الرفعة والصفاء ، بحيث يتجاوز مقام كثير من الملائكة ، وغير مجهولة قصة سجود الملائكة لأبي البشر وإقرارهم بأعلميته وتفوقه عليهم(1).

    درجات الزهد عند الشيخ عبد القادر


    وكعادته في التعامل مع الأمور الصوفية العملية التي تنطوي على جهد ومشقة، فقد عمد الشيخ عبد القادر ، على توزيع تجربة الزهد على سلم تصاعدي ، كي يخفف بذلك من الأثقال التي ينوء بحملها المريد فيما لو تعاطاها دفعة واحدة. وهذا (التدريج) عنده موزعاً حسب المنزلة الروحية التي يبلغها كل مريد على حدة. فالزهد بمعنى الترك يُسن أولاً للسالكين المتزهدين وهو لا يعني الترك المطلق أو التجرد ، وإنما يعني ترك المحرمات ، فالمتزهد لكونه حديث عهد بالسلوك ، ولانطواء سريرته على علائق كثيرة تجذبه إلى الدنيا وزينتها ، ولاستحالة انفصاله التام عن ذلك ، فقد صار قصارى الزهد عنده ، يتجسد في تجنب الحرام وتوخي ما أحل له من الطيبات. فإذا ما اطمأن قلبه بهذا (الترك) واعتاد من نفسه الميل إلى الحلال دون سواه ، جاءه الأمر من شيخه بالتزام النوع الثاني من الزهد الذي يتمثل في اجتناب الشبهات من أجل ان يكون حلاله خالصاً غير مشوب بما يعتم مرآة القلب ويكدر صفو النفس. إن المريد ، لشدة إقباله على الحلال في المرحلة الأولى من زهد ، فأنه حتماً سيخوض في كثير من الشبهات التي اعتاد الناس الأخذ بها ، وهذه الشبهات ، إن قدرت معدة نفسه على هضمها في مرحلة الزهد الأولى ، فأنها ستعجز عن ذلك في المرحلة التالية ، إذ إن مفعول الشبهة على القلب هنا ، سيكون كمفعول الحرام في المرحلة الأولى. ثم بعد ذلك يؤمر المريد بترك المباحات ، وهي التي تقع في درجة أدنى من الحلال ، ثم أخيراً يؤمر بترك الحلال المطلق في جميع الأحوال ((حتى لا يبقى متروك في الجملة))(2) وتلك حالة رغم كونها مؤقتة ، إلا أنه لا يقدر على احتمالها ، إلا من بلغ حالة الفناء الوجودي والصفاء التام وأًصبح من خواص خواص القوم اللذين ماتوا عن الإرادة وعن الاختيار وعن جميع الخلق, فاستحقوا بذلك نوال الحياة الأبدية ونوال درجة القرب من الله تعالى ، لصبرهم بكل أنواع الصبر ولأن "الله مع الصابرين"(1) وقد ورد على لسان الشيخ عبد القادر قوله: ((ضاقت بي الحال يوماً ، فتحركت نفسي تحت حملها وطلبت الراحة والفرح فقيل لي – بلسان الحال – ماذا تريد ، فقلت: أريد موتاً لا حياة فيه وحياة لا موت فيها)) (2). وهذا هو الخلود الروحي الذي يرنو كل سالك صوفي إلى بلوغه ، علماً أن الشيخ عبد القادر وفي موضع آخر يقول: ((إن الموت الذي لا حياة فيه ، هو موت الإنسان عن جنسه من الخلق))(3) أي تخلصه من كثير من الصفات السيئة العالقة بنفوسهم والطباع الرديئة المغروسة فيها.

    علاقة الزهد بالشرع


    وإضافة إلى الأسرار الخفية التي لا يعرفها إلا من جربها ، والفوائد الأخلاقية والنفسية الكثيرة التي حف بها الزهد ، فأن له عند الشيخ عبد القادر ، فائدة يمكن أن نسميها (شرعية) وهي الفائدة الأهم من بين تلك الفوائد ، وهي تتمثل في منع دخول ما خالط حراماً أو شبهة إلى بدن الإنسان. وفي علم الصوفية ، فإن للشبهة والحرام أثراً فعالاً في غلق كثير من نوافذ القلب وتضييق ما اتسع من فضاءات الروح. ويزخر التراث الصوفي الإسلامي بكثير من القصص التي تدعم هذا الرأي وتؤيده. فأما الوقاية من ذلك ، فتكون عن طريق التمسك بالورع والتقوى ، اللذين أعطاهما المريد حقهما في سلوكه واتخذهما منهجاً ثابتاً في جميع معاملاته وعباداته ، فأنه سينجو من كثير من مصائد الدنيا وافخاخ الشيطان وسيكون من القوم اللذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون وكما يقول الشيخ عبد القادر: ((فليأكل ولا يبالي))(4) ولا يكون ذلك عن إفراط أو تفريط ولكن لأنه سوف يأكل بغير حظوظ النفس ، ومن أكل بغير حظوظ نفسه ، فأنه سوف لا يأكل إلا من أقسامه التي قسمها الله تعالى له وهذه بالتأكيد لا تخالطها الشبهات.
    الزهد والحب الإلهي


    ويمكن للزهد أن يكون رديفاً للحب الإلهي ، فالزهد الذي يعني حصراً ، الفقر والتجرد التام والانسلاخ عن كل ما هو مناقض ومزاحم لحب العبد مولاه ، إذا تشرب كل ما بقلب المريد ، فأنه سيزيل عنه محبة كلما خلق الله تعالى من زينة ومتاع سواء ما كان له تعلق بهذه الحياة الدنيا ، أو ما كان يرتجى حصوله في الآخرة ، وفي عرف الصوفية ، فأن حب الدنيا وحب الآخرة وحب الله تعالى ، تعد كلها مرادات للعباد ، كل حسب مرتبته ومقامه على أن أصناف الحب الثلاثة تلك ، لها تعلق أحدها بالآخر ولكنه تعلق هيمنة ومحق ، إذ لا يمكن أن يتعايش إثنان منها في قلب واحد وفي وقت واحد فمن أحب الآخرة وعمل لها عملها ، فأن عليه أن يزهد في الدنيا ، كي يزيحها عن قلبه ويخليه لضرتها ، فأما من سعى إلى مرضاة ربه واجتهد لبلوغ مقام محبته ، فأن عليه ان يزهد في الآخرة أيضاً ، أي بمعنى أن يترك العبد دنياه لآخرته وآخرته لربه ، لأنه ما دام في قلبه ميل لرغبة من رغبات الدنيا أم الآخرة فهذا يعني أنه لا زال ليس بزاهد حقاً وإنما متزهد.

    فأما إذا ما تم الأمر في حقه ، وأصبح حاله في الزهد مؤكداً ، فهذا يعني أنه قد نال النعيم الدائم و ((زالت الغموم والأحزان عن قلبه ، وجاءته الراحة والطيب والأنس بالله))(1) وهو معنى قول النبي محمد (r): "الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر"(2) على أن هذا الحال يأتيه تباعاً وبالتدريج ، فهو يبدأ من غربة المريد في الدنيا وطمعه في أن يعوض عنها خيراً في الآخرة ، فإذا ما اجتهد في زهده ، طامعاً في مزيد من القرب من رب العالمين ، فأنه سيكون من العارفين ذوي الغربة في الدنيا والآخرة ، ممن أدركتهم يد الغيرة الإلهية ومنعت عنهم شواغل الدنيا والآخرة وأزالت عن قلوبهم جميع العلائق وعلمتهم أنها حجاب تحول بينهم وبين ما يطمعون إليه من القرب ، وحينئذ فقط – أي بتدخل القدرة والعناية الإلهية – يتركون الاشتغال بالخلق(3).

    وتجدر الإشارة هنا ، إلى أن كثرة تأكيد الشيخ عبد القادر ، ودعوته إلى الزهد وترك الدنيا والخلق وإماتة الجسد والإرادة والتخلص من كثير من الطبائع والشهوات لا يمكن أن يفهم بالمعنى الظاهري للكلام، وإلا لبطلت أسباب العيش وتعطلت الحياة بجميع مفاصلها ، بما في ذلك كلام الشيخ عبد القادر نفسه ووعظه الناس وإرشادهم. إن مطالعة بسيطة للحياة الاجتماعية للشيخ عبد القادر ولتلاميذه ومريديه تؤكد أنهم مارسوا حياتهم بصورها الطبيعية كافة ، وإنهم لم يهملوا أي جزء منها. ويذكر التاريخ أنه قد تسلم كثير منهم وظائف مرموقة واشتغل آخرون بالزراعة والتجارة ، وأن الشيخ عبد القادر كان يبعث بأولاده إلى أصقاع بعيدة لأجل تحصيل العلوم والمعارف ، ومما يذكر أيضاً ، وبصورة مؤكدة ، الدور المهم لمريدي الشيخ عبد القادر في الدفاع عن حياض المسلمين ضد الغزو الصليبي(1). إذن فما يقصد بالزهد والترك والتجرد التام ، عند الشيخ عبد القادر ، هو أنه تجربة نفسية أخلاقية تخص معاملات الباطن ، أولاً وقبل كل شيء ، لأن التصوف الحقيقي ، متوجه برمته إلى أعمال القلوب والخواطر ، ولعه من البدائه الأولية في علم الصوفية ، هو اعتقادهم بأنه لا خير في كثير من المجاهدات الشاقة التي لا تتجاوز مساحة الجسد ، ولا خير في كثير من الأذكار والأوراد التي لا تتعدى الألسن والشفاه ، لأنها بالتأكيد ستكون مشوبة بالرياء وعارية عن الإخلاص لله تعالى ، ولأنها سوف لا تورث صاحبها إلا الجهد والعناء. نعم إن المريد الزاهد يصوم ويظمأ كثيراً ، ويعتزل الخلق ويعالج نفسه بألوان الحرمان وبالكثير من أنواع الرياضات الشاقة ، ويتخلى أحياناً عن جميع ما يملك ويحب ، ولكنه يفعل ذلك لا بكونه غاية في حد ذاته ، بل لأجل تربية نفسه وترويض هواها ، فأما إن أثمرت تجربته ونجح في إخراج الدنيا من قلبه ، بحيث تساوت عنده الأمور وعطلت رغبته بين المنع والعطاء ، ثم جاءته الدنيا بعد ذلك ، فتناولها بيده دون قلبه ، فأنه لا ضير في ذلك ولا تثريب عليه.



    الزهد من أعمال القلوب


    إن سعي الصوفي الدائب ، إلى إزالة الطباع الفاسدة والأهواء الهائجة والجهل عن نفسه ، هو ما يحمله على الصبر على احتمال جميع أنواع المشاق وألوان الصعاب التي منها الصيام والقيام والتخشن في الملبس والمطعم. على أنه لا فائدة من تلك الأعمال مع وجود هذه النقائص النفسية ، لأنها ستكون كالنفخ في القربة المثقوبة وكما يقول الشيخ عبد القادر: إن هذا الأمر – أي التصوف – لا يجيء بأعمال الجسد وإنما يجيء بأعمال القلوب ، ثم أعمال الجسد(1). وهو يستشهد هنا بحديث النبي محمد (r): "الزهد ههنا التقوى ههنا الإخلاص ههنا. ويشير إلى صدره"(2) إن القلب هو الذي تجليه الرياضات لا الجسد وهو الذي ترفع عنه الحجب ، وهو الذي يزهد في الدنيا وزينتها ، حتى يستوي عنده الحجر والمدر. فهو إذن الزاهد الحقيقي، والمريد الذي لا يمكنه أن يأخذ بيد قلبه إلى ترك حب الدنيا ويغرس فيه بدلاً من ذلك حب الخالق ، فلا ينتظر من سلوكه أية نتيجة أو ثمرة ولا ينتظر أن يرى شيئا من أحوال الصالحين العجيبة أن التي قالوا هم عنها: "إن الملوك لو علمت ما نحن فيه من اللذات لجالدونا عليها بالسيوف"(3) إذن فكل ما يأتي قبل تحقق القلب وزهده ، فهو من قبيل الشرك والرياء ، وكل عبادة أو ذكر لا يصدران عن قلب زاهد ، فهما عاريان عن الإخلاص. على أنه لا يقف وراء تأكيد الشيخ عبد القادر هذا ، أي تأكيده على أهمية أعمال القلوب إلا النية في تطهير التجربة الصوفية وإصلاح نهجها ، وجعل السلوك فيها من اختصاص الصادقين حصراً ، لعجز غيرهم عن التشبه بهم ولاستحالة تلوين السرائر وتزيين النيات.




    علاقة الزهد بالمعرفة


    ومما يمتاز به الزهد عند الشيخ عبد القادر ، ارتباطه الوثيق بالمعرفة ، فهو عنده ليس بسلوك ارتجالي أو عشوائي يقوم فقط على الطاعة العمياء لأوامر شيخ الطريقة ، وإنما هو يرتكز أساساً على المعرفة ، معرفة الإنسان بالدنيا ومعرفته بالنفس ومعرفته بالخلق. ولذلك فأنه يفرق بين زهد الزاهد وزهد العارف ويفضل الثاني على الأول(1). فأما معرفة الدنيا ، فأنها الأساس الصحيح للزهد فيها والأنفة من الخوض في أوحالها ، وأما معرفة النفس فهي أساس مخالفتها والتمكن من السيطرة على نوازعها وتوجيه أهوائها ، وأما معرفة الخلق ، فهي أساس التجرد عنهم وعدم إشراكهم في عطاء الله تعالى ومنعه(2). إذن فالمعرفة المصاحبة للزهد هي خير وسيلة للوقاية من الشر الكامن في جهل الإنسان بهذا (الثالوث) ، إذ كيف يزهد المرء في الدنيا ، وهي الحلوة الخضرة الناعمة ، من دون أن يعرف حقيقتها ومصيرها وكونها سريعة الزوال سريعة التغير والتقلب ، ومن دون أن يعرف أن الذي يجتهد في طلبها ويسعى إلى امتلاكها سيدخل في رهان خاسر ، لأنها تأخذ منه أكثر مما تعطيه ، ولأنها تستعبد عاشقها وتذل طالبها ، على أن أهم حقيقة يُلزم المريد بمعرفتها عن الدنيا وبوضعها ضمن عقائده الراسخة ، هي: أنها - أي الدنيا – لا تملك زمام أمرها بيدها ، وإنما هي مأمورة مسخرة من قبل خالقها ، فهو الذي يعطيها لمن يشاء وينزعها عمن يشاء ، وأنه لا يمكن لأي مخلوق أن يقفز فوق هذه المشيئة أو يتجاوز تلك الحقيقة. هذه هي المعرفة الصحيحة المتعلقة بالدنيا ، فإذا ما توسم فيها الإنسان غير ذلك وظن أن بإمكانه أن ينال منها أكثر مما قسمه الله تعالى له ، فهو حتماً ، وأهم مخدوع وممكور به.

    فأما المعرفة المتعلقة بالنفس الإنسانية ، فأنها تعد أمراً ضرورياً وواجباً لضمان النجاح والتوفيق في السلوك الصوفي برمته ، لن هذه المعرفة ، تعني فيما تعنيه معرفة نوازع النفس وميولها وأهوائها وجهالاتها ورعوناتها ، ومعرفة أنها خليط معقد من الدوافع المتناقضة ، وإنها قد تفتك بصاحبها ، فيما لو تركت من غير مراقبة أو تحجيم. إن معرفة النفس والاستدلال إلى نقاط الضعف ومكامن الشر فيها ، هو من الأهمية إلى درجة أن كثيراً من الفلسفات والنحل والأديان اتخذته شعارً لها(1).

    تبقى أخيراً المعرفة المتعلقة بالخلق ، وهذه لا تقل في الأهمية عن سابقاتها ، فالإنسان اجتماعي بطبعه ، وهو مجبول على العيش مع الآخرين والاحتكاك بهم وإعطائهم والأخذ منهم ، وفي الحقيقة فأن أغلب الخصال الرديئة التي تكدر صفو النفس وتعثر خطوات عروجها نحو بارئها عز وجل ، مثل الحسد والتباغض والبخل والتنافس وطلب المكاثرة والمباهاة… الخ ما هي إلا نتائج حتمية تنجم عن عيش الإنسان وسط بني جنسه. إن معرفة الآخرين تعني بالدرجة الأولى معرفة حقيقة ضعفهم وعجزهم عن النفع والضر ، وهذه المعرفة تتوافق واعتقاد المريد الراسخ بأنه لا نافع ولا ضار إلا الله تعالى. وتعني أيضاً: أن طلب رضا الناس ما هو إلا وهم وسراب. وإن الخلق هم من أكثف الحجب التي تحول بين القلب والتنعم بالأنوار الإلهية ، وما يرفع تلك الحجب إلا التعري عن مطامعهم والتجرد عن علائقهم(2). ولعل من نافلة القول أن نؤكد هنا ، أن الشيخ عبد القادر ، بدعوته إلى معرفة الخلق من أجل اجتنابهم وقطع العلائق معهم فأنه يدعو إلى إزالة أو تحجيم تأثيرهم السلبي على قلب المريد ، أي أنه لا يعني مقاطعتهم والاعتزال عنهم بشكل نهائي ، وإنما يكون ذلك إلى حين ، أي إلى أن يتحقق المريد بالزهد ويبلغ مقام الإخلاص والتقوى والورع ، وأن ينال المزيد من المعرفة بربه والمحبة له. عندئذ يأتيه الثبات واتساع أفق القلب وتأتيه القوة من الله تعالى على تحمل أعباء الناس وأذاهم من دون كلفة ولا نصب، فيقترب منهم ويطلبهم ، وينحصر جل همه في إرشادهم وهدايتهم وتقريبهم إلى بارئهم وقضاء حوائجهم. ومع ذلك فهو لا ينشغل بهم عن ربه طرفة عين ، لا بل إن عمله معهم ، ما هو إلا جزء من ذكره ربه.
    إن المتزهد المبتدئ في زهده ، هو فقط الذي عليه أن يعتزل الناس ويتجنب معاشرتهم وذلك ((لضعف حاله وقلة خبرته))(3) فأما إذا تقدم في خطواته وتيقن من انقطاع همه من الخلق ، في سائر الوجوه والأسباب ، بحيث أصبح الخلق عنده ((كالباب يُرد ويفتح بفعل فاعل وتدبير مدبر))(1) وهو الله تعالى. فإذا صح للمريد هذا الاعتقاد ، وأتم هذا السلوك ، كان موحداً صحيح التوحيد لله تعالى. على أن اعتقاد المريد، بهيمنة الله تعالى وجبروته ، لابد من أن يرافقه اعتقادان آخران ، يتمم أحدهما الآخر ، كي لا يقع في شراك التطرف ، ويكون إما جبرياً أو قدرياً. الأول: أن لا ينسى أفعال الخلق وكسبهم ودورهم في الحياة وفي رسم أقدارهم وتحمل أوزارهم ، وثم مواجهة حسابهم ، وهو الشق الذي يتحقق فيه ، وبشكل مطلق ، العدل الإلهي وتتبين من خلاله حدود حرية الإنسان. والثاني: أن جميع أفعال العباد لا تتم بهم دون الله تعالى ، أي دون مشيئته أو قدرته أو أمره أو تفويضه ، وهذا الاعتقاد يجنب المريد الاشتغال بالخلق دون الخالق ويبين له حدود الحمى التي يحرم عليه تعديها ، وهو معنى قول الشيخ عبد القادر: ((لا تقل فعلهم دون الله عز وجل فتكفر وتكون قدرياً ، ولكن قل: هي لله خلق وللعباد كسب)).(2) وهذه أشعرية صرفة يعلنها (الشيخ) بكل صراحة ، لأنها تلائم منهجه التوفيقي الذي يحاول فيه أن يجمع ويجانس ويربط بين كثير من المعتقدات الإسلامية التي تجد لها في الدين الإسلامي أساساً وسنداً ، ولكنها في ظاهر الأمر تختلف وتتنافر وقد تصل الحال بين معتنقيها إلى حد التناحر.

    علاقة الزهد بالتوحيد


    وكما يربط الشيخ عبد القادر بين الزهد والمعرفة ،فانه يربط أيضاً بين الزهد والتوحيد ي علاقة تكافلية ، فالتوحيد من جهة هو: ((سلم الزهد))(3) ومن جهة أخرى فأن التوحيد لا يصح إلا إذا سبقه زهد صحيح. فالعلاقة إذن ، بين الزهد والتوحيد هي علاقة ترابط ولزوم ، ولعل السبب وراء ذلك يكمن في تشابه الوظائف والمعاني بينهما ، فإذا كان الزهد يعني عنده: قطع الأسباب ومفارقة القلب للإخوان والأقسام(1). وهو فعل لا يمكن أن يفضي إلا إلى التوحيد الفعلي المبني على علم اليقين فإن التوحيد عنده يعني: محول كل متلوح من المحدثات بعين السر.(2) وهو ما لا يتم بغير التجرد والزهد الكامل. إذن فكلا الحالين ، يتفق في المعنى والمضمون ، بحيث يمكننا أن نعرف الزهد / التوحيد في تعريف واحد فنقول: إنه ترك الدنيا وترك الآخرة وترك الشهوات وترك الوجود وترك الحالات والدرجات والمقامات وكل شيء سوى الله سبحانه وتعالى(3). ويمكننا أن نلاحظ هنا أن التوحيد الذي تحقق به العبد بعد الزهد في الدنيا ، يكاد يقترب في معناه من حال وحدة الشهود ، وهو كما مر بنا سابقاً ، أعلى درجات التوحيد التي يمكن أن يبلغها السالك العارف والتي لا يرى بعين سره فيها، غير أنوار وتجليات أسماء وأفعال الذات الإلهية.

    إن جل ما يسعى الصوفي إلى نواله ، هو: تحقيق الصلة الحية مع ربه ، وهو يعلم أن ذلك لا يتم له إلا إذا امتلك قلباً ونفساً وعقلاً ، أي باطناً ذا مواصفات خاصة تلائم الهدف الصعب الذي نذر حياته له ، على أن هذه المواصفات الخاصة لا تأتيه من خارج كيانه أو تلقى عليه أو تغرس فيه ، وإنما هي كامنة في أصل خلقته ، وإنما تظهر إلى الوجود بفعل عامل مساعد واحد ، وهو: الزهد المنهجي ، الذي يبدأ من ترك الدنيا وشهواتها ، ثم الفناء عن النفس وأهوائها ، ثم السعي إلى تصفية القلوب من وارداتها السيئة ومن خواطرها الرديئة ، من أجل تهيئتها لمطالعة الأنوار الإلهية ومراقبة الحق بعين الباطن ، كما تراقب الأشياء عين الظاهر. الزهد إذن في فحواه ، ما هو إلا عملية تهذيب لباطن الإنسان ، كي تمحى عنه جميع الشهوات الزائلة ، وكي لا تبقى فيه إلا شهوة واحدة وهي: ((طلب الله عز وجل والقرب منه ومحبته فحسب))(4) وهذا هو ملاك التوحيد وجماع معناه وملاك التصوف وجماع معناه وملاك حقيقة الوجود وجماع معناها.

    ولكن كيف للإنسان الطالب للزهد ، أن يعيش وسط تلك التناقضات الحادة ، فهو من جهة مجبول على الميل إلى كل مطلوباته من الدنيا ، وفي الوقت نفسه يطمع في الفوز بنعيم الآخرة ، وهو من جهة أخرى مجبول على العيش مع الخلق والتعاطي معهم وهو في الوقت نفسه يتطلع إلى الخلوص إلى ربه وحسن التوجه إليه؟ يرى الشيخ عبد القادر أنه لا وجود لهذه التناقضات على أرض الواقع وإنما هي توجد فقط في قلب المريد الذي يستحيل أن يجتمع فيه خلق وخالق ولا دنيا وآخرة. وأما خارج مملكة القلب فأنه يزول التنافر وتتلاشى التناقضات ويصير من الممكن أن يكون للخلق حضوراً في ظاهر العبد في الوقت الذي يكون فيه للخالق حضوراً في باطنه ، وأن تكون الدنيا في يد العبد والآخرة في قلبه(1) على أن الشيخ عبد القادر ، مع دعوته إلى تناول الدنيا بيد الظاهر دون الباطن ، فأنه لا يترك هذا التناول دون قيد أو شرط ، بل إن هذا الفعل عنده يحتاج إلى متابعة وتأديب وتقويم ، ويتم ذلك عن طريق تزيين العبد لظاهرة ، بآداب الشرع كما يسعى إلى تزيين باطنه بالزهد والتجرد ((ورد أبواب الخلق وإفنائهم من القلب حتى كأنهم لم يخلقوا والعمل على أن لا يرى على أيديهم ضراً ولا نفعاً))(2). الأخذ إذن مباح ولكنه أخذ مشروط ، والترك على العبد واجب ، ولكنه لا يصح ويثمر إلا في أرض القلب ، والجمع بين الأخذ والترك ، هو السنة الصحيحة وهو المعنى الحقيقي للدين.


    علاقة الزهد بالتسليم

    وعند الشيخ عبد القادر ، يرتبط الزهد أيضاً بالتسليم(3). فالتسليم الذي يعني عنده: ترك الاختيار وسلب الإرادة والامتثال لأمر الله تعالى مع ((خلع ثياب الدنيا ولبس ثياب الآخرة والانخلاع من الحول والقوة والوجود ، والاستطراح بين يدي الحق عز وجل ، بلا حول ولا قوة ولا وقوف مع سبب ولا شرك بشيء من المخلوقات))(4) يكاد أن يكون هو المعنى عينه الذي يسعى الزهد إلى امتلاكه والتلبس به ، من أجل أن تصح للمريد عبادته وثم سلوكه الصوفي. إن يقين العبد بعبوديته من جهة ، وألوهية ربه من جهة أخرى ، واعتقاده بأنه محاط بعلم الله تعالى وقدرته وإنه تعالى هو وحده مالك الملك ومقسم الأرزاق وهو المثبت للأقدار وهو الماحي لها وهو النافع وهو الضار وهو المعطي وهو المانع وهو الحافظ الذي يحرص على عبده ويحبه أكثر من حرص عبده وحبه لنفسه ، كل ذلك يدفع به إلى الانخلاع عن حوله وقوته والى الثقة بربه والى حسن التوكل عليه ، والى عدم إشغال القلب بغيره ، لا خوفاً منهم ولا طمعاً فيهم ن وهذه كلها إن كانت تعد من خصائص حسن التسليم لله تعالى ، فأنها في الوقت نفسه تعد من النتائج اللازمة عن الزهد في الدنيا وعرضها.

    إن الزاهد يمضي في زهده ، و يحتمل ما يحتمله من جراء ذلك ، من أجل أن يزيل عن نفسه الكثير من الأدران والشوائب التي تعكر صفو علاقته بربه ، وتعيق خطوات سيره إليه ، والعبد كلما اجتهد أكثر في عملية تطهيره الباطني ، فأن علاقته بربه ستزداد صفاءً وسطوعاً ، وإن أكثر ما يعجل بإنشاء هذه العلاقة وإنجاحها ، هو حسن تسليم العبد لمولاه وعدم اعتراضه على مر قضائه ، وتجدر الإشارة ، إلى أن تسليم العبد لا يمكن النظر إليه بكونه قراراً يتخذ أو نية تعقد مجردة عن الفعل ، وإنما هو عزم وسلوك وسعي ومعاناة ، وهذه جميعها لا يتمكن الإنسان من إتيانها دون زهد ومجاهدة وصبر. وهنا تتوضح أمامنا بصورة أدق ، العلاقة العضوية التي تجمع الزهد بالتسليم ، فمن جهة نرى أن الزهد لا يصح إلا بصدق التسليم لله تعالى ومن جهة أخرى فأن التسليم لا تينع ثماره ويؤتي أكله إلا بصحة زهد وكثرة مكابدة.

    الزهد إذن ، هو الأرض الخصبة التي إذا تعهدها المريد بالصدق والإخلاص فأنها ستنبت له كل ما يسعى إلى تحصيله من المسرات القلبية والثمرات الروحية ، فالزهد الذي يعلم المريد كيف ينفرد عن وجوده النفسي ، وكيف يتنصل من غمد أهوائه وطباعه ، سيفضي به حتماً إلى التفريد ، والزهد الذي يصل بالزاهد إلى الفناء عن شهود الأغيار والأكوان ، والانتباه فقط إلى الموجود الحقيقي الأوحد ، فأنه سيصل به حتماً إلى مقام التجريد ، والزهد الذي بجوهر الوجود الباطني للزاهد ، خالصاً لرب العالمين ، سيصل به إلى التوحيد الحقيقي الذي هو شهود التوحيد. ونحن إذا كنا قد علمنا بأن مقامات التفريد والتوحيد والتجريد ، هي من الأركان الأساسية والمتقدمة في التجربة الصوفية ، بحيث إنه لا ينالها إلا الخلص والخواص من الرجال ، فسيتبين لنا مدى أهمية تجربة الزهد في الفعالية الصوفية برمتها ، بحيث أن درجة نقاء فعل الإنسان وصدقه وصفائه في زهده ، تمتد لتشمل كافة مراحل سيرته الصوفية اللاحقة.

    إذن فالزهد يُعد من المحطات الصوفية الأساسية التي يمر بها السالك باستمرار بحيث لا يمكنه أن يغادرها دون رجعة. وفي الوقت نفسه ، فأن الزهد ، مع كثرة فوائده ، فأنه يحتاج من المريد ، إلى جهد بالغ وعمل جبار ، لأن فيه قلباً تاماً وتغييراً جذرياً للآلية التي ركبت على أساسها طبائع البشر. إذ إن في الزهد الكثير من المخالفة الصريحة للأهواء والميول والخصال والعادات المتجذرة والمتأصلة في جبلة البشر. إن الزهد بدوران عجلاته المعاكس ، هو الذي يجعل من هذه الطبائع ، ولأجل غاية أسمى ، تبدو في نظر الصوفية عقبة كأداء ينبغي تجاوزها أو التخلص منها ، ولو إلى حين. وبهذا الفعل ، يمكننا أن نعد الزهد تجربة أخلاقية فائقة ، تعمل على إلحاق كثير من البشر العاديين في زمرة الأولياء والروحانيين الذين ((سلكوا جادة النبيين والصديقين والصالحين))(1). والذين اتخذوا من الورع والقناعة منهجاً في الحياة وفي العيش مع الناس ، والذين جعلوا بذلك من أنفسهم منارات تنير للآخرين طريقهم وتثبت لهم قدرة الإنسان الأكيدة على تجاوز حدوده الضيقة وعلى الانطلاق نحو آفاق الروح الرحبة ولكن دون إفراط أو تفريط وبموازنة دقيقة وحذرة بين طموحات الروح وواقعية حاجات الجسد.

    الزهد الإيجابي


    ويمكن القول ، وفق هذا المنظار ، إنه لا يمكننا أن نرى في الزهد (الإيجابي) كما وجدناه عند الشيخ عبد القادر ، رهبنة جافة أو نزعة هروبية أو قطعية أبدية مع الآخرين ، أو ان نعده من الدعوات الهدامة والسلبية التي تتعارض وبناء المجتمعات وازدهار الحضارات. إن رجال الصدر الأول من الإسلام ، ما صاروا أبطالاً وقدوات ونماذج تحتذى ، وما دخلوا التاريخ من أوسع أبوابه ، بعد أن كانوا من النكرات المنسيين ، إلا لأنهم ، بعد الإيمان بالله ورسوله ، اتخذوا من الزهد في الحياة سنة وشعاراً ، وعلى العكس منهم ، فما تردى من جاءوا وأبعدهم وانكمشوا على أنفسهم وصار يتخطفهم الناس ، إلا لنهم أقبلوا على الحياة الدنيا بنزق وباندفاع هائج ، أنساهم البعد الآخر الكامن فيهم والهدف السامي الذي وجدوا لأجله.

    إن الزهد البناء والمعقول ، والمقرون بأهداف إصلاحية ، سواء على مستوى الفرد أو الجماعات ، يعني الحياة الحقيقية التي يجب أن يحياها البشر، ويعني بُعد النظر واحترام الإنسان نفسه و ذلك بتميزه عن باقي الكائنات ، ويعني أيضاً: خلاص المجتمعات البشرية من كثير من الأمراض النفسية والاجتماعية التي تقف وراء أغلب الشرور التي يكابدها بني البشر ، والتي يفرزها الشره والحسد والبغضاء وحب السيادة والظهور وهذه كلها تعد من النقائص التي يعالجها الزهد ويعمل على اجتثاثها.

    الزهد إذن ، هو الحقل الأخصب الذي يثمر الصلاح والمعرفة والتوحيد والتسليم وكل الخصال الحميدة التي تعين المريد السالك على الوصول إلى مبتغاه. والزهد هو الحلقة الأولى والوسطى والأخيرة ، في سلسلة التجربة الصوفية الطويلة والمتشعبة. والزهد فيما لو فهمناه بالمعنى الذي أراد أن يوصله لنا الشيخ عبد القادر ، فأنه يبدأ بالتخلي والترك والتجرد عن كل الحظوظ والأقسام ، ولكنه بعد ذلك ، يعود متجاوزاً دور التشنج والمكابدة – أي دور التزهد – إلى دور الصفاء والتمكين والعودة إلى الحظوظ والأقسام بقلب خال إلا من ذكر ربه ، ونفس راضية مطمئنة غير متلفته إلى مطلب حرام أو مكسب شبهة ، أو إلى شره أو بطر. وهذا هو دور الزهد القلبي الذي يورث صاحبه الراحة والأمن.





    (1) الجرجاني – التعريفات – ص120.

    (2) الطوسي – اللمع – ص44.

    (3) المكي – قوت القولب – ج/1 – ص245.

    (1) الكلاباذي – التعرف لمذهب أهل التصوف – ص94.

    (2) يتوافق هذا الرأي مع تعريف الهروي للزهد ، إذ هو عنده: إسقاط الرغبة عن الشيء بالكلية وهو للعامة قربة وللمريد ضرورة وللخاصة خسة – منازل السائرين – ص30.

    (1) النساء /77.

    (2) الحديد / 20.

    (3) الزخرف /35.

    (4) النازعات /39-41

    (1) متفق عليه – عن أنس بن مالك – رياض الصالحين – الأمام النووي – ص165.

    (2) رواه مسلم – النووي – رياض الصالحين – ص166.

    (3) حديث حسن – رواه إبن ماجه – النووي – رياض الصالحين – ص168.

    (4) النووي – رياض الصالحين – ص169.

    (5) القشيري – الرسالة – ص56.

    (1) ينسب الكلاباذي هذا القول إلى الامام علي بن أبي طالب (u) – التعرف لمذهب أهل التصوف – ص93.

    (2) القشيري – الرسالة – ص94-95.

    (1) للمزيد من التفصيل – يراجع: محمود العويسي – حركة الزهد في العراق في القرنين الهجريين الأول والثاني – رسالة ماجستير – جامعة بغداد – 2000 م - ص45 فما بعدها.

    (1) الجيلاني – جلاء الخاطر من كلام الشيخ عبد القادر –ص76. وفي هذا المنحى يقول الشيخ عبد القادر: أن لفظ الجلالة (الله) هو الاسم الأعظم ، وإنما يستجاب لك إذا قلت الله وليس في قلبك غيرة. الشطنوفي – بهجة الأسرار ومعدن الأنوار – ص68.

    (1) الجيلاني – الغنية لطالبي طريق الحق عز وجل – ج/3 – ص1300.

    (2) الشطنوفي – بهجة الأسرار ومعدن الأنوار – ص47.

    (1) الجيلاني – فتوج الغيب – ص12.

    (2) الجيلاني – الفتح الرباني والفيض الرحماني – ص344.

    (1) محمد عمارة – المعتزلة ومشكلة الحرية الإنسانية – ط/2 – بغداد – 1984- ص137.

    (2) الجيلاني – سير السلوك الىملك الملوك – مخطوطة.

    (3) لقوله تعالى: "وإذا أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين". الأعراف/172.

    (4) الجيلاني – المصدر نفسه.

    (1) لقوله تعالى: "وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين" البقرة /31.

    (2) الجيلاني – جلاء الخاطر من كلام الشيخ عبد القادر – ص37.

    (1) البقرة/ 249.

    (2) الشطنوفي – بهجة الأسرار ومعدن الأنوار – ص88.

    (3) الجيلاني – فتوح الغيب – ص139.

    (4) الجيلاني – الفتح الرباني والفيض الرحماني – ص370.

    (1) الجيلاني – فتوح الغيب – ص119.

    (2) رواه مسلم – النووي – رياض الصالحين – ص168.

    (3) الجيلاني – الفتح الرباني والفيض الرحماني – ص222.

    (1) للمزيد من التفصيل حول هذا الموضوع – راجع د. ماجد عرسان – هكذا ظهر جيل صلاح الدين وهكذا عادت القدس – السعودية – ط/1 – 1985.

    (1) الجيلاني – الفتح الرباني والفيض الرحماني – ص23.

    (2) سنن أبن ماجة – ج/2 – ص1373.

    (3) ينسب هذا القول إلى الجنيد البغداداي (ت 298هـ )- الرسالة القشيرية – ص31.

    (1) الشطنوفي – بهجة الأسرار ومعدن الأنوار – ص56.

    (2) الجيلاني – جلاء الخاطر من كلام الشيخ عبد القادر – ص85.

    (1) وهو شعار: "إعرف نفسك" الذي كان مكتوباً على باب معبد دلفي والذي تبناه سقراط بكونه أهم مبدأ من مبادئ فلسفية التهكمية. ناجي التكريتي – الفلسفة الأخلاقية الأفلاطونية عند مفكري الإسلام – ص24.

    (2) الجيلاني – الفتح الرباني والفيض الرحماني – ص26.

    (3) الجيلاني – المصدر نفسه – ص95.

    (1) الجيلاني – رسالة في التصوف – مخطوطة.

    (2) الجيلاني – المصدر نفسه.

    (3) الشطنوفي – بهجة الأسرار ومعدن الأنوار – ص52.

    (1) الشطنوفي – المصدر نفسه – ص53.

    (2) الشطنوفي – المصدر نفسه – ص52.

    (3) الجيلاني – جلاء الخاطر من كلام الشيخ عبد القادر – ص24.

    (4) الجيلاني – الفتح الرباني والفيض الرحماني – ص158.

    (1) الجيلاني – الفتح الرباني والفيض الرحماني – ص149.

    (2) الجيلاني – المصدر نفسه – ص193.

    (3 ) يعطي الشيخ عبد القادر (لمقام) التسليم ، أهمية كبيرة ي نظريته الصوفية ، لأنه يرى فيه عماد التصوف وأساسه ، ويمكن أن نلمس هذا الاهتمام خاصة في كتابه الأهم (فتوح الغيب) إذ لا يخلو فصل منه من دعوة إلى التسليم لله تعالى والى ترك المطالبة والكف عن مطاولة الأقدار.

    (4) الجيلاني – الفتح الرباني والفيض الرحماني – ص44.

    (1) الجيلاني – الفتح الرباني والفيض الرحماني – ص98.


    تعليق


    • #3

      الذكــر


      لا يذكر (الذكر) عند الصوفية ، إلا ويعني حصراً: ذكر البعد ربه بكل أنوع الذكر الخفي والجهري والفردي والجماعي. وهو لا يرد عندهم إلا ويأتي معناه على الضد من الغفلة والنسيان ، أي أن الذكر يعني: التخلص من الغفلة والنسيان وبهذا المعنى فهو يأتي على ثلاث درجات(1): الأولى تخص الذكر الظاهر من ثناء وحمد ودعاء ، وهو ذكر المبتدئين الحاضرين في ذكرهم والطالبين للأعواض. والثانية الذكر الخفي: وهو الخلاص من الفتور والبقاء مع الشهود ولزوم المسامرة.وهذا هو ذكر الخواص من الرجال وهو يمتاز بالتواصل ويتحقق فيه ذوق الشهود ولكن تشوبه شائبة، وهي حضور ذات الشاهد فيه. وأما الثالثة ، فهي تخص الذكر الحقيقي: وهو شهود ذكر الحق إياك والتخلص من شهود ذكرك ومعرفة إفتراء الذاكر في بقائه مع ذكره. أي التحقق في الإخلاص التام وغياب الشاهد وفناؤه في المشهود ، وهذا هو أقصى درجات الوصول التي يمكن أن يبلغها الصوفي وهي كما نرى تتحقق من خلال الذكر.

      إذن فالذكر هو الركن القوي في طريق الحق سبحانه وتعالى ، بل هو العمدة في هذا الطريق ولا يصل أحد إلى الله تعالى إلا بدوام الذكر. وهو يأتي على ضربين: ذكر اللسان وذكر القلب. فذكر اللسان به يصل العبد إلى استدامة ذكر القلب ، لأن التأثير هو لذكر القلب ، فأما إذا كان العبد ذاكراً بلسانه وقلبه ، فهو الكامل في وصفه في حال سلوكه ، فإذا اقتصر على أحدهما ، فالثاني أفضل(2). ويشترط في الذكر بكل أنواعه أن يكون خالصاً لوجه الله تعالى ، وإلا فهو إلى الرياء أقرب.

      الذكر في الكتاب والسنة


      وأما مشروعية الذكر ، فقد وردت في القرآن الكريم آيات كثيرة تحث المؤمنين على الذكر وتدعوهم إلى الإكثار منه وتنبههم إلى إقتران ذكر ربهم لهم بذكرهم ربهم كقوله تعالى: "فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون"(1) وقوله تعالى: "واذكر ربك كثيراً وسبح بالعشي والأبكار"(2) وقوله تعالى: "والذاكرين الله كثيراً والذاكرات"(3) وهذه الآية تشير إلى تعميم فعالية الذكر على كلا الجنسين وعدم تخصيصها بالرجال وحدهم. وقوله تعالى: "يا أيها اللذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً"(4) وهو ما يتضمن أمراً مباشراً بالإكثار من الذكر يكاد أن يدنيه من الفرض الواجب.

      وأما في الحديث النبوي الشريف ، فقد روي عن النبي محمد (r) قوله: "إن الله عز وجل قال: أنا مع عبدي إذا هو ذكرني وتحركت بي شفتاه"(5). وقوله (r) بعد أن سئل عن أحب الأعمال إلى الله تعالى فقال: "أن تموت ولسانك رطب بذكر الله تعالى"(6) وقوله (r): "مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه ، كمثل الحي والميت"(7) وقوله (r): "إذا مررتم برياض الجنة فأرتعوا ، قالوا وما رياض الجنة يا رسول الله ، قال حلق الذكر"(8).




      أقوال المشايخ في الذكر


      وقد قال شيوخ التصوف في الذكر أقوالاً عديدة وعرفوه بتعريفات كثيرة منها قول ذي النون المصري: من ذكر الله تعالى ذكراً على الحقيقة ، نسي في جنب ذكره كل شيء وحفظ الله تعالى عليه كل شيء وكان له عوضاً عن كل شيء(1) وقول أبي يزيد البسطامي وقد سئل: ما علامة العارف؟ فقال: إلا يفتر من ذكره ولا يمل من حقه ولا يستأنس بغيره(2) وقول الجنيد البغدادي: ((الغفلة عن الله أشد من دخول النار))(3) وقول أبو بكر الكتاني (ت 322 هـ): ((الغافلون يعيشون في حلم الله والذاكرون يعيشون في رحمة الله))(4). ويرى الكلاباذي أن حقيقة الذكر: ((ان تنسى ما سوى المذكور في الذكر لقوله تعالى: "واذكر ربك إذا نسيت"(5) يعني إذا نسيت ما دون الله تعالى فقد ذكرته))، ويشترط في صحة الذكر ، طرد الغفلة من القلب ، لأن الغفلة إذا ارتفعت فأن العبد يكون ذاكراً وإن سكت ، كما يشترط في صدق الذكر حصول المشاهدة وهو معنى قول الجنيد البغدادي: ((من قال الله من غير مشاهدة فهو مفتري))(6) أي أن ذكره سيكون مقصوراً فقط على لسانه دون قلبه ، لأن المشاهدة لا تتم إلا مع صحة ذكر القلب.

      فوائد الذكر

      فإذا ما علمنا بأن المشاهدة هي من أكثر محاصيل المعرفة نضجاً ويقينية أمكننا أن نستشف من خلال ذلك ، أن الذكر هو من أهم وسائل الصوفية لتحصيل المعرفة ، ويمكننا أيضاً أن نقع على السبب الذي يقف وراء عزوف الصوفية ، بعامة عن الخوض في المسائل العقلية ضمن حدود حقلهم المعرفي ، لأنهم يستعينون بالذكر بدلاً من التأمل العقلي ، سعياً وراء إشباع ضمأ عقولهم لاعتقادهم بأن العقول الصافية إذا ما تطلعت حقاً إلى خفقان بنود العظمة الإلهية ، فأن عيونها ستزيغ وإن نواظر أفهامها ستدهش ، ولا يكون أمامها من سبيل إلى مطالعة تلك الهيبة إلا مداومة الذكر. فأما ما يلجأ إليه الآخرون في سعيهم لتطمين تلك الرغبة ، بالاستعانة بالوسائل العقلية والنظرية، فأنه في نظر الصوفية ، يهدئ من تلك الرغبة ولكنه لا يشبعها.

      وإضافة إلى المعرفة ، فأن الذكر يعد عند الصوفية ، من بين الوسائل الأهم في تحقيق صلة العبد بربه وبلوغ القرب منه. إن الذكر بجلائه القلوب وتطمينه النفوس فأنه يهيئ العبد ويعده. لتلقي الأنوار القدسية ، والله تعالى ، هو المنبع الأوحد لهذه الأنوار وهو معينها الأبدي الأزلي وإن الاشتغال بذكره سيؤدي حتماً إلى الاستزادة والتحلي والتزين بهذه الأنوار ، والى جانب ذلك فأن الذكر يجعل الذاكر يستغرق بكلتيه في موضوع الذكر ، أي المذكور وهو الله تعالى ، فيغفل عمن هو سواه ، ويذوق بذلك حلاوة التوحيد الشهودي الذي يستعصي إدراكه على غير الذاكرين.

      وإضافة إلى الفوائد الروحية الجمة للذكر ، فأن له أيضاً فوائد شرعية تعد في الوقت نفسه عوامل مساعدة في تعجيل المعراج الروحي للمريد ، فالذكر الذي يجعل المريد على صلة دائمة بربه ، في عباداته وفي خارجها ، يورثه الحياء منه ويتركه يقظاً متأهباً فلا يغفل عن مراقبة ربه ولا يجرؤ على معصيته ولا يقصر في حقه وهو في كل ذلك يكون ممتلئاً خشوعاً وهيبةً.

      أهمية الذكر وأنواعه


      إن الذكر هو الفعالية الأهم من بين فعاليات التصوف الإسلامي ، فهو يضفي على بقية الفعاليات التي يأتيها المريد ، صبغة إيمانية وشرعية ، إذ يمكن لجميع الناس ومن مختلف الملل والأديان أن يزهدوا في الدنيا وملذاتها ويعتزلوا الناس ويمارسوا كل أنواع الرياضات الروحية والمجاهدات النفسية ، ولكن وحدهم صوفية الإسلام يمكنهم أن يكونوا زاهدين ذاكرين وعاكفين ذاكرين وأصحاب مجاهدات ذاكرين.. الخ ، أي أن أعمالهم ورياضاتهم ستكون مقرونة بهدف الوصول والقرب من الله تعالى دون غيره. إن المداومة على الذكر هي التي تلحق الصوفية بالذاكرين والإعراض عنه هو الذي يلحق غيرهم بالغافلين ، وإن كل صوفي لابد من أن يكون ذاكراً بكل أوقاته وبقلبه ولسانه وكل جوارحه ، وإلا فأنه سيعد ناكثاً للعهد وسيخرجه ذلك ، إن أصر عليه, من ديوان الرجال.

      ثم أن الذكر لا يمارس بصيغة واحدة أو في وقت محدد فقط ، إذ تعارف شيوخ التصوف على عدة أذكار، فذكر باللسان وذكر بالقلب وذكر خفي وذكر جهري وذكر مفرد وذكر جماعي ، مع الترجيح أحياناً ، لهذا الأخير على سابقه ، وكذلك فأن هناك أذكاراً عامة لكل الأوقات وأذكاراً مخصوصة لأوقات محددة ، فذكر الصباح وهو الذي يعقب صلاة الصبح وذكر العشاء الذي يعقب صلاة العشاء وكذلك ذكر العصر وغيره(1)، ولكن بشكل عام فأنه ليس للذكر وقت محدد يصلح فيه دون غيره ، إذ إن العبد في عرف الصوفية ، مأمور بأن يذكر ربه في جميع الأزمنة وفي كل الأماكن وهذه الميزة في الذكر ، يرى الصوفية أنها تفضله وتعليه على بقية العبادات التي لا تخل من التقيد بوقت دون آخر ، ولعل الدليل على هذا الترجيح هو أن الله تعالى قد شرف الذكر إذ ألحقه بنفسه ، وذلك في قوله تعالى: "إذكروني أذكركم"(2).

      وقبل الدخول في موضوع الذكر عند الشيخ عبد القادر ، لابد من الإشارة أولاً إلى أن الذكر بوصفه فعالية عبادية ، والذي يبدو في ظاهر الأمر ، من بين العبادات البادية الفائدة والوافرة البركة والكثيرة الأجر ، والمتفق عليها بشكل مطلق ، وفي الوقت نفسه من القربات الاستثنائية التي ندب إليها الشارع وأمر بالاستزادة منها بلا حدود ، هو في حقيقة الأمر ، أو بالأحرى في التفاصيل التطبيقية ، يُعد من بين مسائل الخلاف الحادة القائمة بين الصوفية والفقهاء ، فالأولون من جانبهم ، يرون في الذكر ، بأشكاله وصيغه وأوقاته كافة ، فرض عين على كل مسلم بالغ عاقل ، بينما يرى فيه الفقهاء وبالتحديد بصيغته المعهودة عند الصوفية ، الكثير من المبالغة والغلو ، لأن الذكر (الشرعي) من وجهة نظرهم ، ينحصر فقط في أداء الفرائص وإتمام نوافلها وسننها والتواصل مع الأدعية المرتبطة بها ، وأما كل ما عدى ذلك فهو من قبيل البدعة والتنطع في الدين وفي مواجهة هذه النظرة ، ذات التأثير الفعال في بعض الأحيان ، نجد الصوفية يجتهدون وبشكل متواصل ، في دعم مقولاتهم وفعالياتهم ، بأسانيد مستنبطة من الكتاب والسنة ، لا سعياً وراء سد ثغرة شرعية وإنما دفعاً لذرائع الخصوم ومقارعة للحجة بالحجة.

      الذكر عند الشيخ عبد القادر


      فأما إذا دخلنا في صلب الموضوع ، فأننا سنجد أن الميزة الملفته للنظر في (النظرية الصوفية) عند الشيخ عبد القادر تكمن في أن كل فقرة أو قسم أو ركن فيها يبدو فيما لو أخذ وحده ، وكأنه هو الأساس والقاعدة والأصل ، الذي بغيره لا يقوم لباقي البناء الصوفي كيان ، وهذا الحال رأيناه ينطبق سابقاً على الزهد وعلى المحبة وعلى الإخلاص وعلى جميع المقامات الصوفية الآنفة الذكر ، وهو الآن ينطبق على (الذكر) الذي سنلاحظ أن يتقمص الدور نفسه ويبدو للآخرين وكأنه يمثل جماع لحمة وسدى النسيج الصوفي عند الشيخ عبد القادر. وأما سبب ذلك فهو يتعلق بطبيعة هذه (النظرية) التي عرفنا أنها ذات قوام عضوي متلاحم ومتكامل ومتداخل بعضه مع بعضه الآخر ، وما تم الفصل والتقسيم بين أجزائها ، إلا لغرض إجرائي يهدف إلى توضيح الأمور وتقريبها من إفهام الناس.

      وعليه فيحق لنا أن نقول: إن التجربة الصوفية عند الشيخ عبد القادر ، بجميع أبعادها وبمراتبها كافة ترتكز أساساً على فعالية الذكر ، وليس في ذلك أدنى مبالغة ، لأن جميع الصوفية في الإسلام ، هم ذاكرون بالضرورة ، ولا يمكن لأي إنسان أن يتزيا بزي الصوفية أو حتى يتشبه بهم وهو تارك للذكر ، فبالذكر تنجلي القلوب بعد صدئها وتتنور بعد عتمتها(1) وتفتح مغاليقها ، وبالذكر تصح النفوس وتتجاوز هفواتها وتسمو على نقائصها ، والذكر وحده هو الذي يكرس العبد لمحبة مولاه ، لأن الحب بأدق دلالاته يعني الذكر ، ولا يمكن لأي إنسان أن يتخيل محباً غافلاً عن محبوبه أو عاشقاً ساهياً عن معشوقه ، والذكر أيضاً لا تصح فروضه ، إلا إذا توجه الذاكر بقلبه وعقله ولسانه حصراً نحو الله تعالى ، فهو إذن يأتي بمعنى الصلاة ، والذاكر الصادق في ذكره هو في صلاة حية ومتواصلة مع ربه ، لأنه إذا كان المغزى من الصلاة هو إنشاء معادلة صلة ، طرفاها العبد والرب إذ يواصل العبد ربه بالتضرع والخشوع والدعاء ويواصل الرب عبده بالرحمة والقبول والاستجابة ، فأن الذكر ما هو في حقيقته إلا محاولة لتحقيق هذه المعادلة على أتم وجه ومن أقرب الطرق(1) وهذا هو موطن الأهمية في الذكر عند الصوفية.

      الذكر والتوحيد


      واستناداً إلى نظرية الترابط العضوي بين أجزاء البناء الصوفي عند الشيخ عبد القادر ، فأن الذكر يأتي عنده أيضاً بمعنى التوحيد ، فالعبد الذي لا يخلص في ذكره ربه ، فأنه بالضرورة سيشتغل بذكر غيره ويتعلق به ويرجوه ، ومن كان هذا فعله فهو مشرك حتماً ، لأن القلب في عرف المحبين ، لا يتقبل مذكورين اثنين ، فأما خالق وإما خلق ، ولا مجال هنا حتى للوسط (الذهبي) ، لأن السالك الذي يسعى إلى مزيد من القرب والحب لمولاه ، سيعمل جاهداً على قطع جميع العلائق التي تربط قلبه بالأشياء والآخرين ، ويكون ذلك ، خاصة ، في بداية سلوكه الصوفي ، أي حينما يكون متزهداً غير مالك زمام نفسه وأهوائه ، فأما بعد ذلك ، أي بعد بلوغ حال التمكين وبعد أن يتشرب قلبه بمحبة مولاه ، فأنه ستزول عن هذا القلب الكثير من الرغبات الزائدة التي كانت تضعه في حالة استلاب وعبودية تجاه الأشياء. فأما بعد ذلك ، فأن محبة الله تعالى هي ذاتها ستعظم وتمتد لتشمل جميع ما خلق وبرأ وأمر.

      إن اشتغال قلب العبد بذكر المرغوبات والمطلوبات يعد في عرف الصوفية شركاً صريحاً ووثنية ظاهرة ، مما يحتاج معه إلى فأس إبراهيم الخليل (u)(1) وإصراره وإخلاصه كي تزال ويتطهر منها معبد القلب فيتأهل من جديد ليكون عرشاً للرحمن. وهذا الفأس لا يعني في الحقيقة ، إلا المداومة على ذكر الله تعالى ، فهذا الفعل هو وحده الكفيل بتحطيم تلك الأصنام التي هي كل ما سوى الله عز وجل ، كما يقول الشيخ عبد القادر فأن: ((القلب لا يصلح للتوحيد ولا يفلح في المحبة ، حتى يترك كل محبوب ويقطع كل موصول ويزهد في كل مخلوق))(2). أي حتى يخلص في ذكره لمذكور واحد وهو الله تعالى ، ومن غرس هذا الذكر ، يثمر التفريد والتمجيد والتعظيم وتثمر المحبة ويثمر القرب ، وهذه هي مقاصد القوم ومطامحهم.

      الذكر والفناء


      غير التوحيد ، فان الذكر يمكن أن يعد عاملاً أساسياً ومهماً في التعجيل في وصول السالك إلى حال الشهود والفناء في الله تعالى. لأن الذكر الذي يعني انشغال العبد بكليته بالله تعالى ، وانشغاله المطلق عن الأغيار ، بما في ذلك النفس والهوى والإرادة وكل الخلائق ، يدفع به إلى تغييب تلك الأغيار ومحوها ، وثم الخلوص لرب العالمين والاستعداد للدخول في حال الفناء الشهودي ، الذي تكون فيه مرآة القلب مجلوة ومهيأة لتلقي الأنواء الإلهية ، وهي حالة الصفاء التام التي تؤهل المريد للدخول في مرحلة التصوف الحقيقي واكتساب لقب الصوفي. ولكن الصوفية بما امتازوا به من جرأة في طرح أفكارهم ونظرياتهم ، يرون أن الذكر ، رغم أهميته الشرعية والعبادية يصبح دون معنى عند عبور المريد بوابة الشهود ، فأين يكون محل الذكر عند تحقق اللقاء والذكر بطبيعته يفترض غيبة المحبوب؟ الذكر إذن يعد عاملاً مساعداً على دخول المريد في حال الشهود ، فأما إذا تم الأمر وتحققت الغاية، فإنه يصبح بلا معنى.


      الذكر والحب الإلهي


      والذكر أيضاً يعني صدق المريد في محبته لربه لأنه يدل على التضحية والإيثار ، تضحيته بكل ما يرغب ويشتهي من حظوظ النفس وأهوائها ، وإيثاره لإرادة محبوبه على كل ما سواها من الإرادات. وإن من صدق المحبة أن لا يفتر العبد عن ذكر ربه لحظة ، لأن من فتر عن ذكر ربه فأنه ((ما عرف قدر جلاله ، ولا لحظ أزلية وحدانيته من التفت بعين سره إلى غيره))(1) إذن فأصل المحبة متعلق أولاً بإرادة المحب وتوجه قصد مرامه لطلب المحبوب ، وهذا ما يجسده الذكر الذي إن داوم عليه العبد فأن الله تعالى سيحمله بجناح لطفه إلى مقعد صدق عنده وهذا (المقعد) هو الذي يفضي به إلى المحبة. فأما إذا تمت المحبة ، وملأ المحبوب فضاء قلب المحب كله وملكه عندئذ تسقط الإرادة عن المحب وتكون بواعثه مستمدة من إرادة محبوبه ، وهذه كما يسميها الشيخ عبد القادر ((حالة المحبة الخالصة)) (2) وهي للمحبين الذين لا يفترون عن ذكر محبوبهم خاصة فإذا ما سمع هؤلاء المحبون ذكر محبوبهم لهم ، فسيعتريهم حبور عظيم ، لدخولهم في حال جديد وارتقائهم إلى مرتبة أعلى ، وهي مرتبة المحبوبين المرادين الذين خففت عنهم الأحمال وشملتهم يد العناية الإلهية ، استحقاقاً منهم وفضلاً ومنة من الله تعالى والمحبوبون يكونون بهذه المرتبة قد انتقلوا من حالة الشوق التي تنتفي عند تحقق اللقاء ، إلى حالة الاشتياق التي لا ينفذ لها معين والتي لا يزيدها اللقاء إلا حدة واضطراماً. ولا يفوتنا أن نشير هنا إلى تأكيد الشيخ عبد القادر على الربط العضوي بين أجزاء نظريته الصوفية ، وكما هو واضح ، فالذكر يفضي إلى كل من الزهد والتوحيد والصدق والمحبة في الوقت نفسه ، على أن هذه النظرية لا تختل ولا تهتز أركانها فيما لو استبدلنا الذكر بأي فعالية أخرى من الفعاليات الصوفية لأن النتيجة ستكون واحدة في كل الأحوال.



      مصدر الذكر


      ولا يفوت الشيخ عبد القادر أن يذكرنا أن شوق الإنسان إلى ذكر ربه ، مثله في ذلك مثل كل الأحوال الصوفية الأخرى ، لا يعد فعلاً إنسانياً خالصاً – أي يصدر فقط عن إرادة الإنسان وقصده – وإنما مصدره الأول هو الرحمة الإلهية التي إن هب نسيمها على أرواح الذاكرين ، اهتزت تلك الأرواح طرباً لذلك وسعت إلى الانطلاق من أقفاص أشباحها ، متوهجة بذلك الشوق ، ومن توهجها هذا تستضيء العقول والقلوب وهذا هو معنى الجلاء والتألق الذي يسعى الصوفية ، عن طريق الذكر إلى بلوغه. وكما نلاحظ ، فأن عملية التوهج قد بدأت من الأرواح أولاً ، التي هي الأنفس بعد صفائها والتوهج ما هو إلا عملية تنوير معنوية ، أي معرفية ، يفيض معينها من داخل النفس الإنسانية ، بعد استكمالها شروط الجلي المطلوبة والتي مررنا بها سابقاً عبر محطات الزهد والمجاهدة وأنواع الرياضات الروحية ، والتي جاء عامل الذكر أخيراً ، كي يمنحها القدح المطلوب لكل هذا التوهج. على أن هذه المعرفة وإن كانت ذاتية المصدر إلا أنها لدنية الأصل ، لأن مصدرها الحقيقي هو المعرفة الإلهية المغروسة في أصل الفطرة الآدمية والتي لا تخرج إلى حيز الوجود إلا بعد أن تتواصل مع منبعها الإلهي عبر قنوات النور التي ينشئها الذكر. ولعل من نافلة القول أن نشير إلى أن كون الشوق الإنساني إلى الذكر يبدأ من خارج ذاته ، فأن ذلك لا يلغي دور الإنسان في التواصل وهذا هو بالضبط ما يميز الذكر من الحب الإلهي عند الشيخ عبد القادر ، فالذكر هو مقام طلب وقصد ، وهو مما يشير إلى الافتقار إلى إرادة العبد ، بينما الحب الإلهي وهو التحفة الربانية الخالصة ، فأنه من محض الاصطفاء وليس للعبد فيه كسب ولا اختيار، ولذلك نجد أن الله تعالى قد قدم ذكرنا على ذكره كما في قوله تعالى: "إذكروني إذكركم"(1). بينما قدم محبته على محبتنا وذلك في قوله تعالى الذي يصف فيه المؤمنين "يحبهم ويحبونه"(2) وفي الخلاصة فإن الذكر يمكن أن يعد من بين الفعاليات الصوفية المزدوجة المصدر ، فهو فتح من الله تعالى من جهة وقصد من العبد من الجهة الأخرى.

      الأذكار القادرية


      لقد وضع الشيخ عبد القادر لمريديه ، مجموعة من الأذكار أو (الأوراد) كما تعارف على تسميتها أتباعه ، وهي عدد معلوم ومحدد من أسماء الله الحسنى ، مرتبة ترتيباً يتوخى التدرج في نوال الفوائد الروحية وفي تخليص النفس الإنسانية ، قدر الإمكان من أدرانها ونقائصها(1). أول هذه الأوراد هو ورد: (لا إله إلاّ الله) وهو الأهم من بينها ، إذ يُلقن للمريد ، بعد أخذه العهد مباشرة ، سواء على يد شيخه الحي أو على يد من ينوب عنه ، والشيخ عبد القادر يعول كثيراً على هذا الورد ، إذ يرى فيه إضافة إلى كونه شعاراً للتوحيد ، خير وسيلة لتخليص الإنسان من شراك نفسه الأمارة بالسوء وللتعجيل في بلوغه مقام الإخلاص ، هذا إضافة إلى أن مداومة المريد على ترديده قلباً ولساناً ، هي التي تؤهله لإكساب صفة الذاكر التي تعد من بين الصفات الأهم عند الصوفية. ويرى الشيخ عبد القادر ، أن لهذا الورد أفعالاً عجيبة يجريها الله تعالى بواسطته ، على قلب الذاكر إذا ما داوم على تلاوته واستكثر من ترديده ، إذ ببركته يتوقد في باطن المريد مصباح ملكوتي ينير له ما خفي واستتر من مكامن التقصي في نفسه ، فيسهل عليه بعد ذلك تجاوزها والتخلص منها ، وهذا (المصباح) يعده الصوفية أول الجذبات القدسية التي تسم المريد ، بميسمها ، فتجعله من الروحانيين ، والمريد كلما استزاد من تلاوة هذا الورد ، ازداد توهج مصدر النور فيه ، مما يعني زيادة قوة هذه الجذبة التي يمكن أن تدفعه ، بمصاحبة المجاهدة وبمساعدة المراقبة والمرابطة ، إلى أعلى درجات الكمال المتاحة ، فيقوى معها على حمل الأمانة الكبرى ، التي هي هداية الخلق وإرشادهم إضافة إلى زيادة استعداده لتلقي الأنوار القدسية والتجليات الإلهية(2).

      ويضاف إلى ذلك أيضاً ، فائدة خفية أخرى لا يدركها إلا من سلك السبيل ، وهي أن الذي اعتاد ، بعد أن أصبح من الذاكرين ، على حياة الطهر والمعرفة والنقاء الروحي سيأنف حتماً من الرجوع إلى حياته السالفة المشوبة بالنقائص والآثام ، وعليه فالطريق المصاحب للذكر هو طريق ذو اتجاه واحد ، يشير إلى علو دون سفل.

      على أن بقية الأوراد لا تخلو من الفوائد الروحية والجوائز الإلهية ، بل إن كل واحد منها يحمل فائدته الخاصة به والتي لا غنى عنها لكل مريد ، وبصورة عامة ، فإن الشيخ عبد القادر ، يرى أن الأذكار ، دون سواها من القربات ، تشتمل على مجامع الخيرات ومصادر السعادات الدنيوية والأخروية ، إضافة إلى كونها دافعة لكل أنواع الضر الجسدي منه والنفسي ، وإن التمسك بتلاوتها والصبر على إتمامها ، يعني المواظبة على السلوك والبقاء على العهد الذي كان نقطة الانطلاق في بداية الطريق على أن أهم فائدة يمكن أن يجنيها المريد من جراء إدمانه على ذكر ربه ، هي أنه يعتاد على أن لا يشغله عن الله تعالى أي شاغل ، حتى لو كان (مطلوباً ومحبوباً)(1) من النفس ، على أن هذا لا يعني التخلي التام والاعتكاف الدائم عن الدنيا والخلق ، وإنما يعني أن لا يشتغل العبد إلا بما هو لازم شرعاً ، وأما غير اللازم فأنه يلهي عن محبة الله تعالى ويودي إلى الغفلة التي بدورها تورث الفشل والمقت والهلكة. إن المريد الذي يغالي في الأخذ بأسباب الجوع والعطش والسهر وأتعاب الجسد ، فأنه قد يحصل على نتيجة معاكسة ، إذ يعجز ، لإفراطه ، عن القيام بواجباته الشرعية(2) التي هي المادة الأساسية للتصوف الصحيح.

      إن الأوراد ما سميت أوراداً إلا لأنها تروي قلوب الذاكرين وعقول العارفين بعد ظمأها كما يرتوي الظمآن من الماء البارد ، لا بل أن الشيخ عبد القادر يرى أن ذكر الله تعالى أعذب من كل الموارد ، لأن منه ترتوي العقول والقلوب والألباب ، فهو عين التوحيد ومرتع الأنس بالله تعالى وإن فيه جلاء لرمد عيون العقول التي طالما غشيتها غواشي الغفلة والنسيان ، فحجبت عنها أنوار جلال ربها وجماله. والذكر ما اكتسب تلك الأهمية إلا لإحتوائه على مجامع الحمد كلها، ففيه تتجلى درر حمده تعالى ولآلي الثناء عليه ومسك شكره ، وهو محمود بكل أشكاله وصيغه ، سواء أكان ذكراً لأسمائه باللسان أم ذكراً لأسراره بالباطن أم ذكراً لتجلياته بالقلب أم ذكر لحقائقه بالسر. وأما ذكر اللسان وهو أول مراتب الذكر، فإن من بين فوائده العديدة، أن العبد لو استرسل فيه فستفتح له بذلك أقفال من قلبه فيرتقي بذلك إلى مرتبة ذكر القلب ، وهو بهذه المرتبة وهذا الذكر سينال درجة القرب من جناب الرحمة الإلهية ، وأما ذكره بلسان لطائف أسرار أمره فأنه سيكون ذاكراً على الحقيقة ، فأن ذكره أخيراً بسره ، فأن ربه سيدنيه من مواطن القدس(1). لأنه سيكون من المحبوبين المرادين اللذين لا يفترون بكل كيانهم قط عن ذكر ربهم.

      الذكر يفضي إلى الرضا والخلود


      يحصي الشيخ عبدالقادر للذكر فائدتين مهمتين يرى أنهما ضروريتان لتربية المريد وبنائه روحياً. أولاهما: الرضا بالله تعالى وموافقته في جميع الحالات ، والثانية: مجاوزة حاجز الموت الطبيعي بالخلود الروحي. إن المريد بمداومته على ذكر ربه وتعويد لسانه وقلبه وسره على ذلك ، فأنه سيكتسب بالتدريج محبة مذكوره والشوق للقائه وملازمة بابه وعدم التطلع صوب غيره ، ومن كان هذا ديدنه ، فأنه سيرضى حتماً بكل ما يواصله به محبوبه ، سواء أكان عطاءً أم ابتلاءً ، فأن كان عطاءً فهو عين الكرم والوصال ، وإن كان ابتلاءً فهو تطهير وامتحان وترقية روحية ، والعبد الذاكر راضٍ بكل ما يأتيه من ربه ، لأنه لسعة رجائه وشدة شوقه وصفاء توحيده وصدق إخلاصه لربه ، لا يرجو عطاءً غيره ولا يأمل دفعاً لضرٍ من سواه.

      أما الخلود ، فأنه متعلق بالقلوب التي جليت بالأذكار والأرواح التي صفت وصقلت بالمجاهدات ، فصارت لا ينالها العطب أو الفناء بموت الجسد ، لأنها تخلصت بفضل الذكر ، من كل ما هو قابل للفناء من الأهواء والعادات السيئة والطباع الرديئة وأصبحت لا تشتمل إلا على الحسن منها مما لا يبلى أو يزول ، لأنه من جنس الخالدات الباقيات ولأنه من جنس الصفات الأخروية والمحسان الربانية ، وبهذه الامتيازات فإنه سيكون لروح الإنسان قوامٌ نورانيٌ ملائكيٌ لا تعطبه النوائب ولا يطفئه. الموت ، بل تنتقل هذه الروح بالموت من حياة إلى حياة أخرى ومن عالم إلى عالم مغاير ، بحيث لا يشكل الموت عندها سوى لحظة تحول أو مجرد نقلة. إن الموت لا يقدر إلا على القلوب الغافلة والنفوس الكدرة ، فأما تلك التي اعتركتها المجاهدات وشفها الذكر وتلبس بها الحبّ الإلهي ، فأنها ستداوم عليه حتى لو لم يصاحب ذلك حركة عضلة اللسان(1). ولكن قول الشيخ عبدالقادر ببقاء نفوس الذاكرين بعد الموت ، لا يعني حصر الخلود فيهم دون سواهم من بني البشر ، لأنه يؤمن حتماً ببعث ونشور كل الناس ويؤمن بخلود الأرواح الشريرة في العذاب وخلود الخيرة منها في النعيم كما صرح بذلك في مواضع كثيرة من كتبه(2). إن ما يشير إليه حتماً ، هو أنه يمكن للنفس الإنسانية ، عن طريق الذكر ، أن تعود إلى طبيعتها الأولى التي فطرت عليها ، والى الصفاء القديم الذي وجد عليه أبو البشر قبل هبوطه إلى أرض الشقاء ، وإنها قد استعادت بالذكر ، درجة قربها من ربها وقرب ربها منها ، بحيث إن الموت لو حضرها فأنه لن يزلزلها عن مكانتها تلك ، فهي سابحة في ملكوت الله تعالى حامدة آلائه ذاكرة عظمته ، وهي باقية على حالها تلك حتى تلاقي حسابها يوم القيامة.

      ذكر القلب

      ان الشيخ عبد القادر، رغم كونه لا يقلل من أهمية ذكر اللسان وفائدته، إلا أنه يعول كثيراً وبالدرجة الأساس على ذكر القلب، لأن القلب هو السيد الآمر والناهي وأما اللسان فهو تبع له وغلام.(3) ولأن صاحب الذكر لا يستحق لقب الذاكر ولا ينال درجته إلا إذا ذكر، إضافة إلى لسانه، بالقلب. ولابد من التذكير بأن القلب الذي يعنيه الشيخ عبد القادر هنا، هو غير تلك العضلة المادية التي تفنى بفناء الجسد، وإنما هو المكمن الروحي الذي تغرس فيه المعرفة والعلم والتوحيد والتوكل والزهد والإخلاص وكل الأفعال الخيرة الأخرى وهذا القلب، هو الذي ان صح وصلح ، صار الذكر وظيفة دائمة له، وصارت من صفاته أنه لا يغفل أو يسكن ان نامت عيون صاحبه، لأن الذكر عنده يعني الحياة الدائمة، ولأن مثله قبل الذكر مثل الأرض الميتة(4)، فإذا ما مسها وابل غيث الذكر، اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج. على ان الصوفية، من ما يزالون حتى الآن، ورغم التقدم العلمي الذي حصر كل الفعاليات المعنوية وغير المعنوية في فص الدماغ, يرون أن القلب هو الأساس والمصدر لكل الأحاسيس والمشاعر والعواطف، وهم يؤكدون، أنه يمكنهم إثبات ذلك عن طريق رياضات وخلوات خاصة،يمكن للمرء من خلالها، ان يرى، رؤية عيان، ما يشتمل عليه القلب من فعاليات وإمكانيات لا يمكن الشك في حقيقتها أو وجودها.
      ان تأكيد الصوفية، بوجه عام، على ذكر القلب، لا يعني قولهم أنه يتحرك بالذكر كتحرك عضلة اللسان، وإنما هم يقصدون من ذلك أن يستجمع الذاكر كل حواسه وعقله وجماع تركيزه، مع مصاحبة الشعور اليقيني بالمراقبة والتمسك بالمرابطة فالذي يذكر بقلبه، لابد له من أن يعي ما يقول، والوعي هو أول مراتب الشهود ثم ان يحس به ثم أن يتمثله. على ان هذه (الشروط) كلها ، يمكن ان لا تتوفر في ذكر اللسان، لأن الذاكر فيه قد يسهو عما يقول أو يتوجه إلى غير تلك الوجهة التي يعلن عنها، ومن هنا تأتي أولى درجات التفضيل عند الشيخ عبد القادر الذي أكده في أكثر من موضع في كتبه، ان الذكر الحقيقي هو ذكر القلب، لا بل ذكر السر(1) الذي يتعاطاه الواصلون الذين إذا ذكروا الله تعالى، وهم لا ينفكون عن ذلك ، فأنهم يشاهدون، ببصائرهم، بدائع ملكوته وآيات عظمته. وبلوغ ذكر السر يدل على صحة ذكر القلب، وصحة ذكر القلب يدل على صحة ذكر اللسان، واجتماع الأذكار الثلاثة يدل على القرب والوصول.

      أقسام الذاكرين


      وعلى اساس أنواع الذكر الآنفة، يقسم الشيخ عبد القادر الذاكرين إلى ثلاثة أصناف وهم: الذاكرون باللسان والذاكرون بالقلب والذاكرون بالسر، فأما الذي يذكر بلسانه فهو العبد الذي أحب أن يتوب من ذنوبه فأرتأى أن يذكر الله تعالى بالتسبيح والتهليل والتكبير، كي يذكره ربه بالرحمة والمغفرة وقبول التوبة، على أن الاستمرار على هذه الاذكار، هو الذي يدفع بالعبد إلى تحري سبل المجاهدات والرياضيات ونيل الدرجات الروحية العالية، أي بمعنى الانخراط الفعلي في السلوك الصوفي وهو ما يؤدي إلى رفعة إلى مستوى ذوي المرتبة الثانية، فاذا ما طمح في المزيد من المعرفة والصفاء، فأنه سيذكر ربه بسره وسيصير من العارفين الواصلين والروحانيين الربانيين، وهم كما
      يسميهم الشيخ عبد القادر: ((رجال الله الذين يقيمون بين الناس بأبدانهم فأما أرواحهم فهي عند مليك مقتدر))(1) وهؤلاء الرجال يكون وجودهم بين الناس مهما وضرورياً لأنهم أعلام هداية يقتدي بهم الخلائق ويقتفون آثارهم بما وهبهم ربهم من الحكمة والمعرفة ومن علم القلوب وطب الأرواح والنفوس، ولولا هذا (الواجب) لكان غيابهم أولى من حضورهم بين الخلق، وهذا الواجب هو الذي يكسب تصوف الشيخ عبد القادر صفة (التصوف الإيجابي) الذي يرفض الاعتزال التام وهجر المجتمعات ويؤمن بضرورة الاندماج مع الناس والأخذ بأيديهم ومساعدتهم من أجل بناء مجتمعات صحيحة الأفراد سليمة المعتقدات متينة الروابط.
      على أن هؤلاء الذاكرين ينقسمون إلى ذاكرين محبين وذاكرين محبوبين. فأما الذاكرون المحبون فهم أولئك الذين انتهجوا ذكر ربهم شغلاً يشغلهم عن سواه وعبادة يتقربون بها إليه. وأما الذاكرون المحبوبون فهم الخواص من الرجال من الذين زالت عنهم الحجب الظلمانية والنفسية ومن الذين ماتوا عن حياة الناس وصاروا يقتدون بالأحوال وليس بالأقوال(2)، أي بعلم القلوب والألهامات الربانية المبنية اساساً على صحة تمسكهم بعلوم الشرائع وآدابها.

      أقسام الذكر

      الذكر من جانبه يقع أيضا على قسمين: ذكر جهري وذكر خفي، الأول يتقدم في الزمان والثاني يتقدم في الرتبة، الأول يتعلق بإرادة العبد وعزمه والثاني يعد من قبيل الأحوال التي تغدقها المنة الإلهية على المحبوبين، الأول يأتي على عدة مراتب والثاني لا تكون له إلا مرتبة واحدة لأنه آخر العطايا وأوفى المنن. فأما مراتب الذكر الجهري فإن الشيخ عبد القادر يوزعها على عدد مراتب النفس الإنسانية وأولها هي مرتبة ذكر اللسان، وهي الخطوة الأولى والأساس في الذكر كله، لأن التمسك بها وتجاوزها بنجاح يعني الاستمرار في السلوك ويعني اكتساب صفة الصبر، وهو ما يعول عليه الصوفية كثيراً في كل مراحلهم اللاحقة. ولهذا الذكر في بداية الطريق فوائد روحية جمة، إذ أن اعتياد المريد على ترديد تلك الاسماء، سيعينه كثيراً على التخلص من كثير من ظلال الاثام والذنوب التي كانت تكدر صفو نفسه وقلبه، ويورثه الحياء من صاحب تلك الأسماء فيمنعه ذلك من كثير من الزلات.
      ثم بعد ذلك يلج المريد إلى محطة الذكر الثانية، وهي مرتبة: ذكر القلب التي تعني مداومة القلب على مراقبة ما ينعكس في ضميره من أنوار الجلال والجمال. فأما الجلال فيورثه الهيبة والقبض والانحسار، وأما الجمال فيورثه الفرح والبسط والانشراح، أي أنه سيكسب من وراء هذا الذكر، حالي الخوف والرجاء وهما عماداً الإيمان ومن دونهما لا يكون قرب ولا يتحقق وصول. ثم تأتي بعد ذلك مرتبة ذكر السر، والتي فيها يراقب العبد بسره مكاشفات الأسرار الإلهية التي تعكس عظمة الله تعالى ومنزلة العبد ودرجة قربه وعلمه. علماً ان السر لا يتميز من القلب في المكان أو الوظيفة وانما هو مجرد تطور معرفي يكتسب من خلاله العبد زيادة في التجريد والانسلاخ عن الأشياء والحاجات، ثم زيادة في اسباب القرب من الله تعالى. وهكذا هي بقية المراتب التالية.
      المرتبة الرابعة هي مرتبة ذكر الخفي التي فيها تتحقق المعاينة الحقيقية لأنوار جمال الذات الأحادية، وهذه المعاينة لا تشبه في شيء المراقبة التي تحققت في المرتبة الثانية هي مراقبة نعم، ولكنها تتم من خلال كل الجوارح والحواس، بحيث لا يبقى منفذ لغير الحدث المنظور، وهو ما يمكن ان نسميه بالفناء الشهودي الذي تنمحي معه كل الموجودات وتنمحق كل المشهودات مخلية مساحة الشهود أمام حقيقة الحقائق والوجود الأوحد المتجلي بالأسماء والصفات والحقائق الفردانية. ثم يأتي ذكر اخفى الخفي في المرتبة الخامسة وفيها يتم النظر إلى حقيقة اليقين، وهو ما لا يتم إلا باذن من الله تعالى ولأفراد قلائل. وهذه المرتبة ذكرها الله تعالى بقوله: (انه يعلم الجهر وأخفى)(1) وهي ابلغ من كل العلوم والمعارف وهي منتهى المقاصد وفيها يقترب العبد كثيراً من درجة الكمال في العبودية، لأن العبد يواجه فيها بفقره المطلق الغنى المطلق والقدرة المطلقة لله تعالى.
      المرتبة السادسة من مراتب الذكر تعود إلى نقطة البداية ولكن في التسمية فقط، لانها من حيث النوع تختلف اختلافاً جذرياً. انها ذكر اللسان من جديد، ولكنه ذكر يمتاز بعمقه الروحي الذي يشمل كل مساحة القلب والسر والخفي وانتهاءً بأعمق اعماق اخفى الخفي. وهذه المرتبة هي الأخيرة من بين مراتب الذكر الجهري لأن الذي يأتي بعدها ينتمي إلى الذكر الخفي وهو يقع في مرتبة واحدة فقط وهي مرتبة ذكر النفس. وهنا لا يكون الذكر مسموعاً بالحروف والاصوات، ولكنه يدرك بالحس وبحركة الباطن، وهو لا يتقيد بزمان أو مكان ولا بصحوة أو نوم وليس له تعلق بقبض او بسط أو حال أو مقام، لأنه متواصل ومستمر في كل الاحوال، ومع هذا الذكر يدرك العبد الصلاة الباطنية التي توصله إلى ربه وتقربه إليه(1). وهو عند الشيخ عبد القادر اعلى درجات الذكر، لأنه لا يقدح فيه نسيان ولا تكدره غفلة ولا يعيقه سكوت او سكون أو حركة(2). وأخيراً فهو منتهى قصد العباد وغاية مطالب الصوفية.
      شروط صحة الذكر


      ومثل الذكر عند الشيخ عبد القادر مثل باقي العبادات ، اذ أن له شروطاً وآداباً لابد من الأخذ بها، والا فأنه سيقع في حلقه اللامشرعية أو في أقل تقدير اللاجدوى وأول هذه الشروط وأهمها هو : أن يعمل الذاكر جاهداً على أن يتأدب بآدب النبي محمد (r) ويقتدي قدر الأمكان بسنته، ويتم ذلك بمتابعة سيرته (r) واقتفاء اثاره في خلوته وفي جلوته وفي عبادته وقي معاملاته. علماً أن الصوفية بعامة وأصحاب الطريقة القادرية بخاصة، يعولون كثيراً على تلك (المتابعة) ويرون فيها تجسيداً لافضل وأضمن وأقصر الطرق للتلبس بحب المصطفى (r) ، وهذا الحب هو خير المغانم عندهم وهو كنز العلوم والمعارف واساس العبادات، لأنه هو الذي يهدي إلى المحبة الالهية الخالدة وهم في ذلك يستندون إلى القانون الإلهي الذي يجسده قوله تعالى: (قل ان كنتم تحبون الله فأتبعوني يحببكم الله))(3) ويشترط في الذاكر أن يعتاد الخشوع التام، أي خشوع الظاهر والباطن، او خشوع الجوارح والقلب. ويعد الخشوع من خيرة آداب العبد مع ربه، لأنه يدل على سعة في المعرفة وزيادة في الإحساس بعظمة وجلال الذات الالهية. ويشترط من الناحية الشرعية، أن يؤكد الذاكر على طهارة بدنه وثيابه ومكانه، وأن يتحرى الحلال في مأكله ومشربه. وتعد هذه الأعمال بالغة الأهمية عند الصوفية، لانهم يرون أنها تشتمل على معانٍ وأسرار وفوائد روحية لها الأثر البالغ في تعجيل وإنجاح عمليات التطهير النفسي والتسامي الأخلاقي، اذ ان المريد الذي يشوب اعماله الطاهرة ظل من رجس أو حرام، سيعجز حتماً عن التواصل والاتحاد مع أنوار ذكره وأسرار مشاهداته.
      على ان اعتياد الذاكر مقاضاة ذاته على وفق أحكام ظاهر الشرع، سيفضي به ذلك حتماً، إلى أن يكون خبيراً بفقه الباطن الذي قوامه الورع واجتناب الشبهات والتقليل حتى من المباحات.
      ويشترط في الذاكر أيضاً، اقامة المرابطة والمحافظة على حضور القلب، ويتحقق ذلك عبر استحضار معاني الأسرار الإلهية المذكورة، واستجماع الهمة في التأمل والتفكر في بدائع قدرته تعالى ووافر آلائه، اضافة إلى تذكر الآخرة والموت والحساب. ومما يستعين به الذاكرون لأجل التواصل مع أسباب المرابطة، هو إتيانهم بحركات متوالية ومتناسقة للراس مع البدن، يتوخى من خلالها التأكيد على جهة القلب، كي يستحلبوا بذلك أنواع الذكر الكامنة، وكي يصير قلبهم بهذه الانوار حياً حياةً أبدية أخروية(1). ثم أن لهذه الحركات فائدة مهمة أخرى، وهي أنها تساعدهم على تحقيق التوحيد والربط بين ذكري اللسان والقلب، ولهذا الربط الفضل في ازالة الكثير من وساوس النفس وفي غلق كثير من منافذ الحواس التي قد تربك وتقوض فعالية الذكر برمتها. وتجدر الاشارة إلى أن أصحاب الطريقة القادرية يتعمدون في مرابطتهم على استحضار همة شيخ الطريقة في وقته، وهم يرون أن هذه الوسيلة فعالة جداً لانجاز الذكر على وجهه الصحيح، لأن الاحساس بحضور الشيخ، مالك أزمة القلوب، سينقلهم تماماً إلى ساحة المراقبة التي تمتنع فيها الوساوس وتنتهي الشواغل وتنمحق الاهواء. وحري بالذكر أن نشير هنا إلى ان الطريقة القادرية لا زالت مشتملة إلى الوقت الحاضر، على أنواع مختلفة من الأذكار، منها الذكر الفردي والذكر الجماعي والذكر الخفي والذكر الجهري ومنها أذكار خاصة بأوقات معلومة من الليل أو النهار، ومنها أذكار خاصة بكل مريد لوحده، بحيث تعتمد على سعيه ودرجة مثابرته والتزامه. ثم أن هنالك أذكاراً جماعية تمارس مصحوبة بايقاعات محددة خاصة بالطريقة نفسها، وكذلك هناك أذكار مهمة يحرص شيخ الطريقة على حضورها بنفسه، ويتم فيها التأكيد على رفع الصوت وتوحيده مع الجماعة وعلى حضور القلب وإغماض العينين وغلق منافذ الحواس وطرد الخواطر والهواجس الرديئة التي تحرم المريد من بركة أذكاره.
      إن أهمية الذكر البادية، وكثرة التأكيد عليه، إلى الدرجة التي أصبح معها يشكل علامة بارزة من علامات الطرق الصوفية والسلوك الصوفي بعامة، تأتي من كونه يعد عند (القوم) من خيرة الوسائل المتاحة للعبد، لغرض تحقيق الصلة الحية بينه وبين معبوده. ولعل من نافلة القول أن نؤكد هنا، أن الذكر، فيما لو عمل به لوحده، وهو في ذلك مثله مثل كل الوحدات الصوفية الأخرى، فأنه لا يثمر ولا يؤتي أكله، لأن المريد سيحتاج إضافة إليه، إلى أن يجتاز كل مراحل السلوك المرسومة سلفاً، أو بالاقل أن يسير معها حثيثاً، لأن من البديهي عند أهل الطريق، أن القلب الذي لم يكابد من وطأة الزهد ولم تعتصره المجاهدات و تروضه الرياضيات، لا يمكنه بأي حال من الأحوال، أن يكون قلباً ذاكراً على الحقيقة، أي ذاكراً مع استحضار وشهود المذكور.
      ثم أن الذكر الذي يأتي قبل اتمام المجاهدات وألوان الرياضيات، سيختلف حتماً عن الذكر الذي يأتي بعد ذلك، إذ ان معانيه ستتغير مع تغير أحوال الصوفية ومقاماتهم فالذكر الذي يأتي في بداية الطريق لرتق شروخ الغفلات، سيأتي في المقام الأخير بحلة مغايرة تماماً، هي أقرب إلى الفناء الشهودي منها إلى أي مفهوم آخر، والذكر الذي يؤديه صاحب مقام الرجاء، سيختلف عن ذكر صاحب مقام الخوف وهكذا.
      إن ذكر العبد ربه وأعني بذلك الذكر الحي الذي يملك من الذاكر كل كيانه الروحي والجسدي، ليس قراراً يتخذ أو فعالية إرادية بسيطة يمكن أن يمارسها الانسان وقتما يشاء، إذ هو يشكل، مع باقي المفردات الصوفية، سلسلة طويلة من الحلقات المترابطة التي يستدعي بعضها بعضاً والتي يكون مبتدؤها من التوبة ومنتهاها في الفناء الشهودي وان كل هذه المراحل أو الخطوات، لابد من أن تكون مصحوبة بفعالية الذكر فهي تستند عليه وتسانده، تستند عليه كي تكتسب مشروعيتها، وتسانده كي تصل به إلى أفضل نتائجه الممكنة. ويمكن القول أخيراً إن جميع الفعاليات الصوفية، يمكن أن تعد، بوجه من الوجوه، عملية اعداد وتهيئته لقلب السالك كي يتجنب الغفلة ويرتقي إلى مرحلة الذكر الدائم، لأن بذلك وحده ينال الصوفية درجات الولاية ويبلغون المراتب الروحية العالية ويقتربون من ربهم ولأنه ليس للغافلين من زهدهم ومجاهداتهم إلا التعب، ولأن جميع الهبات الالهية هي خالصة للذاكرين دون سواهم .


      (1) الهروي – منازل السائرين – ص71.

      (2) القشيري – الرسالة – ص173.

      (1) البقرة /152.

      (2) آل عمران / 41.

      (3) الأحزاب /35.

      (4) الأحزاب / 41 – وتجدر الإشارة إلى أن لفظة الذكر وردت في القرآن الكريم في آيات كثيرة كانت تشير في أغلبها إلى ذكر العبد ربه وذكر الرب عبده ، وأما فيما عدا هذا المعنى ، فقد أشارت (اللفظة) إلى القرآن الكريم لقوله تعالى: "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون" الحجر/9. ووردت أيضاً بمعنى صلاة الجماعة كما في قوله تعالى: "يا أيها اللذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله". الجمعة/ 9 وجاءت كلمة الذكر بمعنى العلم كما في قوله تعالى: "فسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون" النحل/43.

      (5) عن أبي هريرة – الشوكاني – تحفة الذاكرين – ص7.

      (6) عن عبدالله بن بسر – النووي – رياض الصالحين – ص502-503.

      (7) رواه البخاري ومسلم – النووي – رياض الصالحين – ص502.

      (8) رواه الترمذي – الشوكاني – تحفة الذاكرين – ص13.

      (1) القشيري – الرسالة – ص73.

      (2) السلمي – طبقات الصوفية – ص72.

      (3) السلمي – المصدر نفسه – ص159.

      (4) السلمي – المصدر نفسه –ص376.

      (5) الكهف /24.

      (6) الكلاباذي – التعرف لمذاهب أهل التصوف – ص105.

      (1) على أنه يُفترض في جميع هذه الأذكار أن تمارس بشكل جماعي وبصوت جهري ، داخل الربط والتكايا وبحضور شيخ الطريقة أو من ينوب عنه ، فأما إن تعذر حصول ذلك ، فأنها تمارس بشكل فردي وبصوت خافت وفي أي مكان متاح ، تحقيقاً للحد الأدنى من الفائدة وإلتزاماً بالمدامة على الأذكار.

      (2) البقرة /152.

      (1) الجيلاني – الفتح الرباني والفيض الرحماني – ص106 ، والشيخ عبد القادر يستشهد هنا بالحديث النبوي الشريف: إن هذه القلوب لتصدأ وإن جاءها قراءة القرآن وذكر الموت وحضور مجالس الذكر.

      (1) التادفي – قلائد الجواهر – ص17. ويتشهد الشيخ عبد القادر هنا بالحديث الشريف الذي يسأل فيه الامام علي (u) النبي محمد (r) عن أقرب الطرق إلى الله تعالى وأفضلها عنده وأسهلها على عباده؟ فاقل (r): يا علي عليك بمداومة ذكر الله تعالى في الخلوات.


      (1) الجيلاني – فتوح الغيب – ص93.

      (2) الجيلاني – جلاء الخاطر – ص45.

      (1) الشطنوفي – بهجة الأسرار ومعدن الأنوار – ص125.

      (2) المصدر السابق – الصفحة نفسها.

      (1) البقرة /152.

      (2) المائدة / 54.

      (1) حول هذه الأوراد ، يراجع كتاب الجيلاني (الفيوضات الربانية) فهو يشتمل عليها مرتبة على وفق مقامات النفس ومراتبها مع ملحق بذكر الفائدة الروحية المرجوة من كل ورد.

      (2) الجيلاني – سير السلوك – مخطوطة.

      (1) التونسي – رياض البساتين – ص53.

      (2) الجيلاني – الغنية لطالبي طريق الحق عز وجل – ج/3 – ص1300.

      (1) الشطنوفي – بهجة الأسرار ومعدن الأنوار – ص125.

      (1) الجيلاني – الفتح الرباني والفيض الرحماني – ص77.

      (2) على سبيل ا لمثال يراجع كتاب الغنية – ج/2 – ص299 فما بعدها.

      (3) الجيلاني – المصدر نفسه – ص106.

      (4) الجيلاني – جلاء الخاطر – ص44.

      (1) الجيلاني – جلاء الخاطر – ص250.

      (1) الجيلاني – الفتح الرباني والفيض الرحماني – ص362.

      (2) التادفي – قلائد الجواهر – ص93.

      (1) الاعلى / 7.

      (1) الجيلاني – سر الاسرار – مخطوطة.

      (2) الشطنوفي – بهجة الاسرار ومعدن الانوار – ص122.

      (3) آل عمران – 31.

      (1) الجيلاني – سر الأسرار – ص42.


      تعليق


      • #4
        رابعاً: آداب الصحبة


        تدل الصحبة على الملازمة والمرافقة، وهي تقتضي وجود الجنسية- أي المماثلة- بين الطرفين، وقد يدعو إليها أعم الاوصاف كميل جنس البشر بعضهم إلى بعض، وقد يدعو إليها أخص الأوصاف، كميل أهل كل ملة بعضهم إلى بعض ثم أخص من ذلك كميل أهل الطاعة بعضهم إلى بعض(1). وتأتي الصحبة على ثلاثة أقسام: صحبة مع من هو فوقك في الرتبة أو المنزلة، وهي في الحقيقة خدمة. وصحبة مع من هو دونك، وهذه تقتضي على المتبوع التعامل بالشفقة والرحمة وعلى التابع حفظ الوقار والحرمة. ثم صحبة الأكفاء والنظراء وهي مبنية على الأيثار والفتوة(2). والصوفية يعملون بكل هذه الأقسام فالقسم الأول يعني صحبة المريد للشيخ والثاني صحبة الشيخ لمريده والثالث صحبة المريد لباقي الأخوان. على أن لكل واحد من هذه الأقسام شروطه وآدابه التي إذا انتفت فستنتفى معها تسمية الصحبة.

        الصحبة في الكتاب السنة


        وقد وردت الاشارة إلى الصحبة في القرآن الكريم في عدة مواضع، منها قوله تعالى: (يا أيها الذين امنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين)(3)وهذه الآية تأمر المؤمنين صراحة بضرورة ملازمة الصادقين، لأجل أن يصدقوا هم أيضاً مع الله تعالى ولأجل ان تكتمل تربيتهم الروحية التي تبدأ أولاً بالإيمان ثم التقوى ثم ملازمة الصادقين. وكذلك قوله تعالى: (واتبع سبيل من أناب إليَّ)(4). وهذه الآية تتضمن الحث على حسن الأتباع، ولكن مع شروط ثبوت الانابة إلى الله تعالى على المتبوع وإلا كان في اتباعه غواية وتضليل. وأما في السنة، فقد ورد عن النبي محمد (r) قولهالرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل)(1). فالصحبة إذن علاقة بالغة الخطورة، لأن مبدأ التأثر والتأثير الكامن فيها، لابد من أن يسري مفعوله بين المتصاحبين، وهذا يلزم طالبي النجاة أن ينتقوا لصحبتهم، فقط، من يساعدهم على تحقيق مرادهم الأخروي، وكذلك ورد عنه (r) حين سأله أصحابه بقولهم: يا رسول الله، أي جلسائنا خير؟ فقال: من ذكركم الله رؤيته وزاد في عملكم منطقه وذكرَّكم في الآخرة عمله))(2). ولا يحتاج هذا الحديث الشريف إلى كثير شرح، لانه واضح في تحديد الشروط اللازمة لصحة الصحبة.

        أقوال المشايخ في الصحبة


        وأما أقوال بعض شيوخ التصوف، فقد ورد عن ذي النون المصري قوله: لا تصحب مع الله تعالى إلا بالموافقة ولا مع الخلق إلا بالمناصحة ولا مع النفس إلا بالمخالفة ولا مع الشيطان إلا بالعداوة(3). ونلاحظ أن جميع أنواع الصحبة تلك، هي من النوع القسري، فالانسان بحكم عبوديته يصحب ربه وبحكم انسانيته يصحب بقية الخلق وبحكم وجوده الأرضي يصحب نفسه وبحكم تكليفه يصحب الشيطان، وان لكل من هذه الأنواع من الصحبة كماله الذي نصح به ذو النون المصري، وأما النوع الاختياري فهو الذي وصفه للسائل الذي سأله: من أصحب؟ فقال: من لا تكتمه شيئاً يعلمه الله تعالى منك(4). أي من يكون منك كما تكون انت من نفسك وهذا ما لا يكون له إلا في الصحبة الصوفية. وأما سهل بن عبد الله التستري فقد قال لمن طلب مصاحبته. ان كنت ممن يخاف السباع فلا تصحبني(5). وبالتأكيد، فأنه لا يخاف السباع إلا من كمل ايمانه بالله تعالى، أي بمعنى أن الصحبة لا تكون شرعية إلا مع الايمان الكامل. وأما الشيخ أبو علي الدقاق (ت 405 هـ) فأنه يرى في صحبة المريد للشيخ أمراً لازماً لابد منه، لأن ((الشجر إذا نبت بنفسه ولم يستنبته أحد، فهو يورق ولا يثمر، وكذلك المريد إذا لم يكن له استاذ يتخرج به فلا يجيء منه شيء(1). وأخيراً قول الشيخ أبي بكر الطمستاني (ت-340هـ): اصحبوا مع الله تعالى، فأن لم تطيقوا فاصحبوا مع من يصحب مع الله تعالى، لتوصلكم بركات صحبتهم إلى صحبة الله عز وجل(2). فالصحبة الحقيقية هي ما كانت لله وفي الله ومع الله تعالى. والطمستاني يشير هنا إلى نقطة في غاية الأهمية، وهي الاقتداء، فحتى الذي يعجز عن أن يصحب مع الله تعالى، لضعف في حاله، فأنه باقتدائه بأهل هذه المرتبة، سيقوى على ذلك ولو بعد حين ولكن شرط توافر عامل الصدق، وهو معنى قول السهروردي: أن من فائدة الصحبة أنها تفتح مسام الباطن(3).

        أهمية الصحبة


        إن الصوفية بعامة، يعولون كثيراً على الصحبة، بكونها وسيلة حية وفعالة من وسائل الانماء الروحي والأخلاقي والمعرفي، وكان مثلهم الأعلى في ذلك دائماً، هو الصحبة التي كانت على عهد رسول الله (r) والتي كانت كفيلة بتزكية نفوس الصحابة واذكاء جذوة الايمان في قلوبهم. وعليه فاذا كانت الصحبة تعد عند الناس من السنن النادرة التطبيق، فهي في سلوك القوم تعد من الفرائض، ((لأن الوحدة هلاك للمريد ولأنه لآآفة للمريد مثل الوحدة))(4). ولأنه لولا الصحبة لما كان هنالك سلوك ولا حال ولا مقام والصحبة التي ينحصر معناها هنا بالذات بصحبة الشيوخ، هي التي تشحذ الهمم وتحفز الأرواح وتمني القلوب باسرار المحبة وتراخيص القرب وجوائز اللقاء. وتتعدد معاني الصحبة بتعدد حقولها وفوائدها، فالصحبة في المعرفة تعني الاستعانة بالمعلم العارف وهي في السلوك تعني مصاحبة الدليل الخبير والمتمرس الذي خبر الطريق وكشف خفاياه وأسراره، وأما في التربية وفي معاملة النفوس فانها تعني الاستعانة بالطبيب الذي حنكته التجارب والأيام فعرفته بخواطر القلوب ونوازع النفوس وثم ذللت له نواصيها وملكته أزمتها.
        منذ بداية تكتل الصوفية على شكل جماعات، وهو ما يعرف تاريخياً بظهور الطرق الصوفية، وصحبة الشيوخ هي المحور الأساس الذي تدور حوله كل عبادات القوم ومجاهداتهم ورياضاتهم ومناهجهم التربوية والصوفية طالما افتخروا على غيرهم من (علماء الظاهر) بكونهم يأخذون علومهم حياً عن حي وبصورة مباشرة، أي من أفواه الرجال وليس من الكتب والأمالي، أي أن علومهم تلك تؤخذ عن طريق الحال والألهام وليس عن طريق القيل والقال، أي أنها علوم روحية ربانية تنبع من القلوب بعد جلائها ومن النفوس بعد صفائها، فهي لا تأتي من الحفظ والتلقين وقراءة السطور. انها تؤخذ من الكاملين الذين فنوا عن أنفسهم وعن الخلق وثم اكتسبوا الوجود الحقيقي الذي هو البقاء بالحق وذلك على عكس بقية العلوم التي تؤخذ بالنقل والقرطاس ميتاً عن ميت.

        وبناءاً على ما سبق، فأنه يمكن القول: إن المريد السالك لا يمكنه من أن ينجو من مخاطر الطريق أو ينجح في سلوكه، إلا إذا سلك على يدي شيخ حي عارف كامل، فيصحبه ويطيعه طاعة كاملة ويستقي منه المعارف والآداب، ولكن مع الاشارة إلى أن الصحبة عند القوم لا تقتصر فقط على علاقة المريد بشيخه، بل انها تمتد لتشمل علاقته بأقرانه من المريدين وعلاقته ببقية الناس، ومن هنا تأتي أهمية الصحبة وتأكيد شيوخ الصوفية عليها، على أن هذا التوسع في حقول الصحبة، ولا يقلل من أهمية صحبة الشيوخ، لأنها تبقى الأصل والمنبع لكل ما سواها، ولأنها تبقى نقطة المنطلق لكل ما يأتي بعدها من سلوك.

        ولكن تلك الأهمية الفائقة لا تعني الصحبة على علاتها ومن دون تحقيق أو تمحيص بل هي بالعكس، إذ ينبغي أن تدفع المريد كي يتحرى الدقة والحذر في عملية انتقائه (لصاحبه)، وكما اشرنا سابقا، فأن الصحبة مع الشيوخ، تعني التسليم والطاعة والموافقة التامة، وهذه ينبغي أن لا تكون إلا في حق من كمل في أدبه وأخلاقه وتربيته الروحية أو كما وصفه الشيخ عبد القادر ((شيخ متورع زاهد عالم بحكم الله عز وجل))(1). كي يختصر الطريق للمريد ويمحضه النصيحة ويوصله سالماً إلى يدي العناية الربانية وعلى وفق هذه الوظيفة فأنه يمكن تعريف التصوف بأنه: طلب التأدب والتهذيب النفسي على يدي شيخ متورع زاهد عالم بأحكام الله عز وجل. وهذا هو أقصى ما تطمح الطرق الصوفية أن تحققه للمريد، وهو في الوقت نفسه، الفائدة المرجوة من صحبة الشيوخ التي جعلت منها ضرورة ملحة لأجل اتمام الفعل الصوفي برمته.
        إن المريد بسكونه طائعاً تحت وصاية شيخه الروحية، وبأحتماله صابراً ، وطأة أوامره ونواهيه، التي هي في اغلب الأحيان مخالفة لرغباته النفسية، ستنمو لديه القابلية المرهفة على الاقتداء والتعلم، إذ سيكون مهيأً تماماً للأخذ عن شيخه، انسجاماً مع الرابطة القلبية المتينة التي تشده إليه، وهذا ما لا غنىً عنه لأي مريد ، وفي أية مرحلة من مراحل الطريق كان والى أية مرتبة من مراتب الكمال بلغ، فلا بد له دائماً من منبه يبدد عنه غشاوة الغفلات ومعلم يمحق عنه ظلمة الجهل، والغفلة والجهل نسبيان يختلفان من مقام إلى آخر، فما كان ميزة في هذه المرحلة فهو مثلبة في المرحلة التي تليها وهكذا والحكمة الصوفية تقول أن لا حدود للمعرفة الربانية ولا ساحل للعلم الإلهي وأن الانسان مهما إرتقى في مراقي العلم والمعرفة، فأن عليه، إن كان صادقاً، أن يوقن بأن هنالك من هو أ‘لم منه وأكثر معرفة ، وهذا ما ينسجم مع حديث النبي محمد (r): ((استعينوا على كل صنعة بصالحي أهلها))(1). والتصوف عند الشيخ عبد القادر صنعة وصالحوا أهلها هم الصالحون في الأعمال الزاهدون في الدنيا المودعون للخلق عن معرفة بربهم(2).

        ضرورة الصحبة

        إذن فلابد من واسطة لدخول أرض الحكمة – أي المعرفة اللدنية – التي يعسر دخولها على كثير من الإفهام والعقول، ولابد أيضا من وسيلة تقرب المسافة بين العبد وربه وتذلل ما عسر من أسبابها ، وهذا من جهة المعارف، فأما من جهة النفوس وكيفية التعامل معها، فأن الشيخ عبد القادر يرى: أن على العباد السالكين، أن يطلبوا من ربهم أن يهديهم إلى طبيب يطبب أمراض قلوبهم ومداوٍ يداوي علل نفوسهم ودليل يدلهم ويأخذ بأيديهم، وعليهم أيضاً أن يتقربوا من مقربيه وموحديه وحجاب قربه وبوابي وصاله، كي لا يرضوا، بدلاً عن ذلك بخدمة نفوسهم ومتابعة أهوائهم وطبائعهم(1).
        إذن فلا غنى عن صحبة الشيخ، سواء من حيث الحاجة المعرفية التي ليس لها حد تقف عنده أم من حيث التربية الروحية ذات التصعيد المتواصل. ولعل هذه الضرورة تسلط لنا الضوء على أسباب طاعة المريد التي يصفها بعضهم بـ(العمياء) لشيخه، فالتعمية فيها، إن جاز لنا التعبير، مبنية على وفق استراتيجية نفسية تهدف إلى تجاوز نقاط الضعف والخلل في الهيكلية النفسية والأخلاقية والدينية للمريد.
        إن الصحبة بوصفها علاقة أنسانية، يمكن أن نلمسها، بعامة، في كل مفاصل الحياة العلمية والأدبية والإنسانية، ولكنها هنا في مجال التصوف، تختلف نوعاً وتفصيلاً، إذ هي لا تقتصر فقط على الملازمة المكانية والزمانية، أو المرافقة المقرونة بالدرس والتحصيل العلمي والتي تنفضّ بانتهاء هذا الاقتران ، وإنما هي علاقة أكثر حميمة وأشد توليفاً، لأنها تربط بين المريد وشيخه برابطة هي أقرب ما تكون إلى الأبوة الروحية وبوشائج قوامها الحب والفناء والطاعة والموافقة، وإنه بغير هذه الرابطة وبغير تلك الوشائج، لاتصح صحبة ولا يفلح سلوك ولا تثمر تربية ولا يجنى وصول، والمريد الذي يفشل في تحقيق هذه الرابطة والذي لا يتمكن من إذابة ارادته في إرادة شيخه ولا يتحد معه روحياً، فأنه لا ينال من التصوف (شمة). وبالترجيع العكسي يمكننا القول: إن المريد الذي يبغي الفلاح في سلوكه، فعليه أن يكون بالغ الطاعة لشيخه، إلى الدرجة التي يكون معها ((أرضاً تحت أقدام شيخه))(2) وبالتداعي يمكننا أن نقول أيضا: أنه لا يقدر على هذه الطاعة إلا بعد أ يخالف نفسه، وهو لا يقدر على هذه ايضاً، إلا بعد أن يكون تاركاً للدنيا والخلق مودعاً لهما وداع مفارق غير راجع. وهكذا فالبناء الصوفي بناء مترابط متماسك، ترتكز دعائمه الواحدة على الاخرى، على أن صحبة الشيخ تشكل المرتكز الاساس لهذا البناء، لأنها تمثل الإرادة الالهية وسنة الله في خلقه ((فلقد شاء الله تعالى، وأجرى العادة ، بأن يكون في الأرض شيخ ومريد، صاحب ومصحوب تابع ومتبوع من لدن آدم إلى أن تقوم الساعة))(3) إذن فوجود المشيخة الحقيقية يعد إرادة الهية وأمر نافذ يسري على كل العصور والأماكن ، كي تستمر الهداية ويتجدد الدين أما كيف ينفذ الخلق هذه المشيئة، فأن ذلك يتم عن طريق البحث الدؤوب عن الصحبة الربانية وثم العمل على إدامتها لكسب مرضاة الله تعالى.

        شروط صحة الصحبة


        تستند الصحبة إلى دعامتين اثنتين وهما: المريد نفسه والشيخ، فأما المريد فهو صاحب القرار في إدامة هذه الصحبة أو قطعها، فأما الإدامة فأن الشيخ عبد القادر يضع لها شروطاً، لابد من أن يجدها المريد في نفسه قبل أن يسعى إلى الصحبة وقبل أن يعطي العهد على نفسه. والشروط هي: أن يكون المريد صحيح الاعتقاد كي يحصل له علم الحقيقة، لأن السلوك مع الاعتقاد الخاطئ أو المغالي، وسواء أكان ذلك في الدين بعامة أو في شخص الشيخ بخاصة، لا يفضي حتماً إلى النتيجة المرجوة. وأن يكون صادق العزم والاجتهاد تجاه دينه وتجاه نفسه كي يتفق له سلوك الشريعة والحقيقة وهما جناحا الطريقة، وأن يكون خالص النية في قصده تجاه ربه، فلا يميل أو يتلفت إلى جهة تسلبه من قصده. وعليه أن يتمسك بالكتاب والسنة وأن يعمل بهما أمراً ونهياً كي يعصمه ذلك من زلات الشطط والضلالة. وأن يكون مخلصاً في سعيه لبلوغ درجة القرب من ربه بحيث إنه لو حصلت له موهبة أو كرامة وهو في منتصف الطريق فعليه أن لا يتوقف عندها أو يرضى بها بدلاً عن مراده، لأنها ستكون على قلبه حجاباً وظلمة وقد تودي به إلى المقت والأبعاد بدلاً من المحبة والإلهية. على أن كل تلك المخاوف يمكن أن تتلاشى بعد اتمام السلوك ، فالمريد إذ بلغ مراده وأنهى رحلته، فأنه سيصير عارفاً بمخاطر الطريق خبيراً بخفايا النفس ملماً بحبائل الشيطان، وعندئذ فقط، فأنه لا يضير مع قصده شيء من كرامة أو جاه(1)، بل يمكنه أن يرشد غيره على الطريق ويعينه على الوصول.
        ويشترط لأجل إنجاح الصحبة، أن يبتعد المريد عن مواطن التقصير، وأن يتجنب مخالطة المقصرين الذين يقولون ما لا يفعلون لفساد نياتهم وخراب هممهم، وفي المقابل فأن عليه أن يتحرى مخالطة الصالحين ولكن شريطة أن يسبق هذا الاختلاط، اجتهاد المريد في تهذيب أخلاقه السيئة والتخلص من طباعه الرديئة لأنه ما دام حبيس تلك النقائص، فأنه سيكون سهل الانجراف مع مغريات الحياة وملذاتها، فقد تفتر عزيمته وتضعف همته أمام لقمة أو مال أو جاه، وهو معنى إشارة الشيخ عبد القادر إلى أنه لا يمكن لفساد الأخلاق أن يتعايش مع الصحبة لأنه إن بقي فسيغلب على الصلاح في الأغلب(1). ويمكننا أن نلمس هنا ميل الشيخ عبد القادر إلى الاعتقاد بفاعلية الصفات المكتسبة وإمكانية تغلبها على التوجه المعتاد لشخصية الإنسان، حيث يمكن للمرء، وفق هذا الرأي، أن يقوِّم ما اعوج من طباعه، وأن يعيش بين الناس بشخصية جديدة فيكون كريماً شجاعاً أميناً بعد أن لم يكن. وهذه (النظرية) يمكن القول عنها إنها بادية التفاؤل وإنها تشكل الدافع الأكبر لكل المساعي الإصلاحية للتصوف، فلولا إيمان الصوفية بقابلية الإنسان للتغير نحو الأحسن، لكان كل مسعاهم بلا جدوى.

        ويشترط في طالب الصحبة أن يكون كريم النفس سخي اليد، وأن لا يخاف بعد البذل من فاقة أو مسغبة، لأنه إن اتصف بخلاف ذلك، أي كان بخيلاً شحيح النفس، فذلك يشير منه إلى خلل في الاعتقاد وعدم ثقة بالله تعالى. والمريد مع كرمه وكثرة عباداته وشدة مجاهدته لنفسه، ولكونه لا يرجو إلا مرضاة ربه، فأن عليه أن لا يتذمر من عدم اعتداد الناس وإلتفاتهم إليه وخمول ذكره بينهم وأن لا يعترض على شيخ الطريقة، فيما لو قدم أقرانه عليه وأكرم بعضهم وقربهم دونه، لأن ذلك قد يكون من باب تأديب النفس وامتحان قوة الصبر والإرادة فيها، والمريد ان لم يرض من شيخه بذلك ويوطن نفسه عليه، فإنه لا يفلح أبداً(2). لأنه عاهد على الموافقة لشيخه في كل الأحوال، لإيمانه بأنه أعلم منه بخفايا نفسه وأكثر دراية بعللها وأدوائها. هذا أولاً، وأما ثانياً فأن المريد إن طالب باحترام الناس وتبجيلهم له وطمع في تقديم الشيخ له في الظاهر، فأن ذلك سينقص حتماً من حظه الأخروي الذي هو أمر باطني بحت، وسيطعن في إخلاصه لربه سواء في الحب أو في العبادة.
        وينبغي على المريد ايضاً، أن لا يترقب من ربه نوال مكافأة أو تعويض دنيوي جزاء ما يأتيه من أعمال شاقة دون بقية الناس وإنما عليه فقط، أن يطلب المغفرة لما أسلف من ذنوب وأن يطلب الحفظ والعصمة لما يأتي من أفعال وأن يدعو بالتوفيق لما يسعى إليه من طاعات، وأن يسعى بالتودد والتقرب إلى أولياء الله تعالى العارفين وأن يجتهد في خدمتهم وطاعتهم وأن يسعى بحضرتهم إلى التجرد والترك، لأنه ليس من حسن الاتباع والمصاحبة أن يتملك المريد ويرغب ويريد وهو بمعية شيخه وواقع تحت وصايته. إنه يأكل من طبق شيخه أو ما يأمره فقط بأكله، وكل ذلك لأجل أن يصل إلى حالة الانخلاع التام عن إرادته، فهو ينتظر الأمر من شيخه، لعلمه أن أمره من أمر الله تعالى، وأن مصلحته لا تتحقق إلا على يدي شيخه، وإنه يجب أن يثق بشيخه تمام الثقة وأن لا يتهمه في أي فعل أو أمر يصدر عنه، لأن مع التهمة لا تصح صحبة ولا سلوك ولأن المريد مع إتهامه شيخه يكون كالمريض الذي لا يثق بطبيبه، فهو لا يمكنه من أن يفيد من نصحه ودوائه(1).
        ويمكننا أن نلاحظ مما سبق، أن الشروط التي وضعها الشيخ عبد القادر لطالب الصحبة تشكل في الوقت نفسه الشروط اللازمة لإنجاح مجمل تجربة السلوك ، مما يدل على أن صحبة الشيخ تمثل الخلاصة الفعلية للسلوك الصوفي، وهي ما كانت كذلك إلا لأنها شكلت المنهل الحي والمباشر لكل ما يشتمل عليه الإرث الروحي للتصوف من معرفة وتربية وأدب، وعليه فأن المريد الذي يعجز عن إدامة صحبته مع شيخه فأنه لن يفلح أبداً في إتمام باقي مسيرته الصوفية، ولكي يجنبهم هذه النتيجة فأن الشيخ عبد القادر ينصح مريديه بأن لا يخوضوا في أي مجال من مجالات التصوف إلا بعد أن ينضج استعدادهم (للمواجهة) ((لأن الطريق لا ينال بطول الأمل وإنما بالجد والاجتهاد))(2) وهذه المواجهة لا تستحكم من نفس المريد إلا إذا استعان بشيخ عارف، فالمريد الذي فيه بقية من هوى في دنيا فأنه أحوج ما يكون إلى نصح الشيخ وإرشاده.

        آداب الصحبة


        إن ما سبق من شروط وآداب، هي مما كان يفترض توفرها في شخص المريد وسلوكه قبل انخراطه في إحداثيات صحبة الشيخ، فأما بعد أن تكون هذه الصحبة قد دخلت حيز التطبيق، فأنه يترتب عليه غيرها وهي مما يمكن أن نصفه بالآداب العامة أو حسن السلوك، ولهذه (الآداب) أثر بالغ في انضاج الرابطة الروحية المتوخاة بين المريد وشيخه والتي لا يحتاج معها المريد كثيراً إلى وسائل الاتصال الظاهرية المعتادة، كي يتحدث إلى شيخه أو يفضي إليه. إن على المريد أن يصحب شيخه بالطاعة والاحترام وحسن الأدب بين يديه(1). وحسن العشرة معه وحسن الظن به، وأن يصبر على أوامره ونواهيه ويقبلها ويعمل بها من أجل أن يفلح في مسعاه ومن أجل أن لا يستغني برأيه في أمور يجهلها فيضل، وأن يعتقد موقناً أن كل ما يفعله شيخه تجاهه، مما يرضيه أو لا يرضيه، إنما هو يفعله لأجل تهذيب نفسه وإصلاحها(2). وعلى المريد أن يترك مخالفة شيخه في الظاهر ويتجنب الاعتراض عليه في الباطن، بل أكثر من ذلك، إذ عليه، ان سولت له نفسه أمراً، أن يكون خصماً لها أمام شيخه.
        على ان هذه الطاعة (العمياء) وهذا الولاء المطلق، تنتهي حدوده عند موافقة الشرع وعند عجز إدراك المريد عن فهم الكثير من أمور الروح والغيب وأسرار الطريق، فأما خارج ذلك، فأن للشيخ عبد القادر رأياً آخر ينصح به المريد، بحيث لا يتجاوز معه سلم الطاعة ولا يدخل في حرب العصيان. فمثلاً إذا ما لمس المريد من شيخه، وضمن حدود معرفته الشرعية، ما يكره في الشرع، فأن عليه أن يشير إليه أمام شيخه إشارة ولا يصرح به تصريحاً، لأن هذا مع ما يتضمنه من إظهار الحق، فأنه أحفظ للحرمة وأقوى للأمانة وأدوم للصحبة. فأن رأى المريد في شيخه عيباً من العيوب المستقبحة عرفاً أو سلوكاً، ستره وعاد بالتهمة على نفسه، فأن لم يجد له عذراً في الظاهرة، استغفر له ودعا له بالحفظ والعصمة ولكن شرط أن يكتم ذلك عن الآخرين، وأن يعتقد أن هذا العيب ما هو إلا حالة طارئة ستزول لا محالة أو انه قد يكون لها عذر في الشرع لا يدركه المريد. اذن فلا مجال في صحبة الشيخ للموافقة المطلقة في كل الأحوال أو المجاراة على الأخطاء أو تأويل الأوامر والنواهي البينة والظاهرة أو كما يعتقد بعضهم إسقاط التكاليف، إن الصحبة إنما تعني زيادة في اليقظة تجاه الأخطاء وزيادة في الحساسية تجاه الذنوب، لأن حقيقة المؤمن هي أنه يمثل مرآة لأخيه المؤمن، يرى فيها عيوبه ويستعين بها على إصلاح شأنه .
        فأما إذا ما لمس المريد في شيخه نوعاً من الأعراض والنفور عنه أو عدم الترحيب به فأن عليه أن لا يتغير لذلك، بحيث تفتر همته ويتعثر سيره إلى الله تعالى، بل عليه أن يزيد من اقباله على شيخه وفي مقابل ذلك أن يفتش في نفسه عن سوء أدب قد يكون بدر منه، أو تقصير أو خطأ لعله اقترفه في غفلة من نفسه، أو تفريط في عبادة أو عمل. وعليه مع هذا الاعراض البادي أن يتودد إلى شيخه بالاستزادة من العبادات والاذكار، لأن هذا هو مراد شيخه الحقيقي منه، وأن يمعن في ترك مخالفته، وفي الوقت نفسه أن يمعن في موافقته ومرافقته مما يعد وسيلته الوحيدة للتقرب إلى الله تعالى وبلوغ رحمته، ولا يرضى الشيخ عبد القادر للشيخ الصوفي الحقيقي بأقل من هذا الدور، فهو عنده كحاجب الملك الذي يتقرب إليه الناس من أجل أن يدخلهم على الملك وفي الوقت نفسه من أجل أن يعلمهم كيفية التأدب مع الملك ويعلمهم ويبصرهم بسياسته(1).
        وهذا الدور هو الذي يحتم على المريد أن يطوف الشرق والغرب وأن يهجر الأهل والأوطان طلباً لمصاحبة شيخ عارف بالله تعالى وبسبل محبته ورضاه، وتلك هي مسؤولية المريد تجاه نفسه وتجاه دينه، تجاه نفسه لأنه ملزم بأن ينجيها من الهلكة وتجاه دينه لأنه ملزم بالبحث عن حقيقته وغايته. إن الشيوخ العارفين هم حقاً أطباء القلوب وإن صحبتهم هي الدواء الناجع لكل علل الدين(2). وما المريد الذي يستغني عن صحبة الشيخ، قابعاً في بيته أو صومعته، إلا فريسة سهلة لطبعة وهواه وقلة علمه، وخصوصاً في بداية السلوك.
        إن الظاهر من آراء الشيخ عبد القادر، في تأسيسه العلاقة المبتغاة بين الشيخ ومريده هو أنه يرمي إلى رسم علاقة سلبية تمحق فيها شخصية المريد بالكامل، وتلغى إرادته إلى الدرجة التي يستغني فيها عن عقله وسمعه وبصره وكل حواسه الأخرى، وبحيث إنه يعطل كل خواطره وأفكاره وكل ما يمكن أن يحمله على مخالفة شيخه والاعتراض عليه. وإذا كان جميع هذا (الظاهر) يمكن أن يكون صحيحاً أو في الأقل وارداً في التراث الصوفي. فأننا قد نجد للمسألة تفسيراً أخر ورأيا يخالف ما هو شائع خارج الوسط الصوفي، إذ يمكن القول أولاً: ان كل المصادرات التي يمارسها شيخ الطريقة في حق نفس المريد وارادته وعقله، إنما هي مصادرات مرحلية (تكتيكية) لها تعلق بأطوار التربية النفسية التي وضع أصولها كبار شيوخ التصوف، فالمريد متى ما تمكن من أهواء نفسه وقدر على كبح جمحها، فأنه سيستغني حتماً عمن يعينه على الإمساك بزمامها. وثانياً: فأن كل ما يؤمر المريد بفعله تجاه شيخه، لا يقصد لذاته، وإنما للنتائج الروحية التي يمكن أن تترب عليه، والتي تعد تقوية الإرادة من أهمها، وذلك عن طريق توجيهها الوجهة الصحيحة وتعويدها على مخالفة الطبائع والعادات. كما وأن في طاعة المريد وحسن إئتماره لشيخه، تجاوزاً لكثير من الأمراض النفسية المعتادة عند البشر مثل الكبر والحسد وحب الظهور، وفيها أيضاً إعانة على إنجاح دور المريد بكونه مرشداً صوفياً، عن طريق تعوده على إحتمال أذى الآخرين وجهلهم.
        وتبقى ملاحظة أخيرة تخص طرف الصحبة الآخر وهي: أن مفهوم (الشيخ) متى ما ورد في سياق كلام الشيخ عبد القادر، فأن المقصود به هو الصوفي الذي تجاوز كل عقبات الطريق وبلغ آخر المراتب في السلوك ، وهو ما يعرف في التراث الصوفي بـ(الشيخ العارف الكامل). وإن من كانت تلك خصاله، فانه لا يخشى من ميله أو تعديه، لأنه وهو في غناه الروحي وعلمه بالله تعالى، يكون في وقاية من كل تلك الظنون، فهو يفعل ما يفعل لأجل صلاح المريد وخلاصه وثم لأجل صلاح المجتمع والدين.
        ومن الآداب العامة التي ينصح المريد بالتحلي بها، هي: ألا يتكلم في حضرة شيخه إلا حين يطلب منه ذلك أو عند الضرورة، فأذا تكلم فعليه بخفض الصوت والاقتضاب في الحديث. وأن لا يمدح نفسه أمام الشيخ ولا يبسط سجادته بين يديه، والسجادة في عرف الصوفية ترمز إلى الاستقلال الديني والعلمي، وهو ما يطعن في تواضع المريد وثم في أدبه. وأن يكون المريد مترقباً لخدمة شيخه في كل الأوقات، والخدمة هنا لا تطلب لذاتها وإنما لما يترتب عليها من تكريس للطاعة والوفاء وحفظ الجميل وامتداداً لحسن الصحبة مع الشيخ، فأن على المريد أن يحفظ الأدب مع كل من هو فوقه في الرتبة وأن لا يتبسط معه في التعامل، وأن يجتهد أيضاً في خدمته وطاعته علماً أن الرتبة عند الصوفية لا تشير إلى قيمة أو منصب أو جاه اجتماعي، وإنما هي تشير إلى تفاوت في المنازل الروحية والمعرفية أو المقامات الصوفية. وإذا ما جرت مسألة بين يدي الشيخ وكان المريد ملماً بها، فعليه أن يسكت وإن كان في ظنه أنه يملك فضل جواب على سواه، وعليه في المقابل أن يغتنم ما يفتح الله تعالى على لسان شيخه فيقبله ويعمل به. وأما في حال السماع(1) فان على المريد اذا ما دب دبيب الوجد في أوصاله، أن يتحرك بين يدي الشيخ إلا باشارة منه، وأن لا ينجرف مع ما يطرأ عليه من الأحوال، إلا أن يغلب عليه ذلك فهو معذور، فأن سكنت فورة حاله، فليعد إلى سكونه وأدبه ووقاره وكتمان أمره(2) ولكن تجدر الاشارة إلى أن المريد لا يقدر على حيازة جميع هذه الآداب ويصبر على تحمل تبعاتها، إلا إذا كان له في شيخه عظيم اعتقاد وإيمان وتصديق، والا إذا تيقن بأن شيخه هو الأفضل بين الشيوخ، وإنه بخدمته وبملازمته له، فأنه ذو أفضلية على سواه، لأنه إن أفرغ قلبه من الخلق ومن كل الشواغل، وإن صحح صحبته لشيخه واجتهد في طاعته فأنه حتماً ((سيلقمه ويرزقه مما في قلبه من طعام المعرفة وشرابها))(3) وعلى المريد أن يتجنب مخالفة شيخه في كل ما يأمره به ((لأن مخالفة الشيخ سم قاتل فيه مضرة عامة))(4) أي أن ضررها يعم دين المريد واعتقاده وأدبه. وعليه أن لا يكتم شيخه شيئاً من أحواله وأسرار باطنه، وفي المقابل، أن لا يطلع أحداً سواه بذلك وبما يأمره به شيخه. وينبغي عليه، وهو في مجاهداته ورياضاته، أن لا يطلب الرخص أو يعود إلى طبع تركه، لأن ذلك يثبط عزيمته ويؤخر في وصوله وعليه الانقياد لما يأمره به شيخه من التأديب، فأن وقع منه تقصير، فالواجب عليه اخبار شيخه به، كي يعجل له المعالجة ويسعفه بالدعاء.
        إن سعي المريد إلى تهذيب أخلاقه وتشذيب طباعه وأهوائه وتطويع إرادته كي تتجه حصراً نحو دروب الخير والصلاح، هو ما يحمله على الاستعانة بالمربي الروحي العارف بالله تعالى وذي الدراية بخفايا النفس وإنحرافاتها وذي المعرفة اللدنية التي تفتقد عند سواه. وعلى أساس نية المريد تلك ، فأن عدم متابعته هذا المربي وعدم تحليه بأنواع الأدب معه، يعني (الانفصام) بعينه ويعني النفاق بلغة الشرع، ويعني الاصرار على التمسك بالإرادة الذاتية على علاتها ويعني مجاراة النفس بكل تبعاتها وحبائلها وهذا هو الفشل بعينه وهو ضد المطلوب على أن كل هذه الهالات القدسية التي تحاط بها صحبة الشيخ، والتي تجعل منها في السلوك الصوفي، أمراً لا غنى لاي سالك، لا تغير من حقيقتها في شيء وهي كونها مدة رضاعة وحضانة لابد من أن يأتي بعدها الفطام، ويشبه الشيخ عبد القادر، الشيخ المرشد بـ((الداية والظئر، لا يبقى مع المريد إلى الأبد، بل هما حولين))(1) والحولان هما مدة بلوغ الطفل الرضيع مرحلة الفطام ويقابلهما –بالمعنى وليس بالعدد- في السلوك الصوفي، مدة الصحبة بما تتضمنه من رعاية وتوجيه وتعليم وهذه المدة تطول أو تقصر، حسب درجة إجهاد المريد وسعة همته، وليس لذلك علاقة بالشيخ، لأنه مستعد للبذل في كل الأحوال.
        وبعد الفطام ينتقل المريد مباشرة إلى مرحلة النضج، فيكون مهيأً لرعاية الآخرين وأحتضانهم والعناية بهم وإرشادهم إلى سواء السبيل، ولكن تجدر الاشارة إلى أن تجاوز المريد لمرحلة الصحبة مع شيخه، لا يعني انقطاعه واستغنائه التام عنه حتى وإن بلغ أعلى المراتب والمقامات، فأنه يبقى في حاجة روحية دائمة لشيخه كي يستمد من همته ويقبس من أنواره وينهل من معارفه(2).




        شروط أهلية الشيخ للصحبة


        وأما الركن الاخر للصحبة، الذي هو الشيخ، فأن الشيخ عبد القادر لا يعدم أن يجد له شروطاً وآداباً، لابد من أن تتوافر فيه كي تصح مصاحبته وتجب طاعته فالشيخ المرشد حصراً(1) لابد من أن يكون ذا أدب عال مع ربه، لأن الادب في حق الشيخ هو كالتوبة في حق العاصي من الخلق، والتوبة هي الاساس والاصل لكل ما يليها من أفعال وهي إن نصحت فقد نصح كل ما سواها وإن خالطها دخن فقد خالط كل ما سواها. إن الأدب مع الله تعالى يشتمل على كل المعاني المطلوبة واللازمة للوصول اليه تعالى، فهو يحوي الطاعة والخشوع والرضا بقضائه، ويحوي الحياء منه والخوف والرجاء وملازمة العبادة والمداومة على الأذكار، وباختصار فأن الادب مع الله تعالى يعني مباشرة كل ما يرضيه ومجانبة كل ما يسخطه، أي يعني إتمام كل الواجبات الصوفية. ومن جهة أخرى فأن الشيخ المرشد يفترض به أن يكون قريباً من ربه، كي يكتسب مشروعية سلطانه على القلوب والارواح، والقرب من الله تعالى هو كمجالسة الملوك، إذ إن من جالس الملوك مع جهله وقلة أدبه، فلربما كان ذلك سبباً في هلاكه.
        ثم أن اعتقاد الناس بقرب شيخهم من الله تعالى ، سيجعله موضع نظر الآخرين وسيحمله مسؤولية مضاعفة، إذ سيلزمه ذلك أن يكون قدوة للناس في هذا الأمر، كي يصير تأدبه مع ربه سبباً لتأدب الآخرين.
        والشيخ وهو في أدبه العالي مع ربه، ليس في غنى عن حفظ الأدب مع الناس، لأن ((الأدب مطلوب مع الخلق والخالق))(2). لا بل إنه أحوج ما يكون إلى حفظ الأدب معهم، لتعلق هذا الأمر بمقصده الأول، وهو أدبه مع ربه فالمكاسب الروحية للصوفي هي ليست بمعزل عن سيرته الحسنة بين الناس هذا أولاً، وثانياً لدعم مصداقيته وأمانته في عظة وإرشاده العباد، إذ إن أدب المرء يعد علامة مهمة من علامات صدقه وصحة اعتقاده.
        ويفترض في الشيخ أن يتحلى بالتقوى، كي تثمر مصاحبته، فالمريد إذا ما صاحب من يفوقه في التقوى والعلم والورع، حصلت له البركة وتمت الفائدة، فأما ان حصل العكس، أي صحب من يكبره في السن ولكن ينقصه العلم والتقوى، فأن هذا سيورثه الشؤم ويودي به إلى الهلكة(1). وعليه، (فالمشيخة) عند الشيخ عبد القادر، لا تستمد من المناصب الاجتماعية أو الألقاب المتوارثة، وإنما هي استعداد وكسب و مجاهدة، كما أنها ليست مغنماً سهلاً، بل هي في الحقيقة، عبء ثقيل يحتمل منه الشيخ التقي ما لا يقدر عليه غيره.
        ولعل من الأمور البديهية أن يتخذ الشيخ من الزهد نهجاً دائماً في الحياة، وأن ينوء بقلبه عن ملذات الدنيا وشهواتها، على أنه لا ينبغي لذلك أن يمنعه عن مباشرة حلالها ولو بالكفاف. إن الزهد في العيش يورث الصدق في التعامل مع الخلق ومع الخالق، فالشيخ إذا كان عالماً، فأنه مع زهده سيكون عالماً يعمل بعلمه وهذه ميزة له على سواه من العلماء.
        فأذى ما أفضى الزهد بالشيخ إلى الصدق، فأنه يكون قد اكتسب ميزة أخرى تسوغ للآخرين السعي إلى مصاحبته والاقتداء به، لأن قوله وفعله سيكونان متطابقين، وهذا من الموجبات الاساسية للاتباع، إذ يكون الشيخ المتبع سبّاقاً إلى فعل ما يأمر به مريديه أن يفعلوه، وهذا السبق يجعل كلامه مؤثراً في قلوب الناس وأوامره مطاعة عندهم وينيله في الوقت نفسه ((مرتبة الشيوخ العاملين المخلصين الصادقين، الذين هم أبواب الحق عز وجل والدعاة اليه وطرقه إلى قربه، والذين هم ورثة الانبياء والمرسلين ونوّابهم والذين هم مفردو الحق عز وجل والسَفَرَهْ بينه وبين الخلق، والذين هم أطباء الدين ومعلمو الخلق))(2) وليس بعد هذا الوصف وصف، فهو جامع لكل ما يعتقده الصوفية في شيخهم المرشد، على أنه لا ينبغي لهذا الاعتقاد أن يحملنا على القول بإيمان الصوفية بوجود الوسطاء الروحيين الذين يقفون بين العبد وربه، إنهم ورغم كل هذه الإمكانات والوظائف الخارقة، مجرد أدلاء ودعاة ومرشدين، ولكن للمسألة تعلقاً بمفهوم الإنسان الكامل الذي سبق الكلام فيه.
        إن الصدق هو تاج الدعوة إلى الخير والحق والصلاح، وهو تاج لكل دعوة خيرة، وهو في الدين أصل النجاة في الدارين وفي السلوك منبع الحكمة والمعرفة، ولعل من نافل القول أن نذكر بأنه لابد من أن يكون مدعوماً بالعمل والإخلاص، لأنه إن لم يكن كذلك وألصقت به تسمية الصدق، فأنه سيكون كلاماً خالياً من المعنى أو محض إدعاء وكلام من هذا النوع، سيكون تأثيره في الآخرين، حتماً عكس المطلوب.
        إن المريد السالك، مثله مثل المسافر في قفرة وعرة، لاتخلو من آفات وسباع وجوع وعطش، فهو يحتاج إلى دليل خبير يأخذ بيده ويرشده إلى مواطن الأمن والسلامة ويعلمه كيفية ملاقاة أعدائه ((النفس والشيطان))(1) على أن ذلك لا يلغي عنده الحاجة إلى الزاد والراحلة والسلاح والرفاق، فأما الزاد فهو التقوى والورع وأما الراحلة فهي الهمة والرفاق هم الأخوان السالكون والسلاح هو العبادة والذكر على أن، كل اسباب النجاة تلك لا تخرج عن حيز إرادة المريد واختياره، بما في ذلك صحبته الشيخ المرشد فهو لا ينجرف وراء كل من ادعى القرب والكرامة، بل يلازم فقط من تيقن من صدقه وعلامات الصدق في الطريق، بينة لا تخفى على طالبها. ويلازم من وجد عنده دواءه ويلازم من يدله على ما ضاع من عمر في غير سبل الصواب. وهؤلاء الشيوخ، يقول الشيخ عبد القادر، هم من الندرة بحيث يُعذر الناس إذا لم يهتدوا إليهم ويعرفونهم لأنهم في كل وقت ((آحاد أفراد))(2)وغير الآداب، فأنه يستحب في الشيخ المرشد أن يعمل جاهداً كي يتحلى بأكبر قدر ممكن من الخصال الحسنة المأمور بها شرعاً والممدوحة عرفاً. إذ يرتجى منه الاتصاف بالكرم والشجاعة والأمانة والشفقة، وكثرة الذكر والعبادة المقرونة بقيام الليل. وأيضاً محبة الناس وإيوائهم وإطعامهم وستر عيوبهم وإرشادهم عن طريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وهذه الخصال، وغيرها، لو اجتمعت في الشيخ المرشد فأنه سيستحق معها مرتبة الخلافة العظمى، أي خلافة النبي محمد (r) في أمته، لأنه (r) كان قد تحلى بها جميعا وعامل بها أمته وصحبه، وتلك مرتبة رفيعة صعبة المنال لا يبلغها إلا وحيدو دهرهم وفريدو عصرهم علماً ان شيوخ التصوف يتفاوتون في الرتب على وفق تفاوتهم في حيازة هذه الخصال.

        واجبات الشيخ تجاه المريد


        فأما إذا استكمل الشيخ شروط المشيخة وحقق صحبته، فأنه تترتب عليه أيضاً واجبات تجاه المريد، هي مما يدخل في حيز المروءة، إذ عليه إبتداءً أن يقبل المريد لله تعالى لا لنفسه، أي لا يقبله طمعاً في ماله أو جاهه أو طلباً للسيادة والسيطرة عليه. وعليه أن يعاشره بمقتضى النصيحة وأن يرأف به ويأخذه بالعطف والشفقة والملاينة، وبخاصة فيما لو كان حديث عهد بالسلوك، لأنه سيكون عاجزاً عن احتمال الرياضات والمجاهدات الثقيلة، ولأنه سيكون أحوج للشيخ فيما لو عامله معاملة ((الوالدة لولدها))(1) فيأخذه بالتدريج ولا يحمله مالا يطيق، ويبدأ معه بالأيسر ثم الأشد، بالرخص ثم بالعزائم ولا يرفع عنه خصلة اعتاد عليها إلا ويثبت مكانها خصلة افضل منها ويبقى معه على تلك الحال حتى يلمس فيه الثبات على السلوك فحينئذ يأخذه بالأشد ثم الأشد من الرياضات التي يعلم أنه يطيقها. وكل ما يخالف ذلك فأنه يعد عند الشيخ عبد القادر خيانة للأمانة وسوء تقبل للهدية(2) لأن المريد الذي يطرق باب الشيخ ويطلب صحبته فأنه في حقيقة الأمر هدية من الله تعالى للشيخ، لأنه بهداية هذا المريد وتهذيبه وتقويمه سيزداد أجرا وثواباً ومرتبةً، فعليه إذن أن يرتفق به ويرحمه وذلك بأن لا يرضى بغير تأديبه، فأن افلح في تأديبه فأنه سيكون راضياً بعطاء ربه شاكراً لهديته.

        ويتجلى لنا بوضوح من خلال ما سبق، دراية الشيخ عبد القادر الواسعة في مجال التربية وفي كيفية التعامل مع النفس الإنسانية، فالتدرج في الضغط النفسي والتوالي في التصعيد في نهجي الزهد والتجرد، وأيضاً التعامل مع كل إنسان على قدر طاقته وسعة احتماله، مما يمكن عدها قوانين تعامليه ثابتة تصلح لكل عصر وكل مجتمع وفرد، لا بل إنها تصلح لكل الحالات الإنسانية المعتادة، فالمريض مثلاً الذي يحتاج إلى قطرة من دواء ما، يمكن أن تقتله قطرتان منه، والكي لا يعد من أنجع وسائل العلاج ولكنه آخر ما يرجى به الشفاء. وعليه فلا بأس عند الشيخ عبد القادر من الملاينة والمداراة ومجاراة ضعف الإنسان وغض النظر عن بعض ما تعوّد عليه، لأن ذلك في مجال التربية النفسية، يعد مساعدة له وتطميناً مؤقتاً لنفسه, ولأن أخذه بالشدة إبتداءً وربما سيودي به إلى النفرة, ربما وعدم المتابعة ، لا بل حتى الانقطاع وهنا يصح قول القائل: إن القليل المتصل خير من الكثير المنقطع.
        ويتوجب على الشيخ المرشد أن لا يترك المجال لأرادته واختياره، كي يقبل مريداً ويرفض آخر، لأن في ذلك مخالفة للإرادة الإلهية، إذ إن اجتماع المريدين عليه وإقبالهم نحوه، هو من محض تقدير واختيار الله تعالى، إذ لا يمكن لغير تلك القدرة وهذا الاختيار أن تجمع شتات القلوب على حب قلب واحد، وأيضاً، فلا يمكن أن تجتمع القلوب على حب شخص ما، إلا أن يكون هذا الشخص صاحب رسالة سماوية –أي نبياً- أو صاحب دعوة حق تسير على نهج رسالة – أي ولياً- إذن ففعل الشيخ مع مريديه لابد من أن يكون خالياً من الإرادة الذاتية والميل الشخصي أي أن يتوحد مراده مع مراده تعالى، أي أن يكون عمله متجرداً عن أي مردود شخصي أو أية فائدة دنيوية أي يكون عملاً خالصاً لوجه الله تعالى.

        فأما كيفية تعامل الشيخ المرشد مع جميع المريدين، وطريقة حفاظه عليهم على كثرتهم
        وأختلاف مشاربهم وأهوائهم وأمزجتهم, فأن ذلك يتم بمساعدة موهبة ربانية وحدس خاص يتميز بهما الشيخ دون بقية الناس وقد عرفنا من خلال ما سبق أن من بين صفات الشيخ الكامل ، كونه ذا همة وسر مع ربه، فهو بهذه الهمة يربي مريديه وبهذا السر يطلع على قلوبهم وخفايا نفوسهم، فأن وجد في بعض تلك النفوس اعوجاجاً أو ضعفاً، ساعدها على التقويم وأعانها على التجاوز، وإذا ما وقع المريد في ضيق أو شدة، فأن الشيخ يعينه على حمل بعض أحماله، كي يخفف عن كاهله، وكل ذلك يتم بشرط حفظه أسرار مريديه، بحيث لا يطلع سواه عليها، لأن ذلك من باب حفظ الأمانة ولأن هذا الحفظ سيزيد من ثقة مريديه واطمئنانهم إلى صحبته، فيجعله ذلك ((مستراحاً لهم وخزانة لهمهم وحرزاً لأسرارهم وملجأ لهم وكهفاً ومشجعاً ومقوياً لهم ومثبتاً لهم في الطريق، فلا ينفرهم عن الطريق وعن مصاحبته، وكل ذلك يكون مصحوباً بالقصد إلى الله عز وجل))(1) أي بقصد التقرب إليه ونصرة دينه وخدمة عباده، ولولا هذا القصد لبطلت الأعمال و زالت الهمم ورفعت الأسرار، أي لبطل التصوف برمته، لأن أحد أهم أركانه قد سقط، وهو صدق الشيخ وأمانته.
        ويستحب في الشيخ المرشد أن يكون حصيفاً لبقاً في تعامله مع نقائص مريديه، بحيث إنه إذا لمس من مريده أمراً ما ينكره، سواء كان خللاً شرعياً أم أخلاقياً أم نفسياً، أم انحرافاً عن نهج السلوك أم تكاسلاً عن أداء العبادات والأذكار أم إصراراً على عدم خلع الصفات الرديئة المعيقة للسلوك كالعجب والأنانية والكبر(1) فأن عليه أن ينصحه ويعظه ويؤد به في السرّ دون العلن وفي الخفاء دون الجهر وأن لا يفضحه أمام صحبه، فإذا ما أراد الشيخ أن يعمم الفائدة على الآخرين، فعله أن يكلمهم جميعاً بصورة غير مباشرة ومن دون تعيين أو تحديد، لما في ذلك من تنفير وإحراج وكشف للأسرار، ويستحب للشيخ أن يستعين على هذا الأمر بسرد القصص وضرب الأمثال والتحدث عن نفسه أو عن أشخاص من زمن غابر واجهوا الحالة ذاتها، ويحرص على تضمين كلامه ألواناً من الترهيب والترغيب، وأن يدعمه بكلام الله تعالى وحديث نبيه(r).

        وإننا لو دققنا في أسلوب التعامل الذي ينصح به الشيخ عبد القادر، لوجدا أنه أسلوب علمي يعتمد على توخي أفضل السبل في التعاطي مع النقص البشري الذي لا يعدو كونه طبيعة وفطرة واعتيادياً حياتياً، ومرة تلو أخرى تتجلى أمامنا خبرة الشيخ عبد القادر الفائقة في طبيعة النفس البشرية، فالإنسان بطبعه لا يميل إلى أن يواجه بعيوبه بصورة مباشرة، ولا يحب أن يعرى أمام الغير، وفي المقابل فأنه يحب أن يرى وصورته معكوسة في تجارب الآخرين، وأخيراً فأنه يذعن أكثر فيما لو كان الكلام الذي يسمعه مدعوماً بتأييد سماوي.
        وأما في الحالة التي يتطلع فيها الشخص إلى التصدر للمشيخة والإرشاد، في الوقت الذي لا يتوفر في نفسه الاستعداد لذلك، حيث لا يحصى فيه أي شرط من الشروط الآنفة الذكر، ولا تشتمل نفسه على أي نوع من أنواع الآداب والكمالات الروحية والأخلاقية بل على العكس من ذلك، إذ يلمس فيه ضيق الصدر أمام إقبال المريدين وإلحاحهم وكثرة احتياجهم اليه، وأنه يفشي الأسرار ولا يحفظ العهود والأمانات ويجهل أبسط مناهج السلوك ومبادئ، الطريق. الشيخ عبد القادر من جانبه ينصح هذا الإنسان أن يعزل نفسه عن هذا المنصب، لأنه لا يصلح للتأديب، بل هو أحوج من غيره إلى شخص يؤدبه ويعنيه على مجاهدة نفسه وترويضها. فأما إن كابر وأصر على التمسك بطموحه، فليعلم أنه من قطاع الطريق الذين يحجبون العباد عن معبودهم، لأنه لجهله يوجههم إلى عكس قصدهم ومرادهم.
        إذن فالشيخ عبد القادر، لا يعد المشيخة الصوفية وإرشاد الناس، مطمحاً دنيوياً أو مكسباً اجتماعياً، أو انها لقب يمكن أن يتنافس عليه المتنافسون بالقيل والقال والإدعاء الكاذب. أنها في حقيقة الأمر أمانة ثقيلة ومسؤولية جسيمة لا يحتملها أو يتمكن من إعطائها حقها، إلا من توفر فيه الاستعداد لذلك، أولاً وقبل كل شيء، عن طريق تأديب نفسه وإعدادها وتربيتها على وفق مناهج الطريق كي تكون قدوة ومناراً يهتدي بواسطته طلاب الوصول، وكي يكون أمره نافذاً في القلوب وقوله نافذاً في العقول، وثانياً: عن طريق عبادته وتقواه وزهده في الدنيا وفيما في أيدي الناس، وثالثاً: وهو الأهم، عن طريق تسلحه بعلمي الشريعة والطريقة وتمكنه منهما بحيث لا يترك مجالاً للغفلة والشك والخطأ ان يتسربا إلى أعماله.
        ولنا أن نسأل قبل أن ننتهي من موضوع صحبة الشيخ: من أين يستقي الشيخ المرشد معارفه ويكتسب خبراته؟. يجيب الشيخ عبد القادر: أنه يستقيها أولاً من العلوم الشرعية بمعاملاتها وعباداتها وحلالها وحرامها، وأنه لا منفذ ولا مستقى له غير ذلك، فأما من إدعى شرباً من غير هذا المصدر، فهو كاذب أفّاق. وأما طب النفوس والقلوب والمعرفة بالمراتب والمقامات والأحوال، فتلك معارف لدنيه(1)، تسير جنباً إلى جنب مع العلوم الشرعية ولا تحيد عنا قيد شعرة، وكونها لدنية فهذا يعني أنها تعتمد على حدس الصوفي وعلى ما يفتح الله تعالى به على قلبه من الفتوح الربانية، وكونها لدنية أيضاً فأن ذلك لا يلغي دور العبد في تحصيلها والإفادة منها، إذ إنها تعتمد بالدرجة الاولى على تقوى العبد وورعه وإخلاصه في عبادته. ويمكننا أن نلمس هنا حرص الشيخ عبد القادر على تكريس منهجه الصوفي من خلال كل المفردات الصوفية المتاحة، إذ إن جميع تلك الثمار بما في ذلك المعارف اللدنية، لا تعدو كونها غرساً للعبد وكلاءة للرب أولاً ورعاية من العبد ومباركة من الرب ثانية، على أن كل هذه المناوبات لا تخرج أبداً عن مظلة سباق العناية الإلهية.

        صحبة الأخوان


        وبعد صحبة الشيخ في الأهمية، تأتي صحبة الأخوان، وهي العلاقة التي تربط بين المريدين المتحلقين حول الشيخ ذاته. وإبتداءً فأن صحبة من هذا النوع، لابد من أن تحتوي على الشروط الكفيلة بديمومتها، كالحرص على وحدة الجماعة وتجنيب عوامل الفرقة والشقاق، وإذابة أسباب الأنانية وحب الظهور وتكريس نكران الذات مع تعظيم شأن أخلاق النبالة كالتواضع والعطف والكرم والنجدة ..الخ وفي التفصيل، فأن صحبة الأخوان تفرض على المريد أن يتحلى بالإيثار والفتوة(1) وأن يعتاد على التجاوز عن أخطاء الآخرين وأن يعمل على خدمتهم في كل الأوقات وأن لا يرى لنفسه حقاً على أحد منهم ولا يطالبهم بأي حق، بل بالعكس من ذلك أي ان يرى لكل واحد منهم حقاً عليه بوصفه جزءاً من الجماعة، وكل ذلك ينبغي أن يكون مصحوباً بالحرص على عدم التقصير في كل الحالات.
        ومن آداب الصحبة مع الأخوان، إظهار الموافقة لهم في كل ما يقولون ويفعلون ويعد هذا من العوامل الأساسية في اجتماع القلوب وتآلفها، لأن فيه تجنباً لكثير من عوامل الشتات الوهمية. على أنه ليس في هذا العامل نفاق إجتماعي على حساب مبادئ الطريقة أو مجاملة على حساب مبادئ الشرع، إذ إن عصبة يجمعها ذكر الله تعالى وحبه ستجتمع حتماً على أفعال الخير والصلاح، ولكن قد يختلف أفرادها في التفاصيل العملية التي تشكل خللاً في الدين أو في الاعتقاد. فأما إن وجد مثل هذا الخلل، فأن أمره متروك لشيخ الطريقة وحده فهو الذي يفتي فيه ويعالجه(2). وهذا التفرد في المرجعية يعين أيضاً على تثبيت وحدة الجماعة.
        وأما إذا ما وجد المريد في نفسه إلحاحاً على الاعتراض على بعض ما يصدر من إخوانه فعليه في هذه الحالة أن يكافح كي يكون معهم وفي صفهم ضد نفسه، وفي الوقت نفسه أن يفتش لهم عن الأعذار ويكون شعاره دائماً هو: ترك مخالفتهم ومنافرتهم ومجادلتهم ومماراتهم ومشاددتهم وفي الخلاصة التعامي عن عيوبهم ما أمكنه ذلك(1). فأما إن خالفه أحد الأخوان في أمر من الأمور وهو يعجز أن يوافقه عليه، فيمكنه عندئذ أن يسلم له على أمره في الظاهر، في الوقت الذي يضمر فيه خلاف ذلك، وهذه الامور وإن كان يشق على المرء إتيانها في كل الأوقات، إلا أن وطأتها تخف حين يضحى بها على المحراب الأقدس وهو: وحدة القلوب وتماسك الجماعة لأنه بغير ذلك يفشل الشيخ ويفشل المريد وتفشل الطريقة.
        ومن فروض صحبة الأخوان أيضاً: توخي حسن المعاشرة معهم ويتم ذلك بإظهار البشر في وجوههم بكل الأوقات، وفي المقابل، عدم إضمار الغش والمكر وسوء الطوية، فأما ستر العيوب وعيادة المرضى والعفو عمن أظهر من الأخوان بعض الظلم لغيره، وأيضاً رجوع المريد بالملائمة على نفسه في مقابل إساءة الأخوان إليه، واعتقاده جازماً بأنهم مأمورون وأن قلوبهم بيد الله تعالى يقلبها كيف يشاء، وإن إسائتهم تلك ما هي إلا تحذير رباني وعاجل عقوبة جراء ذنب أقترفه، كل ذلك ينفع بلا شك في توطيد عرى الصحبة بين المريدين.
        ومما يصب في ديمومة الصحبة مع الأخوان، أن لا يرى المريد ملكه ممنوعاً على أحد من إخوانه وفي الوقت نفسه أن لا يتحكم في ملكهم بغير إذن سبقت منهم، ولا يخفى ما لهذا الفعل من فوائد روحية جمة يجنيها المريد، فهو اضافة إلى تعجيله في استمالة قلوب إلاخوان، فأنه يعمل أيضاً على تعجيل اكتساب المريد لحالتي الزهد والتجرد والتخلص من عبودية الحاجات، لأن الإنسان إذا ادعى ملكية شيء، فأن ذلك الشيء في الحقيقة هو الذي يتملكه، إذ (إن المرء عبد لمن زمامه بيده)(2) و لكن بما أن ميل الإنسان إلى التملك يعد ميلاً طبيعياً فيه، فأن أفضل وسيلة له كي يتخلص من ذلك هي: أن يرى أن جميع الأشياء التي في يديه، هي في حقيقة الأمر ملك لله تعالى، وما كان ملكاً لله تعالى، فأن كل العباد متساوون فيه، فأما ما كان في يد الغير، فأن ما يقيد المريد تجاهه هو أحكام الشرع والزهد والورع(1). وهذه الكوابح لا تعمل إلا إذا طبقها المريد على نفسه ولم يطالب الآخرين بالامتثال لها.
        ان سر قوة التعاليم الصوفية تنبع من كونها تركز أساساً على اصلاح الأفراد أنفسهم فهي تستمد مصداقيتها وقوة تأثيرها في الآخرين من خلال إيمان المريدين بها، ولذا فأن تأكيد الشيخ عبد القادر على حث المريد على النظر إلى عيوب نفسه أولاً لا يعني إعفاء الآخرين من ذلك، وإنما يعني أن يباشر كل فرد بمعالجة نفسه ومن غير أن يطالب الآخرين بذلك، لأن هذه المطالبة ستشغله عن مسعاه الحقيقي فاذا ما توجه كل مريد إلى إصلاح نفسه، فأن مجموع هؤلاء سيشكل ضرورة جماعة صالحة.
        ومما يلتحق بآداب صحبة الأخوان أيضاً: حفظ القلب معهم، أي أن لا يستثير المريد حفيظتهم أو غيظهم، ويتم ذلك بأن يتجنب فعل ما يكرهونه حتى لو علم فيه صلاحهم وأن لا يجبرهم على تقبل أمر منه حتى لو علم أنه الصواب بعينه. ويجتهد على أن لا يضمر لأحد منهم حقداً أو غلاً، وإن لمس مقابلته بذلك من بعضهم، بل عليه أن يظهر لهؤلاء العطف ولين الجانب وان يبادئهم بالسلام عله يعينهم على أنفسهم ويزيل ما في قلبهم تجاهه، فأن عدم الاستجابة فعليه أن يستمر على رفقه بهم ويزيد من فعل الخير والإحسان، حتى يبلغ منهم مراده لا لسلام نفسه هو، بل لشفاء نفوسهم مما ابتلوا به فأما إن حدث العكس ولمس المريد في نفسه استيحاشاً ونفوراً من أحد الأخوان، من جراء أذى أو سوء بدر منه، فعليه أن لا يظهر له ذلك و يجتهد كي يزيل هذه الحالة عن نفسه، فان عجز فعليه أن يلازم خدمته ومساعدته حتى يدركه الشفاء التام(2)وغير تلك الآداب فأن الشيخ عبد القادر يذكر آداباً متعددة لأنواع أخرى من الصحبة كآداب المريد مع الأهل والولد وآدابه في السفر وآدابه في السماع وآدابه عند الأكل وغير ذلك مما يشمل كل فعاليات المريد ويسم جميع مرافق حياته بميسم الأدب الصوفي(3).



        صحبة الاغنياء

        فأذا ما عدنا إلى موضوع صحبة الأخوان عند الشيخ عبد القادر، فاننا لا نجدها تأتي على حال واحدة، بل هو يقسمها على قسمين: صحبة المريد مع الأغنياء و صحبته مع الفقراء، وبين هذه وتلك تقوم فروقات كبيرة تصل إلى حد التعاكس، إذ إن الصحبة مع الأغنياء تستند أساساً إلى التعزز عليهم وترك الطمع فيهم وقطع الأمل بعطائهم وإخراجهم بالكامل من القلب، لأن الفقير الصوفي إما أن يكون قد اختار الفقر بإرادته عن طريق التخلي وطلب الزهد، كي يعينه ذلك على الفلاح في السلوك لكون غنى المال هو إحدى أصعب العقبات التي تعيق تقدم المريد في معراجه الروحي لما يورثه المال في القلب من الاشتغال به والخوف عليه والحرص على إنمائه، وهذه كلها من محبطات الأعمال والعبادات والاذكار. وإما أن يكون هو فقير الحال أصلاً، ولكن في الوقت نفسه لا رغبه له في ملك الدنيا ومتاعها، لأنه اختار طريق التجرد والتخفف، كي يصل بيسر إلى الثراء الروحي والملك الذي لا يزول. وأما الحالة الثالثة التي يكون الفقير فيها مجبراً على تقبل وضعه لعسر حاله وقلة حيلته، بحيث إنه يتحين الفرص كي يفلت من مصيره و يلتحق بركب الأغنياء، فأن هذه هي حال أغلب العوام وهي لا تندرج ضمن الحالات الصوفية. وعليه ففي كلتا الحالتين الأولى والثانية، فأنه يعد خللاً كبيراً في السلوك وفي الاعتقاد وفي التوكل وفي الرضا بالله تعالى، إذا ما تقرب المريد الفقير إلى أقرانه الأغنياء طلباً لعطائهم واستعداداً لعطفهم لأن هذا التقرب يشكل آفة جامحة تلقف كل الثمار الروحية والأدبية والأخلاقية للمريد(1). فأما إن لمس المريد من نفسه العجز عن تجنب مثل هذا الميل، فالأولى به إن كان صادقاً في عزمه على السلوك، أن يقبل أكثر على رياضاته ومجاهداته وأذكاره، كي يخالف بذلك هواء نفسه ويعجل بتطويعها وكبح جماحها.
        فأما إذا ما أبتلى المريد بصحبة الأغنياء، وكان مجبوراً على ذلك، كأن تكون صحبتهم وجبت في سفر أو مسجد أو رباط أو أي عمل مشترك، ففي هذه الحالة ينصح الشيخ عبد القادر أن تكون مصاحبتهم مقرونة بحسن الخلق، وهذا الحكم وإن كان عاماً في التعامل مع الآخرين، إذ إنه يشمل الأغنياء والفقراء على حد السواء، إلا أنه من حيث التخصيص يعني: أن لا يرى المريد لنفسه فضيلة على الأغنياء باكتسابه صفة الفقر وخلاصه من بلاء الغنى، بل يرى للغني فضلاً عليه لأنه مع طيب عيشه اختار المجاهدة منهجاً له ومع علوّ شأنه اختار مصاحبة الفقراء ولأنه قد يفوق العابدين منزلة و جاهاً عند ربه بسخائه وكرمه و كثرة إنفاقه على الفقراء، وكل ذلك يعتقد به المريد الفقير كي لا يرى لنفسه قدراً أو وزناً ((لأن من جعل لنفسه قدراً فلا قدر له ومن جعل لها وزناً فلا وزن له))(1)وأما أفضل ما ينبغي على المريد أن يفعله في تلك الحالة كي يحصن نفسه ويسد عليها كل منافذ الإرباك والكدر، فهو أن يخرج الدنيا من قلبه بالكامل ويقبل على مولاه بكله، فيعود مع حالته تلك لا يضره إن أقبلت عليه الدنيا أم أدبرت أو إن عاشر غنيها أم فقيرها.
        فأما إن كان المريد هو نفسه من أهل الغنى، فأن عليه أن يتأدب مع الفقير ويحسن إليه بالتواضع والتقرب وبذل المال، لا عن عطف و مداراة ولكن عن اعتقاده بأن للفقير حقاً في ماله أعطاه الله تعالى له، وفي هذا ما فيه للغني من التحلي بصفات الكرم والشجاعة والإيثار وحب الآخرين وطلب المساواة معهم، وهي مما لا غنى للصوفي عن التحلي بها وحيازتها. وأفضل ما على الغني أن يفعله هو: إلا يعتقد لنفسه الفضل على الفقراء بل عليه أن يرى في الفقر فضيلة حجبت عنه، فيعمل على تعويض ذلك ببذل ماله وإشراك الفقراء فيه والأهم من ذلك إخراجه من قلبه(2)

        صحبة الفقراء

        فأما الصحبة مع الفقير فهي أهون على النفس وأيسر على الطبع، لأن من الطبيعي على المريد الفقير أن يؤثر صحبة الفقراء وأن يقدمهم على نفسه في المأكل والمشرب وغير ذلك، وإن من الطبيعي عليه أيضاً أن لا يجد في نفسه عليهم علواً ولا كبراً ولا فضلاً وأن يخدمهم وهو راضٍ وشاكر لربه أن جعله أهلاً لخدمة أحبابه ومواضع نظره فالفقراء هم ((أهل الله وخاصته))(1) ومع كل هذا العطاء، فأن على المريد أن لا يشعر بالمنة تجاه إخوانه الفقراء، لأن المنة في التصوف تكون لمن يقبل منك العطاء لا لك، لأن الكل غني بربه عن الخلق.
        ويستحب في المريد أن لا يحوج الفقراء إلى مسألته، بل يعجل لهم بالإجابة إن قدر عليها، وأما إن كان له حق في ذمة أحد منهم، فعليه أن يبرئه في سره ثم يخبره بذلك بعد حين كي لا ينقص من شأنه أو يشعره بالعجز عن الوفاء، وعليه أن لا يباديء الفقير بالعطاء على وجه الصلة والتقرب كي لا يتحشم منه ويشعر بالمنة والإذلال.
        ومن آداب الصحبة مع الفقراء، أن يراعي المريد قلب الفقير ومشاعره، بأن يعجل له بتحقيق مراده ولا ينغص عليه الوقت بطول الانتظار، ((لأن إبن آدم إبن يومه وليس له وقت لانتظار المستقبل))(2) وإذا كان الفقير ذا عيال، فلا يفرد بالارفاق دون من يشتغل به قلبه. وللحديث مع الفقير آدابه أيضاً، إذ عل المصاحب أن يصبر على ما يذكره الفقير من حاله، وأن يلاقيه بوجه طلق ومستبشر، ولا يخاطبه بالكلام النزر، وإذا ما طالبه الفقير بما لا يملك أو لا يحضر عنده في الوقت، فليصرفه بإحسان إلى وقت الإمكان ولا يوحشه بيأس الرد عليه كي لا تزول حشمته فيشعر بالندم على افشاء سره وربما يغلب عليه طبعه الآدمي وتستولي عليه نوازع نفسه، فيظهر عليه السخط والاعتراض على ربه فيما قسم له من الفاقة والحاجة إلى الخلق والتبذل لهم، فيؤثر عليه هذا الاعتقاد ويطفيء نور إيمانه، وكل ذلك يكون بسبب من اساء صحبته وترك الأدب في رده. وربما يعميه غضبه فيحجب عنه الحكمة الالهية الكامنة في فقره وفي سؤاله الخلق والتي كانت تفترض منه الصبر والرضا بما قسم له، وتلك من ضروريات السلوك، كي يحصل له بعد ذلك غنى اليد والقلب وتدركه يد المنة والرعاية الالهية ويتحقق له غنى عن الاشياء بخالقها، وتصير تاتيه الدنيا وهو لا يأتيها، لأنه صبر على الافلاس في الدنيا، ورد التصرف في الانفس والاموال والأولاد إلى الله عز وجل وسلم الكل اليه، إلا الأوامر والنواهي فهي مجال الكسب والثواب والعقاب ولأنها محل التكليف، ولأنها في الوقت نفسه هي التي تمسك المريد عن الانزلاق في مهاوي الكسل والتواكل ورفع التكليف وترك الرسوم والتمني على الله تعالى بالأماني التي لا تقوم على الأعمال.إذن فالمريد الذي ابتلاه ربه بعسر الحال، وكان ذلك هو قدره المحتوم، فأنه يمكنه من أن يتجاوز حالته تلك، بأن يسعى إلى التحلي بغنى النفس والقلب، فأما إذا ما أعوزته الحاجة إلى سؤال الخلق، فليعلم أنه بذلك يمتثل لأمر مولاه تعالى، وليعلم أيضاً كي يعين نفسه بذلك ويهون عليه الصبر، أن حالة الفقر لا تدوم، إذ لابد من أن يتناول بعدها الفقير، ما قسم له من الغنى الحقيقي والعز الدائم بقرب مولاه وعطائه. وعلى العكس من ذلك، فأن غني اليد فقير القلب قد تتغير به الحال، فيصير فقير اليد والقلب و يكون بذلك أبداً فقيراً إلى الاشياء طالباً لها وهي غير مقسومة له، ومن هنا يأتي عذابه ويصدر ذنبه أو أن يتغمده الله عز وجل برحمته فيتوب عن ذلك ويصلح حاله(1).

        وكما نلاحظ، فأن الشيخ عبد القادر بتقنينه للعلاقات بين المريدين من مختلف فئاتهم و طبقاتهم، وإنما هو يؤسس لعلاقات اجتماعية سليمة تستمد معانيها من تعاليم الاسلام ذاته، وهو ما ينسجم وأهداف مشروعه الاصلاحي الذي تم تفصيل الكلام فيه سابقاً. إن الواقع الاجتماعي لأي مجتمع وفي أي عصر كان، يفترض وجود تفاوتات كثيرة بين أفراده، سواء على المستوى المادي أو المعرفي أو أي مستوى آخر، وقد لا تشكل هذه التفاوتات خللاً ظاهراً في التوازن الاجتماعي، لأن الخلل الحقيقي يكمن في كيفية تعامل الناس فيما بينهم فالمسألة إذن لها تعلق بالجانب الأخلاقي والتربوي أكثر منه السياسي وهو مما يعطي مجالاً أكبر للمداخلة الصوفية.

        صحبة الأجانب

        وبعد صحبة الأخوان في الأهمية تأتي صحبة (الأجانب) وهم كل من كان خارج جماعة السالكين، وهؤلاء ينظر اليهم بعين الشفقة والرحمة لكونهم حرموا من المتع الروحية وأما احوالهم فتسلم اليهم، لأنها ضرورةً من قبيل أحوال الدنيا، وهذه هم أعلم بها من غيرهم، ولأن هذه الأحوال لو تدخل بها المريد فأنها ستشغله عن قصده الذي تخلى عن أحواله الخاصة لأجله، وأن تستر عنهم أحكام الطريقة وتحفظ عنهم أسرارها!، و لنا أن نسأل هنا: كيف يدعو الشيخ عبد القادر إلى حجب أحكام الطريقة عن (العوام) وقد علمنا أن الطريقة عنده هي بأحد وجوهها: دعوة إصلاحية عامة تهدف إلى إعادة بناء الإنسان والى إعادة تأهيل المجتمعات؟. وللإجابة عن هذا السؤال لابد من التمييز ابتداءً بين تعاليم الطريقة وأحكامها، فتعاليم الطريقة تدعو إلى الإخاء والمساواة وحب الآخرين ومساعدتهم والتجرد قدر الامكان عن ملاهي الدنيا والتطهير قدر المستطاع من أدران النفس والتقرب إلى الله تعالى بأشكال العبادات وأنواع القربات، وهي كلها تعاليم أخلاقية عامة يمكن أن يفيد منها كل الناس سواء أكانوا سالكين أم غير سالكين، وأما أحكام الطريقة وما تحتويه من جهود مضنية ورياضات شاقة وتجرد تام عن الأملاك والأعراض وخلع للإرادة والاختيار يصل إلى حد الفناء وغير ذلك مما يهول الامور على الناس وينفرّهم من السلوك الصوفي ومن ثم يعرقل عملية الاصلاح.
        وعل المريد أن يصبر على جهل الناس بأحواله وأذاهم له، وأن يتجنب التداخل معهم في أمور البيع والشراء والأخذ والعطاء وفي الخلاصة يتجنب معاشرتهم ما أمكنه ذلك حتى يتخلص من شراك الرياء والعجب الذي قد يصيبه من جراء إعجاب الناس بعبادته وتبركهم به، لأن هذا هو ديدن العامة دائماً، ومع كل هذا فعليه أن لا يرى لنفسه فضلاً على الناس إذ جعلهم ربهم من (أهل السلامة)(1) لأن الله تعالى قد يتجاوز للجاهل ما لا يتجاوز بمثله للعالم، ولأن العالم هو مع ربه على خطر دائم، لأنه يحاسب على قدر علمه.
        وعلى المريد وهو بصحبة (الأجانب) أن يوثق علاقته أكثر بفقره وبنفسه لأنه بتلك الصحبة قد يتراخى عن محاسبة نفسه وأخذها بأسباب ا لزهد، والشيخ عبد القادر ينصحه بأن يشفق على فقرة كشفقة الغني على غناه، وأن لا يسأل الله تعالى زوال ذلك عنه، أو يسعى هو إلى ذلك بالتكسب والتعلق بالأسباب. وينصح المريد أيضاً أن يقف مع كفايته، وهي: القوت من الطعام والشراب والكسوة والقدر الذي تقوم به البنية فلا تضعف عن اداء الأوامر واجتناب النواهي ومباشرة العبادات))(2) ولا يأخذ فوقها بحال فأما ما تحت ذلك، أي دون الكفاية، فهو حرام لأنه من قبيل قتل النفس. لا بل إن على المريد أن يفرح بفقره أكثر من فرح الغني بغناه، لعلمه بما يهبه إليه فقره من غنائم روحية وأخلاقية عظيمة، ولعلمه بأن صفاء حاله مع الفقر يعد خير تعويض له عن خلو يده من المال وعلمه أيضاً بأن الفقر هو أفضل قربة إلى ربه، لأن الله تعالى يبتلي عبده بالفقر ليرده إليه بالسؤال والسؤال هو ما يميز العبد من الرب والفقير الحقيقي من الغني الحقيقي، والفقر أخيراً هو الذي يخرج العبد من حال الكبر والأنفة والتعاظم إلى حال التواضع الذي هو اساس العباد(1).
        وتعزيزاً لحال الفقر، فأن على المريد أن يؤثر ذله مع الله تعالى وخمول ذكره بين الناس وعدم قبوله عندهم، على اشتهار أمره وقصد الناس اليه، لأن في ذلك سلامته وخلاصه من كثير من الأمراض النفسية التي تنجم عن مخالطة الناس وإعجابهم وإقبالهم على المريد. ومن مقتربات الفقر: أن لا يطلب المريد لنفسه حالاً أو مقاماً أو رتبة يجدها عند غيره من المريدين ويجد أنه أهل لها، لأنه بسؤاله هذا يخالف سنة السلوك، لأن المريد يكون أقرب إلى التوكل والرضا بربه فيما لو دخل في أي أمر باذن مولاه وإرادته فذلك أليق بعبوديته وأقرب له من مقام التسليم. ومن تلك المقتربات أيضاً، أن لا يجعل المريد في قلبه هم المستقبل وما تأتي به الأيام، بل يفترض به أن يكون بحكم وقته دائماً بحيث لا يتطلع إلى غيره كي لا يشتغل عن مطلوبه الحقيقي، فأن وجد في نفسه اشتغالاً بغير هذا المطلوب، فعليه أن يشغلها بالاستعداد لورود الموت الذي له فعل عجيب في تقصير الأمل وكسر النفس وإزالة وهج شهوات الدنيا عنها(2). على أننا لو دققنا النظر في كل هذه (الوصايا) لوجدنا أنها مستوحاة من المبادئ العامة لكل سلوك صوفي، فتمسك المريد بخمول ذكره وتجنبه مخالطة الناس، يعني طلبه العزلة التي رأينا سابقاً أنها من لوازم بدايات الطرق. وأما عدم مطالبة المريد بالرتب والمقامات، فأن فيه تأكيد على اخلاصه وتمسكه بمقصده الاساس وهو القرب من الله تعالى، وأما ترك الاشتغال بالمستقبل، فتلك مسألة تحتاج إلى توضيح، لأن من الواجب على المريد أن يهتم بعاقبته ويخاف مما يمكن أن تؤول إليه الامور فيما لو قصر في واجباته وعباداته، فالمقصود اذن هو عدم خوفه مما تخبئه له الايام من التقلبات وأنواع النائبات، لأن هذه في عقيدة المؤمن هي بيد الله تعالى، وما كان كذلك فالمريد أولى بالتسليم له والرضا بنزوله.
        ومما سبق يتبين لنا بوضوح، الأهمية البالغة التي أولاها الشيخ عبد القادر لموضوع الصحبة، فلقد شغلت من كتبه حيزاً أكبر من بقية الموضوعات الصوفية، ومن بين مفردات الصحبة هذه، كانت صحبة الشيخ العارف أكثرها أهمية، لكون المريد لا غنى له عنها في مراحل سلوكه كافة، ولكونها آمن الوسائل وأسلمها في تقريب العباد إلى بارئهم وتذكيرهم به، وبكون الشيخ العارف اقرب الخلق إلى بارئه وانه في كل ساعة في زيادة من هذا القرب، كما أن وجود الشيخ العارف في تشكيلة البناء الهيكلي لجماعة المريدين يعد مرتكزاً أساسياً لا تقوم لهذه الجماعة قائمة إلا به، فالشيخ هو المسؤول الأول والأخير عن سلامة مريديه الروحية والفكرية وهو الملزم بإطعامهم وإيوائهم والإفتاء بينهم وتوجيههم في كل وقت وحين، كما انه صاحب الآمر والنهي في كل ما يتعلق بأمور الطريقة بعامة وأمور كل مريد على حدة بخاصة، ولكن مع تأكيد ملح على أنه شيخ لابد من أن تتوفر فيه شروط المعرفة الربانية.
        على أن هذه الصحبة لا تتم عبر الدرس وحلقاته وأسئلته وأجوبته، بل قد يكون حضور الشيخ في قلب مريديه، هو وحده كافياً لتربيتهم وتزكيتهم، ويتم ذلك من خلال الرابطة الروحية الحية التي يقيمها المريد مع شيخه العارف والتي يستمدها من معين تجليات الأنوار الالهية، الشيخ اذن هو طبيب القلوب وخبير علل النفوس، والمريد هو ((مريض الباطن الذي لا يكون دواؤه إلا عند الصالحين من عباد الله عز وجل، فهو يأخذه منهم ويستعمله كي تحل فيه العافية الدائمة لمعناه ولقلبه ولسره ولخلوته مع ربه عز وجل، وكي تنفتح عينا قلبه فينظر إلى ربه ويصير من المحبين الواقفين على بابه الذين لا ينظرون إلى سواه))(1)فلا سبيل له غير هذه السبيل ولا باب يدخل منها إلى بيت الرحمة غير هذا الباب، والمريد بسعيه الدؤوب هذا، انما هو يسعى إلى خلاص روحه عبر حصر فعالياتها على العبودية المطلقة لرب العالمين، فاذا ما تم له ذلك، فأنه يتوجب عليه أن يكون أداة تسعى لخلاص الآخرين. على أن الخلاص في المفهوم الصوفي الإسلامي يعني تخليص النفس من العلائق المادية الزائدة وغير الضرورية التي لا تزيد الإنسان إلا تبعية لحاجاته وثم زيادة عبوديته للأشياء وابتعاده عن ربه، وهذا المعنى هو التجسيد الأمثل لمفهوم حرية الإنسان عند متصوفة الإسلام.
        إن الطريقة الصوفية عند الشيخ عبد القادر، لكونها فعالية فردية وجماعية في الوقت نفسه، يمكن النظر إليها، إضافة إلى كونها منهجاً روحياً ودينياً، على أنها نهج واقعي في التربية العامة والسلوك العملي، يهدف إلى الارتقاء بالمستوى الإنساني للأفراد والجماعات، عن طريق عملية تطهير باطني واسعة النطاق تبدأ بأفراد قلائل، ثم تنتقل عن طريق الإرشاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى غيرهم وغيرهم حتى تعم المجتمع بأكمله. إن الدين بعامة، ومن خلال أدواته الفقهية والوعظية، يعمل وعن طريق التذكير بالموت والآخرة والثواب والعقاب، على حث الناس على التمسك بالعبادات وتجنب الافعال المحرمة والاستزادة من أعمال الخير، وهو ما يشكل أساس الدين، ثم يأتي بعد ذلك دور التصوف لمن أراد المزيد، فيساعد الإنسان عبر وسائله المعهودة وبشرط توافر نية المريد وقصده، على معرفة نفسه بنوازعها وميولها وغرائزها وثم نقدها وتهذيبها وتغيير مسارها نحو مسالك الخير والصلاح، كي يتقمص الإنسان تماماً دوره المتميز الذي أنيط به من ربه. إن التصوف كما وجدناه عند الشيخ عبد القادر ينأى بنفسه تماماً عن تهمة خصوم التصوف التقليديين الذين لا يرون فيه إلا طور انتكاس وهروب سلبي وتقوقع على الذات، أننا يمكن أن نرى في طريقة الشيخ عبد القادر، أكبر مشروع واقعي للإصلاح الاجتماعي ظهر في الفكر الإسلامي بعامة بعد قرونه الثلاثة الأولى، والذي يزيد من واقعية هذا المشروع وأهميته هو أنه ظل مشتملاً على مقومات بقائه منذ ذلك التاريخ حتى الوقت الحاضر وفي بقاع واسعة من الأرض.




        (1) السهروردي – عوارف المعارف- ص423.

        (2) القشيري – الرسالة – ص228.

        (3) التوبة/ 119.

        (4) لقمان/ 15.

        (1) رواه أبو داود الترمذي في كتاب الزهد وقال حديث حسن غريب.

        (2) رواه أبو يعلي وهو حديث صحيح – مجمع الزوائد – ج/10- ص226.

        (3) القشيري – الرسالة – ص230.

        (4) القشيري – المصدر نفسه – ص229.

        (5) القشيري – المصدر نفسه – ص228.

        (1) القشيري – المصدر نفسه – ص230.

        (2) القشيري – المصدر نفسه – ص231.

        (3) السهروردي – عوارف المعارف – ص426.

        (4) الهجويري – كشف المحجوب – ص584.

        (1) الجيلاني – الفتح الرباني والفيض الرحماني – ص289.

        (1) سنن أبن ماجة – ج/2 – ص1374.

        (2) الجيلاني – جلاء الخاطر – ص16.

        (1) الجيلاني – جلاء الخاطر – ص16.

        (2) الجيلاني – المصدر نفسه – ص8.

        (3) الجيلاني – الغنية لطالبي طريق الحق عز وجل – ج/3 – ص1281.

        (1) الجيلاني – الغنية لطالبي طريق الحق عز وجل – ج/3 – ص1278.

        (1) الجيلاني – الفتح الرباني والفيض الرحماني – ص362.

        (2) الجيلاني – الغنية لطالبي طريق الحق عز وجل – ج/3 – ص1279.

        (1) الجيلاني – الفتح الرباني والفيض الرحماني – ص290.

        (2) الجيلاني – فتوح الغيب – ص68.

        (1) وقد ورد على لسان الشيخ عبد القادر قوله: ((كان لي شيخ كلما أشكل علي أمر أو خطر بقلبي خاطر، يحدثني به ولا يحوجني إلى الكلام، وكان ذلك لاحترامي وحسن أدبي معه)). – الفتح الرباني والفيض الرحماني – ص248.

        (2) الجيلاني – المصدر نفسه – ص162.

        (1) الجيلاني – الغنية لطالبي طريق الحق عز وجل – ج/3 – ص1281.

        (2) الجيلاني – الفتح الرباني والفيض الرحماني – ص160.

        (1) السماع في اللغة هو: الغناء. وقيل: الذكر المسموع الحسن الجميل، وكل ما إلتذذته الاذن من صوت حسن. إبن منظور – لسان العرب – ج/8 – ص165. وقد عرف ذو النون المصري السماع بأنه: وارد حق يزعج القلوب إلى الحق، فمن أصغى اليه بحق تحقق ومن أصغى اليه بنفس تزندق . الطوسي – اللمع – ص342، وأما القشري فيعرفه بأنه: سماع الاشعار بالألحان الطيبة والأنغام المستلذة، إذا لم يعتقده المجتمع محظوراً أو يذمه الشرع، واذا لم ينجر المريد في زمامه مع هواه أو ينخرط في سلك لهوه، وهذا هو المباح، الرسالة القشيرية – ص260. وأما الشيخ عبد القادر، فأن السماع عنده هو: الوقوف مع القوال والابيات والاشعار التي تثير الطباع وتهيج ثائرة العشاق بالطباع لا بالقلوب والأرواح، لأن عمل القلوب والأرواح يختص فقط بالسماع الحقيقي الذي هوالحديث[ [والكلام الرباني الذي هو سنة الله عز وجل مع العلماء به والخواص من الأولياء والابدال ممن خلت بواطنهم من سواه – الغنية ج/3 – ص1318.

        (2) الجيلاني – المصدر نفسه – ج/3 – ص1287.

        (3) الجيلاني – جلاء الخاطر – ص9.

        (4) الجيلاني – الغنية لطالب طريق الحق عز وجل – ج/3 – ص1288.

        (1) الجيلاني – فتوح الغيب – ص40.

        (2) ورد في سيرة الشيخ عبد القادر أن كثيراً ممن عاصره من شيوخ التصوف، ممن كان بمعيتهم آلاف المريدين، كانوا حريصين أشد الحرص على زيارته وحضور مجالس علمه ووعظه و كانوا يتحينون الفرص لخدمته وإظهار الطاعة له. راجع مقدمتي (بهجة الاسرار ومعدن الأنوار) للشطنوفي و (قلائد الجواهر في مناقب الشيخ عبد القادر) للتادفي.

        (1) يعرف الشيخ عبد القادر الشيخ المرشد بأنه: العارف بكمالات القلوب والنفوس وآفاتها وأمراضها وأدوائها وكيفية حفظ صحتها واعتدالها. وهو القادر على الارشاد والمراقبة -أي المراقبة الباطنية التي يطلع بها على بواطن مريديه- عن طريق بصيرته ورؤيته بنور ربه. الجيلاني – سير السلوك إلى ملك الملوك. مخطوطة.

        (2) الجيلاني – جلاء الخاطر – ص9.

        (1) الجيلاني – الفتح الرباني والفيض الرحماني – ص68.

        (2) الجيلاني – جلاء الخاطر – ص98.

        (1) الجيلاني – سير السلوك إلى ملك الملوك – مخطوطة.

        (2) الجيلاني – جلاء الخاطر – ص10.

        (1) الجيلاني – الغنية لطالبي طريق الحق عز وجل – ج؟3 – ص1289.

        (2) الجيلاني – المصدر نفسه – ج/3 – ص1290.

        (1) الجيلاني – الغنية لطالبي طريق الحق عز وجل – ج/3 – ص1291.

        (1) يرى الشيخ عبد القادر، أن هذه الصفات السلبية، وبالأخص منها (العجب)، تعد من أخطر الأمراض النفسية المحبطة لأعمال العباد، لأنها إن أهملت وتشعبت في النفس، قد تسقط العبد من عين الله عز وجل، لأنها تدخله في مرحلة استحالة التغيير – الجيلاني – المصدر نفسه – ج/3 – ص1291.

        (1) الشطنوني – قلائد الجواهر – ص17.

        (1) يعرف الشيخ عبد القادر الفتوة بأنها: حفظ السر مع الله عز وجل والتخلق مع الناس بخلق حسن – الفتح الرباني والفيض الرحماني – ص31.

        (2) الجيلاني – الغنية لطالبي طريق الحق عز وجل – ج/3 – ص1305.

        (1) الجيلاني – الغنية لطالبي طريق الحق عز وجل – ج/3 – ص1292.

        (2) الجيلاني – المصدر نفسه – ج/3 – ص1306.

        (1) الجيلاني – الغنية لطالبي الحق عز وجل – ج/3 – ص1306.

        (2) الجيلاني – المصدر نفسه- الصفحة نفسها.

        (3) الجيلاني – المصدر نفسه – ج/3 – ص1307.

        (1) لدعم هذا الرأي فأن الشيخ عبد القادر يستشهد بحديث النبي محمد (r): ((من تضعضع لغني لأجل ما في يديه ذهب ثلثا دينه)) الغنية لطالبي طريق الحق عز وجل – ج/3 – ص1293 – والحديث رواه إبن مسعود – أنظر اللآلي المصنوعة – ج/2 – ص170.

        (1) الجيلاني –– الغنية لطالبي طريق الحق عز وجل – ج/3 – ص1294.

        (2) الجيلاني- المصدر نفسه – الصفحة نفسها.

        (1) الجيلاني – الغنية لطالبي طريق الحق عز وجل – ج/3 – ص1295.

        (2) الجيلاني – المصدر نفسه – ج/3 – ص1296.

        (1) الجيلاني – الغنية لطالبي طريق الحق عز وجل – ج/3 – ص1299.

        (1) المقصود بأهل السلامة هنا: هم العوام الذين يفضلون صفو العيش ويسر الحال وراحة البال على الاشتغال بالتفكر ومجاهدة النفس، ولا يعني هذا أنهم غير متدينين بل يعني أنهم يأخذون بالحد الأدنى من ظاهر الدين.

        (2) الجيلاني – الغنية لطالبي طريق الحق عز وجل – ج/3 – ص1300.

        (1) الجيلاني – الغنية لطالبي طريق الحق عز وجل – ج/3 – ص1301.

        (2) الجيلاني – المصدر نفسه – ج/3 – ص1302.

        (1) الجيلاني – الفتح الرباني والفيض الرحماني – ص191.


        تعليق

        يعمل...
        X