إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

التصوّف عند الشيخ عبد القادر الجيلاني 3

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • التصوّف عند الشيخ عبد القادر الجيلاني 3

    الفصل الثالث:
    الجوانب النظرية
    أ- الحب الالهي
    ب- وحدة الشهود
    ج- الانسان الكامل
    • الحب الإلهي
    تقديم

    تعد الحضارة العربية الإسلامية, من بين أكثر الحضارات, إهتماما بموضوع الحب بكل أشكاله ومستوياته التي عرفها البشر, ومن خلال جميع أصناف الفكر التي أفرزتها هذه الحضارة, من دين أو أدب أو فلسفة, حتى أننا لا نعدم فيها, فقهيا, ظاهريا, يؤلف كتابا مستقلا في هذا الشأن.(1) وقد كان المرتكز الأهم, لموضوع الحب, لكل أنواع الإبداع الفكري, هو الشعر العربي, الذي لم يغادر, صغيرة ولا كبيرة, ولا لونا من ألوان الحب, سواء الحسي منه أو العفيف, إلا وذكره بأدق تفصيلاته ومعانيه, إلى درجة, أن الصوفية أنفسهم, وهم أهل الحب الإلهي دون منازع, لم يجدوا مندوحة, من الأستعانة به, في توضيح بعض مقاصدهم, وبخاصة, ما يتعلق منه بالحب العذري, وبالأخص شعر مجنون ليلى.

    في الحقل الديني, شكّل حب العبد ربه, وطلب التقرب منه, الوازع الأكبر الذي دفع بكثير من عبّاد المسلمين وزهادهم, إلى تحري الوسائل والسبل الكفيلة بتحقيق هذا الهدف ونيل هذا المراد, وكان من بين نتائج هذا (التحري) والتعمق في خطرات القلب وفي لطائف أسراره, أن ظهر الفكر الصوفي الإسلامي, الذي ظلّ, هاجس الحب الإلهي, ملازما له, طوال مراحله وأطواره المتعددة, ولكن, بالتأكيد, مع نضج ملحوظ, ودقة متميزة في التعامل مع لواعجهة وهمومه ونوازله, وكانت هذه الملازمة, بين الحب الإلهي والتصوف الإسلامي, وهي نتيجة لازمة, لأعتقاد أغلب الصوفية, بأن سلوك الطريق الصوفي, وهو الذي سيهدي قلوبهم, حتما إلى مزيد من الحب لمولاهم, وثم إلى مزيد من طلب العزلة, والتفكر فيه والأختلاء معه, وهذه الأمور كلها, تعد في نظر المحبين شروطا تدل على صحة المحبة وصدق الأشتياق.(1) وهو معنى قول أبي طالب المكي (ت 358هـ): (أن من علم المحبة, سهر الليل بمناجاة الجليل والحنين إلى الغروب, شوقا إلى الخلوة بالمحبوب, ومناجاة سرائر الوجد, ومطالعة الغيوب).(2) وكما نلاحظ, فأن الحب, أنّى توجه, نحو السماء أم نحو الأرض, فأنه سيستوجب الأشراط ذاتها, من سهر وحنين وإشتياق إلى المحبوب, حتى وأن كان هذا المحبوب, هو الله تعالى ذاته.

    إن كل سعادة, ترتجى, من جرّاء التعلق بأي محبوب, سوى الله تعالى, يرى الصوفية, أنها صورة وهمية للسعادة الحقيقية التي لا تخضع للتغير أو الزوال, وهي السعادة المصاحبة لمطالعة الجمال المطلق, جمال تجليات الحضرة الإلهية ولقد وجد الإنسان المُحب, أن هاجسه الملّح, إلى أمتلاك الحقيقة المطلقة, وبلوغ السعادة المطلقة, والبقاء المطلق, لا يمكن تحقيقه, إلا من خلال السلوك الصوفي, الذي أساسه المحبة الإلهية, والتي تنبثق بدورها من عمق معرفة العبد بربه, ولأجل ذلك, سمّي الصوفية بالعارفين, لأنهم أكثر الناس معرفة بربهم, فلقد خلصوا له وأختصوا به وتفكروا في خلقه وقدرته وعظمته, وأن معرفتهم تلك, هي التي أفضت بهم إلى الحب الإلهي, وليس العكس, إذ لا حب قبل المعرفة.

    وفي ساحة السلوك الصوفي, فأن المحبة هي أصل جميع المقامات والأحوال, فهي أصل التوكل والشكر والصبر والرضا, وكذلك فهي أصل الشوق والخوف والرجاء, على أن التمكن من المحبة الإلهية, على الحقيقة, لم يختص به سوى سيد الخلق أجمعين, محمد (r) فهو حبيب الله تعالى بلا منازع, وهو صاحب مقام الحب أصالة, وكل من أخذوا بأسباب الحب بعده, فهم عيال عليه, وهو قدوتهم فيه, ولقد أعطي من أسرار هذا المقام, ما لم يعط غيره من الأنبياء (u) ولتحققه به, فقد قال تعالى في حقهقل إن كنتم تحبون الله فأتبعوني يحببكم الله)(3) وقوله تعالىمن يطع الرسول فقد أطاع الله)(4)

    إذن، فقد جعل ألله تعالى، محبته في محبة نبيه، وطاعته من طاعة نبيه، وما ذلك إلا لأنه وفَرَ نصيبه من نوره الذي أفاضه على العالم، بواسطته، ولذلك سماه: نوراً وسراجاً منيراً وجعله رحمةً للعالمين، وبذلك النور، كان (ص) يدعو الخلق إلى ربه تعالى، ليوصلهم بالنور إلى النور .(1) وهكذا هي دائماً، نظرة الصوفية للأمور، فعندهم, ليس بالعقل ولا بالحجج والبراهين, ولا بحفظ الأقوال والأكثار من الرسوم والحركات, يصل الإنسان أو يتقرب من ربه, وإنما هو يصل بنور البصيرة, والحب الذي هو أداة القلب الوحيدة في التقرب إلى الله تعالى.

    تعريف الحب عند الصوفية

    عرّف الحب الإلهي عدة تعريفات, وهذه التعريفات بمجملها, لا تعدو كونها تعريفات للفعل الصوفي, بعموم معناه, ومن هذه التعريفات, إن الحب الإلهي يعني: تعلق القلب بين الهمّة(2) والأنس(3) في البذل والمنح, على الأفراد. وهو أول أودية الفناء, لأن العبد إذا لم يفعم قلبه بحب مولاه, فسوف لا يتمكن من خلع صفاته ونسيان ذاته في مقابل صفات وذات حبيبه. وحب الله تعالى, هو العقبة التي ينحدر منها المريد على منازل المحو, وكونه عقبة, فأن هذا يعني أنه صعب المنال, إذ إن على محرابه تُذبح الكثير من الصفات والأهواء والطبائع غير الملائمة, وهذا مما يعسر على النفس الإنسانية تقبله. والحب الإلهي, هو: آخر منزل تلتقي فيه مقدمة العامة مع أولى خطوات الخاصة, إذ إن كل الناس يتقربون إلى الله تعالى بأنواع القربات, وأما الحب, فقليل من عانة الناس من يتعاطاه, وأما الخاصة منهم فهو أول منازلهم, وكما أنه في الوقت نفسه آخرها, والحب الإلهي هو سمة الطائفة – أي الصوفية – فهم أهل الحب الإلهي, وهو عندهم عنوان الطريقة, لآن طريقة هي طريقة وصول وتقرّب إلى المولى تعالى, ولا وصول ولا تقرب بغير وازع الحب, والحب الإلهي هو معقد النسبة, أي أنه عامل تقريب المناسبة بين العبد وربه إذ لا وسيلة مثله, ترقق النفوس وتجلي القلوب وتحسن الطبائع.(4)
    أما القشيري, فهو في معرض تعريفه للحب الإلهي, يردّ أولا على العلماء – أي أصحاب النظــر العقلي من المتكلمين والفلاسفة – الذين يرون أن المحبة هي الإرادة, وهذا هو غير مُراد الصوفية, إذ إن الإرادة لا تتعلق بالقديم, اللهم إلا أن يُحمل المعنى على إرادة التقرب إليه تعالى والتعظيم له, يرى القشيري: إن المحبة لا توصف بوصف ولا تحد بحد أوضح ولا أقرب إلى الفهم من المحبة نفسها. وهنا أشارة لطيفة من القشيري إلى أن المحبة, عموما, لرقتها وشفافية الإحساس بها, وتعلق القلوب الصافية بها, مثلما لا تتعلق بشئ آخر سواها, فأنه يصعب وجود مثيل لها, تُعّرف به أو من خلاله, ولذلك كان أشبه شئ بها, هو المحبة ذاتها, ولعل في هذه الإشارة جانبا معرفيا, فكون المحبة إحساسا ذوقيا وتجربة معاشة, فأنه يعسر وصفها إلا لمن ذاقها وأحس حرّ لواعجها, ويحاول القشيري أن يدلنا على مقاربة وصفية لمعنى الحب الإلهي من خلال العودة إلى الأصول اللغوية لكلمة الحب, والتي تعني أولا: صفاء المودة فالعرب تقول لصفاء بياض الأسنان ونضارتها: حَبَب الأسنان, وقيل الحُباب هو: ما يعلو الماء عند المطر الشديد وقيل أيضا أن الحب مشتق من حباب الماء, بفتح الحاء وهو معظمه, فسمي بذلك لأن المحبة هي غاية معظم ما في القلب من المهمات, وقيل أن أشتقاقه مأخوذ من اللزوم والثبات, إذ يقال: أحبّ البعير, أي أنه برك فلا يقوم, فكان المحب ل يبرح بقلبه عن ذكر محبوبه, وأخيرا فأن المحبة في التعريف بها تعني: غليان القلب وثورانه عند العطش والأهتياج إلى لقاء المحبوب.(1) ولعل القشيري, بعودته إلى الجذور اللغوية لكلمة الحب, أراد أن يدلنا على ما أشتملت عليه هذه (الجذور) من المعاني التي كان يطمح الصوفية في أن يعبّروا عنها من خلال حبهم الإلهي, ولعله أراد أن يخبرنا بأنهم – أي الصوفية – لم يبتدعوا شيئا جديدا, ولم يقفزوا على واقعهم البشري, بل هم أحبوا ربهم, وعبّروا عن حبهم, مثلما يفعل كل المحبين من البشر, مع أختلاف موضوعاتهم وتفاوت غاياتهم.

    وفي الأصطلاح الصوفي, يحصي لنا القشيري, عدة تعريفات للحب الإلهي, فلقد عُرّف بأنه الميل الدائم بالقلب الهائم.(2) وهذا التعريف يميل إلى عد الحب من المقامات وليس من الأحوال, فالحب يعتمد على أستمرارية ميل القلب إلى الحبيب, وأن الذي يدفعه إلى الأستمرار في هذا الميل, هو الهيام الذي يخالطه, فإذا ما عرفنا أن الهيام يعني ذهاب التماسك تعجبا وحيرة,(3) لعلمنا أنه ناتج من فعـل مطالعة العبد في عظمة الملكوت.
    وعرّف الحب بأنه: أيثار المحبوب على جميع المصحوب, وهو مقام التفرد والفناء عن كل السوى بما فيه النفس, لأنها أيضا من المصحوبات. ويعني الحب أيضا: موافقة الحبيب في المشهد والمغيب, وهذا التعريف يقترب كثيرا من حدود مقام المراقبة, وهو مقام المحبين المحققين, وهو يعني, علم القلب بدوام شهود المحبوب له, فهو – أي المحب – دائم الأطراق مستجمع الهمّ, شديد الفكر في المحبوب, معرض عما سواه.(1) ويعرّف الحب أيضا بأنه: مواطأة القلب لمرادات الرب, وهذا الحب يشير إلى مقام الفناء عن الإرادة والى التسليم والطاعة والأخلاص وحسن التوكل. ثم يورد لنا القشيري رأي أبي يزيد البسطامي (ت 261هـ ) والذي يعرّف الحب بأنه: أستقلال الكثير من نفسك واستكثار القليل من حبيبك. وهو هنا يقرّب بين مفهوم الحب وبين مفهومي الفتوة(2) والإيثار(3), على أن هذا التعريف, بوضوحه وبساطته, يعكس لنا مستوى الثقافة الصوفية في القرن الثالث الهجري. وأما سهل بن عبد الله التستري ( ت 283هـ ) فقد عرّف الحب الإلهي بأنه: معانقة الطاعة ومباينة المخالفة, والمحبة عنده تعني: أن تهب كلك لمن أحببت, فلا يبق لك منك شئ. ولا داعي لأن نشير إلى مدلولات هذا التعريف, فهو واضح الأرتباط بمدارج السلوك الصوفي بوجه عام. ثم أخيرا يأتي دور أبي بكر الشبلي (ت 334هـ ) الذي يرى أن المحبة مأخوذة من المحو, إلا أنها تمحو من القلب كل ما سوى المحبوب.(4) ولعل هذه الوظيفة الأخيرة للحب هي أخص معانيه ودلالاته الصوفية, إذ لا يمكن للمريد أن يكون محبا لله تعالى, إلا بعد أن يتجرد تماما من جميع العلائق والأغيار والمطلوبات الدنيوية منها والأخروية.

    المحبة الخالصة

    على أننا كلما تقدمنا خطوات في الزمان (الصوفي), كلما وضعت أمامنا صورة الحب الإلهي وأتخذ معناه مستوى أكثر عمقا, فالشيخ عمر السهروردي (ت 632هـ ) وهو من تلاميذ الشيخ عبد القادر, ومن الآخذين بمنهجه الصوفي, يصنف الحب الإلهي من بين الأحوال, لا بل هو عنده

    أصل لكل الأحوال الأخرى, مثلما التوبة في المقامات.(1) يسمي السهروردي المحبة الإلهية بـ (المحبة الخالصة), تمييزا لها عن غيرها من صنوف المحبة, وهذه المحبة لا تكون خالصة, إلا أن يحب العبد ربه بكليته, لأن العبد قد يكون في حال ما, وهو قائم بشروط حاله بحكم العلم, ولكن جبلته تتقاضاه بضد العلم. وعليه, فهو يشير هنا, إلى ضرورة المجاهدة الصوفية من أجل مطابقة فعل الجبلة لحكم العلم. وهذه النقطة تستحق أن نتوقف معها قليلا, إذ أن فيها إشارة إلى تفضيل التصوف العملي, الذي يتدرج المريد معه صعودا, في المقامات والأحوال, حتى يصل إلى مرحلة الفناء عن نفسه والبقاء بالله, على التصوف العقلي أو الأشراقي, الذي يعتمد على العقل والحكمة, وسيلة لأستشفاف فيض النور العلوي الذي صدرت عنه كل الأنوار الأخرى.(2) على أن الشيخ عمر السهروردي لا يطعن في مشروعية هذا السبيل الأخير, ولكنه يرى فيه وسيلة خطرة وهشة قد تنهار أماك ثورة الغرائز ويقظة الطباع.

    الحب العام والحب الخاص

    والحب الإلهي ينقسم عند الشيخ عمر السهروردي على قسمين, حب عام وحب خاص, الأول يتحقق بالأمتثال للأوامر الإلهية, وهو قد ينبع من العلم بالآلاء والنعم الإلهية, ويمتاز هذا الحب بأنه: يُخرج العبد من صفاته الذميمة ويدفعه نحو التحلي ببدائلها. إذن فللعبد في هذا الصنف من الحب والأرادة, فهو إذن من المقامات.(3) وأما الحب الخاص, فهو حب الذات من دون النظر إلى شئ سواها, حتى لو كان هذا السوى هو نفس المحب, فهو إذن فناء وتماهٍ, وشرط هذا الحب أن تلحقه السكرات, إذ إنه لا يكون حبا حقيقيا. إن لم يكن فيه ذلك, والسكرات هي حالات الشطح والغيبة التي تعتري الصوفية في بعض أحوالهم. هذا الحب ليس لإرادة العبد فيه يد, بل هو أصطناع من الرب وإصطفاء محض, فهو إذن من الأحوال. وأما نسبة هذا الحب إلى النوع الأول, أي الحب العام, فهي كنسبة الروح إلى الجسد, ولك أن تقرر الفرق بين (الحبين).

    إذن ففي موضوع الحب, لم تختلط الأمور عند الصوفية, كما يرى ذلك البعض, بل هم يميزون بين حب الناس بعضهم لبعض, وهو عندهم حب وهمي, يدل على عدم أدراك الإرادة الحقيقية للروح البشرية, وحب العبّاد لمولاهم, وهو الحب الحقيقي المغروس في لأصل فطرتهم, وهذا الأخير يقع على درجات, حسب مراتب العباد ومجاهداتهم الروحية.(1) على أن حب العبد ربه, لا يشتمل شكل من الأشكال التجاوز على الذات الإلهية, لأنه لا ينبع من الأشتهاء والنيل التماثلي كما أن حب الرب عبده, يعد حقيقة واقعة, غير مختلفة, تدعمها الكثير من الأسانيد الشرعية التي سيأتي بيانها في حينها, وهو في الوقت نفسه لا يدل على الأشتياق النفسي لسدّ النقائص, وإنما هو يعني الواصلة باللطف والمنة والكرامة.

    وهكذا فالشيخ عمر السهروردي يحدّ الحب الخاص بأنه: الخروج من الكلية, إذ إن حقيقة المحبة هي: (أن تهب لمن أحببت كلك, ولا يبق لك منك شئ).(2) وهذا يعني بلغة أخرى, أن الحب الخاص يعني التحقق بمقام الفناء الوجودي, وهو المقام الذي ما بلغه العبد, فستنتفي عنه جميع المساعي لبلوغ المقامات الصوفية الأخرى. إن الحب الخاص يعمل على تصفية النفس وتزيينها بالمعرفة والنور الإلهي, وهذا هو عين المقامات على النفس. وعليه فالحب الإلهي الخاص, هو خير وسيلة للتقرب من الله تعالى(3) إذ إنه مع نزاهة النفس وصفائها, فأن العبد يكون أقرب ما يكون من مولاه على أن (السهروردي) لا ينسى أن يذكرنا, بأن الحب في حقيقته, لا يتوقف على جهد العبد وتزكيته لنفسه, بل هو موهبة ربانية غير مرتبطة بعلة أو سبب, نعم أن تزكية النفس تقرّب الوسيلة, لا تحتمها. وأخيرا, لابد من ذكر ملاحظة مهمة, لعل السهروردي أهتم بها أو آثارها, لكونه قد تتلمذ على يد الشيخ عبد القادر, وهي: إن حب الله تعالى, بكل أشكاله ومستوياته, لا يمكن أن يلغي الورع أو يسقط عن العبد التكاليف والفرائض, وأن من أدعى محبته تعالى من غير تورع عن محارمه وأقبال على أوامره, فهو مدّع كذاب.(4)

    الحب أصل الوجود

    ولشدة أهتمام مفكري الإسلام بموضوع الحب, فقد تبناه بعضهم مبدأً عاما من مبادئ الوجود الكوني وليس البشري فقط, بحيث أن الحب أصبح هنا, كالنسخ الذي يسري في مفاصل الذوات كافة, حيّها وجمادها. ويأخذ بهذا الرأي المفكر المغربي, أبو زيد عبد الرحمن الأنصاري المعروف بأبن الدبّاغ (ت 696هـ ) صاحب الرسالة المشهورة: (مشارق أنوار القلوب ومفاتح أسرار الغيوب).(1) والتي يقول فيها: أن النور الذي ظهرت به الأشياء, عان في الموجودات كلها, من أعلى العليين ومنحدرا إلى أسفل السافلين, وأن بالمحبة تمت الكائنات وعنها وجدت على أختلاف الحركات, فهي كامنة في كل جوهر, وما من وجود في العالم إلا وله نصيب منها, وبحسب المحبة يكون صعود الصاعد إلى العوالم الروحانية.(2) وقبل الأسترسال مع (أبن الدباغ) في آرائه في الحب, لابد من الأشارة إلى أن آراءه تلك لا تخلو من تأثيرات أشراقية وثنوية ويونانية قديمة, وبخاصة من هذه الأخيرة, فيلسوفها (أنباذوقليس) الذي عاش وأشتهر أمره في أواسط القرن الخامس قبل الميلاد, والذي جعل من المحبة مبدأ اساسيا من مبادئ الوجود, تتكون وتتجمع فيه الأشياء.(3) إذن فقد بلغ أبن الدباغ بعامل الحب الإلهي ذروة تأثيره في الكون, بحيث أنه جعل منه سببا في وجود ماهو موجود, وميزة تدرج الكائنات في المراتب, وفقا لدرجة أخذها منها.

    إن أكثر ما يلفت النظر في آراء أبن الدباغ, هو تعريفه الفريد للحب, فهو عنده: إبتهاج يحصل للنفس عن تصور حضرة ما.(4) ولنا أن نتصور فرط الشعور بالبهجة العظيمة الناجمة عن تصور الحضرة الإلهية. إذ إن مجرد التفكر في عظمة الخالق وكبريائه وعزه وجلاله, يورث النفس ألوانا من الأضطراب والأغماء والخزوج عن عالم الحس, وأمور جسيمة أخرى ربما خرجت معها روح المريد فرقا وخوفا من الله تعالى, وربما بدرت منه أمور وأفعال غير مستساغة في العقل.(5) ولعل أبن الدباغ, في هذه العبارة يحاول أن يسوغ ما يعتري الصوفية في بعض أحوالهم من فقدان الحس المؤقت والهياج والأرتجاف, وغير ذلك مما ينكره عليهم خصوصهم.

    إذن فالتفكر زالتأمل في بدائع الجمال والكمال الإلهيين, هما من أقوى وأهم العوامل التي تفعم النفس بمحبة خالقها والشوق أليه. ويبدو جليا من هذه العبارة, مدى تأثير أبن الدباغ بالفلسفات الأشراقية التي كانت سائدة بين أوساط المفكرين في عصره, فهو من جانبه, يرجح الأعتماد على العمليات الذهنية لأكتساب مزيد من الحب الإلهي ومن ثم مزيد من القرب من الله تعالى.

    الحب العرضي والحب الذاتي

    [IMG]file:///C:%5CUsers%5Ctac%5CAppData%5CLocal%5CTemp%5Cmsohtm lclip1%5C01%5Cclip_image001.gif[/IMG]الحب عند أبن الدباغ, يقع أيضا, على قسمين: حب عرضي وحب ذاتي. الحب العرضي له تعلق بغير ذات المحبوب, مثل محبة أحسانه وطلب منافعه ودفع مضاره, وأما الحب الذاتي, فهو متعلق بذات المحبوب, وهو أيضا يقع على قسمين: ما يعقل سببه ومالا يعقل له سبب. الأول هو محبة جمال المحبوب وكماله الذاتيان, والثاني هو محبة المحبوب بحسب ذاته, وهذا الأخير ينقسم على عشرة أقسام, بحسب المبادئ والغايات. خمسة منها هي مقامات للمحبين السالكين وهي: الألفة والهوى والخلّة والشغف والوجد.(1) وخمسة هي مقامات للعشاق السالكين وهي: الغرام والأفتتان والوله والدهش والفناء.(2) علما أن المحب عنده, هو المريد, بينما العاشق هو المراد, وقد مر بنا سابقا,
    الفرق بين المريد والمراد عند الشيخ عبد القادر.

    الفرق بين حالي الجمع والتفرقة
    ويشترط أبن الدباغ, كسابقيه, في المحب, أن لا يتوقف عن الترقي في مقامه, لأنه إذا ما شاهد من محبوبه صفة, فتوقف معها, كان ذلك عين حظه منها, وحجب بها عن الزيادة, بينما المطلوب منه أن يتواصل مع مقامه, حتى يبلغ حالة الدهش, التي تذهل معها النفس عن عالم الحس, بل عن عالمها الخاص بها, وهو مقام الحرية. ومعنى الحرّ عند الصوفية, هو الذي لا يسترقه شئ من الأكوان والأعراض, بل لا يسترقه شئ غير محبوبه, فهو بالأضافة إلى الأكوان حر وبالأضافة إلى المحبوب عبد, إذ المحب مطلقا, هو الفقير مطلقا, والمحبوب مطلقا, هو الغني مطلقا. وعند هذه النقطة فقط, يتحقق للعبد مقام العبودية الحقة التي لم يبلغها إلا النبي محمد (r) وعند هذه المرحلة بالذات يزول الشوق عن المحب, لأنه بلغ الوصول, وتنتفي الحاجة إلى المقامات والأحوال لأنه أصبح من الكاملين.(1) على أنه في كل الأحوال, فأن المحب لا يعدم في نفسه أحدى الحالتين فأما أن يكون في حالة جمع, أو في حالة تفرقة, الأولى يكون فيها فانيا عن نفسه موجودا بوجود محبوبه, لأنه أن فني عن نفسه, فقد فني عن سائر العالم, إذ إن نفسه هي أقرب الأشياء أليه وفي هذه الحالة, يرى المحب محبوبه في كل شئ ويسمع كلامه من كل شئ, ولا يختص أدراكه له بشئ دون شئ, لا يبقى فيه جزء وهو خال عن حبيبه, والأشارة هنا إلى وحدة الوجود. أما الثانية, أي حالة التفرقة, فيكون فيها المحب ناظرا إلى نفسه, أي يكون خارج حدود ساحة الفناء, وهو حالة الوجود الجديد الذي مر ذكره عند الشيخ عبد القادر.(2) ومنكل ما سبق يمكننا أن نخلص, إلى أن مفكري الأسلام, من بقاع الأرض المختلفة, ومن مختلف المشارب والمذاهب والأتجاهات, قد خاضوا في موضوع الحب, سواء منه الحب الإنساني أم الحب الإلهي, ولم يتحرجوا منه ولم يعدوه خروجا عن الملة ولا مروقا على الدين, وأن هذا المفهوم – أي مفهوم الحب – أزداد البحث فيه, نموا ودقة وتفصيلا, مع تعاقب القرون على الحضارة الإسلامية, بحيث أننا نجد أن مفكرا كأبن الدباغ وهو من القرن السابع الهجري, يفصّـل


    يفصّل الكلام كثيرا في هذا الموضوع, إلى درجة إنه يذكر له مرادفات ومشتقات كثيرة جدا, ويذكر لكل واحد منها تعريفا دقيقا أو شرحا مفصلا, لا نجد له مثيلا في (القرون الأولى) من عمر الحضارة.


    مشروعية الحب الإلهي

    إذن, فلا يمكننا أن نعد الحب الإلهي, أمرا طارئا على الفكر الإسلامي, كما حاول أن يذهب إلى ذلك بعض المستشرقين ومن تبعهم بأحسان من الدارسين العرب, إذ نسبوه تارة إلى الأفلاطونية المحدثة, وأخرى إلى الدين المسيحي أو إلى الحضارة الهندية, أو الحضارة الفارسية, أو إلى غير ذلك من المصادر التي نسب أليها أروع نتاجات الحضارة الإسلامية, وكأن الإنسان العربي, على وفق هذه النظرة, كان عاجزا عن أن يحب ربه, إلا أن يرى غيره يفعل ذلك.

    إن ذكر الحب كعلاقة تربط بين العبد وربه أو بين الرب وعباده, وردت كثيرا, وبشكل صريح, في مواضع متعددة من مرتكزي الدين الإسلامي, أي الكتاب والسنة, ففي القرآن الكريم, ورد قوله تعالى: (يحبهم ويحبونه)(1) وهذه الآية, تشتمل على إشارتين هامتين إعتمد عليهما الصوفية كثيرا في تأصيلهم لنظرية الحب الإلهي, الأولى أن الله تعالى يحب عبده مثلما العبد يحب إلهه, والثانية هي: إن حب الله عبده سابق على حب العبد مولاه, فالعبد لا يمكنه أن يحب ربه, إلا بعد أن يأذن له ربه بذلك, بأن يحبه أولا. وكذلك ورد قوله تعالى: (والذين آمنوا أشد حبا لله)(2) وهذه الآية تتضمن الأشارة إلى وجود مراتب للمحبين, وأن فيهم من هو أكثر حبا لله تعالى من غيره, وكذلك فهي, تؤكد المجاهدات الروحية والسلوك الصوفي بوجه عام. وأما قوله تعالى: (إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين).(3) فأن فيه تأكيد على أن التوبة والتطهير, هما من شروط المحبة الإلهية, وهما أيضا من دلائل المجاهدات والترقي في مقامات الروح.

    وأما في السنة, فقد ورد قوله (r): (لا يؤمن أحدكم حتى يكون الله ورسوله أحب أليه من سواهما).(4) وهذا الحديث أيضا يضع حب الله ورسوله (r), شرطا للأيمان. وكذلك قول الرسول



    (r): (من أحب لقاء الله, أحب الله لقاءه, ومن لم يحب لقاء الله, لم يحب الله لقاءه).(1) وهو حديث يتضمن التصريح بأعلى درجات القرب, وهو تحقق اللقاء, أما كيفية هذا اللقاء, وهل هو لقاء معنوي, يشير إلى التمسك بالطاعات وترك المعاصي, أم هو لقاء حقيقي, ينعم به الله تعالى على المقربين من عباده؟ فهذا ما أختلف عليه المفسرون, كل حسب مرجعياته الفكرية والمنهجية. وأخيرا نذكر قوله (r) في الحديث القدسي: (لا يزال عبدي يتقرب اليّ بالنوافل, حتى أحبه, فأذا أحببته, كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي عليها).(2) وهذا الحديث يؤكد, عليه أغلب الصوفية, ويذكرونه كثيرا في أستشهاداتهم, لأنهم يرون فيه صراحة العبارة, في تأكيد كرامات الأولياء وكذلك تأكيد قولهم بالوجود الجديد الذي يؤول أليه العبد بعد تمكنه من درجة القرب من مولاه, وفيه أيضا إشارة إلى مرتبة الخلافة العظمى.(3)

    إختلاف الآراء في الحب الإلهي

    في تاريخ الفكر الإسلامي, بعامة, كانت مواقف المسلمين من موضوع الحب الإلهي قد تباينت تباينا ملحوظا, إذ أنكره بعضهم متذرعا بأستحالة حصول المناسبة بين الخالق والنخلوق, لإان هذه المناسبة, تعد شرطا لازما لأثبات صحة المحبة, ويرى أصحاب هذا الرأي, أن ما ورد من نصوص, في الأسانيد الشرعية, مما يشير إلى موضوع الحب الإلهي, لا يعدو كونه, في حقيقته ضربا من ضروب المجاز البلاغي والتمثيل اللغوي, وإن الله عز وجل, وعلى خلاف الظاهر من هذه النصوص, لا يحب ولا يُحب, لأن المحبة, وبكل أشكالها وصورها, لها من اللوازم والتبعات, مما لا يليق بالذات الإلهية, مثل الشوق والأنس والألتذاذ, ونحو ذلك من الصفات والنوازع مما يجدها المخلوقون, ومما يجب أن تتنزه عنه الذات الإلهية, بحكم صفة الألوهية التي تستوجب الغنى



    والعزة والصمدانية.(1)
    طائفة أخرى من مفكري الإسلام, أقرّت صحة الحب الإلهي, وأخذت به, ولكنها أولته تأويلات هي أقرب إلى الفهم الأخلاقي الظاهري منه إلى الفهم الصوفي الذي يصل بالدلالات إلى أقصى مدياتها الظاهرية والباطنية – فأن المراد من الحب الإلهي, على وفق رأي هذه (الطائفة), هو الطاعة والعبادة والشكر من العبد تجاه الرب, والكلاءة والرحمة والحفظ من الرب تجاه العبد, ويضيف أصحاب هذا الرأي, أن أقصى ما يمكن أن نفهمه من المحبة هو: أنها أحدى الصفات التي وصف بها الباري تعالى نفسه, وعليه فلابد من الأعتقاد بها, ولكن من دون النظر في ماهيتها أو كيفيتها.(2) وهذا الرأي يشتمل على موازنة (أشعرية) قد لا يرضى بها الكثير من المأولين والباحثين عمّا وراء الكلمات والسطور.

    المتصوفة من جهتهم, لم ينكروا شيئا من معاني الحب الإلهي ومدلولاته, بل هم يعدونه حقيقة واقعة, يمكن أن تعاش, وقد أختصوا بها وجربوها وعرفوها من خلال خلواتهم ومناجاتهم, ومن خلال مواجيدهم وأحوالهم. وفوق ذلك, فهم يرون أن هذه المحبة, هي علاقة متبادلة بين الله تعالى وعباده, فالله تعالى, من جهته, يشتاق للعبد المخلص, ويطلب قربه, كما أن العبد يشتاق أليه ويطلب القرب منه, والله تعالى يناجي العبد ويغار عليه في أن لا يخالج قلبه شيئا سواه, كما يناجي العبد ربه ويغار عليه, طمعا في مزيد من القرب والنور والرضوان, والى غير ذلك من صفات المحبة ولوازمها.(3) والصوفية لا يستغربون من منكري المحبة عليهم, بل هم يعذروهم لأعتقادهم, بأن المحبة, مثلها مثل سائر أحوالهم, لا يمكن شرحها وتفسيرها ولا التعبير عنها لغير من ذاقها وأحسّها, إذ إن فاقد الشئ لا يعطيه.

    وقبل الدخول في موضوع الحب الإلهي عند الشيخ عبد القادر, لابد من تسليط الضوء على بعض الجوانب التاريخية المتعلقة بهذا الموضوع إذ يمكن القول: إن الحب الإلهي بوصفه عنصرا أساسيا
    من عناصر التصوف الإسلامي, قد برز بشكل مبكر جدا من تاريخ هذا الفكر, وظل ملازما له مع تعاقب خطواته ومراحله وأطواره, ولعل في هذه الحقيقة, دلالة واضحة على أهمية الحب في الفعالية الصوفية برمّتها. لقد رفع روّاد حركة الزهد, الحب الإلهي شعارا لهم, فهذا خُليد العصري,(1) كان ينادي في أهل زمانه وبأعلى صوته فيقول: يا أخوتاه, هل فيكم من أحد لا يحب أن يلقى حبيبه؟ لا فأحبوا ربكم وسيروا أليه سيرا كريما. وهو نداء, فيه دعوة إلى أفشاء الحب الإلهي بين الناس, وجعله وسيلة مثلى للتقرب إلى الله تعالى. وكذلك الحال مع كهمس القيسي (ت 149هـ ) الذي أشتهر بصيحته التي طالما كان يطلقها في جوف الليل: أتراك معذبي وأنت قرة عيني يا حبيب قلباه؟ وهو قول, رغم طروحاته البسيطة إلا أنه يدل على أعتياد عبّاد ذلك ذلك العصر على تعاطي مثل هذه المفاهيم. ثم نذكر عتبة الغلام (ت 164هـ ) الذي يعد من الدعاة الأوائل, الذي يستوس معه, البذل والمنع والرحمة والعذاب ويتبين ذلك من قوله: إن تعذبني, فأني لك محب, وإن ترحمني فأني لك محب. وهي عبارة, تفوق سابقتيها, جرأة ودراية بهيمنة سلطان الحب. ولا يسعنا, في هذه الرحلة العاجلة, ‘لا أن نعرّج على ذكر العاشقة الإلهية الشهيرة, رابعة العدوية(2) التي كان لها كلام عجيب وأشعار رائدة في الحب الإلهي, أشهر من أن تذكر, ثم نأتي أخيرا على ذكر زعيم الحركة الزهدية الثاني بعد شيخه الحسن البصري (ت 110 هـ ) وهو حبيب العجمي (ت 200هـ ) والذي كان مفرط الصراحة في حبه لربه إذ يقول: وعزتك, إنك لتعلم أني أحبك.(3) فهذا إذن, مسح أولي سريع, لمدة من عمر حركة الزهد في الإسلام, تناهز الخمسين عاما, تبين لنا من خلالها إن عدوى الحب التي أصابت أول القوم, لم تلازم نظرائهمن بعده فحسب, بل أنها نمت وتفرعت حتى أثمرت ما أثمرته من نظريات الفناء ووحدة الشهود ووحدة الوجود وغيرها فيما بعد.

    الحب الإلهي عند الشيخ عبد القادر

    بالرغم من تصدر الشيخ عبد القادر, للأفتاء على مذهب أبن حنبل, فأنه كان في تعريفه للمحبة, يتبنى موقف الصوفية ورؤيتهم بالكامل, فهو يقر بالمحبة الإلهية, بطابعها المفعم بالشوق والهيام والسكر والحنين إلى اللقاء. إنها عنده: أحساس متلبس بالقلب, يشعر به كل من جربه وذاقه, فهي أذن ليست قولا نظريا ولا تأويلا كلاميا أنها معاناة حقيقية, وتشويش تلمسه القلوب من جانب المحبوب, فتصير الدنيا على المحب كحلقة خاتم لضيقها.
    فهذه إذن, أول مغازي الشيخ عبد القادر, لقلاع الحب, وهو فيها, لم يأخذ من الحب صنفا ويترك الآخر, بل عرّفه تعريفا ينطبق على كل أشكاله التي عرفها بنو البشر, ويرضى به كل العاشقين في الأرض وبمختلف أصنافهم. إن أبلغ مصداقية للحب, عنده, تتجسد في كونه معاناة وجدانية يتقلب فيها المحبون, ولكن هذه المعاناة, تتفاوت في الصدق, تبعا للجهة التي تحن أليها القلوب, ولا شك في أن محبة الله تعالى, هي أشرف تلك الجهات وأوفرها حظا من الحقبقة واليقين.
    والحب عند الشيخ عبد القادر, لا يقاس بالعقل, ولا بحكمه وأدواته, لأنه سكر لا يشوبه صحو أي بمعنى أنه ينمو على أرض تغيب عنها سلطة العقل وحكمه, ولا يعني هذا الكلام, أتهام المحبين بالجنون, ولكنه يشير إلى طبيعة الحب المغايرة لمنطق العقل والتي قوامها العاطفة المحضة, ولعل الشيخ عبد القادر, في رأيه ذاك يتخذ موقفا مناقضا تماما, لموقف مناهج التصوف الأشراقي, التي هي بالتأكيد تؤمن بخلاف ذلك.
    ويمتاز الحب أيضا, عند الشيخ عبد القادر, بأنه عطاء مطلق وتوجه كلي إلى المحبوب, بالروح والقلب وكل الحواس والجوارح, وفي السر والعلن, وأيثار المحبوب على الذات وكل شئ آخر سواه, بأختيار تلقائي وبإرادة فطرية وليس بإرادة متكلفة والحب هو العمى عن غير المحبوب غيرةً عليه والمعمى عن المحبوب هيبة له, (فهو عمى كله, والمحبون سكارى, لا يصحون أبدا إلا بمشاهدة محبوبهم, مرضى لا يشفون إلا بملاحظة مطلوبهم, حيارى لا يأنسون بغير مولاهم ولا يلهجون إلا بذكره ولا يجيبون غير داعيه).(1) لقد جمع الشيخ عبد القادر, في هذا التعريف المركب, كل مظاهر الحب وأشكاله, وهو أبتداء يميل إلى تصنيفه بكونه حالا من الأحوال الصوفية وليس بكونه مقاما, لأن المقام يفترض الإرادة والسعي والقصد والدراية, وهذا الحال لا يصيب القلب إلا في مرحلة متأخرة من مراحل السلوك, لأنه يتطلب التوجه بالكلية نحو المجبوب, وهو ما يفترض الأخلاص والفناء الشهودي والفناء الوجودي, وهي كلها مقامات تخص الواصلين من أهل السلوك.
    ولكي يستمر الشيخ عبد القادر, على مواظبته على ربط مفاهيمه الصوفية بعجلة الشرع الإسلامي فأنه يؤكد على أن أساس محبة الله تعالى والقرب منه, هو طاعته وأتباع أوامره, وما البعد عنه, في حقيقته, إلا بمخالفته وعصيانه, وهذا ما يتجلى عنده بوضوح, في تفسيره خطيئة آدم (u)

    كانت هي أول الحجب التي حجبت آدم عن ربه,(فحضرة الله تعالى طاهرة, لا توطأ بأقدام لوثتها مخالفة المحبوب, وأن من أوكد أسباب الهجر هو: أنك لا تطيق أن تقيم في دار عصيت فيها صاحبها).(1) إذن فالمحبة الإلهية تحتاج إلى سعي وجهد من العبد أولا,(2) ويتم ذلك بجلو البصائر إبتداءً, والبصيرة, هي غير البصر, لأنها مدفونة في أعماق مكامن النفس, وأن إخراجها من الأمكان إلى الوجود, يحتاج إلى صبر ومشقة بحيث تكشف عنها الكثير من براقع الغفلة وكذلك الحال مع القلوب الصدئة, حيث لابد أن تصقل مراياها, كي تلتقط جواهر المعاني الربانية, وان تنقى الأرواح, حتى تستوحش في مساكن هذه الأشباح, وان تخرج العقول من ديار هياكل الطين وتنقل إلى أطوار مراتب القدس, وأما الهمم فيجب أن لا تسعى إلا إلى جنات جلال الوحدانية الحقة.(3) وفي الخلاصة فأن قلب المؤمن إذا كان هو عرش الرحمن, وأن الرحمن يحل في عرشه متى وأين شاء, فأن هذا لا يمنع العبد من أن يطهر هذا العرش ويزينه أستعدادا لقدم مليكه.

    مصدر الحب الإلهي

    فمتى ينبع الحب في قلب المريد, والى أين يتجه؟ أنه ينبع من مشاهدة بعض جمال المحبوب, ويتجه شوقا إلى لقائه, أما سبب هذا الحب, فهو صورة الجمال أي جمال المحبوب, الكامنة في مرايا الأرواح, والتائقة إلى ملاحقة تجليات الجمال الحقيقي. وهي أشارة إلى حياة الأرواح السابقة والتي تطلعت فيها إلى صور الجمال, ثم حُرمت بعد ذلك بأتصالها بهياكل الصلصال. وتتجسد هذ الأشارة في مواضع متعددة من أقوال الشيخ عبد القادر, فمثلا في ذكره قصة إبراهيم (u) يقول: كان طفل إبراهيم (u) مربى في مهد عهد لطف القدم تحت ظل شجرة الكرم, بروح مرّوح الفضل, بنسيم ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل حين جمع القدر ذرات الذوات وأرواح النسمات ... حتى آن أوان ظهوره في سرادق الزمان ... فنهض ينشق محيا ذاك النسيم في براري الوله يهيم طالبا للتفرد ..(4) وكذلك قوله: (إن المشاهدة هي سلاف راح يطوف بها سقاة الأزل على ندماء الأرواح في أقداح الخطاب, في مجلس الوصل, عند سدرة منتهى الأمل, فوق غاية منى العارفين

    تحت ظلال جـلال القدم...)(1) وكذلك قوله: (خرجت بعض طيور الأرواح من أنقاض الصدور, تتلمح أثرا من مطارها القديم, تستنشق نسمة من مهب التكليم تتذكر عيشها في ظل أثل الوصل, تشكو جواها بعد بعاد الأحباب).(2) ثم قوله الذي يفصح عن هذه المسألة أكثر من سواه: (طافت سقاة القدم, على أرواح بني آدم, بكؤسي شراب ألست بربكم, في خلوة مجلس وإذ أخذ ربك, أسكرهم الساقي لا الشراب, سكنت تلك النشوات في ذرات تلك الذوات, حتى أنفلق صبح شرع أحمد.(3)

    ولنا أن نتساءل بعد ذلك, هل الشيخ عبد القادر, وكثير غيره من متصوفة الإسلام, ممن قالوا بهذه الطريقة (الخطيرة), أي وجود الأرواح السابق على الحياة الأرضية, قد تأثروا بشكل مباشر بنظرية الهبوط الأفلاطونية, أم كان لهم في شرعهم الإسلامي ما يكفي من الأسانيد التي تسوغ نظريتهم تلك؟ ولعل أقرب الأجوبة إلى الصدق, هو الجواب الذي يجمع بين الأثرين. إذ يمكن القول: إن نظرية الهبوط الأفلاطونية قد أنتشرت بشكل سريع بين أوساط المفكرين المسلمين وأصبحت جزءا من ثقافتهم السائدة, ولكن لم يكن لهذه الفكرة (الغريبة) أن تسود, لو لم لها المسلمون في شرعهم, ما يدعمها ويسوغ الأخذ بها, فلقد ورد في القرآن الكريم, الكثير من الآيات التي تشير إلى المعنى ذاته, كقوله تعالى: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة أنا كنّا عن هذا غافلين).(4) وهذه الآية تشير صراحة إلى إقرار أرواج جميع بني آدم بوحدانية الله تعالى, قبل أتصالها بالأبدان. كذلك قوله تعالى: (وإذ أخذ ربك ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنّه قال أقررتم واخذتم على ذلكم إصري, قالوا أقررنا قال فأشهدوا وأنا معكم من الشاهدين).(5) وهذه الآية تؤكد أيضا المعنى ذاته, ثم أن مجرد ذكر القرآن الكريم قصة آدم (u), وكونه قد سكن الجنّة قبل هبوطه أو بالأحرى إبعاده عنها, وكون الجنّة تعني في أخص ما تعنيه القرب من الله تعالى, فأن ذلك سيترك الباب مفتوحا أمام أي راغب في تبني تلك (النظرية).


    وقد يسهل الحكم على هذا الرأي بتهمة التوفيقية, ولكن قبل ذلك, ينبغي أن تحضر في أذهاننا حقيقتان: الأولى: أن مفكري الإسلام, بمختلف إختصاصاتهم الفكرية, سواء منهم المتكلمون أم الفلاسفة أم الصوفية, كانوا حريصين أشد الحرص, على التوافق مع عقيدتهم الإسلامية, ولم يكن من السهل عليهم التفريط بها, كما توحي بذلك أغلب الدراسات الأستشراقية. والثانية: هي أنه ليس من قبيل الولاء للتراث الإسلامي أو الأعتداد بالذات, أن أن نظن أن مفكري الإسلام كانوا بمعزل عن التأثيرات الفكرية والأجتماعية الوافدة عليهم أو المحيطة بهم, لأن هذا ضرب من المستحيل إذ إن أي حضارة, لا يمكن أن تنمو أو تزدهر مالم تتفاعل مع غيرها من الحضارات أخذا وعطاءً.

    إن ما كنا نود أن نصل أليه, من وراء هذا الأسترسال, هو أنه ليس من الواجب علينا أن نقف من مفكرينا المسلمين, من ذوي الأبداع المشهود, موقف رجال الكنيسة في القرون الوسطى من السحرة, فنتهمهم بالهرطقة والمروق من الدين, في مقابل أية فكرة تصدر عنهم ونلمس فيها بعض الغرابة أو نشعر حيالها ببعض الأستيحاش, بينما الأجدى والأجدر, أن نبحث لهذه الأفكار, عن مسوغاتها الأجتماعية والسياسية والأعتقادية, التي أستوجبت ظهورها في حينها, ولعل هذا (الطموح) الأخير, هو الذي سيمكننا مرة أخرى من أنتاج أفكارنا الجديدة الخاصة بنا والملائمة لعصرنا إضافة إلى أنه سيمكننا من أن نقرأ مفردات تراثنا الفكري الإسلامي قراءة علمية عميقة وثرية وبعيدة عن كل أشكال التعصبات الضيقة.

    أطوار الحب عند الشيخ عبد القادر

    ثم نعود مرة أخرى إلى موضوع الحب الإلهي عند الشيخ عبد القادر, فهو عنده لا يهبط على قلب المريد دفعة واحدة وبصورة ثابتة لا تتغير, بل أن معانيه ودرجاته تتغير تبعا لدرجة أيمان المريد وأشتياقه وصدق الطريقة وإمتزاجها في باطنه. أن محبة الله تعالى تعني في بداية سلوك المريد, طاعته تعالى, بالأمتثال لأوامره والأنتهاء عن نواهيه, ثم بعد ذلك تعني القناعة بعطائه والرضا بقضائه ثم تعني: طلب نعمة الأفتقار إلى نواله وعطاياه, ثم أخيرا يبلغ العبد في حبه لربه مرتبة لا يطلب معها عوضا ولا ينتظر أجرا, إذ يكون شوقه خالصا للقاء محبوبه والتقرب أليه, وهو ما يمكن أن نسميه بالحب الخالص, وهو حب خاصة الخاصة , وأما قبله فهو حب العامة الذين يطلبون الأعواض ويشكرون على النعم, فهو حب المحبوب لعطائه وليس لذاته.


    علاقة الحب بالشرع

    وهكذا فأن المنهج الذي أختطه الشيخ عبد القادر لنفسه, لا يزال يعد (ساري المفعول) حتى مع الموضوعات التي يمكن أن نظنها بعيدة أصلا, عن ساحة الشرع وأحكامه, فالحب عنده, وكما رأينا سابقا, أساسه التمسك بشريعة النبي محمد (r), أي التمسك بالتكاليف, وليس كما يرى أ و يدعي بعضهم, بأنه مدعاة إلى ترك التكاليف والتنصل عن أحكام الدين. إن وصول القلب إلى مقام الحب لا يتم عند الشيخ عبد القادر, إلا بأداء الفرائض والصبر عن المحرمات والشبهات, ثم ترك تناول المباح في الشرع ولكن المقرون بالهوى والشهوة ووجود القلب. ولا تتوقف الشروط عند هذا الحد, بل إنها تزداد مع تعمق المريد أكثر في بحار الحب, إذ يأتي بعد ذلك دور الورع الشافي في المعاملات البدنية والقلبية, وهو شافٍ لأنه يشفي النفس من أشكال الذنوب والكدورات كافة بكونه شرطا ضروريا لبلوغ محطة الصدق في الحب الإلهي, ثم بعد الورع يأتي الزهد الكامل – أي الزهد في الدنيا والآخرة – شرطا ضروريا آخر لبلوغ المحب ذروة الحب الإلهي الخالص, الذي ليس له تعلق بشئ آخر سوى ذات المحبوب, والزهد الكامل كما يعرّفه الشيخ عبد القادر, هو: ترك ما سوى الله تعالى ومخالفة هوى النفس والشيطان, ثم طهارة القلب من الخلق في الجملة إلى الدرجة التي يستوي عندها المدح والذم والحجر والمدر.(1) وإذن, فهل يعني الحب الإلهي عند الشيخ عبد القادر, شيئا آخر سوى خلاصة السلوك الصوفي الذي يعني بدوره, الألتزام بالفرائض والنوافل والتمسك بالطاعات والخذ بأسباب الزهد والورع.

    مما سبق يمكننا أن نلاحظ بوضوح, تمسك الشيخ عبد القادر, بأظهار الترابط العضوي القائم بين فقرات نظريته الصوفية, إذ لا وجود عنده, لمقام ولا حال ولا حب ولا رقي روحي, ليس له علا قة ببقية أجزاء تلك (النظرية) بل أن الكل مترابط, بعضه مع بعضه الآخر, أولا, ثم كل هذه الأجزاء مع الشريعة المحمدية ثانيا, والتي تشكل بدورها, القاعدة الصلبة التي لا يمكن الأنطلاق نحو آفاق الروح والملكوت إلا من ساحتها, وعليه, فيمكننا القول: أنه لا يمكن أن يقال عن أي شيخ ذو منهج صوفي وطروحات نظرية معروفة, أنه قد أصاب في هذه المسألة الفكرية وأستقام فيها مع ظاهر الشرع, وأخطأ في الأخرى, وأنحرف فيها عن (الصراط المستقيم), لأن البناء الصوفي برمّته, وعند أي شيخ صــوفي, ومثله في ذلك مثل أي بناء فلسفي, لابد أن يرتكز على مقدمات

    وثوابت فكرية أو أعتقادية معينة, بحيث لا يخرج عنها أي جزء آخر من أجزاء ذلك البناء, وان هذا القول هو ردّ على ما جاء في كتاب (الشيخ عبد القادر الجيلاني وآراؤه الأعتقادية والصوفية).(1) والذي جاء فيه: أن الشيخ عبد القادر, قد أكثر من دعوى الألتزام بالكتاب والسنة ونهج السلف الصالح, بينما أقواله جاءت مليئة بالمفارقات وعدم الألتزام بهذه الدعوى عند التطبيق, والغريب في الأمر, إن مؤلف الكتاب, قد تبنى وبشكل منقطع النظير, آراء من أطلق عليه لقب (شيخ الإسلام),(2) دون ان يكلف نفسه عناء دراسة المرجعيات الفكرية التي كان يحتكم أليها شيخ الإسلام, أو في الأقل, دراسة العوامل السياسية والأجتماعية التي أملت عليه الأخذ بتلك الآراء المتشددة.(3) ولعل من اللطيف أن نذكر, أن مؤلف الكتاب, قد تغاضى عن تمسكه بآراء شيخ الإسلام, في فقرة واحدة فقط, وهي حين عمد هذا الأخير, في معرض ذكره هفوات أهل التصوف على أن يبعد ساحة الشيخ عبد القادر عن كل هذه الهفوات, لا بل إنه عدّه من خيرة شيوخ التصوف الذين مثّلوا التيار الصوفي النزيه, وهو سبق أن أوردناه في بداية هذا البحث.

    شروط صحة المحبة

    غير شروط المحبة الإلهية, يضع الشيخ عبد القادر, شروطا أخلاقية صعبة يجب توفرها في المريد السالك كي يستحق, عن جدارة, منزلة المحب, وكي يكون قلبه مفعما فقط, بحب الله عز وجل, ودون هذه الشروط, لا يكون العبد إلا دعيا مرائيا. أول هذه الشروط هو: أن لا يكون للمريد عينان ينظر بهما إلى غير محبوبه, ويتم له ذلك بأن يزيل من أمام عينيه كل ما سوى محبوبه, فالحب الحقيقي والخالص, إذا تمكن من قلب ما, فأنه يخرج منه حب غيره, بحيث يصير هذا الحب, يتشرب في جميع الأعضاء, ويشتغل به الظاهر والباطن على حد سواء, وبحيث يصير هو صورة العبد ومعناه, ويتمكن منه ويغمره حتى يهيئه لتقبل الصورة الجديدة والمعنى الجديد المغاير لمعناه الأول, فيخرجه عن العادة, وعن التمسك بالظاهر فقط من العبادات والرسوم, ويضعه في قلب التدين النابض بالأخلاص والحب والطاعة الحقيقية لله تعالى.


    فأذا ما تم هذا للمريد, أحبه الله عز وجل, فأصبح مرادا بعد أن كان مريدا, وألقيت عنه أحمال طالما تُثقل كاهله, وفُتّحت أمامه أبواب طالما منعت دونه.(1)
    فهذا الشرط الأول, يعني إذا: التحقيق بالأخلاص في العبادات والمعاملات وأنواع الطاعات ما ظهر منها وما بطن. والأخلاص الذي رأيناه فيما سبق, أنه يعد العامل الأساسي الذي ترتكز عليه بقية المقامات الصوفية, يعد هنا الشرط الأول الذي يستوجب قبل إدعاء الحب الإلهي الخالص.
    الشرط الثاني, يدور حول ضمان صحة الحب الإلهي وهو: أن لا يقبل المحب بقلبه إلى غير محبوبه, فأن القلب إذا صدق في محبة الله تعالى, فأنه سيحجم عن الميل إلى كل ما يمكن أن يشترك مع ذلك الحب, والشيخ عبد القادر, يشتّه القلب في هده الحالة بالنبي موسى (u) حين كان طفلا رضيعا فحُرّمت عليه كل المراضع إلا ما كان قد خصص له.(2)
    إن العبد لا يمكن أن يكون له أكثر من قلب واحد في جوفه, فأذا ما امتلأ هذا القلب بشاغل معين, فأنه لا يقبل معه أي شاغل آخر, فالقلب الذي أحب الخالق – والمعنى هنا موقوف حصرا على الحب الخالص – لا يمكنه بعد ذلك من أن يحب الخلق, ولا يمكن لقلب أفعم بهذا الحب أن تجتمع فيه الدنيا والآخرة, بل الأحرى بصاحب هذا القلب وهذا الحب, أن يبيع نفسه وكل ما يملكه من أجل نظرة من محبوبه أو نوال قربة منه, ولأجل هذه الغاية, يرى الشيخ عبد القادر, إن الذين يصدقون في عزائمهم, يسارعون بقطع المنازل النفسية, التي هي حجب ظلمانية, ويسرعون بطيّ مراحل الطريق من غير تلفت و(بعزم مجرد من جواذب الإرادات شوقا إلى رؤية المحبوب وولها بنيل المطلوب).(3) ويمكننا أن نلمس في هذا الشرط, أنه يرتكز, إضافة إلى الأخلاص, على الصدق في التوجه إلى الله تعالى, فالصدق وحده هو الذي يحرم على القلب المحب التطلع إلى غير محبوبه, حتى ولو وجد عند هذا (الغير) ما يحب ويشتهي, في الوقت الذي لا يجد عند محبوبه, إلا المنع والجفاء.
    إن هذا الشرط, يؤكد مرة أخرى, على أن الحب عند الشيخ عبد القادر, هو أول وأهم وآخر الدوافع التي تدفع العبد إلى تحمل مشقات السلوك الصوفي, وهو وحده الذي يمكن أن يبلغ بالمريد, إلى مرحلة الصفاء التام والقرب الأبدي, إذ إن من أحب الله تعالى, فهو حتما سوف لا ينظر إلى سواه, ومن ملك الطريق الله تعالى, وصل أليه, ومن وصل إلى الله تعالى عاش في كنفه, ومن أشتاق إلى الله تعالـى أنس به وترك الأغيار, فصفا وقته مع محبوبه.(1) وهكذا فبالحب وبالتحديد, الأخلاص والصدق في الحب, يسلك الطريق ويتحقق الوصول والفناء والبقاء بالله تعالى.

    شرط المحبة الإلهية الثالث هو: مجافاة النوم, فقد كذب من أدعى محبته تعالى, ثم إذا جنّ عليه الليل, نام عنه. على أن هذا الأمر المجهد, لا يكون ألا في حق المحب, الذي يتدنى في الرتبة عن المحبوب, كتدني المريد في الرتبة عن المراد. إن المحب فقط هو المتعوب, وأما المحبوب فمستريح, المحب طالب والمحبوب مطلوب, غير أن المحب والمحبوب عند الشيخ عبد القادر, قد يتبادلان الأدوار, لأنهما ليسا في مقامات ثابتة, إذ يمكن للمحب أن يكون محبوبا, فيما لو طهّر قلبه من جميع أصناف السوى, بحيث أصبح لا بديل له عن مطلوبه ولا رجوع له عن حاله, أما مقتربان هذا الوصول فتبدأ من أدمان قلب العبد وجوارحه, ذكر الله تعالى, إبتداءً من قول (لا أله إلا الله) مع مرافقة الأخلاص والصدق, ثم أنتهاءً, بعد سلسلة طويلة من المجاهدات والرياضات, إلى فقد كل الأشياء وجميع الأغيار, قيمتها عنده, لأن من صحّ حبه لله تعالى, أستوى عنده الحجر والمدر والمدح والذم, والعافية والسقم والغنى والفقر, وإقبال الدنيا وأدبارها, فمن بلغ هذه الحالة, ماتت نفسه وسكن هواه, وأنخمدت نيران طبعه وذل شيطانه, وكان أقباله على الله تعالى تاما, وصار بقلبه دربا يجوز به في وسط الخلق, إلى الخالق.(2) وكما نلاحظ, فأن الشيخ عبد القادر, لا ينثني يذكّر مريديه, حتى وهم في غمرة الحب, بالمجاهدات والأذكار وأنواع العبادات, وكأنه يريد أن يخبرهم بأنه لا مناص لهم عن ذلك, وأنه يُعد من الواهمين من ظنّ غير ذلك.

    الشرط الرابع: هو أن لا يرضى المحب بغير لقاء محبوبه, لأن المحبين لا راحة لقلوبهم, ولو دخلوا ألف ألف جنّة, حتى يروا محبوبهم. هؤلاء المحبون, لا يريدون أي مخلوق, وإنما يريدون, فقط خالقهم, وهم لا يطلبون النعم, مع أفتقارهم أليها, وإنما يطلبون المنعم, يبغون الأصل لا الفرع. أنهم المحبون حقا, وهم كما يسميهم الشيخ عبد القادر, نزّاع العشائر, أي المنبوذون من الخلق والذين لا أنتماء لهم لقبيلة أو جماعة, والذين ضاقت بهم الأرض بما رحبت على غيرهم. إنهم في شغل جسيم يشغلهم عن الخلق وعن الدنيا الخلق, وعن جنتهم أرضا, إذ إن كل ذلك عندهم القيود والسجون, والدنيا بما فيها تعني لهم الهم والعذاب والحجب الظلمانية, وهم يفرون منها فرارهم من السباع الضارية.

    إن هذا الشرط, لا يعدو كونه دعوة إلى الأخذ بالزهد الكامل, الذي يعني في حقيقته, عدم الرضا بغير المطلوب الحقيقي, وعند كل الصوفية, فأن من رضي بالنعمة دون المنعم, فقد أحدث شرخا في صدق توجهه, ولابد من الأشارة هنا إلى أن الصوفية, إذ يزهدون في شهوات الدنيا ونعم الآخرة, فأن ذلك لا يعني أستغناءهم عن ذلك, ولكن يعني أنهم قد وضعوا نصب أعينهم, هدفا محددا لا يحيدون عنه, إلا وهو التقرب إلى المولى تعالى, وإلا فهم لا يسكنون إلى أي ملاذ قبل بلوغهم هذا الهدف, فأذا ما بلغوا مرادهم, فعندها سيتقبلون كل ما يأتيهم من الأقسام, ولكن تقبلهم هنا, سوف لا يكون مصحوبا بالأستلاب وغفلات القلوب.

    الشرط الخامس: وهذا يمكن أن نسميه بشرط فناء الإرادات, فأن من أحب الحب الخالص أو حب الخواص, فسوف لا تبقى له إرادة, لأن قانون الحب الثابت ينص على أنه لا إرادة لمحب مع إرادة المحبوب,(1) وهذا (القانون) يعده الشيخ عبد القادر, من البدائة التي يسلم بها كل محب ذاق طعم المحبة. وهو هنا في موضوع الإرادة, يربط بين الحب والفناء, إذ لا يمكن في رأيه, أن نتخيل المحب إلا فانيا في محبوبه, كالعبد بين يدي سيده, العبد المطيع طبعا الذي لا يخالف سيده ولا يعارضه في شئ, أما من لم يبلغ هذه المرحلة ولم يشرب من هذا الكأس, فليسهو محب ولا محبوب, ولا ذاق طعم المحبة ولا ذاق طعم المحبوبية.(2)
    إن هذا الشرط, يفترض إضافة إلى ذوبان إرادة المحب في إرادة الحبيب, التحقق بمقام الرضا, ولنا أن ندرك أهمية الحب في الرقي الروحي, فيما لو علمنا بأن الرضا يفترض الصبر والشكر والتوكل. على أننا لو دققنا النظر في مضمون هذا الشرط, لوجدنا أن الشيخ عبد القادر, يعود فيه, مرة أخرى, إلى ربط الحب الإلهي بمعاني الطاعة والخضوع والتحقق بالعبودية المطلقة, ولكن هذه المعاني, هي غير تلك التي وجدناها في المستوى الأول من مستويات الحب, لأن الطاعة والخضوع والعبودية هنا, جاءت بعد طول مجاهدات ورياضات, فهي أصبحت إذن جزءا من السمات الروحية للمريد وليست مقصورة فقط على الطاعات والأوامر والنواهي.

    الشرط السادس: هو شرط عدم التملك, فالمحب لا مال له ولا ملكية وهو في معـية محبوبه, وهذا


    الشرط يعد مكملا للشرط الذي سبقه, إذ إن من محيت إرادته, لا يقول حتما: هذا لي وهذا مالي وملكي, إن المحب لا مال له ولا عَرَض ولا خزانة ولا دار أضافةً إلى محبوبه. إن الكل عنده منذور لمراده ومحبوبه, وليس هو إلا مملوك وعبد بين يدي محبوبه, وإن شرع العبودية ينص على أن العبد وما ملك لمولاه,(1) وعلى أساس ذلك وصف الشيخ عبد القادر, المحب بالذليل, لأنه لا تطال يداه أي شكل من أشكال الغرة, والتي أولها حرية الإرادة والملكية. غير أن هذا الحب وما أرتبط به من أحمال الفقر والأذلال, هو في حقيقته حال, وليس من صفات الحال والدوام والثبات, فذلة أغلال الحب, ما هي إلا أمر مؤقت, وما تلبث أن تتحول إلى حرية وسيادة, ولا يتم ذلك إلا بعد أن يصح للمحب تسليمه للمحبوب, فيعود المحبوب بعد ذلك فيسلم له ما تسلمه منه وفوضه أليه. عند هذا الحد, تنقلب جميع الأمور, فيصير العبد حرا والذليل عزيزا والبعيد قريبا والمحب محبوبا, على أن هذا التحول والأنقلاب, لا يتم بيسر من غير مشقة, بل هو يحتاج, كغيره من أحوال الصوفية ومقاماتهم, إلى كثير من كاسات الصبر ومقادير الصدق, صبر على محبة الله عز وجل, وصدق في طلبه, فيلازم بابه ولا يغادر هربا من سهام آفاته أو يأسا من القرب والنوال. وتلك حال, يصفها الشيخ عبد القادر, بأنها حال خاصة جدا, لا يعرفها إلا من ذاقها وأحتسى كأسها وأكتوى بنارها, وهي حال (لا تجئ بالصفة – أي لا يمكن وصفها بدقة – لأنها من وراء معقول الخلق وفهمهم).(2)
    أن تأكيد هذا الشرط على عدم التملك, هو في حقيقته تأكيد على أزالة جميع علائق النفس بالأغيار, ومن ثم إزالة عوامل الأنانية والأثرة فيها, وهو ما تعارف الصوفية على تسميته بالتجرد الذي يعني التخلص من الصفات الرديئة. أن الصوفي يعلم بسريرته, أو من خلال مجاهداته, أن كل ما يلتحق بنفسه من هذه الصفات, أنما يحدث من جرّاء ألتصاقها بالدنيا وحاجاتها وشهواتها, وإن خير وسيلة للتنصل عن ذلك, تتمثل في إزالة هذه العلائق عنها, فالنفس في أصل فطرتها, تعد صافية نقية عالمة محبة لربها, ولكن ما يلتحق بها من جراء أرتباطها مع متطلبات الجسد وحاجاته, وذلك هو أصل النقص وفصله, وبناء على ما سبق, يمكننا أن نفهم من صوفية الإسلام, أن الزهد في الدنيا عندهم, يعد أمرا تكتيكيا أو مرحليا يجتاز به الصوفي عقبة ويقطع به طريق, ليحوز بعد ذلك على ما كان يريد وينتظر, فأذا ما تحقق له ذلك, فقد صار سيان لديه, أزهد أو لم يزهد.



    الشرط السابع: ومع هذا الشرط, يعود الشيخ عبد القادر, مرة أخرى إلى تأكيد التمسك بالطاعات, لأن من كان محبا, فقد لزمت عليه الطاعة لمن أحب, وأنه لا يصدق من أدعى محبة الله تعالى إلا إذا أطاعه. أن محبة الله عز وجل لا يمكن أن تتمكن من قلب العبد, مالم يمتثل أولا إلى لأوامره تعالى, وينتهي عن نواهيه ويقنع بعطائه ويرضى بقضائه, ويذكره ذكرا صادقا متواصلا بالقلب واللسان وكل الجوارح وبالجهر والسر, ويرى السيخ عبد القادر, أن هذا الذكر الأخير, أي الذكر بالسر, هو الذي يصل بالمريد إلى حالة الفناء في ذكر محبوبه. فأذا ما وصل إلى هذه المنزلة من الحب والذكر, (باهى الله عز وجل به خلقه, وميزه عنهم بأحوال وأقوال عجيبة, لأنه حينئذٍ سيكون حق في حق, تفنى ذاته ولا يبقى في قلبه إلا الأول والآخر والظاهر والباطن).(1)
    أن الذكر يوضع, عند الشيخ عبد القادر, جنبا إلى جنب, مع الطاعات والتمسك بالأوامر والنواهي, وهو تأكيد من جانبه على أن الطريق الصوفي إذا كان لا يمكن قطعه بغير واسطة الشرع, فأن طاعة الله تعالى, حق طاعته, لا يمكن أن تتحقق بغير ذكره وحبه, والذكر والحب هما من حيثيات التصوف, وعليه فلا وصول إلى الله تعالى بشريعة لا تتزيا بزي الطريقة.

    الشرط الثامن: يتعلق بالتوحيد وعدم الشرك في المحبة إذ إن المحبوب في غرف المحبين لا يمكن أن يكون إلا واحدا والمحبة أحادية لا تقبل شريكا, ويكون دعيا من تظاهر بالحب, وإنشغل عن ضيفه المحبوب, أو أشرك غيره معه في قلبه, حتى وأن كان هذا الشريك مالا أو ولدا أو هوى أو رغبة, ولذلك تجد أن الذين صدقوا في محبتهم لله تعالى, رضوا به دون غيره وأستعانوا به وحده وأقتصروا عليه وأحجموا عن سواه, حتى صار الفقر عندهم في صحبته غنى, لا بل أن غناهم صار في فقرهم تجاهه, ونعيمهم صار في سقم أجسامهم وأنسهم في وحشتهم عن الخلائق, وقربهم في بعدهم عن غيره وراحتهم في تعبهم من الدنيا ويأسهم من صفوها ودوام نعيمها.(2) إن ما يشير أليه هذا الشرط يعد مطمحا يسعى كل مريد سالك إلى بلوغه, إنه التوحيد الخالص, الذي لا يشوبه أي شكل من أشكال الشرك, مهما خفي أو دق, وأننا لو تمعّنا في معنى الحب الإلهي عند الصوفية بوجه عام, لوجدنا أنه لا يعني عندهم شيئا آخر سوى كونه توحيدا من نوع خاص, لا يتمكن منه إلا الخاصة من عباد الله تعالى, وهو توحيد يشمل القلب واللسان والخواطر والعقول وكل الجوارح في آن واحد, ولذلك نرى الشيخ عبد القادر قد ألحقه مع آخر شروط الحب, ليؤكد للآخرين, أن الحب الإلهي والتصوف بوجه عام, لا يعني شيئا أكثر من توحيد الله تعالى حق توحيده.


    (1) وهو أبن حزم الأندلسي (ت 456هـ ), صاحب الكتاب الشهير المتخصص في الحب (طوق الحمامة) والذي أباح فيه الحب شرعا, بكونه, ليس بمنكر في الديانة ولا بمحظور في الشريعة, إذ القلوب بيد الله عز وجل, وأن المحبة حقيقة واقعة, ولا يمكن الأنصراف عنها والتخلص منها. ص30 من الكتاب. أما ماهية الحب عنده فهي أنه أتصال بين أجزاء النفوس المقسومة في هذه الخليقة في أصل عنصرها الرفيع, لأعلى مثال أهل الفلسفة بكونها أُكر, أي (كرات) ولكن على سبيل مناسبة قواها في مقر عالمها العلوي ومجاورتها في هيئة تركيبها ص49. ومن خلال هذا التعريف, يظهر لنا بوضوح, رغم أنه حاول أن يدفع ذلك عن نفسه بلا طائل, تأثر أبن حزم, بنظرية أفلاطون في الحب والتي تعتمد على ركيزتين, الأولى وجود النفس السابق على وجود الجسد, والثانية, إن أصل النفوس هو كونها كرات كاملة أنقسمت بعد أتصالها بالأبدان, وأن حنينها الى الألتحام من جديد هو منبع الحب والشوق فيها.

    (1) يفرق الصوفية بين حالي: الشوق والأشتياق فالشوق الذي هو: إهتياج القلوب إلى لقاء المحبوب, تنطفئ جذوته عند اللقاء, بل هو في زيادة مستمرة, ولذا فقد عدّ من أحوال الخواص, إذ لا طاقة لغيرهم على أحتماله. والذي يحل به الأشتياق, فأنه يهيم على وجهه حتى لايرى له أثر ولا قرار – القشيري – الرسالة – ص255.

    (2) قوت القلوب – ج/2 – ص60.

    (3) آل عمران/آية /31.

    (4) النساء / آية / 80.

    (1) عبد الرحمن الأنصاري – مشارق انوار القلوب ومفاتح اسرار الغيوب –بيروت- 1959 – ص19.

    (2) الهمّة: هي الأنبعاث للمقصود صرفا, فلا يتمالك صاحبها منعها ولا يلتفت عنها – الهروي – منازل السائرين – ص86.

    (3) الأنس: كما عرفه الجنيد يعني: أرتفاع الحشمة مع وجود الهيبة – الطوسي – اللمع – ص60.

    (4) الهروي – منازل السائرين – بغداد – 1990 – ص89.

    (1) الرسالة القشيرية – ص248.

    (2) بهذا المعنى, عرّفت رابعة العدوية المحب الصادق بأنه: من لا يسكن أنينه وحنينه حتى يسكن مع محبوبه. أنظر – السهروردي – عوارف المعارف – ص507.

    (3) الهروي – منازل السائرين – ص96.

    (1) عبد الرحمن الأنصاري – مشارق أنوار القلوب ومفاتح أسرار الغيوب – ص78.

    (2) الفتوة: أنك لا تشهد لك فضلا ولا ترى لك حقا, وهي في مستواها الأخير تعني: أن لا يتعلق المريد في مسيره بدليل وأن لا يشوب إجابته طلب العوض وأن لا يقف في شهود على رسم – السهروردي – منازل السائرين – ص61.

    (3) الأيثار: تخصيص وأختيار, هو يعني أيثار رضا الله تعالى على رضا غيره – السهروردي – نفس المصدر – ص57.

    (4) الرسالة القشيرية - ص 249.

    (1) عوارف المعارف – ص505.

    (2) سامي الكيالي – السهروردي – سلسلة نوابغ الفكر العربي – مصر – 1966 – ص42.

    (3) عوارف المعارف – ص504.

    (1) عوارف المعارف – ص504.

    (2) المصدر نفسه – ص507.

    (3) يستشهد السهروردي هنا بقول سمنون: ذهب المحبون لله بشرف الدنيا والآخرة, لأن النبي(r) قال: (المرء مع من أحب) فهم مع الله تعالى – المصدر نفسه – ص507.

    (4) المصدر نفسه – ص507.

    (1) حُققت هذه الرسالة على يد المستشرق – هـ . ريتر – وطبعت في بيروت عام 1959م.

    (2) أبن الدباغ – مشارق أنوار القلوب ومفاتح أسرار الغيب – ص26.

    (3) د. ناجي التكريتي – الفلسفة الأخلاقية الأفلاطونية عند مفكري الإسلام – ص12.

    (4) أبن الدباغ – المصدر نفسه – ص22.

    (5) أبن الدباغ – المصدر نفسه – ص22.

    (1) جاء في تعريفات أبن الدباغ لهذه المصطلحات أن الألفة هي: إيثار جانب المحبوب على كل مطلوب ومصحوب ويستدعيها الإنسان بأستقراء محاسن المحبوب وأدامة الفكرة في لطافة شمائله وماهو عليه من بديع الصفة وغريب الحكمة الإلهية. وأما الهوى فهو: ميل القلب بالكلية إلى جهة المحبوب, والأعراض عما سواه, وتجريد القصد له في كل حين وصرف الهمة أليه, وفيه تستحكم المحبة وتشتد صورتها وينبسط سلطانها, ويستولي لاعج الشوق فيها. وأما الخلة فتعني: تخلل شمائل المحبوب في روحانية المحب, حتى تتكيف بها النفس والروح وسائر الجملة الإنسانية. وأما الشغف فهو: الكلف والولوع بالمحبوب, ويعني بلوغ الحب إلى شغاف القلب, أي أصله فيستولي عليه ويحجبه عن غيره, وجاء في قوله تعالى: (قد شغفها حبا) يوسف/30. أي حجب حبّه قلبها حتى لاتعقل سواه. فالشغف أستسلاء المحبة على القلب باطنا وظاهرا مع أحتجاب المحب عن أي أمر آخر غير المحبوب. وأما الوجد فهو: وجود ذات المحبوب وسائر صفاته الحقيقية, منطبعة في ذات المحب, أنطباعا ثابتا, بحيث لا يمكن زواله ولا يتصور أنفصاله, وأذا بلغ المحب إلى هذا الحد, فقد زال عنه الأختيار وأستوى في حقه الأعلان والأسرار وظهرت عليه آثار الشهود, فيشهد محبوبه في سائر الذوات وصفاته مع سائر الصفات, فلا يرى في الوجود سواها ولا يراها سواه. – مشارق أنوار القلوب ومفاتح أسرار الغيوب – ص32-36.

    (2) يعرّف أبن الدباغ هذه المفاهيم بما ياتي: الغرام: وهو الأنتشاء من خمر المحبة, ويأتي من ملازمة الغريم للغريم وعدم مفارقته له. والأفتتان: وهو خلع العذار وعدم المبالاة بالخلق, ثم الوله: وهو حالة الحيرة, ثم الدهش: وهو الذهول أو البهتة التي تأخذ العبد إذا فاجأه مايغلب عقله أو صبره أو علمه, ثم الفناء: وهو الفناء عن رؤية النفس, وهو أن يكون العاشق لايسمع ألا بمحبوبه ولايبصر إلا به, ولا يدرك ألا به وله, ومنه فناء به عن نفسه وعن الأشياء. – مشارق أنوار القلوب ومفاتح الغيوب – ص3

    (1) أبن الدباغ – المصدر نفسه – ص84.

    (2) أبن الدباغ – المصدر نفسه – ص89.

    (1) المائدة / 54.

    (2) البقرة / 160.

    (3) البقرة/222.

    (4) أخرجه البخاري في صحيحه – كتاب الأيمان.

    (1) صحيح مسلم – كتاب الذكر – باب من أحب لقاء الله.

    (2) عن أبي هريرة – كما في صحيح البخاري – كتاب الرقاق – باب التواضع.

    (3) يستند الجنيد البغدادي في تعريفه للحب إلى هذا الحديث, فالحب عنده هو: دخول صفات المحبوب على البدل من صفات المحب. أنظر – عوارف المعارف – ص508.

    (1) الصمد: هو السيد المصمود أليه في الحوائج والمستغني بذاته وكل ما عداه محتاج أليه في جميع جهاته, فلا صمد في الوجود سوى الله تعالى. – إسماعيل البروسوي – تنوير الأذهان من تفسير روح البيان – الدار الوطنية - بغداد – 1990 – ج/4 – ص611. ويضيف أبن عربي, أنه لمّا كان كل ما سواه موجودا بوجوده, أي هو ليس بشئ في نفسه, لأن الأمكان اللازم للماهية لا يقتضي الوجود, فلا يجانسه ولا يماثله شئ في الوجود. – تفسير القرآن الكريم – بيروت – 1981 – ط/2 – ج/2 – ص870.

    (2) الرسالة القشيرية – ص247.

    (3) عفيفي – التصوف الثورة الروحية في الإسلام – ص195.

    (1) لم نعثر في ترجماته على تاريخ وفاته, ولكن من المؤكد أنه توفي في النصف الأول من القرن الثاني للهجرة.

    (2) رشيد سالم الجراح – رابعة العدوية شهيرة الحب الإلهي – بغداد – 1988 – ص73 فما بعدها.

    (3) د. كامل مصطفى الشيبي – صفحات مكثفة من تاريخ التصوف الإسلامي – بيروت – 1977 – ص64-65.

    (1) التادفي – قلائد الجواهر في مناقب الشيخ عبد القادر – ص88.

    (1) الشطنوفي – بهجة الأسرار ومعدن الأنوار – ص26.

    (2) على أن هذه العبارة لا تتنافى مع قول الشيخ عبد القادر أن المحبة من الأحوال, إذ إن جميع الأحوال, وعلى الرغم من كونها مواهب رحمانية, تستوجب إستعداد العبد بتصفية نفسه بالطرق المعهودة في التصوف.

    (3) الشطنوفي – المصدر نفسه – ص32.

    (4) الشطنوفي – المصدر نفسه – ص33.

    (1) الشطنوفي – بهجة الأسرار ومعدن الأنوار – ص39.

    (2) الشطنوفي – المصدر نفسه – ص42.

    (3) الشطنوفي – المصدر نفسه – ص70.

    (4) الأعراف / 172.

    (5) آل عمران / 81.

    (1) الجيلاني – جلاء الخاطر من كلام الشيخ عبد القادر – ص18.

    (1) لمؤلفه: د. سعيد القحطاني – الرياض – 1997م. وهو في الأصل رسالة دكتوراه صادرة عن جامعة أم القرى.

    (2) ويعني به أبن تيمية .

    (3) سعيد القحطاني – المصدر نفسه – ص507 فما بعدها.

    (1) الجيلاني – الفتح الرباني والفيض الرحماني – ص250.

    (2) الجيلاني – جلاء الخاطر في كلام الشيخ عبد القادر – ص17. وهو هنا يشير إلى قوله تعالى: (وحرمنا عليه المراضع من قبل) القصص / 12.

    (3) الشطنوفي – بهجة الأسرار ومعدن النوار – ص28.

    (1) الشطنوفي – بهجة الأسرار ومعدن الأنوار – ص69.

    (2) الجيلاني – جلاء الخاطر في كلام الشيخ عبد القادر – ص18.

    (1) يقول الشيخ عبد القادر: أن معنى تلاشي إرادة المحب مع حضور إرادة الحبيب يعني أن لا يشتغل المحب عن محبوبه بدنيا ولا آخرة ولا خلق – أنظر – الفتح الرباني والفيض الرحماني – ص90.

    (2) الشيخ عبد القادر – جلاء الخاطر من كلام الشيخ عبد القادر – ص19.

    (1) الشيخ عبد القادر – جلاء الخاطر من كلام الشيخ عبد القادر – ص19.

    (2) الشيخ عبد القادر – المصدر نفسه – ص19.

    (1) الجيلاني – جلاء الخاطر من كلام الشيخ عبد القادر – ص20.

    (2) الشيخ عبد القادر الجيلاني – الفتح الرباني والفيض الرحماني – ص143.



  • #2

    الغيرة في الحب الإلهي

    والشيخ عبد القادر, يلحق بالحب صفة لازمة من صفاته, وهي الغيرة,(1) والله تعالى وصف نفسه بأنه (الغيور) أي بمعنى أنه خلق العبد له, فلا ينبغي إذن أن تكون لغيره, فيما لو صدق في حبه, أنه إن لم يكن كذلك, وأحب شيئا من حظوظ الدنيا أو الآخرة, تشعبت محبته وأنتقصت وتجزأت وصارت موزعة بين الله تعالى وغيره, والله تعالى لايقبل الشريك, وهو الغيور القاهر فوق كل شئ الماحي لكل شئ, لذلك فأن على القلب المحب, أن يتطهر من جميع الشركاء من جميع الشركاء والأنداد واللذات والشهوات, وطلب الرئاسات والكرامات, بحيث لا يبقى له إرادة ولا مطلوب ولا أمنية (كالأناء المنثلم الذي لا يُضبط فيه مائع)(2) فهو لا تتبلور في نفسه إرادة شئ من الأشياء, لأنه أنكسر بفعل محبة الله عز وجل وبحيث صار, كلما نجمت فيه إرادة ما, كسرتها محبة الله تعالى وغيرته, وهو ما يمكن أن نسميه بالحفظ الإلهي الذي هو وليد صدق العبد مع ربه وحبه له وتوكله عليه. فأذا ما بلغ العبد هذه المرحلة حقّه الله تعالى بأنوار العظمة والهيبة(3) والجبروت, وضرب حوله, لأجل الحفظ, خنادق الكبرياء والسطوة, بحيث صار لا يمكن أن تخلص إلى قلبه إرادة شئ من الأشياء وحينئذ فقط, يمكن أن يطمئن القلب ويأمن ضرر الأسباب عليه, من الولد والأهل والأصحاب والأموال والكرامات, لا بل حتى الحكمة والعبادات, (لأن جميع ذلك يكون خارج القلب, فلا يغار الله عز وجل عليه, بل يكون جميع ذلك كرامة من الله تعالى لعبده ولطفا به ونعمة ورزقا ومنفعة للواردين أليه).(4)
    وهكذا يصل بنا الحب الإلهي إلى النتيجة نفسها التي وصل أليها المريد السالك عبر أجتيازه للمقامات الصوفية كلها. أن المحب لله تعالى, يصبح بهذا الحب عبدا حقيقيا لمولاه تعالى, ويدرك به فقره المطلق تجاه وحدانية وفردانية وألوهية وغنى الله عز وجل, ويدرك أيضا, أن كل الطرق مسدودة في وجه القاصدين للقرب من مولاهم, إلا طريق الإسلام والأيمان والأحسان, وهو الثلاثي الذي يشـكل جماع القصد الديني, والذي ينحصر قصد السلوك الصوفي في جزئه الأخير. القلب إذن, إذا أخلص وصدق في حبه لله تعالى, فسوف لا تضره بعد ذلك ألوان قطوف الحلال من شهوات الدنيا ولذاتها, لأنها بعد ذلك لا تمس قلبه بأي ظلمة أو حجاب, وهو من جهة أخرى, سيكون منارا يهتدي به بقية الخلق – الطالبين مطلبه – من ظلمة الطريق, إذ إن أكثر الناس حبا لله تعالى, هو بالتأكيد أكثرهم قربا منه وعلما به وبأحكامه وحدوده وشرائعه.

    لقد تحمل مفهوم الحب الإلهي عند الصوفية, مفردات وعبارات وأشعارا كثيرة تشير إلى معاني: الوصال واللقاء ولبقرب والمعانقة, وكذلك الهجر والصد والجفوة والمنع, وهي معانٍ طالما أثارت حفيظة خصومهم من جهة, وحملت كلامهم, في هذا الشأن, غير ما يحتمله من الأشارات والدلالات التي أرادوها من الجهة الأخرى. والشيخ عبد القادر, من جهته, لم يتردد في الخوض في بحر هذه المعاني, لا بل أنه تميز عن معاصريه من الصوفية, برقة وعذوبة العبارات التي تناولت موضوع الحب, إلى درجة أنها شكلت لوحات بلاغية رائعة, يمكن أن تصلح للتداول بين العشاق في كل عصر.(1) ولكنه من الجانب الآخر, وتمشيا مع منهجه الصوفي, لم يغفل عن تذكير مريديه
    وتنبيههم على أن كل ما يرد في كلامه, مما سبقت الإشارة أليه من المعاني، غنما له تعلق بالقلوب دون الأبدان، وغنما القرب هو قرب القرب والوصول هو وصول القلوب، ولا يمكن لأي أمرءٍ ان يتصور غير ذلك مما قد تشير اليه مثل تلك العبارات .(1) على أن هذا التنبيه لا يقلل من شأن الحب الإلهي أو يشير إلى كونه وهما أو ضربا من الخيال أو أرهاصات شاعر, أنه فقط ينفي القرب الجسدي والمشاهدة العيانية, وأما ما عدى ذلك فالشيخ عبد القادر لا يطعن في وجوده الحقيقي المحسوس بالقدر الذي يمكن الطعن فيه بوجود الأشياء المحسوسة في العالم الأرضي. إن المحبة الإلهية ماهي في حقيقتها ‘لا أمر واقعي ويقين ملموس, وهي ليست من قبيل الأقوال الشعرية المنمقة أو من قبيل المجاز أو الأدعاء المحض.
    إن المحبة الإلهية حقيقة, ولها علامات دامغة لا يمكن أن تخطئها عين خبير, فهي في قلب المحب, كنار في بيت بلا باب ولا مفتاح ويخرج لهيبها من فوقه قهرا وأضطرارا (إن المحب يغلق باب محبته ويكتمها حتى تظهر عليه)(2) فهو إذن لا يتظاهر بها أو يفتعلها, أنها تجربة روحية خارقة وقاهرة لا يخوضها المحب طائعا ولا يخرج منها مالكا لأمره أو إرادته, بل لا يخرج منها أصلا.
    أنها تجربة روحية ينقلب فيها كيان الإنسان وتتغير معها طباعه وتتهذب صفاته وترق خصاله وسجاياه, والمحبة نحو أي موضوع توجهت, فأنها تبقى تجربة سامية ترتقي بالمستوى النفسي والخلقي والوجداني للمحب, بما لم يكن ليخطر له على بال, فأما إن كان موضوعها هو الذات الإلهية, فأنها لايمكن أن تحد أو تستوعب أو توصف إلا إذا أمكن أن تحد وتوصف التجربة الصوفية برمّتها, إذ لا فرق في النهاية بين الحب الإلهي و التجربة الصوفية العسيرة على الوصف.

    الحب موهبة ربانية

    إن المحبة الإلهية, هي عند الشيخ عبد القادر, موهبة ربانية وفضل إلهي, وبذرة تلقى في قلب العبد, وهو لا فضل له ولا لإرادته في غرسها أو أستجلابها, لا بل (ليس للعبد فيها كسب, ولا يصح وجودها في قلبه إلا بعد بروزها من جانب الغيب, على يد المشيئة, والعبد هنا ساقط الكسب ممحـو السبب).(1) ومعنى هذا القول هو أن أي أمرئ إذا لم يجد في قلبه من لواعج الحب وزفراته شيئا, فليس عليه أن ينكرها عند غيره أو يستهجنها أو يكفّر القائل بها. أنها من مواهب الرحمن التي يختص بها من يشاء من عباده, وهذه العبارة الأخيرة تؤكد دون أدنى شك, أن الشيخ عبد القادر, يميل إلى وضع الحب الإلهي في خانة الأحوال الصوفية وليس في خانة المقامات, إنها ناتج تفرزه حركة المقامات التصاعدية, ولكن مع التأكيد أن هذه المقامات تهئ له ولا تحتم ظهوره, فالعبد مهما فعل فأنه لا يمكنه أن يتصف بصفة الحب, ولكنه من جهة أخرى, لا ينال مرتبة الحب, إلا إذا أعد له عُدّته, وهكذا هو ديدن الأحوال بوجه عام.

    المحبون هم خواص الناس

    يصف الشيخ عبد القادر, المحبين لله تعالى, بخواص الناس ومختاريهم, إذ إنه تعالى إصطفاهم وميزهم وفضلهم بالمحبة على غيرهم, ثم نقلهم, بعد ما بث في قلوبهم محبته, من حال إلى حال, ومن غير سابق أشارة أو أنذار, حتى صاروا كأنهم في خلق جديد, لقد كانوا قبل أن يسري في عروقهم نسغ الحب الإلهي, نياما في مراقد العدم, رقودا في مهد الغيب, فتية في كهف الكرم, حتى أستخرج سابق القدر من أجزاء الطين ذرات ذواتهم, وأذهب غشها بنار الأصطفاء ونقش عليها صائغ الذهب في دار ضرب الأزل سطور (يحبهم) وقال عنهم وهم في طي العدم (ويحبونه).(2) فهو, يعني إذن تعيين قديم وقدر نافذ, لا يملك الإنسان معه دفعا أو أستجلابا, وهو أمر الهي مسطور في اللوح المحفوظ منذ الأزل, ومثله في ذلك مثل النبوة والولاية, فكما أن الإنسان مهما تعبّد وأجتهد, لايمكنه من أن ينال درجة النبوة أو الولاية, فكذلك الحال هنا, فالعبد مهما فعل فأنه لا يبلغ درجة المحبين المحبوبين مالم يكن مثبتا أسمه في ديوانهم (القديم), وما كان لم تكن روحه مفتونة بالجمال الإلهي في سابق عهدها, وقبل أت تسكن قصور الصور ويختلط صفاؤها بكدرها ويمتزج نورها بالظلمة العنصرية. لقد حلّت أرواح المحبين (محل الغريب في البلد النازح فأشتاقت إلى ما أشرقت به جناب القدم, وحنّت إلى ما أنست به في مواطن القدس, وطال عليها في الفوق والتحت, فأصبحت ذرات ذواتهم هباءً طائرا في فضاء الغرام, فلما خرجوا إلى سعة ميدان القرب, ألبست يد العناية كلا منهم ما قدّر له من مقــدور القدر من خلع الحب وعقد لخواصهم في خلوة

    مجلس الأنس ألوية يحبونه ونصب لقدومهم أسرّة العز على ساحل بحر – وسارعوا – وأمر كاتب ديوان الأزل أن يسجل لهم السعادة الكبرى, وجعل ختم كتابه – والله يدعو إلى دار السلام – وعنوان خطابه – فأتبعوني يحببكم الله ).(1)

    نظرية الهبوط

    فهل يبقى بعد هذا الكلام البالغ الوضوح, شك في تبني الشيخ عبد القادر, لعقيدة حياة الأرواح السابقة والقديمة والتي كانت فيها قريبة من تجليات أنوار الحضرة الإلهية, والتي كانت تتمتع فيها بدرجة عالية جدا من الصفاء والمعرفة ونفاذ البصيرة والتي تم فيها تقدير الأقدار وتقسيم الأقسام وتثبيت المنازل, ثم من بعد هذه الحياة (الهنيئة), أُجبرت الأرواح على (الهبوط) وعلى أرتداء ثياب الطين وعلى التطبع بطبائعه من أشتهاء وجوع ورغبات هي ليست من تطلعاتها الأصيلة, فلحقها ما لحقها من عتمات الصدأ والتكدرات, فخفت نورها ونسيت حقيقتها, ثم أنها عند أول بادرة نور, أستعادت عشقها القديم وأشتاقت إلى لقاء يعيدها صفوها, فكان الحب وكان السلوك وكانت المقامات والأحوال, ولم يكن من وراء ذلك كله إلا أبتغاء وجه الله تعالى طلب مرضاته وتمني القرب منه.

    على أن كون المحبة منّة ولطفا ألهيا وكون المحب (لا يطير إلى محبوبه إلا بنجاح الأصطفاء وأنه لا يتميز ولا يصطفى ولا يكرم, إلا من أختاره الله عز وجل).(2) فأن هذا لا يلغي في نظر الشيخ عبد القادر, قصد المحبين وإرادتهم في تهيئة أنفسهم وأستصلاحها لجعلها مستعدة لأستقبال بذور المحبة الإلهية, وهو يستشهد هنا بسيرة النبي موسى (u), حين لاح له النور وهو في معرض النار – كناية عن تحقق اللقاء – فهو ما وصل إلى هذه الدرجة من القرب, إلا بعد أن جعل الغرام غريم سرّه والوجد نديم روحه والشوق سمير قلبه والتوق جليس فؤاده والهوى حشو صدره.(3) ويمكن أن يتم ذلك للعبد, إذا ما لازم الأطراق, الذي يعني المواظبة على الذكر والمرابطة والتفكر في عظمة الخالق ومطالعة نعمه وعطاياه وفضله, وفي هذا أشارة إلى أسبقية المعرفة على الحب, وكون الحب ناتج عن المعرفة وليس العكس. ويتم أيضا بالأجتهاد بالتحقق بالعبودية التي تنبثق من مواصلة الترقي بالمجاهدات والمقامات والأحوال. ويتم أيضا عن طريق النظر إلى النفس بعين

    النقص والتقصير, لأن من نظر إلى نقصانه كان له الكمال ومن نظر إلى كماله كان له النقصان, (أعكسوا تصيبوا)(1) والنقصان بكونه شعورا إذا ما تكرّس في النفس, فأنه سيزيد من إحساسها بالذل والأفتقار تجاه خالقها أولا, لأن ذلك هو أول وأهم أشراط الحب الصادق, وتجاه ذاتها ثانيا, لأن هذا الشعور, سيزيد من أقدامها على الرياضات والمجاهدات, ومن ثم يعجّل من بلوغها الغاية من الطريق.

    موجبات المحبة

    إن إرادة وقصد العبد في سعيه إلى أكتساب درجة المحبة, تتجسد أمامنا بوضوح, في سلوك المحبين أنفسهم, فهم طالما عالجوا أنفسهم وروضوها بأن جعلوها تختار الله تعالى على خلقه, وبأن جعلوها ترى النعم التي عندها, منه تعالى لا من غيره, وبأن أجتهدوا في أن يتركوا الحرام والشبهة, لا بل أنهم إقتصروا من الحلال فقط, على الكفاف وعلى ما يقيم الأود, ثم هجروا النوم وأستغنوا عن الراحة, وساروا إلى الله تعالى بأقدام القلوب وأقدام الأسرار أقدام الإرادات وأقدام الهمم. وكل ذلك ينبع عندهم من منبعي الأخلاص وحسن الأدب مع الله تعالى والذي يعني عند الشيخ عبد القادر, أن لا يرى العبد من مصدر للنفع والضر أو الخير والشر إلا منه تعالى, وأن يغيب ويفنى عن كل ما سوله من الخلائق والأموال والنفس وهواها وإرادتها ومناها. ويعني حسن الأدب عنده, أن ينظر العبد إلى من ينظر أليه ربه – أي من يكون موضع نظر الله تعالى وهو القطب – ويقبل على من يقبل عليه, وأن يحب من يحبه ويستجيب لمن يدعوه , وأن يوالي من يخرجه من ظلمات جهله وينجيه من هلكته ويغسله من أنجاسه وأوساخه وأوهامه الرديئة ومن نفسه الأمارة بالسوء وأقران الجهل وأخلاء الأوهام, الذين يقطعون عليه الطريق الحق ويحولون بينه وبين كل نفس وثمين وعزيز.(2)
    وهكذا فيمكننا أن نرى, أن حسن الأدب عند الشيخ عبد القادر, لا يعني أكثر من كونه الأنخراط في السلوك الصوفي, ولكن ليس أي سلوك, بل فقط ما كان منه مدعّما بأحكام الشريعة, وما كان مأخوذا من يد شيخ مرشد عارف مشهود له بالتقوى والصلاح والولاية. ويمكننا أن نرى, من خلال ما سبق, أن الشيخ عبد القادر, قد ظلّ متمسكا بحرصه على توخي الموازنة بين ما هو للقدر وبين ما هو من حصة القدرة الإنسانية, بين الأمر المحتوم وبين حرية الأختيار, فالعبد كما رأينا حتى وهو يجتهد في التحقق بالمحبة الإلهية ويسعى إلى نيل درجاتها, فأنه يعجز عن ذلك, لولا أن يدركه فضـل من الله تعالى, وهذا الفضل بدوره, لا يؤتي أُكله ويثمر في قلب العبد, إلا بعهد أن يكون هذا العبد قد هيأ قلبه وأصلحه, بضروب العبادات والطاعات وبخلقي الأخلاص وحسن الأدب, على أن تكون كل هذه الأعمال مصبوغة بصغة الصدق التي تميز أولياء الله تعالى من سواهم.



    (1) يعرّف الجرجاني الغيرة بأنها: كراهة شركة الغير في حقه. التعريفات – ص170 وأما الهروي فتعني عنده: سقوط الأحتمال ظنا والضيق عن الصبر نفاسةً. منازل السائرين – ص90 – وأما الأنصاري فيعدها من لوازم المحبة, ويوصف بها المحب والمحبوب كل واحد منهما على نفسه وعلى حبيبه – مشارق أنوار القلوب ومفاتح أسرار الغيوب – ص80.

    (2) الشيخ عبد القادر الجيلاني – فتوح الغيب – ص76.

    (3) الهيبة: وجود تعظيم في القلب يمنع من النظر إلى غير المحبوب وهذا المقام ذاتي للمحب لا يفارقه إلا أنه يشتد عند صفات الجلال. أنظر الأنصاري – المصدر نفسه – ص79.

    (4) الشيخ عبد القادر – المصدر نفسه – ص76.

    (1) لم نجد مناصا من الأستشهاد هنا بهذا المقطع الطويل الذي تناول موضوع الحب الإلهي, والذي تميز ببلاغة فائقة ووفرة في المعاني التي تغني عن الكثير من الكلام. فقد ورد على لسان الشيخ عبد القادر من ضمن كلام طويل قوله: هجر المحبوب نارٌ يضرمها مالك الصد في جهنم الوجد. وفقد المطلوب صواعق ترسل من غمام الغرام على غريم البعد, وتواري المشهود, فصل تذبل به أغصان الوصال في حدائق الأتصال. وأستتار المتجلي سيف سلّه المحبوب من غمد الدلال بيد الملال, وغيبة الحاضر شرر يقدحه زند الحب في حرائق فؤاد الصب, وإعراض الحبيب غصة يتجرعها المحب من يد الحب في كاسات الضد بلذة أحلى من الشهد, وتنائي القريب عذاب يذيب القلوب ويوقد فيها لهيب النوى وهي سكرى بنشوة العتب بأحاديث أشهى للنفوس من المنى, وتجافي الأليف صولة تصرع أعطاف الأرواح بشدة وطأة سلطان الهيمان في قيعان براري الهوى وكثبان الحجب عن المنى, وعرائس الفتح جواهر معانٍ نظمها ناظم القدم, ورياض الكشف حدائق بيان أنبتت أعطاف الحِكَم, والشوق ستور مسدلة على جمال وجوه عرائس الغيوب, والمحبة شموس لا تشرق أشعة أنوارها إلا على شرف مدائن القلوب والمشاهدة سلاف راح يطوف بها سقاة الأزل على ندماء الأرواح في أقداح الخطاب في مجلس الوصل عند سدرة منتهى الأمل فوق غاية منية العارفين تحت ظلال جلال القدم قدّام وفود ركائب أرباب العشق خلف حادي مطايا جناب القرب عن يمين ساق حميّا جمال رب الحمى. فيا أرباب الوله في معاني كمال صفات الأله العظيم, قوموا ياأصحاب الصدق في عشق الحبيب لبقريب, أنهضوا إلى هذا الوصال فكلٌ ملذذ بسماع نعمة منشد هذه النغمة, أو مضطرب من طيب ألحان مضطرب بشجو حنين مكتئب على الفور بسعادة هذا المنقلب, أو متبلبل بالهيام من الطرب بأصوات حادي إلى نادي هذا العز البادي, فأنما ذلك محرك بهذا القدر, يذكر روحه حلاوة النظر في مجلس وإذ أخذ ربك, أو يثير دفين سره إلى لذة سماع مابقي من مسموعه في حضرة ألست بربكم, عند تجريد الأرواح عن صورة الأشباح ويفردها بنعت توحدها في العالم النوري. فأن وجدت مشام روحك[ Yروح الأنس, يهب عليها من رياض ربيع الكرم عند ذكر الحبيب الأعظم, فذلك وارد من جناب الأبد, يذكرك إلتزام شرط بيعة المحب بحركات شمائل محاسن العهد القديم, فأضطرمت في سويداء القلب نار أسف المهجور لوحشة الأنقطاع, وتوقدت في صميم السر, جمرة حرقة المحبوب بفرقة الأحباب – أنظر – بهجة الأسرار ومعدن الأنوار – ص44.

    (1) الجيلاني – جلاء الخاطر من كلام الشيخ عبد القادر – ص21

    (2) الجيلاني – المصدر نفسه – ص21.

    (1) الشطنوفي – بهجة الأسرار ومعدن الأنوار – ص123.

    (2) الشطنوفي – المصدر نفسه – ص32.

    (1) الشطنوفي – بهجة الأسرار ومعدن الأنوار – ص32.

    (2) الشطنوفي – المصدر نفسه – ص35.

    (3) الشطنوفي – المصدر نفسه – ص28.

    (1) الجيلاني – جلاء الخاطر – ص21.

    (2) الجيلاني – فتوح الغيب – ص144.


    تعليق


    • #3
      وحدة الشهود أو التوحيد الحق
      نظرية وحدة الوجود

      فبل الخوض في تفاصيل موضوع وحدة الشهود عند الشيخ عبد القادر, لابد من الأشارة أولا, إلى ضرورة التفريق بين مفهومي: وحدة الوجود ووحدة الشهود في الفكر الصوفي الإسلامي, فكثيرا ما يتم الخلط بينهما في أذهان الناس.
      إن (وحدة الوجود) هي: نظرية صوفية ظهرت متأخرة نسبيا في تاريخ التصوف الإسلامي, وقد تجسدت بشكلها الواضح والمحرر عند إبن عربي (ت 638هـ ) ومن جاء بعده, وبناء هذه النظرية يقوم على أساس أن: لا موجود على الحقيقة إلا الله تعالى, فهو الموجود الأوحد في هذا الكون, وكل ما عداه, لا يمثل في حقيقته إلا أعيانا ممكنة موجودة بحكم التبعية, على أن كون الله تعالى, على وفق هذه النظرية, الوجود الأوحد, فأن ذلك لا يعني أنه قوة هائلة أو إرادة مسيطرة على الكون, كما هو الحال في الديانات القديمة, ولا يعني أنه معشوق الموجودات الأوحد, مثلما هو في فلسفة أرسطو, ولا يعني نور الأنوار مثلما تذهب إلى ذلك الديانات الثنوية والفلسفات الأشراقية. إن الذي يعنيه بالتحديد هو: أنه الحقيقة الوجودية المطلقة والواحدة والتي تظهر في صور متعددة, وهي كما يسميها إبن عربي (أعيان الممكنات) التي هي الموجودات المستمرة, أي لا تتناهى في الظهور. وعلى وفق هذه النظرية أيضا, فأن الوجود متضمن شيئين: الله تعالى أو الحق من جهة وهو ما يمثل الوجود الحقيقي, وما سوى الله تعالى أو الخلق من الجهة الأخرى وهو ما يمثل الوجود الممكن.(1) ولكن ذلك لا يعني القول بثنائية الحقيقة, بل العكس من ذلك, إذ إن من أخص خصائص هذه النظرية هو أيمانها بالحقيقة الوجودية الواحدة, وأما هذه الكثرة البادية للعيان فما هي إلا مظاهر وتعينات في تلك الحقيقة الواحدة, أي بمعنى آخر, أن الخلق الظاهر هو الحق الباطن وإن الذات الإلهية بما هي ذات لا يمكن معرفتها إلآ من خلال الأسماء والصفات, فالوجود

      المحض, أو الوجود بالذات, ليس له أسم ولا وصف من حيث هو كذلك, فأن ما خرج عن أطلاقه قليلا قليلا, وظهر في عالو الظواهر, ظهرت الأســماء والصفات منتشقة فيه, ومجموع هذه الصفات هو العالم الظاهر, وهو ظاهر, لأن به يظهر الحق في صورة خارجية.(1)
      ويلزم عن القول بوحدة الوجود: أن كل وجود مهما كانت حقيقته وكل فكر وكل عمل, أنما هو في الحقيقة, لله تعالى, فالشر والقبح وكل النقائص والأشياء الدنيئة تنضوي تحت هذه المقولة, وهذا ما تسبب في لأحراج مواقف القائلين بهذه النظرية, والحديث في هذا الموضوع يطول بما لا مجال له في هذا المبحث.
      وهنالك أيضا ملاحظة أخيرة وهي إن كون هذه النظرية, هي نظرية في الوجود, أو رؤية وجودية, لا يلغي كونها ثمرة من ثمار السلوك الصوفي، فالصوفي السالك، بعد أن يتحقق بالتوحيد الخالص، وبع أن يتلبس قلبه بالمحبة الإلهية وبعد أن تتفتح بصيرته، يطلِّع على الحقيقة الكونية التي تتجسد في ( وحدة الوجود). نعم إن هذه النظرية تستحصل عبر الإدراك، ولكنه إدراك قلبي ومعنوي وليس إدراكاً عيانياً أو عقلياً.

      معاني وحدة الشهود

      وحدة الشهود: تعني رؤية الحق بالحق، وبمعنى آخر تعني: رؤية الأشياء بدلائل التوحيد، وقدتطلق تسمية وحدة الشهود بإزاء رؤية الحق في الأشياء، وتطلق كذلك بإزاء حقيقة اليقين من غير شك.(2)إذن فنحن مع وحدة الشهود أو حال المشاهدة، نبتعد عن التنظيرات والبناءات الفكرية، وندخل في الحيّز العملي والمعرفة الذوقية، وبالتحديد فنحن هنا نتحرك ضمن مساحة الأحوال الصوفية.

      عند القشيري

      يرى القشيري، إن المشاهدة تعني الحضور، فالشاهد الحاضر، وإن كل ما هو حاضر في قلبك فهو شاهدك، وإن من حصل له مع مخلوق تعلق بالقلب، يقال أنه شاهده، يعني أنه حاضر في قلبه فأن المحبة توجب دوام ذكر المحبوب وإستيلائه عليه. وبعضهم تكلف في مراعاة هذا الاشتقاق فقال إنما سمي الشاهد من الشهادة، فكأنه إذا طالع شخصاً بوصف الجمال، فإن كانت بشريته ساقطة عنه ولم يشغله شهود ذلك الشخص عما هو به من الحال ولا أثرت فيه صحبته بوجه فهو شاهد له على فناء نفسه، ومن أثر فيه ذلك فهو شاهد عليه في بقاء نفسه وقيامه بأحكام بشريته إما شاهد له أو شاهد عليه.(1) فالشهود هنا هو ناتج عن الفناء الذي ينتج عن المحبة، وهو حال اللازم عن كثرة ذكر المحبوب ودوام حضوره في القلب فالشهود هنا إذن، هو التتويج النهائي لثمرة السلوك الصوفي.

      عند الطوسي

      عند الطوسي، تعني المشاهدة أيضاً، المحاضرة، أو المداناة وزيادة القرب، وتعني أيضاً: القرب المقرون بعلم اليقين وحقائقه، وبالتأكيد، فإن علم اليقين وجقائق اليقين، لا تُستحصل إلا عن طريق المشاهدة، التي هي من أوصاف أوثق مصادر المعرفة.

      والمشاهدة إذا وقعت بين الله تعالى وبين العبد، فأنها تفترض أن لا يبقى في سرّ العيد ولا في همه غير الله تعالى . أي أن تتم مشاهدة الله تعالى بكل شيء، ومشاهدة كل الكائنات به، ويكون المشاهد في هذه الحالة، غائباً شاهداً ، غائباً عن نفسه شاهداً لتجليات أنوار ربَّه .
      ويرى الطوسي في النهاية، أن المشاهدة، هي حال رفيع، وهي من لوائح زيادات حقائق اليقين، وهي تقتضي حال اليقين.(2) فأما كونها حالا رفيعا فذلك لأنها لا تنال إلا في خواتيم الطريق الصوفي وهي بالتأكيد لا تسطع إلا في القلب تيقن في كل آثار وتجليات وقدرات ربه, فوهبه ربه لأجل ذلك, حال اليقين.

      عند الهجويري

      أما الهجويري (ت 465هـ ) فبرى: أن مراد هذه الطائفة – أي الصوفية – من المشاهدة هو: الرؤية بالقلب, لأن المشاهد يرى الحق تعالى بالقلب في الخلا والملا وحقيقة المشاهدة عنده تنقسم على نوعين: نوع يأتي من صحة اليقين, والآخر من غلبة المحبة, لأنه حين يصل المحب في حال المحبة إلى درجة تصير معها كليته كلها حديث الحبيب, فأنه لا يرى سواه.(1) الصنف الأول يتجسد في قول بعضهم (ما رأيت شيئا قط إلا ورأيت الله فيه) أي بصحة اليقين. أنه يرى الفعل الإلهي وهو في رؤيته للفعل يرى الفاعل بعين السر ويرى الفعل بعين الرأس. فطريقه إذن أستدلالي يجعل من أثبات الدلائل سندا في رؤية الحقائق. الصنف الثاني يجسده قول الآخرين: (ما رأيت شيئا قط إلا الله). يعني بغلبة المحبة وغليان المشاهدة, حيث تسلبه المحبة من الكل, فيرى الكل فاعلا فطريقه إذن هو طريق جذبي أستلابي, لأن من عرف شيئا لأيهاب غيره, ومن أحب شيئا لا يطالع غيره, فالأحبة تركوا المنازعة مع الله تعالى والأعتراض عليه في أحكامه وأفعاله.(2)
      الهجويري إذن كسابقيه, يحصر المشاهدة في مجال فعاليات القلوب, وهي عنده لا تعني أبدا الرؤية العيانية, فأن هذه لا تتحقق إلا في الآخرة, على أن الملفت للنظر عنده هو تقسيمه المشاهدة على قسمين, قسم نظري أستدلالي, وهو ما يستند اليه أصحاب التصوف الأشراقي وقسم جذبي عملي, وهو ينجم عن الحب والأستغراق في ذكر المحبوب ولا يخفي الهجويري ميله إلى الشق الثاني منهما.

      عند السهروردي

      أما السهروردي صاحب كتاب (عوارف المعارف) فأنه لا يؤمن بحصول المشاهدة, إلا تلك التي تحصل بالسلوك العملي والتي تفترض التسليم المطلق والفناء الوجودي والحب الخالص. إن المشاهدة تعني عنده: أن لا يشهد العبد غير خالقه ولا يتصل بسره خاطر لغير صانعه, وهذه المشاهدة, إن شئت سميتها إخلاصا أو توكلا أو فناءً, فكل هذه المعاني تنطبق عليها, أو تنضوي تحتها, فالمخلص والمتوكل والفني, من دون بقية العباد, من يشتمل باطنه على أنوار اليقين والمشاهدة, وهو وحده الذي يغيب في شهوده عن وجوده, وهذا ما يعده السهروردي ضربا من تجلي الذات لخواص المقربين الواصلين الذين لا يحجبهم عن الحق شئ, وبعد المشاهدة تأتي مرتبة الشهود وهي تعني: سريان النور المشاهدة في كلية العبد, حتى يحظى به روحه وقلبه ونفسه وحتى قالبه, وهو من أعلى رتب الوصول.(3) إذ أنه لا يقتصر بحظى القلب وحده, بل يسري منه إلى كل كيان العبد المادي منه والروحي.

      حقيقة الشهود

      ومما سبق يمكننا أن نخلص إلى ما يأتي: أن وحدة الشهود أو حال المشاهدة, هي حالة شعورية يبلغها المريد في خواتيم مجاهداته ورياضاته الروحية, فهي ليست نظرية ولا عقيدة ولا دعوى فلسفية يمكن البرهنة عليها وأقناع الغير بها. أنها حال صوفي أو تجربة روحية, يعانيها السالك ويعيشها ويحسها, ثم بعد ذلك يحاول أن يشير أليها رمزا من أجل ألفات النظر الآخرين, أنها بمعنى آخر: وجدان صوفي تطوى فيه الحجب ما هو ألهي عن عين النفس, ثم تشرق فيه النفس ينور ربها, فيرى العبد من خلال ذلك: أن كل شئ في الوجود هو في الله تعالى, وأن الله تعالى يُشاهد في كل شئ, على أن هذا الحال لا يلغي الحدود الفاصلة بين ماهو ألهي وبين ماهو من عالم الخلق, فالله تعالى يبقى فوق كل شئ ويبقى مخالفا كلّ مخلوق. إذن فصاحب الشهود لا يقول إن الكل هو الله, كما يمكن أن يُفهم ذلك من صاحب (وحدة الوجود) بل إنه يقول: (إن لا مشهود على الحقيقة إلا الله عز وجل, وإنه – أي صاحب المشاهدة – لا يرى شيئا إلا ويرى الله تعالى معه).(1)
      أن العبد لا يبلغ حال المشاهدة, إلا بعد أن يكون قد فنى عن كل شئ سوى الله تعالى وأصبح لا يشاهد في الوجود غيره, فيغيب عن شهود نفسه وغيره من المخلوقات, ويغيب عن إرادته وحوله وقوته, ويتحقق بأن الإرادة الحقيقية هي إرادة الله تعالى فلا يشعر بعد ذلك إلا بفاعليته تعالى. وفي حال الشهود, يشهد العبد مالا يمكن التعبير عنه لجلاله والعجز عن حصره, ولأنه لا مقابل في لغة الكلام, على أن ذلك لا يقلل من حقيقة أن الشهود هو اليقين عينه, لأنه يستحصل بمعاينة عيون القلوب وما كان مصدره المعاينة, فهو مما لا يتطرق اليك شك.

      أن ما يراه الصوفي بعين قلبه في حال الشهود, يدل على أنه ادراك ذوقي ينبع من إحساسه بما يتجلى في قلبه من معاني الوحدة الإلهية, وكل ذلك يتم من خلال حال خاص يجلّ عن الوصف ويستعصي عن العبارة, على أننا وأستنادا إلى ما سبق, يمكن أن نشير إلى ملاحظتين مهمتين الأولى منها هي: إن أعتقاد الصوفية بوحدة الشهود, يعدّ بعيدا تماما عن أعتقاد غيرهم بعقيدة الحلول أو الأتحاد أو التجسيم أو حتى التعطيل, لأن كل هذه العقائد تنطلق من مقدمات فكرية, هي بالتأكيد غير معتقلات أصحاب وحدة الشهود, ولا يعني هذا القول أن هؤلاء الأخيرين موقفا مبيتا سواء في السلب أو في الأيجاب, من هذه الأعتقادات, ولكن يعني أن حالهم هذا, وبما أنه حال ذوقي تجريبي, فهذا أنه لايتقاطع أبدا وتلك المعتقدات. وأما الثانية فهي: أن الصوفي الذي يبلغ حال المشاهدة وينفذ إلى صميم الحقيقة المطلقة, فانيا عن نفسه وعن كل ما يحيط به من عوالم, فأن ذلك لا يلغي أنيته أو يضعه محو سلبية, كما قد يسبق إلى الأوهام, بل أن حضوره في هذا الحال, سيمنحه وجودا أستثنائيا وفائقا, وأن بقاءه بالله تعالى, سيشعره بنوع من الفاعلية, لا عهد له بها من قبل, فسيرى نفسه وكأنه منفّذ للإرادة الإلهية ومدبّر لكل ما يجري في الوجود, وسيرى نفسه – لقربه من الله تعالى وفناء إرادته في إرادته – وكأنه القطب الذي يدور حوله كل شئ.(1)

      أن أهمية موضوع وحدة الشهود, في التصوف الإسلامي, وتأكيد متصوفة الإسلام عليه, بلا أستثناء تقريبا, يأتي من كونه يعد عندهم, تجسيدا مثاليا للهدف الصعب الذي يسعى كل مريد إلى بلوغه, وأعني به الوصول إلى أقصى درجات القرب من المولى تعالى, وأحساسا بهذا القرب إلى درجة التي يبتعد فيها الصوفي أبتعادا مطلقا, عن بقية الأشياء الأخرى, والتي تحسب ذاته من بينها. وأن هذا القرب الذي يمكن أن نسميه بـ (حقيقة التوحيد أو التوحيد الحق أو الألوهية المطلقة أو وحدة الشهود) لا ينال بطول تأمل أو تفكر أو بعد دراسة نظرية متعمقة, وإنما يتأتى الأحساس به, بعد أستعداد المريد له, بطول المجاهدات والرياضات والمكابدات التي يصارع فيها الصوفي أهواء نفسه ونوازعها الرديئة, والتي كانت تضرب حول قلبه وبصيرته, حجبا ظلمانية, تحول بينه وبين إدراك حقيقة الوجود المطلقة, أو بالأحرى الأحساس بها. إذن فوحدة الشهود بهذا المعنى, تعد أقرب (شئ) إلى حال الفناء الوجودي الذي سبق الحديث عنه, وقد علمنا أن حال الفناء الوجودي عند الصوفية, لا يتم أو ينال, إلا بعد قطع جميع المراتب والمراحل والمقامات الصوفية, أي لا يتحقق إلا بعد زوال العلائق كافة التي تحول بين الإنسان وأدراك مبتغاه, فالفناء, على وفق هذه الآلية, يعد توحيدا حقيقيا أو فناءً شهوديا أو وحدة شهود.

      وحدة الشهود عند الشيخ عبد القادر

      من جانبه, أولى الشيخ عبد القادر, كثير عناية وأهتمام, بموضوع وحدة الشهود فقد قدّمه لطلابه
      ومريديه, بصيغة واضحة وقريبة من الأفهام, وفي القت نفسه وتمشيا مع منهجه المعتاد, منسجمة مع ظاهر الشرع الإسلامي, إلى الدرجة التي ربما لا يستطع معها أن يستهجنها العوام من غير أهل التصوف.

      مراحل الشهود

      إنه يرى, أن المريد الذي يسعى لأن يكون صوفيا, أي يكون صافيا, من جميع أشكال الكدورات والشوائب, بحيث يصير كأنه (إناء مملوء ماءً صافيا تتبين فيه الأشياء).(1) فأن عليه أن يفنى عن نفسه وعن حظه, وأن لا يوجد إلا لمولاه وأمر مولاه, والصوفي وهو بهذه الحالة, لا يرى حتما غير ربه وأنوار ربه, وهذا هو الوصول الحق, وهو ثمرة المجاهدات وتحمل ألوان المشقات وترك الفضول والتمسك بالطاعات وأنواع العبادات. وحال الشهود هذا, يُعدّ من أرفع وأرقى الأحوال التي تطرق قلوب السالكين, وهو لذلك حال صعب وثقيل الوطأة, بحيث لا يحتمله إلا من أعد له عدّته التي يعرفها أهل الطريق, ولذلك فأنه, أي حال الشهود, لا يقذف في قلب المريد دفعة واحدة, بل يتم ذلك بشكل وعبر مراحل متصاعدة تبدأ أولا بالأرتقاء إلى مرتبة الأنس, الذي هو إنبساط المحب إلى المحبوب وإستيحاشه من الأكوان كلها, على أن حال الأنس هذا لابد من أن يصاحبه الأحساس بالهيبة والتعظيم من تجاه الحضرة الإلهية, وإلا فأنه قد يفضي إلى رفع الكلفة والتخلي عن الطاعات, وهو ما يقع فيه الكشير من قصيري النظر ممن لا يحتكمون إلى شيخ مرشد يدلهم على هفوات الطريق. ثم بعد ذلك تأتي مرتبة التوحيد, وليس أي توحيد, بل توحيد الخواص الذي يكون فيه العبد بسره ووجده وقلبه, كأنه قائم بين يدي الله عز وجل, تجري عليه تصاريف تدبيره, وتجري عليه أحكام قدرته في بحار توحيده, بالفناء عن نفسه وذهاب حسه بقيام الحق في مراده منه, فيكون كما كان قبل أن يكون, يعني في جريان أحكام الله عليه وإنفاذ مشيئته فيه. فهذا التوحيد, هو وحده الذي يضمن تخليص قلب العبد وتصفيته من جميع أشكال الشرك الخفي والظاهر. فأذا ماتحقق العبد بهذه المرتبة, رُفعت عنه الحجب ورُفع إلى مرتبة الفردانية, فأذا كانت مرتبة التوحيد تنفي القلب من جميع الأغيار فأن مرتبة التفريد تعني تجرد العبد عن الأغراض فيما يفعله, بحيث لا يأتي بما يأتي به نظرا إلى الأغراض في الدنيا والآخرة, بل ما كوشف به من حق العظمة يؤديه حسب جهده, عبودية وأنقيادا ومن غير تلفت إلى نفس أو كسب. فأذا تم ذلك للعـبد

      كشف لقلبه عن نوري الجلال والعظمة, فأذا ما طغت هذه الأنوار على القلب, وهي أنوار قاهرة لا تبقي ولا تذر شيئا على ساحة القلب, بقي العبد عندها, بلا هوية, فانيا عن نفسه وصفاته وعن حوله, وقوته وحركته وإرادته ومناه ودنياه وأخراه, لا يطلب أي شئ حتى ولو كان هذا الطلب هو الخلوة مع الله تعالى, لأن الخلوة للموجود, وهو غير موجود.
      حينئذ فقط, يسمي المريد: صوفيا, (على معنى أنه يُصفى من التكدر بالخليقة والبريات).(1) وإذا كان قد مر بنا سابقا, أن المريد لا يسمى صوفيا إلا بعد أن يجتاز المراتب والمقامات كافة ثم يتحقق أخيرا بمقام البقاء في الله تعالى وهو الذي سماه الشيخ عبد القادر (الوجود الجديد) فأنه هنا أيضا, لا يكون صوفيا إلا بعد أن يتمكن منه حال المشاهدة, الذي هو نهاية المطاف في الأحوال الصوفية, ولعل بأستطاعتنا أن نلمس في هذا التدرج الروحي الصاعد, جانبا معرفيا, إذ عن طريق المشاهدة فقط, يمكن للمريد من أن يكتسب العلو اليقيني, الذي لا يتطرق أليه الشك, لأنه مستحصل عيانا وتجربة لا ظنا أو أستدلالا, ومن هذا العلم فقط, يمكن أن ينبثق الأيمان الراسخ الذي يخشى عليه من التقلب, الذي هو إيمان أولياء الله تعالى النابع من عين اليقين.

      معنى الشهود عند الشيخ عبد القادر

      يعني الشهود, في أخص ما يعنيه, عند الشيخ عبد القادر, رؤية الحق بالحق,. أي رؤيته تعالى بقدرته ومشيئته هو, لا بأستطاعة العبد وإرادته إذ إن حقيقة الحق, لاتحد بأي حدود ولا تدرك بالأبصار, وعليه فأن المشاهدة هي منّة وفضل من الله تعالى, وهي لا يمكن تفسيرها أو الحديث عنها, أنها بكونها حالا صوفيا, تعد من قبيل الكرامات الإلهية التي يغدقها المولى تعالى على قلوب محبيه, وأن من أخص خصائص الكرامات هي: أن لا تطالها تفسيرات العقول ولا تهضمها الآن الأفهام. وهذه الرؤية قلبية لا رؤية مادية عيانية – لأن هذه لا تحقق إلا في الآخرة – رؤية بصيرة لا روية بصر, وهذه الرؤية تتم في الدنيا قبل الآخرة, لأنها في الآخرة تحصل لكل المؤمنين, وأما في الحياة الدنيا فأنها تعد ثمرة من ثمار المجاهدات والرياضات والأوراد الصوفية, وهذه الثمرة صعبة المنال, بحيث لا ينالها إلا النادر من الرجال, ممن تساقطت الحجب عن نفوسهم وقلوبهم وبصائرهم, وممن محيت مباينهم ولم تبق إلا معانيهم وممن تقطعت فيهم الأوصال وإنخلعت عنهم


      الأرباب, فلم يبق لهم سوى الحق عز وجل, وممن صاموا عن الكلام وعن الحركة وعن الفرح بأي مطلوب من مطلوبات الدنيا والآخرة, وعاهدوا ربهم على أن لا يفطروا إلا أذا صحت لهم هذه الحال – أي حال المشاهدة – لأنهم يعلمون يقينا أنها أن صحت لهم وتم الأمر في حقهم, فعندها فقط سينتضلون من رقّ الدنيا والعبودية للشهوات, ومن كل ما سوى الحق عز وجل في الجملة.(1) إذن فلا يمكن أن يطمع في بلوغ حال المشاهدة إلا من زهد في الدنيا وفي كل ما سوى ربه تعالى بحيث لم يبق أمامه إلا مطلب واحد, وهو: حب مولاه وطلب القرب منه, وأما ماعدى ذلك فهو أدعاء ورياء لا يطلب إلا للأستزادة من أراض الدنيا والطمع بما في أيدي الناس.

      الشهود هو علم اليقين

      ويعني الشهود عنده أيضا: العماء عن الكونين, أي كون الدنيا وكون الآخرة, بعين الفؤاد, لأنها أهم من عين الرأس, إذ إن الإنسان يمكنه أن يأخذ ويعطي من أمور الدنيا الشئ الكثير, ومن دون ان يمس ذلك شغاف قلبه, وبالعكس من ذلك, يمكن للأنسان أن يمنع يديه ويغمض عينيه ويصوم عن كل شهوات الدنيا, ولكن من جانب آخر, ترى أن هذه الشهوات تعتمل في قلبه وتطلبها نفسه, وهو لا يمتلك حيال ذلك أية قدرة على السيطرة أو إرادة للتجرد, وهو حال أكثر عوام المؤمنين من غير أهل التصوف. فعماء عين الفؤاد, يعني أن لا يكون لها تلفت إلى أي أمر يق خارج خط سير العبد الحثيث إلى مولاه. ويعني الشهود أيضاً مطالعة الغيب وما يتضمنه من الأنوار بعين المعرفة التي هي اليقين، لأن أية مطالعة بغير المعرفة ستقتصر درجتها عن بلوغ اليقين، على أن هذه المطالعة، يجب أن لا يخالطها توهم إستدراك الشهود بالكلية، أي توهم الإحاطة بالحقيقة، وه توهم يطعن في عبودية الشاهد، و لايخالطها كذلك طمع في تصور الحقيقة أو تكييفها، لأن التصور والتكييف يفترض تحديد الذات الإلهية وتشبيهها وهو مما يتنافى والإعتقاد الصحيح. وأخيراً فإن مطالعة القلوب هذه التي تتم بصفاء اليقين، لا تتجاوز حدود ما أخبر الحق به تعالى من الغيوب، أي ما يتيحه الله تعالى للعبد ويعينه عليه، وهو معنى قول الشيخ عبد القادر، رؤية الحق بالحق.(2)




      هذه الرؤية ما إكتسبت درجة علم اليقين، في الصدق والتحقق، إلا لإنها جمعت بين المعرفة والنظر، أي أنها إعتقاد مؤيد بأوكد سبل اليقين وهو النظر، أو أن هذه الرؤية، هي علم قبله القلب المؤمن، بيقين، فأكتسب المعرفة، ثم كشــف له عن النظر فصار علماً يقيناً، وهو ما يجسده قول الشيخ عبد القادر: إذ أظهرت تباشير صبح نور التوحيد – أي توحيد الخواص الذي تتقطع معه جميع العلائق وتسقط جميع صور الأغبار – على القلوب من أفق مشارق: (( والصبح إذا تنفس)).(1) – أي بلوغ حال المشاهدة – وإستوت شموس عين اليقين على برج أفلاك: (( والشمس تجري لمستقر لها))(2) – أي إكتساب المشاهدة درجة علم اليقين، أي المعرفة المصحوبة بالنظر – توارت ظلمات وجود البشرية في ضوء لمعان (( نورهم يسعى بين أيديهم))(3) – وهو بلوغ مقام الفناء الوجودي - وظهر سر ((يولج الليل في النهار))(4) – أي تحقق الوجود الجدي الذي تنبثق فيه الصفات الرّبانية الجديدة، من وسط ركام ظلمة الصفات البشرية القديمة -(5) وهذه هي السيرة الصوفية الخاصة التي تبدأ من تباشير المشاهد، وتنتهي ببلوغ الحقيقة العظمى والوجود الفائق.
      إذن، فلا صفاء و لاتصوف على الحقيقة إلا بعد حصول حال المشاهدة، فأمّا قبل ذلك فأنه مجرد إستعداد وتهيؤ ومقارعة لجذبات النفس والدنيا، أي أن سيرة السالكين قبل المشاهدة هي سيرة المريدين، وأمّا بعدها فهي سيرة المرادين المرفوع عنهم الجهد والعناء والمخففة عنهم أحمال وهولاء ما حص لهم هذا اللطف إلا لأنهم، بعد بلوغهم حال المشاهدة، وصلوا إلى مرحلة علم اليقين.
      إن كل ما يتجلى وينكشف لقلب المريد، في المشاهدة، من أنوار الغيوب، ينقسم عند الشيخ عبد القادر، على أربعة أقسام: تجلي ذات و تجلي أسماء وتجلي صفات وتجلي أفعال، على أن هذه التجليات عنده، هي سبب إبتداء الخلق وهي سبب الحركة والإختلاف والتنوع الحاصل في الكون، وإن كل جزء في هذا الوجود، له نصيب من هذا التجلي وله سهم من أسرار أنواره، وعلى قدر هذا النصيب وهذا السهم، يقترب الكائن من حقيقة الوجود العظمى أو يبتعد، وإن كل معراج روحي، فإلى باب إسمه العالي إنتهاؤه، وكل سلم للصعود، فبأســمه عز وجل إبتداؤه، تجلى في

      أسمائه، وهو أول مراتب التجليات، فظهر التجلي في أفعاله، فكان الوجود، وأشرق في كل مكون بأشراق ذلك التجلي، وفصلته شواهد التفصيل في الوجودين- الوجود الظاهر والوجود الباطن – وظهر تباين حكم العدل في العالمين- عالم الغيب وعالم الشهادة، وإن لكل واحد من هذه العوالم، حكمه من العدل الخاص به - فبرزت الأسماء وتفرقت الصفات وإختلفت اللغات وتقابلت الأفعال وتنوعت الأنواع وتجانست الأجناس. ثم بعد ذلك يأتي دور الحفظ والهيمنة، إذ إن كل موجود هو بقهر العدل معتدل، وكل يوحده بما ظهر فيه من التجلي ويشير إليه بما أبطن فيه من أسرار أسمائه ويعرّفه بما تألف فيه من علمه في أزله من إيجاده به.(1) وقد لا نبالغ كثيراً إذا قلنا أن هذا القول يمثل إرهاصاً فكرياً لنظرية وحدة الوجود التي ظهرت بشكلها الواضح بعد الشيخ عبد القادر بمائة عام تقريباً، فهو يتضمن جميع الأسس الفكرية لتلك النظرية، ولعل في هذا التقارب إلفات نظر إلى أنه لا جديد في كل التجارب الصوفية، فهي متشابه في جميع خطواتها، وإنما الذي يختلف فيها فقط، هو تسليط الصوفي السالك للضوء على هذه الناحية من تجربته دون الأخرى، وبالتأكيد فأن هذا (التسليط) بدوره يحتكم للظروف السياسية والسلطوية السائدة في عصر صاحب التجرية.

      إن التجلي، إذا كان مبتدؤه الذات، من غير إعتماد صفة من الصفات، سمي بتجلي الذات(2) وأما إن كان مبتدؤه صفة من الصفات، من حيث تعينيها وامتيازها من الذات، كان تجلي صفات، فأما إن كان المبتدأ فعلاً من الأفعال – أي من أفعاله تعالى – فإن الذي سينكشف لقلب السالك هو تجلي الأفعال، وأخيراً فإن تجلي الأسماء يقترب كثيراً من تجلي الصفات، لأن الأَسم لا يتجلى إلا من خلال الصفة القريبة منه. على أن هذا التجلي الأخير، أي تجلي الأسماء، هو أخر ما يطرق قلب السالك من التجليات، حيث يقابل هذا السالك بنور أسمائه، مقابلة تملأ عليه كيانه ظاهراً وباطناً، فتُمحى عن ناظريه خطوط الأشكال كلها (3) ، فأذا ما ما بلغ السالك هذه الدرجة من المحو، يُكشف له عن بصره الداخلي فينظر الى نفسه وإلى ما سواه بنور إسمه تعالى المتجلي على قلبه، فيرى الكمال المطلق ويصير يمشي بين الناس، بما أشهده ربه في أفاق الملكوت، فيصبح الي عند الناس ظناً عنده يقيناً وهذه أولى إمارات الشهود.
      ويضرب لنا الشيخ عبد القادر مثلاً أخر لتجلي الأفعال فيقول: إذا تجلى الحق تعالى على قلب السالك، بفعل من أفعاله، ، نكشف لهذا القلب، جريان قدرته تعالى في الأشياء، فيرى انه هو تعالى على الحقيقة، المحرك والمسكن والماحي والمثبت، شهوداً حالياً لا يعرفه الا من أضاقه ذاقه وجربه. على أن يكون هذا الشهود (حالي) يدل على أنه، كباقي الاحوال، غير مستمر أو دائم الورود على قلب السلك من جهة، ولا قدرة للعبد على التحكم فيه، دفعاً أو إستجلاباً من جهة اخرى، إنه فيض من المواهب الألهية يغدقها على قلوب محبيه، وقت ما شاء وكيف ما شاء وعلى ما شاء . على أن هذا النوع من الشهود لا يخلو من بعض المخاطر التي يخشى على العبد فيها من مزلة الأقدام حيث يخشى عليه، فيما لو أطلع على حقيقة قدرته وارادته وفعله في الأشياء، أن ينفي الفعل عن العباد بالكلية،(1) وهذا الخطر، لا ينفع معه الحذر ولا الأستعداد، لانه نتعلق اصلاً بطريقة نظر الشاهد للأشياء، وإنه لا ينجي منه إلا الله تعالى ذاته، فهو وحده القادر على تثبيت الاقدام والقلوب، ولكن ليس جميعها، بل فقط منها ما ثبت على قدم الصدق ولأخلاص .

      مراتب الشهود


      يضع الشيخ عبد القادر، للتجليات الالهية مراتب متتالية في الظهور، تبدأ أولاً بتجلي الأفعال ثم يليه تجلي الصفات ثم تجلي الأسماء (3)، وهو يضع هذا الترتيب على وفق درجة التجريد المعرفي أولا ودرجة الرقي الروحي للسالك ثانياً، فالأفعال، هي اقرب الشواهد الألهية إلى النفس الأنسانية،
      لأنها متغلغلة في كل مظاهر الأبداع والخلق، فلا يخلو امرُ، بما فيه النفس ذاتها، من اظهار فعل من افعاله تعالى، واما تجلي الصفات فانه يحتاج الى درجة اعلى من الاستعداد النفسي للشاهد، إذ إن الصفة تحتاج الى من يبحث عنها ويستدل عليها، ثم بعد ذلك ياتي تجلي الاسماء الذي يمكن أن يدق عن كثير من البصائر .
      فاذا ما تناولنا النقطة التي بقيت معلقة فيما سبق، وهي التي تتناول شهود الذات وما يلتحق بها من إشكال عقلي أو ما يواجهها من إعتراض عقائدي . ولأجل أن يوضح الشيخ عبد القادر حقيقة هذه الشهود، فانه سيعمد الى توضيح بقية الانواع، كي يصل بالضرورة المنطقية الى مبتغاه، فهو يذهب إبتدءً الى ان الذي يرى من العبد في حالة شهوده هو ســره، والسر هو أخر المراتب التي يمكن

      للنفس ألانسانية أن ترتقي أليها، بعد أن تكون قد قطعت مراحل الرقي الروحي والمعرفي كافة وبعد أن تكون قد وصلت الى تخوم التوحيد الحق المتمثل بإخراج الدنيا والشهوات والخلق وجميع الأغيار من القلب، ثم الانسلاخ عن الطباع الرديئة والتحلي باضدادها، ثم التسليم لرب العزة والرضا به دون سواه، فاذا ما تلبس السر جميع ذلك، ثم بلغ مرحلة الشهود، ثم شهد ما يقوم بغيره ويحتجب الا بموصفها الذي هو الذات، والتي لا بد في شهودها من تواري طرف من أطرافها، لفقد شهود الذات مع ذلك الوصف الجاذب الى وجوب وجود غيره، أي الذات ،ويحتجب بخلافه ، أي ما يخالفه من بقية الصفات ، ويستدل الشيخ عبد القادر على ذلك، بالشاهد الذي يشهد صفة الجمال فانه لا يقوى على الثبوت امام تجلي صفة الجلال ، فحال الجلال اشد طرقاً على النفس من حال الجمال ، إذ إن هذا الاخير يطرأ على النفس مصحوباً بالحبور ، أو ما يعرف عند الصوفية بحال البسط، بينما شهود الجلال يرافقه دائماً القبض(1) والهيبة. وكذلك الحال مع من أنس بحالي الكمال والبهاء، فأنه لا يثبت لبدوَّ شهودي العظمة والكبرياء، وفي هذه النقطة ينبه الشيخ عبد القادر على أنه: إذا ظهر وصف ما للشاهد، دون غبره من الاوصاف، فان هذه الاوصاف، في حقيقتها لا تنمحي عند ظهور غيرها، وانما فقط، تحتجب عن شهود الشاهد، لقهر الوصف البادي قوة شهود الوصف الخافي الذي يستتر في معناه، ((لأن معنى كل وصف قائم بوصفه، فاذا بدت قوى افعال معانيها اللازمةلموصوفها في عين الازل لأن معنى كل وصف قائم بوصفه، فاذا بدت قوى افعال معانيها اللازمةلموصوفها في عين الازل ستترت إستترت أثار بواديها في افعال معانيها، لتعالي الوحدة عن مجاورة التعدد. فهنالك التفت أطرافها المتفرقة في وصفٍ فردٍ ومعنى وترٍ يبدو مع وجود سواه، لأن السرّ قد شهد الصفات مع بقاء رسوم البشرية ، وإقتحم بحرها في سفينة من لحظ كونه ولمحة وجوده وجواذب منازعاته.(2) أي أ، الشاهد، لو كان خالصاً في تجرده، صافي النفس،وغير متعلق بالاغيار ولا متلفت صوب انيته، فأنه سيثبت امام شهود الكثرة في الوحدة والوحدة في الكثرة،ومن دون ان يصدمه ذلك او يحيره، لأن هذا التعدد، هو حقيقة (حق اليقين) ومن اراد ان يبلغ هذه الحقيقة ، فأن عليه ان يفنى عن ذاته، كي تتفتح بصيرته وتصفو مراة قلبه، وإذن فلا وجود للمفارقة والاختلاف في عين الحقيقة ذاتها، وانما هذا يحصل في ذات الشاهد فقط. ولعل في هذا النص الاخير تفسيراً لمشروعية الفناء وضرورته المعرفية عند الصـوفية بوجه عام

      فأذا تحققت إستحالة حصول الشهود مع وجود الذات وعلائقها والنفس ومتطالبته، وإذا كان الطريق لا يقطع إلا بالشهود، لزم عن ذلك ضرورة سعي السالك للتخلص من تلك العلائق عن طريق الفناء .إذن فاتوقف عند شهود الصفات دون الذات، له علاقة بالمستوى الروحي الذي بلغه الشاهد، فهو إن لم يتجرد من علائقه على وجه التمام، فأن شهوده سيكزن محصوراً بشهود الصفات، ويخلص الشيخ عبد القادر من هذا القول إلى النتيجة الاتيه : أن الشهود بما أنه متعلق بالشاهد فأن ألله عزوجل لا يتجلى للعبد في صفتين – وذلك لارتباط العبد في لحظة الشهود يتلاءم، في وقته، مع صفة معينة دون بقية الصفات – ولا في صفة لعبدين – لا إستحالة تساوي عبدين في العلائق نفسها – ما دام الوقت (1) موجوداً . أما الشهود المطلق ، فأنه لا يكون الا عند تجريد الشهود من شهوده – أي الفناء عن الذات- وإنخلاعه إستتارات المركّبات ومتواريات المؤتلفات- أي الفناء عن جميع العلائق والاغيار ، أي التجرد – لفأنه بين كل مركبين مخالفة توجب التباساً وفي كل مؤتلفين تغايراً يورث إشتباها.(3) وعليه فان الشيخ عبد القادر ، يبيح للسالك شهود الذات، فهذا الشهود، رغم صعوبة حصوله وندرته ممكن الحدوث.


      شروط صحة الشروط



      ولشهود الصفات عند الشيخ عبد القادر، ثلاث علامات لازمة، لا يصح الشهود إلا بتوافرها وهي: أولاً: شهود البصيرة بقوة كانت لها قبل هذا الشهود، وهو ما يمكن أن نسميه بتهيئة الذات وجلي البصيرة عن طريق المجاهدات الصوفية، وهو ما يندرج تحت باب المقامات التي هي من كسب العبد وحاصل جهده.

      ثانياً: الإستدلال بتعقل المشهود على كنهه بعد فقد شهوده، تميزاً له من خيلات النفس وأوهامها التي لا تطالها أفهام العقل ولا يعلق منها شيء يستدل به على يقينية الشهود وحقيقة المشهود. وهذا باب في غاية الأهمية بالنسبة إلى مشروعية حال المشاهدة، أو مشروعية الأحوال الصوفية بوجه عام لأنه يؤكد عدم فقد العبد عقله، ويؤكد حضور إدراكه في حال شهوده، وفي هذا ردّ على من يرى في الشهود حالة فقدان للوعي وتغيب للعقل، وفي أحايين أخرى، حالات رؤى مرضية(هلوسات).
      ثالثاً: شهود مشهودين مختلفين بشهود واحد في وصف واحد، للدلالة على أن المصدر لجميع الشهود واحد، وهو الذات الالهية المتعددة الصفات والمختلف المشاهد، على أن هذا الاختلاف يعود إلى ذات الشاهد وليس إلى حقيقة المشهود الذي يلتحق به الوصف الواحد.

      شهود الذات


      فإذا ما إنتفت تلك العلامات التي ترافق الشهود الصحيح الذي هو شهود الصفات، ثم وقع الشهود، وشاهد السرّ موجوداً قائماً بنفسه بوجود مطلق، ليس له تعلق بصفة أو دلالة أو كيفية أو جهة، فذلك هو شهود الذات الذي لا بدَّ فيه من سقوط كل المشهودين لعدم التهيؤ في هذا الحال إلا لمشهود واحد وهو الذات الإلهية المخصوصة بالوحدانية والتفرد، والذي لا بدّ فيه من نفي تعلق اللحظ – أي عين السر وهي البصيرة – بالحين والوقت والأين(1) ، فهذه كلها حدود لا تطال الذات الإلهية المطلقةة التي لا تحددها كيفية محددة والذي لا بدّ فيه من محو ثبوت الفرق(2) والجمع والقرب(3)والبين لرمق العين، لأنه تعالى ليس كمثله شيء و لايحدّه زمان ولا مكان، ويعني هذا الشرط، إضافةً إلى ضرورة إنسلاخ ذات الشاهد عن كل أسباب الاختلاف والتباين، عدم ثبوت شهود الذات بالبصيرة، لعدم مطابقة (الصورة) للكيفيات المعهودة في عالم الشهادة ومن هنا يأتي سرّ الغموض والترميز الذي يكتنف لغة أهل التصوف بوجه عام. ثم لا بدّ أيضاً من محق الشهود – أي محق شهود ذات الشاهد( لذاتها) تحقيقاً للشـهود المحض – وزهق الوجود – الذي هو عالم

      الخلق والفناء ومجمع الأغيار التي تشوب التوحيد الحق – وإنفراد الشهود بوصف المشهود – أي توجهه لمطلق الذات دون سواها من المشهودات – وبروزه – أي الشاهد – في عين الأزل – قدراً واصطفاءً وتعيناً – لمقابلة الأزل بقوة من لم يزل – إذ لا حول ولا قوة على الشهود إلا به تعالى – عند سلب أوصاف الحدوث منه وخلوّه من معانيه وصفاً وحكماً وعيناً وحالاً – وهو معنى التفرد والتجرد وإستعداد الظاهر والباطن – وذلك لفناء وجود الشاهد والمشهود، (( فهنالك رجع أول كل كون إلى أخره، لمحق وصف القبلية في العدم ومحو نعت البعدية في الأبد، وأختفى كل بادٍ (من الأكوان) في ركن عدميته لهيبة سرمديته، فأنه تعالى لا يبقى إلا وجه بعد أن يهلك كل شيء))(1)
      أما شروط صحة هذا الشهود فهي: أولاً : إنه وصف غير مستصحب من قبل وجوده – أي إنه يأتي مجرداً عن كل الدلائل والإشارات – فلا ترافقه علامات ولا تسبقه لوائح.(2) ثانياً : غير باقٍ حكمه بعد تواري عينه، لعدم مجانسته مادة الخيال وملكة التصور فلا يمكن تشبيهه بشبيه ولا تمثيله بمثل. ثالثاً: غير منعقد به كنه ما شوهد به ولا مستدل به على حقيقته بعد إتصال الشاهد بطوره وإنفصاله عن هذا الوصف، لأن كنه المشاهدة كان قد تمَّ بالذوق الذي صاحب فناء أوصاف الشاهد، فإذا ما زال عنه الفناء، زال عنه الذوق وإنمحق الشهود.(3) وبما أنه لا دوام لحال الفناء الوجودي عند الشاهد، لشدّ الواعز الطبيعي والخضوع لحكم الجبلة والخلقة، فإذن لا إستمرار لتوهج ملكة الذوق الشهوي، ومن ثم فلا دوام لحال الشهود.

      الشهود بين الجلال والجمال


      فيما عدا شهود الذات، فإن بقية أنواع الشهود عند الشيخ عبد القادر، أو ما ينكشف لبصائر الأولياء، مما يبهر العقول ويخرق العادات والرسوم، يقع على قسمين لا ثالث لهما وهما : شهود جلال وشهود جمال: فأما شهود الجلال الذي هو مما يلتحق بالعظمة الإلهية، فإنه يورث الخوف المطلق والوجل المزعج والمعلّة العظيمة على القلب مما يظهر أثره بوضوح في بقية الجوارح بحيث يبدو الشاهد أما الناس، في حالة فرق وإضطراب وترقب وعد إستقرار. وأمّا شهود الجمال، فهو التجلي لقلوب الشاهدين بالأنوار والسرور والألطاف والكلام اللذيذ والحديث الأنيس والبشارة بالمواهب الجسام والمنازل العالية والقرب منه تعالى(1)، وهذا الشهود، أي شهود الجمال، هو من قبيل اللطف الإلهي والمنّة الربّانية، فهو يحصل تطميناً لقلوب المحبين المشتاقين، خشية أن يفتك بهم فرط المحبة وشدة الشوق إليه عز وجل.

      أركان الشهود

      والشهود بصورة كافةً،يعتمد عند الشيخ عبد القادر على ثلاثة أركان وهي:التوحيد الذي يعني تجريد الذات الألهية عن كل مايتصور في الأفهام ويتخيل في الأوهام والأذهان0 والتفريد الذي يعني أن لايرى العبد نفسه فيما يأتي به،بل يرى منة الله تعالى عليه،ثم التجريد الذي يعني تجرد العبد عن الأغراض فيما يفعله، بحيث لا يأتي بما يأتي به نظراً إلى الأغراض في الدنيا والآخرة،بل ما كوشف به من حق العظمة يؤديه حسب جهده عبودية وإنقياداً0 وهذه الأركان جميعها تصبّ في معنى واحد وهدف واحد وهو:تطويع السّر على عدم النظر الى غير المنعم،وهذا(الهدف) يصنفه الشيخ عبد القادر، بكونه نوعاً من أنواع شكر القلوب الذي يستحصل عن طريق الاعتكاف على بساط الشهود- أي دوام التطلع إلى مشاهدة تجليات الأنوار الإلهية مع التفكر فيها والغموض في معانيها وأسرارها- بإدامة حفظ الحرمة، وهذا شرط لازم على كل مريد سالك كي لا يخرجه القرب والأنس والتقلب في خلع الشهود، إلى فسحة إسقاط التكاليف والتنصل عن أداب العبودية وهيبت الربوبية، ثم بعد ذلك، الترقي بعد حضور هذه المشاهدة إلى الغيبة في رؤية المنعم عن رؤية النعمة التكاليف والتنصل عن أداب العبودية وهيبت الربوبية، ثم بعد ذلك، الترقي بعد حضور

      هذه المشاهدة إلى الغيبة في رؤية المنعم عن رؤية النعمة التكاليف والتنصل عن أداب العبودية وهيبت الربوبية، ثم بعد ذلك، الترقي بعد حضور هذه المشاهدة إلى الغيبة في رؤية المنعم عن رؤية النعمة(1) ، وهو فحوى التوحيد الحق والتقرب الخالص الذي لا يتعلق بجلب نفع أو دفع ضر، وإنما يتعلق فقط بدوام التطلع إلى النظر إلى المحبوب ذاته والسعي إلى القرب منه.

      التوحيد الشهودي

      إن الذي يعنيه الشيخ عبد القادر هو توحيد الخواص أو التوحيد الخاص الذي هو أمر داخلي ينبع من قلب المريد الصابر الذي يصبر على مجاهدة نفسه وذلك بالتزام الصمت حيال نوازعها وأهوائها، أي إنه لا خلاص من هذه النوازع وتلك الأهواء، لأنها مغروسة في أصل الطبيعة البشرية، وإنما الإشارة هنا فقط، إلى إخفاء سرّ المريد – والسر لا يسطع نوره ويبين سلطانه إلا في المراحل المتأخرة من السلوك الصوفي – لفحوى السرائر، بما تشتمل عليه تلك السرائر من خواطر ونوازع وميول، على إن ذلك لا يحدث في كل الأوقات، إذ إن للحياة الطبيعية حصتها من طاقة المريد وفعله، وإنما يحدث فقط، عند ورود الحضرة، ومجاوزة القلب منتهى مقامات الأفكار أي إلى المستوى الذي تعجز فيه هذه الأفكار، عن الإحاطة بالموضوع المفكر فيه، ويتم ذلك حين يرتقي سرّ الشاهد فوق أعلى درجات الوصال ومنازل أسرار التعظيم، و لا أعلى من أعلى درجات الوصال، ولا أرفع من أرفع منازل أسرار التعظيم إلا الفناء الوجودي الذي يفضي إلى شهوة الذات والذي يثمر تحقق وحدة الشهود
      فإذا ما بلغ السرّ هذه المنزلة ، فليس عليه التوقف، بل لابدّ له
      (r) أن يتخطى ذلك بإعتياد التقرب
      بأقدام التجريد، أي التخلص من جميع اشكال العلائق الحاجبة عن مطالعة أنوار الشهود ورقيه إلى التداني بسعي التفريد، أي بعدم النظر إلى غيره بما في ذلك النظر إلى شهود الشهود، وكل ذلك
      يكون مصحوباً، في قلب المريد، بتلاشي الكونين، أي الدنيا والآخرة، وتعطل الملكين، أي ملك الظاهر وملك الباطن، وخلع النعلين، أي التخلص من سلطان غرائز النفس وأهوائها، وإقتباس النورين إي نور الحقيقة ونور الشريعة، وفناء العالمين، وهما عالما الغيب والشهادة، وكل ذلك يتم تحت لمعان بروق الكشف الذي لايبقي نوره ولا يذر، إلا ما كان حقيقياً وصادقاً وخالصاً لله تعالى. والبروق هنا يدلّ على أن الشهود هو من قبيل الاحوال التي لا تنال بالمكاسب بل تستحصل بالمواهب، ولا تؤخذ بالوسائل بل تعطى بالسوابق، أي بما سبق من رحمة الله ومنته وفضله، فالمشاهدة التي هي عبارة عن الرؤية ببصائر الأسرار، (( تخرج تواقيع مقاماتها من ديوان يختص برحمته من يشاء، فيا أيها المريد الصادق الشوّاق التوّاق، فأستقم على جادة الصدق حتى يأتيك اليقين، وتّنقل إن شاء الله تعالى إلى دار الصادقين، فتنظر إلى مطلوبك وتأخذ نصيبك من رؤية محبوبك)).(1)

      ولكن لا بدّ من الإشارة هنا إلى أن تأكيد الشيخ عبد القادر على أن الشهود كله هو من قبيل الهبة الربانية المحضة، وإنه لا يأتي بإرادة بشرية سابقة على حصوله، ويشمل العطاء فقط و لا يشمل إستعداد العبد لتلقي هذا العطاء، فأن هذا الفعل الأخير يُعدّ كسباً ذاتياً خالصاً للمريد، الذي لا بدّ من أن يستعد ويتهيأ من خلاله، ثم بعد ذلك ينتظر فضل ربه تعالى، والمريد هنا مثله مثل العبد الذي يريد أن يجعل من قلبه عرشاً للرحمن، فهو يهيئ هذا العرش بالإذكار والعبادات والطاعات والتفكر في ملكوت الله تعالى ومطالعة عظمته وقدرته، وهذه كلها من فعله الخالص الذي هو كسب له، أو ما يلي ذلك من فضله تعالى على عبده، إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل.

      ذكر القــلب

      وتمييزاً لتوحيد الشهود من غيره من أنواع التوحيد الأخرى، يضرب لنا الشيخ عبد القادر مثلاً هو من صميم الفعل الصوفي، إذ إنه يتعلق بأذكار المريدين وأورادهم. يقول الشيخ عبد القادر: إن أغلب المريدين يؤدّون أذكارهم باللسان فقط، ومن دون أن يرافق ذلك ذكر القلب، الذي يعني في أخصَّ ما يعنيه حضور القلب الكلي في حضرة الذكر والتمعّن في مشارق أنواره. إن أغلب المريدين المبتدئين، يذكرون ورد التوحيد: ( لا إله إلا الله)(2) من غير أن يلتذّوا بمعناه، لأن توحيدهم في هذه المرحلة يعدّ توحيد أفعال، أي أنهم يرون فعله تعالى ظاهراً في خلقه وفي عظيم صنعته، أما توحيد الشهود، الذي يتم من خلاله إدراك المعنى العميق لذكر ( لا إله إلا الله) فأنه لا يُنال إلا بعد أن تنجلي عن قلب المريد الحجب الظلمانية الحاصلة من تراكم الذنوب الماضية، وهذه الحجب لا تنقشع إلا بالمواظبة على هذه الإذكار وهكذا، أما بعد أن تشرق الأنوار وتُزال تلك الظلمات عن أعين البصائروالأسرار، فسيشاهد المريد بعين اليقين: (( أن لا محرك ولا مسكّن و لا معطي ولا مانع ولا ضار ولا نافع إلا الله عز وجل شهود ذوق وحال، لا شهود إعتقاد وقال)).(3) أي شهود معرفة يقينية لا شهود علم ظنيّ. على أنه لا يذوق هذا الحال إلا من له ذائقة قلبية، و لا يمتلك هذه الذائقة إلا من استعدَّ لها وسعى لهلا سعيها، بأن ((هجر الفرحة – أي الفرحة المتعلقة بعطايا الدنيا وملذاتها – وحمل الأحمال على كاهله، وعلم يقيناً : أن لا قرار لعيونه ولا سلوة لمصابه، حتى يلاقي ربّه عز وجل في الدنيا قبل الآخرة، وعندها يجيئه الهناء والفرح، أمّا قبل هذا فمصيبته دائمة)).(1) وهنا يعود الشيخ عبد القادر ليؤكد لنا من جديد: أن الغاية الحقيقية من كل فعّاليات التجربة الصوفية هي ملاقاة العبد ربَّه تعالى، وهي الملاقاة التي علمنا أنها لا تتم إلا بعد التحلي بأخلاق الإستقامة والصلاح، ولا تدوم مصيبة المريد ويتواصل عليه العناء إلا بعد فهمه لتلك المعادلة.

      التفريد الشهودي

      وبعد التوحيد، يتم التحقق بحال التفريد، وهو إشارة من المفرد – وهو الله تعالى – إلى الفرد – وهو الشاهد أي أنه أمر خارجي يُلقى في قلب الشاهد، عن تفرده – أي الشاهد – عن الكونين وتعرّيه عن الملكين وإنخلاعه عن وصف وجوده وحكم ذاته، وكل ذلك تهيؤ وإستعداد، لمطالعة ما يرد على سرِّه من الخواطر من لد الحق تعالى، تحرياً لتصحيح التفريد وطلباً لصدقه في وصفه حال الشهود، وذلك أن صفة الفردية، التي لها تعلق بالذات الإلهية، تقتضي إشارة منفردة، غير متعلقة بجهة أو كيفية، فيصعد السالك، معتصماً بتلك الإشارة، إلى نفسه التي يُفترض أنها قد إستعدت لهذا الحال وصفت مرآتها لعكس أنوار صورته.
      فأمّا إذا ما قدح في هذا المعنى غيب سبب، له تعلق بأحكام الحظوظ والأقسام والأقدار أو علة كدر، لها تعلق بالطبائع والأهواء والعلائق، إنفصل العبد عن معتصمه، أي حال التفريد عن متمسكه الذي هو إشارة الفردية، ورجعت الإشارة القهقري إلى البشر، أي غادرت حال التفريد وعادت إلى الطبيعة ذات العلائق المتعددة، (( وإحتجبت عن مطالعة الحق وقت هيجان شوق الأرواح، عند تلميع برق الشفقة عن حجب طور البشرية، وصفة الفردانية عليه من وصول إشارات التمويه ونيل معاني الأرواح ووصف أعداد الأفراد)).(2) أي أنه لا يمنع العبد عن التحقق بحال التفريد إلا سببان: أحدهما رباني له علاقة بالأقسام والآخر بشري له علاقة بدرجة صفاء أو كدر النفس، الأول يلتحق بالأحوال والثاني يلتحق بالمقامات.

      التجريد الشهودي

      أما التجريد، فهو يعني: تجريد السرّ عن التدبر بثبات السكون عن طلب المحبوب، لأن الثبات على هذا السكون يعني عدم الصدق في طلب المحبوب والشوق إليه، ثم تعرّي السرّ عن التزمل بلباس الطمأنينة على مفارقة المحدود والرجوع من الخلق إلى الخالق منيباً(1) ، أي أن التجريد يفترض عدم الإطمئنان للوصول، ودوام المراقبة للنفس، وأما الإنابة فأنها تفترض الرجوع إلى الأصل، إذ إن اللجوء إلى الخالق، هو حقيقة الإنسان وهدف حياته. التجريد إذن، يعني إضافةً إلى تخليص النفس من علائقها وآفاتها وثم تهيئتها لحالة الشهود، إدامة هذا التخليص والاستزادة منه، وعدم الركون إلى ما تحقق منه.

      وتطبيقاً لما أورده الشيخ عبد القادر من آراء تخص وحدة الشهود، فأنه يستشهد بحال شهود الشيخين: أبي يزيد البسطامي ( ت – 261هـ ) والحسين بن منصور الحلاّج ( ت – 309هـ ). على أننا لو إستحضرنا الحيثيات السياسية والإجتماعية والفكرية للعصر الذي عاش في كنفه الشيخ عبد القادر، وهو العصر الذي كان الموقف الصوفي فيه لا يخلو من حساسية وحرج ملحوظ، لأستطعنا أن نقدِّر مدى جرأة وشجاعة الشيخ عبد القادر، في الأقل، في تبنّيه آراءَ هذين الشيخين اللذين طالما عرضا على معارض المروق والإتهام.
      لقد وضع الشيخ عبد القادر، آراء هذين (الشيخين) على محك بنائه النظري الذي علمنا فيما سبق، أنه يجمع بين نوري الشريعة والحقيقة، فتقبل منهما الكثير من الآراء والشطحات، بعد أن أزال عنها الكثير من الغموض واللبس، ولكنه في الوقت نفسه، آخذهما بقصور الحال عن بلوغ درجات الحب والقرب، وكذلك الجهر بالسرّ الذي لا ينمّ إلا عن عدم الدراية الكافية.

      رأي الشيخ عبد القادر في البسطامي

      يقول الشيخ عبد القادر عن أبي يزيد البسطامي: أنه قد دلَّ بتصريحه على محبته ولا أنبأ عن عشق، مقام المحبة يقصر مقام العشق، ومع العشق لا يجد العاشق مجالاً للإفصاح عن مشاهداته. لقد وقع على البسطامي غبار تعب الطريق وذلك بعد تحكمه في غايات درجات النهايات، أي درجات القرب، فقال: سبحاني شكراً للوصول وبلسان التوحيد، وأما بنعمة ربّك فحدِّث))(1) وذلك بعد أن طاب منزله، أي المنزلة التي بلغها في قربه من الحضرة الإلهية، وإخضرَّ مرتعه، وقد ضربت نوبته في القرب، بيد القدرة التي سبقت بها العناية، في ذلك الفناء (الشهودي) ونصبت سرادقات المشاهدة بسابق العناية، في ذلك الحمى المحرم على غير أهله، فصار له لسانان ينطقان ونوران يشرقان، لسان ينطق بطرب التمجيد ولسان ينطق بحقائق التوحيد، الأول يخصّ الشاهد وهو غارق في بحر فنائه، والثاني له تعلق بالشهود وحقائق المشهود، فترنمَّ لسان طرب تمجيده فقال: ما نظرت إلى شيء، إلا رأيت الله قبله، فأجاب لسان حقائق توحيده: سبحاني. فصاح نور الوجدان، أي لسان سرّ الشاهد: أن القرب أفناني ثم أحياني، ونادى نور الوصل، الذي هو حقيقة الشهود: أنا الحق، أبقاني، وهو البقاء الجديد الذي يعقب الفناء، ثم رقّاني، من ثقل البشرية إلى مصافي القرب والوصول، فسبحاني لديّاني ورحماني.(2) وهذه العبارة الأخيرة تنمّ عن أعلى درجات الوصول، فهي تشير إلى توحد اللسانين لسان الشاهد ولسان حقائق الشهود، بحيث إن العبارة ذاتها تنبيء عن التوحيد والتمجيد في الوقت نفسه.

      لقد أزال الشيخ عبد القادر الكثير من اللبس والغموض بتسليطه الضوء على لسانيْ حال البسطامي، وكشفه في داخل عبارته التي جهر بها عن منطقين مختلفين ولسانين متغايرين، أولهما: لسان حال الشاهد الذي طرب فرحاً بالقرب والوصول، والثاني: لسان التوحيد الذي نطق عن حقيقة الشهود، وكونه متعلقاً بالذات الإلهية (موضع الشهود) مع فناء الشاهد وغيبته، وذلك لشدة حبِّه وقربه، عن مشهد عبوديته، وهذا ما لم يفهمه المحجوبون.

      رأي الشيخ عبد القادر في الحلاّج

      وأما الحلاّج، فأن مصيبته أعظم، وأمره قد بلغ إلى درجةٍ من الخطورة، أنه أودى بحياته وأهدر حرمته،فلقد أعدم أمام أعين الناس بسهام الشريعة وتحت مظلّة الدين، وبصبرٍ بيّن وتقبّل ملحوظ من قبله. وكل ذلك حصل، في نظر الشيخ عبد القادر لسببين، الأول غفلته عن حكم البشرية وإستغراقه التام في بحر الشهود. والثاني جهره بالسر الكنون وإفصاحه عن غير المباح الإفصاح عنه.

      يقول الشيخ عبد القادر عن الحلاّج: أنه بعد أن قطع طريق العشق، وهذا يعني أنه في هذه النقطة قد تفوق على صاحبه، وأخذ من جوهرة سرّ المحبة، ألتي قُدَّت من معدن الإتحاد الشهودي وأودعها في أخفى مكامن خزانة قلبه وهو سرّ السرّ وعين البصيرة، مشيراً لحاله بالغيبة والاستغراب فلما قابل بصر بصيرته شعاع نور جمالها أي جمال جوهرة سرّ المحبة عمي عن النظر إلى الموجودات، وهذا هو موضع ذنبه الأول فظنَّ خلو المكان من الأعيان، إشارة إلى تمكن حال الشهود منه وليس تمكنه هو من هذا الحال، فأعترف بالأخذ وهذا هو موضع ذنبه الثاني فأستحق قطع اليد والقتل، فأما قطع اليد، فهو لإدعاءه ما لا يعطيه إياه ظاهر الشرع وحكم العقل وإما القتل فلإِفشائه موضع السرّ.

      وفي كل المواضع الذي ذكر فيها الشيخ عبد القادر الحلاّج فأنه لم يذكر قاتليه بسوء ولم يعدّ قتله إلا أمراً محتوماً إستوجبته ضرورات الطريق إذ إن من ملك تلك الجوهرة أي حقيقة الشهود وطالع أنوار الغيب، فإنه لا يقنع إلا بأوفى درجات المحبة، وهي درجة الفناء في المحبوب، أو الفناء الوجودي الذي إن تحقق في الظاهر، فإنه يعني الموت. ولذا فإن الحلاّج لما وصل إلى باب القرب وطرقه نودي: يا حلاّج لا يدخل هذا الباب إلا من تجرد عن الصفات البشرية وفنى عن السمات الأدمية، فمات حباً وذاب عشقاً، وسلم روحه لدى الباب وجاد بنفسه عند الحجاب، فوقف في مقام الدهشة على أقدام الحيرة، فلما أخرسه الفناء بعد إزالته لسلطان العقل، أنطقه السكر، وهو لسان الوجدان، طرباً فقال: أنا الحق، فأجابه حاجب الهيبة: اليوم قطع وقتل، وغداً قرب ووصل.(1) إذن فقتل الحلاّج كان قدراً محتوماً ومرحلةً ضرورية من مراحل تمام الأمر وكمال الخطة وقطع الطريق والفوز بالقرب الحقيقي وأما ما قاله وصرح به قبل تنفيذ الحكم فهو من قبيل لسان الحال الذي لا يمكن قياسه بإحكام ظاهر الشرع، لأن النفس فيه قد تهلك عن وجودها وغرقت في بحر المشاهدة والسكر والفناء، ولتكريس هذا المعنى، فقد شبه الشيخ عبد القادر حال الحلاّج بالعارف الذي طار طائر عقله من وكر شجرة صورته الجامعة لأقطار العلائق والأغيار، وعلا إلى السماء تنصلاً من غمد البشرية خارقاً صفوف الملائكة، تفوقاً وتمكنناً من تلابيب الحب والإشتياق. كان بازياً من بزات الملك، فهو شديد المراس، ولكنه كان مخيّط العينين بخيط: (( وخلق الإنسان ضعيفا))(2) لكونه محكوماً بحكم الوجود، فلم يجد في السماء ما يحاول من الصيد لعد إكتمال إدواته التي لا تكتمل إلا في الحياة الأخرى، فلما لاحت له فريسة ( رأيت ربي )(1) برقت في سمائه بارقة أمل، ولكن خيرته إزدادت في قول مطلوبه: ((إينما تولوا فثم وجه الله))(2) فهل يطالبه في الأرض أم في السماء، في جهة معينة أم في كل الجهات، فعاد هابطاً إلى حضيرة خطة الأرض، أي عاد إلى حال صحوه، وطلب في هذا الحال ما هو أعزّ من وجود النار في قعور البحار، ثم تلفت بعين عقله فما شاهد سوى الأثار، ثم فكر بعقل وجوده، فلم يجد في الدارين مطلوباً سوى محبوبه، فعلم يقيناً أنه قد عاد إلى نقطة البداية ولكن بعد تخلصه من جميع العلائق والأغيار، فطرب لهذا الحال وقال بلسان سكر قلبه، وهو أعلى درجات السكر الذي هو الفناء،: ( أنا الحق ) إحساساً بالاتحاد وفقداناً للحدود، ولكنه من شدة فرحه ترنم بلحن غير معهود من البشر، وصفر في روضة الوجود صفيراً لا يليق ببني آدم، ولحن بصوته لحناً عرضه لحتفه.(3) إذن فليس في الحلاّج ذنب سوى إنه قد إستبدّ به الشوق فأخرجه عن طور أدبيته.

      لقد أراد الشيخ عبد القادر، من وراء تبنيه تلك الآراء التي يعسر تقبلها من عامة الناس وفي كل الأزمان، أن يدلّ الأفهام على سلامة الموقف الديني لكبار رجال التصوف لكونه من أولياء الله تعالى الذين لايصدر عنه إلا ما هو خير وصلاح، وإن الارتباك كله الذي حصل، يكمن في تعدد إلسنة أحوالهم ومواجيدهم، وتعدد الوان مراجعهم المعرفية التي إقتصر الناس على لون واحد منها، وهذه الأسباب وغيرها كثيرة، هي التي أشكلت عليهم المواقف وعاكست بين تصاريحهم وما يفهمه الغير من ظاهر حكم الشرع.

      الفوائد الروحية للشهود

      من كل ما سبق، يمكننا أن نستدل على أن حال وحدة الشهود يعد مرتبة متقدمة من مراتب الطريق الصوفي، بل أخر المراتب التي يطمح جميع الرجال إلى بلوغها، ولكن هيهات إذ لا يبلغها إلا النادر والعزيز منهم. إن من أخص خصائص المشاهدة، هو أنها تبــلغ بأيمان الشاهد إلى مرحلة


      اليقين، إذ إنها تلقي على الغيب أنوار المشاهدة وتجمع بين ظن العقل ويقين النظر. إذن فلا يقين قبل الشهود وبما إن اليقين هو مطمح معرفي لكل مؤمن، إذن فلا مناص من التعلق بأسباب المشاهدة، لأنها من صلب الفعالية الدينية، وبالتحديد، من صلب عقيدة التوحيد التي جاء الإسلام كي يبثها بين الناس.

      إن بلوغ السالك مرتبة الفناء الشهودي، لا يمكن أن يعدَّ، بأي حال من الأحوال فعلاً كمالياً زائداً عن حاجة العبد الإيمانية والروحية، بل هو في حقيقته، يمثل توحيد صحيح ونقياً وغير مشوه بأي شكل من أشكال الشرك، ما خفيَ منه وما ظهر، ومن جهة أخرى، فإن السعي الدائب إلى بلوغ حال الفناء الشهودي، يدفع بالسالك إلى أن يهيئ باطنه لذلك الحال، فيصير حريصاً على أن لا يكون في قلبه غير توحيد الله تعالى، ولا في ظاهره غير طاعته وعبادته والأخذ بما أمر به ونهى لأنه (( ليس له إلا مسؤل واحد ومعطٍ واحد ومرجو واحد ومخوف واحد وموجود واحد وهمةٌ واحدة )) (1) ويكون هذا دأبه وشعاره دائماً، حتى يبلغ مرامه من محبوبه الواحد الذي يحب الوحدانية في المحبة والتي يجسدها عدم حب غيره أو الأعتقاد به أو الأفتقار أليه، ويحب الواحد في محبته ، وهو المتفرد الذي قطع العلائق بكل الأكوان الأغيار .
      أن مداومة الصوفي على ذكر محبوبه في جميع الأوقات، وبقلبه ولسانه وكل جوارحه، مع إغماضه عينيه وسده جميع منافذ حواسه، ومع عدم مغادرته مساحة ظل المراقبة القلبية التي تعني: إستدامة القلب، أي علم العبد، بأطّلاع الرب عليه في جميع أحواله.(2) ولهذه المراقبة إضافةً إلى فوائدها الروحية الكثيرة، فائدتان عظيمتان، الأولى: إكتساب صفة الحياء الناجمة عن دوام المثول بين يدي الحضرة الإلهية، وهو ما يجنب العبد الإِقدام على الكثير من المساوئ والأثام، لا بل يجنبه حتى مجرد التفكير فيها، والثانية: زيادة وهج جذوة الحب في قلب العبد تجاه ربه، وهو ما ينجم عن كثرة المراقبة والمصاحبة. فإذا ما داوم العبد على هذا الذكر وهذه المراقبة، بحيث يصير الوجود أمام ناظريه وكأنه ليس فيه إلا صفاته وأفعاله تعالى، فإنه سيؤلف هذا الشهود ويداوم عليه بحيث يكون له حالاً ملازماً لا ينفك عنه، عندها، ستطلع شموس المعارف الإلهية، من مطالع سموات السرائر، لأنها مغروزة أصلاً في تربتها، فتنور أراضي القلوب، من نور: (( فأشرقت الأرض بنور ربها))(3) وترتفع أغطية ظلام الجهالة المخيِّم على النفوس قبل الشهود، عن بصائر العقول بكحل: (( فكشفنا عنك غطاءك ))(1) فتتحير عيون بواطن الأفهام، يضيق كأسها، من مشاهدة لوامع أنوار القدس، وتتعجب خواطر الأفكار من مكاشفة عجائب أسرار عالم الملكوت.(2)

      إن العبد، إذا ما بلغ حال الشهود، فإنه سيصل إلى بر الأمان وهو علم عين اليقين الذي لا يتطرق إليه شك و لايحجب صاحبه بالخلق عن الحق لأنه سيكون قد حاز على مرتبة التفريد، و لا بالكثرة عن الوحدة، لأنه سيكون قد حاز على مرتبة التوحيد، وسوف لا يرضى بالخير دون المعاينة، لأنه وصل إلى ربّه و إطَّلع على ملكه، وعرف أن ليس في السماء ولا في الأرض غيره، فصار يراه بعين قلبه وسرّه، وصارت الدنيا وملكها لا تساوي عنده شيء في مقابل ذلك الشهود، زهداً فيها من جهة وحباً بالله عز و جل من الجهة الأخرى، إذ أن ((من أحبّ الله، لا يرى غير الله، وإن من سلك طريق الله وصل إلى الله ومن وصل إلى الل عاش في كنف الله ومن إشتاق إلى الله أنس بالله وإن من ترك الأغيار، صفا وقته مع الله)).(3) وهذا يدلّ على أن العلاقة متلازمة وحتمية بين الحب والإخلاص والتوحيد والوصول، فكل واحدة من هذه المراتب والأحوال تفضي إلى الأخرى ضرورةً وإن مجموعها يساوي السيرة الصوفية للسالك الواصل.

      التوحيد الشهودي والتوحيد العقلي

      ويؤكد الشيخ عبد القادر ايضاً، على إن حال وحدة الشهود أو الفناء الشهودي، هو غير (التوحيد المقالي)(4) أي بمعنى :إن هذا التوحيد، هو غير نظريات التوحيد الكلامية أو الفلسفية، أو حتى ما تسمى بنظريات التوحيد الإشراقي التي تتناول التوحيد بكونه أفكاراً عقلية تدرك بالحدس والتأمل الباطني، واصحاب هذا الاتجاه يرون أن كل من عرف هذه النظريات يمكنه أن يبلغ أرقى درجات الكمال الروحي والعقلي ويكون موحداً على الحقيقة، ويكون أيضاً من الواصلين، وهذا ما يرفضه أصحاب التصوف العملي ويرون خلافه، فعندهم إن معرفة هذه النظريات لا تفيد صاحبها فائدة روحية يعتدُّ بها، بل إنها قد تورثه لبساً وخلقاً في معتقده، وإنها قد تشكل حجاباً ظلمانياً يحجب قلبه عن إدراك حقيقة التوحيد وعليه فيرى الشيخ عبد القادر، إن الذي ينفع السالك ويوصله إلى الحقيقة هو: شهود الوحدة ومعايشتها ذوقاً(*) ، بحيث إنه يصل إلى هذا الشهود، بعد أن يكون قد هيأ نفسه مسبقاً وأزال عنها الحجب الظلمانية، وصار يُكشف لها من أفعال الله عز وجل ما يُبهر العقول ويخرق الرسوم والعادات، وهذا الكشف سوف لا يقتصر على حال الشهود، بل هو سيتجلى في كل الموجودات، لأنه تعالى (( قد أشرقت أنواره في كل موجود، إشراقاً أظهر سرَّ وجوده لشهوده فأعترف به له إعتراف عبودية وقهر))(1) إن هذا التوحيد الذي يصفه الشيخ عبد القادر، هو ضرورة يقع خارج ساحة العقل ونظرياته، إنه نور يلقى في القلوب ومعرفة تقدح في الصدور ويقين يحصل في الأسرار، بحيث لا يحيط به جدل ولا تستوعبه أفهام، ولا يعني هذا الكلام إنه علم غير معقول، وإنما يعني إنه لا يصدر عن العقول، وإنما يستحصل عن طريق البصائر والأسرار ثم يستقر أخيراً في العقول.

      لقد ظل الشيخ عبد القادر، يعمل جاهداً على تقديم آرائه الصوفية إلى مريديه وأهل عصره بشكل مبسط وعملي ومنسجم مع ظاهر الشرع، مع تأكيده لهم : إن أعظم الأفكار الصوفية وأكثرها إثارةً للإعجاب، لا يمكن أن تنفع ناقلها أو تنجيه، لا بل إنها قد تؤدي به إلى الضر والتهلكة، فيما لو أساء فهمها أو نقلها، فالإنسان لا يمنك إن ينتفع إلا بالرداء الذي يرتديه، وأما ما يتظاهر به فإنه يدل على النقص أكثر من دلالته على الكمال.

      إن الأفكار والنظريات الصوفية، ليس بناءات طوبائية مستخلصة من مادة الخيال، بل هي في الواقع، مشاريع عمل أخلاقية ومناهج سلوك روحيه وضعها شيوخ التصوف كي يستفيد منها الناس، ويسعوا ويشتهدوا إلى التحقق بها والترقي من خلالها، لأنها في حقيقتها تشكل المعنى المطلوب والصحيح والجوهري للدين، وما الخلاف الحاصل بين رجال الدين حول مشروعيتها، إلا نتيجة لقصور فهم بعضهم من جهة وسوء إستخدامها من بعضهم الأخر من جهة أخرى، وإن الحقيقة والغاية واحدة عند الجميع – هذا مع افتراض حسن النية – وإن اختلفت وجوهها وتباينت صورها.

      إن الغاية من كل ما يأتيه الصوفي من أفعال وأحوال وأقوال، هي الوصول إلى مرحلة العبودية الحقة، وهذه هي غاية كل الأديان السماوية، لا بل إنها مطلب طبيعي بكل فطرة سليمة فإذا ما وصل العبد إلى هذه المرحلة، فإنه سيبلغ أعلى درجات التوحيد والإيمان بألوهية الخالق ووحدانيته وهو ما تعارف الصوفية على تسميته بـ ( حق اليقين ) الذي هو عبارة عن فناء العبد في الحق والبقاء به علماً وشهوداً وحالاً لا علماً فقط(1).


      (1) كامل مصطفى الشيبي – صفحات مكثفة من تاريخ التصوف الإسلامي – بيروت – ط/1 – 1997 – ص167.

      (1) نيكلسون – في التصوف الإسلامي وتاريخه – القاهرة – 1947 – ص86-88.

      (2) الجرجاني – التعريفات –ص291.

      (1) القشيري – الرسالة القشيرية – ص291.

      (2) القشيري – المصدر نفسه – ص74.

      (1) الهجويري – كشف المحجوب – ترجمة د. إسعاد عبد الهادي قنديل – بيروت – 1980 – ص575.

      (2) الهجويري – كشف المحجوب – ص576.

      (3) السهروردي – عوارف المغارف – ص516-517.

      (1) نيكلسون – في التصوف الإسلامي وتاريخه – ص131.

      (1) أبو العلا عفيفي – التصوف الثورة الروحية في الإسلام – ص64.

      (1) الجيلاني – الغنية لطالبي طريق الحق عز وجل – ج/3 – ص1272. وفي هذا المعنى ورد في أحدى مخطوطات الشيخ عبد القادر قوله الذي يتداخل فيه تفسير القرآن الكريم مع توارد الأفكار الصوفية, وهو أسلوب طالما أستخدمه في كتاباته, إذا لاحت لوامع أسرار الله, نور السماوات والأرض, على مشكواة الضمائر, فستتنور من تأثيرها زجاجة القلب. نور المصباح في زجاجة, الزجاجة كأنها كوكب دري, وتلمع بوارق كشوف يوقد من شجرة مباركة, من سرادقات غمام لا شرقية ولا غربية وتسرج قناديل فكرة يكاد زيتها يضئ. أنظر – الشيخ عبد القادر – خمسة عشر مكتوبا – مترجمة عن اللغة الفارسية – مخطوطة – تحت رقم – (4689).

      (1) الجيلاني – الغنية لطالبي طريق الحق عز وجل – ج/3 – ص1272.

      (1) الجيلاني – الفتح الرباني والفيض الرحماني – ص223.

      (2) الشطنوفي – بهجة الأسرار ومعدن الأنوار – ص124

      (1) التكوير / 18

      (2) يس/38

      (3) التحريم/8

      (4) فاطر / 13

      (5) الجيلاني – خمسة عشر مكتوباً - مخطوطة

      (1) زين الدين السائح – الدّر الفاخر في مناقب الشيخ عبد القادر – ص 142

      (2) يذكر الشيخ عبد القادر في هذا الصدد، أن أكثر العلماء ينكرون هذا النوع من التجلي ويقولون عنه لا يحصل إلا بواسطة صفة من الصفات، لكون الذات (بذاتها) لا يمكن أن تتمثل لبصيرة العبد دون الارتكاز على إسم أو صفة ما. والشيخ عبد القادر حين يذكر هذا التجلي من بين بقية التجليات، فأنه ضرورةً لايأخذ بهذا الاعتراض. – حول هذه المداخلة – أنظر زين الدين السائح – الدر الفاخر في مناقب الشيخ عبد القادر – ص143.

      (3) السائح- الدر الفاخر في مناقب الشيخ عبد القادر- ص143

      (1) السائح- المصدر نفسه - ص143

      (2) الجيلاني- سير السلوك الى ملك الملوك – مخطوطة



      (1) القبض والبسط: هما حالتان يبلغهما العبد بعد ترقيه على حالة الخوف والرجاء، والقبض العارف بمنزلة الخوف للمستانف والبسط للعارف بمنزلة الرجاء للمستانف، والرجاء والخوف متعلقان بالمستقبل واما تعلق القبض والبسط ففي الوقت والحين الحاضر-القشيري- الرسالة القشيرية – ص55

      (2) الشطنوفي – بهجة الاسرار ومعدن الانوار – ص120

      (1) الوقت :إسم لطريق سالك يسير بين تمكن وتلون، لكنه إلى التمكن أميل، والوقت يطلق على من يسلك الحال ويلتفت الى العلم ، فالعلم يشغله في حين والحال يحمله في حين ، فبلاؤه بينهما يذيقه شهوداً طوراً ويريه غبرة تفرَّق طوراً – الهروي- منازل السائرين- ص101 .

      (2) الشطنوفي – بهجة الاسرار ومعدن الانوار – ص82 – وقد ورد في بعض ادعية الشيخ عبد القادر مما يصيب في هذا المعنى قوله: اللهم طهرنا من قاذورات البشرية وصنعنا بصفاء المحبة الصديقية ، من صدأالغفلة ووهم الجهل، حتى تضمحل رسومنا بفناء الانانية ومباينة الطبيعية الانسانية في حضرة الجمع والتخلية والتحلي بالوهبة الاحدية والتجلي بالحقائق الصمدانية في شهود الوحدانية، حيث لا حيث ولا أين ولا كيف ويبقى الكل لله وبالله ومن الله والى الله ومع الله – الجيلاني- الصلوات الكبرى – مخطوطة.

      (1) الأين : هو حالة تعرض للشيء بسبب حصوله في المكان – الجرجاني – التعريفات – ص22

      (2) الفرق : هو إشارة إلى خلق بلا حق وقيل مشاهدة معبودية. والفرق أيضاً هو ما نسب إليك والجمع هو ما سلب عنك. والفرق كسب للعبد من إقامة وظائف العبودية والجمع هو ما يأتي من قبل الحق من إبداء معاني وإبداء لطف. الجرجاني – التعريفات – ص80

      (3) القرب – هو قرب العبد من الله تعالى بكل ما يعطيه السعادة، لا قرب الحق من العبد، لأنه قرب عام سواء أكان العبد سعيداً أم شقياً. الجرجاني – التعريفات – ص183

      (1) الشطنوفي – بهجت الأسرار ومعدن الأنوار – ص120 والشيخ عبد القادر يستند بهذه العبارة إلى قوله تعالى: (( كل من عليها فانٍ، ويبقى وجه ربَّك ذو الجلال والإكرام)) الرحمن/ 26-27. وهو يمثِّل لهذا الشهود لحال نبي الله موسى (u). فلقد غلب على قلبه هيمان العشق، وخرقت لذة التكليم منافذ سمعه حتى وصلت إلى بصره، فطلب البصر نصيبه من النظر ووافقه توق القلب، فقال: (( رب أرني أنظر إليك)). الأعراف/7. قيل يا موسى أنظر أولاً إلى مرآة الجبل، فالتفت بعين سرّه إلى الطور فخرَّ صعقاً، قيل : يا موسى معدة طبعك ضعيفة عن تناول شراب التجلي وأنيق عينيك ضيق عن مقابلة أنوار سبحات : ((أرني أنظر إليك)) فإن عين الحدث لا تنفتح في شعاع شمس القدم. – الشطنوفي – بهجت الأسرار ومعدن الأنوار – ص28. وتجدر الإشارة إلى أن الصوفية يرون في طلب نبي الله موسى (u) ( للرؤية ) وعدم قدرته على إحتمالها، من الخصائص التي يفضله فيها النبي محمد (r) الذي قال تعالى في حقَّه: (( ولقد رآه نزلةَ أخرى. عند سدرة المنتهى. عندها جنة المأوى إذ يخشى السدرة ما يخشى. ما زاغ البصر وما طغى)).النجم/ 13-17، وهو من ما يؤكد حدوث حالة ( الرؤية ) مع قدرته (r) على إحتمالها لرفعت مقامه وعلو منزلته عند ربه.

      (2) اللوائح : هي ما يلوح من الأسرار الظاهرة عند الارتقاء من حال إلى حال. الجرجاني – التعريفات – ص291.

      (3) الشطنوفي – بهجت الأسرار ومعدن الأنوار – ص120.

      (1) الشطنوفي – بهجة الأسرار ومعدن الأنوار – ص57.

      (1)الشطنوفي – بهجت الأسرار ومعدن الأنوار – ص123

      (1) الشطنوفي – بهجة الأسرار ومعدن الأنوار – ص28

      (2) ذكر ( لا إله إلا الله) هو الورد الأول من بين الأوراد التي وضعها الشيخ عبد القادر لمريديه، وهو لا يزال معمولاً به وعلى نفس هذا الترتيب حتى الوقت الحاضر.

      (3) الجيلاني – سير السلوك إلى ملك الملوك - مخطوطة

      (1) الجيلاني – الفتح الرباني والفيض الرحماني – ص127

      (2) الشطنوفي – بهجة الأسرار ومعدن الأنوار – ص121

      (1) الشطنوفي – بهجة الأسرار ومعدن الأنوار – ص121

      (1) الضحى /11

      (2) الشطنوفي – بهجة الأسرار ومعدن الأنوار – ص121

      (1) الشطنوفي – بهجت الأسرار ومعدن الأنوار – ص 121

      (2) النساء / 28

      (1) حديث : رأيت ربي جل إسمه مشافه لا شك فيه – حديث صحيح – رواه الطبراني عن جابر – مجمع الزوائد – ج/1 ص78

      (2) البقرة / 115

      (3) الشطنوفي – بهجت الأسرار ومعدن الأنوار – ص52

      (1) الجيلاني – فتوح الغيب – ص48

      (2) الجيلاني –سير السلوك إلى ملك الملوك – مخطوطة

      (3) الزمر/69

      (1) ق / 22

      (2) الجيلاني – خمسة عشر مكتوباً - مخطوطة

      (3) الشطنوفي – بهجة الأسرار ومعدن الأنوار – ص69

      (4) الجيلاني – سير السلوك إلى ملك الملوك - مخطوطة

      * مع الإخذ بنظر الاعتبار: إن الشهود عند الشيخ عبد القادر، لا يعدو كونه حالة إضطرارية حاصلة من المجاهدة والمكابدة والرياضة المتعبة والذل والإفتقار والمسكنة مع ملازمة الشريعة. – انظر – سير السلوك إلى ملك الملوك - مخطوطة

      (1) السائح – الدرّ الفاخر في مناقب الشيخ عبد القادر – ص143

      (1) الجرجاني – التعريفات – ص95


      تعليق


      • #4

        "الإنسان الكامل(*) عند الشيخ عبد القادر الجيلاني

        تقديــم

        تعدُّو فكرة الإنسان الكامل،(1) من بين أكثر الآفكار خصوبة في التراث الصوفي الإسلامي، ولسنا هنا بصدد مناقشة أو إستعراض الدراسات والآراء، وخصوصاً الإستشراقية منها، التي حاولت جاهدةً، وكما فعلت مع غيرها من مفردات الفكر العرب الإسلامي، أن تفكك بناء هذه النظرية وأن تجردها من طابعها المحلي، وثمَّ أن ترجعها إلى أصول غير إسلامية، لا بل غير عربية أصلاً(2) وإنما يعنينا هنا، فقط، أن نسلط الضوء على مدى إرتباط هذه (النظرية) بالفكر الإسلامي عموماً والفكر الصوفي الإسلامي على وجه الخصوص، وأن نبين إنها نتاج طبيعي لهذا الفكر وثمرة شرعية من ثماره الكثيرة والمتنوعة.

        إن سعي الصوفي إلى تحقيق أكبر قدر ممكن من الكمال الخلقي والروحي والديني، وتطلعه إلى إتّباع النبي محمد (r)، بكونه التجسيد الأمثل لهذا الكمال، هما ما دفعاه وبشكل تلقائي، إلى أن يمعن النظر كثيراً ويفصَّل الكلام في بيان سمات هذه الشخصية – شخصية الإنسان الكامل – وإظهار فضائلها وإمتيازاتها الروحية، بكونها أعلى مقامات التمكين وآخر مراتب الكمال التي يمكن أن يبلغهل الصوفي السالك، فيما لو ثبت على سلوكه ومجاهداته وأوراده من جهة، وأدركته يدّ الرحمة والعناية الربانية من الجهة الأخرى. فإذا ما وصل الصوفي (المراد) إلى تلك الغاية وتكمن منها وفني عن إرادته وبقي بإرادة الله تعالى، وصارت نفسه نفساً كاملة، وصارت يدُ الله تعالى هي يده التي يبطش ونور الله تعالى هو عينه الذي يبصر بها وصار هو المنبع الذي يفيض منه على العارفين معرفة بربهم، على نحو ما يعرف هو ربَّه، وصارت تصل إليهم من العطايا والمنح الإلهية وصار هو الحقيقة الإلهية السارية في الوجود بأسره، وهو خليفة الله تعالى الذي ظهر في هذا العالم كي يظهر فيه جلال من أوجد. وهذا الإنسان لولاه ولولا خلافته الباطنة لخرب العالم وعًّمته الفوضى، لأنه مكمَّل سلسلة النور الذي يجب أن لا ينطفئ، وهو النور الذي ظلَّ متوالياً بعد إنتقال النبي (r) إلى مولاه. والإنسان الكامل هو الذي يظهر إلى حَّيز الوجود والتحقيق كل تجليات القدرة الإلهية التي أودعها الله تعالى في بحر الإمكان البشري، وعليه فهو يجمع بين طرفي الوجود، أي الحق والخلق وهو الواسطة بينهما. لقد الله تعالى الإنسان الكامل على صورته وجعله إنموذجاً ظاهراً للذات الإلهية، فهو علة وجود العالم والحافظ له وهو القطب الذي تدور حوله أفلاك العالم.

        فمن صحَّت له هذه الرتبة وتلك الصفات، صحَّت له الوراثة والخلافة العظمى، وتلك رتبة، كما يقول إبن عربي (ت-683هـ)، لا يستحقها إلا من خلق لها، أي أنه يكون قد خلق على الصورتين: الإلهية والكونية فجمع في ذاته حقائق الحق ومظاهر العالم، فهو قادر على التعامل مع الحق من جانب ومع العالم من جانب أخر، وبتوازن تام ومن دون خلل أو إرتباك، لأنه مخلوق على صورة الكمال، ولأنه الخليفة، كما إبن عربي، فلا بدَّ من أن يظهر فيما أستُخلف عليه بصورة مستخلفة، وإلا فهو ليس بخليفة له فيهم.(1) أي بمعنى أنه لابدّ من أن يظهر بين الناس – لكونه خليفة الله تعالى – بتفويض إلهي مطلق وقدرة ربانية ليس لها حدود.

        إذن فالاحساس المفرط: الوازع الأخلاقي، هو الذي حدا بالمتصوفة إلى تبني نظرية الإنسان الكامل والعمل الحثيث على تحقيقها في حيزَّ الواقع. لقد أدرك هؤلاء المتصوفة، بحدسهم الفائق، ما تشتمل عليه تلك ( النظرية ) من جانب أخلاقي كبير(2) إذ إن شخصية الإنسان الكامل، مستوحاة أصلاً من السيرة الروحية والأخلاقية للنبي محمد (r) الذي قال الحق تعالى في حقِّه: (( إنك لعلى خلق عظيم))(3) والذي أدّبه ربُّه فأحسن تأديبه والذي بُعث ليتمم مكارم الأخلاق. فإذا ما تتبعنا بعض خصائص الإنسان الكامل وتبين لنا إنه هو منبع الفيوضات الرحمانية وإن بنظرته النورانية تتوزع الدرجات الروحية وتتغير رتب الرجال وتتم الولايات، وعلى يده تسير الأمور الظاهرية وتنتظم الأمور الباطنية، وإنه لا يخفى عليه شيء من مجريات الأحداث، ما دقًّ منها وما عظم، لأنه قطب الأرض وموضع نظر الربّ وخلفية الرسول (r) (1) والإنسان الكامل، يُعد عند الصوفية، النموذج الأمثل الذي يمكن لأي إنسان على وجه الأرض أن يبلغه،والصوفي،حتى وأن كان لايطمح إلى بلوغ مقام الأنسان الكامل،إلا أنه يضعه نصب عينيه إبّان سعيه الحثيث إلى الترقي والوصول،فما دام هذا ألمثال شاخصا أمامه،فهو لايرضى بأي منزلةٍ يصل أليها دونه،بل يسعى دائماً للاستزادة من زاد الأرواح،حتى يبلغ به ذلك السعي إلى مقام اليقين0

        تطور فكرة الانسان الكامل عند متصوفة الأسلام

        إن الأفكار الخاصة بالقطبية والغوثية والبدلية ومقامات التمكين والولاية والشفاعة ــــ الخ .
        نراها مرافقة للفكر الصوفي الاسلامي منذ بداياته الاولى التي طغى عليها الطابع الزهدي , ولنها ظهرت بشكل أكثر نضجا واشد وضوحا مع تبلور النظريات الصوفية الكبرى , كما هو الحال في مع ابي يزيد البسطامي ( ت- 261 هـ ) الذي يمكن أن يعدّ رائدا لفكرة الكمال في التصوف الاسلامي , وهو أول من حاول ادراك معنى هذا . يرى البسطامي أن العبد يمكنه أن يصل الى درجة عالية من الكمال الروحي والأخلاقي بحيث يعكس معها عظمة الكمال الإلهي وهو ما يتجلى لنا من خلال مخاطبته لربه بقوله: (( زيّني بوحدانيتك وألبسني أنانيتك وأرفعني إلى أحديتك حتى إذا رآني خلقك قالوا: رأيناك، فتكون أنت ذاك و لا أكون أنا هنا)).(2) ثم يأتي بعده الحسين بن منصور الحلاّج (ت – 309هـ) الذي سما بالجزء الناسوتي من الوجود البشري إلى مراقٍ بعيدة أحرجت مواقف الصوفية في زمانه وألحقت به تلك الفاجعة المشهورة التي أودت بحياته. لقد رأى الحلاّج: أن الأنسان هو صورة الله تعالى ومظهر تجليه، ولكن هذه الصورة، تتباين في الوضوح من شخص إلى آخر، كما أنها لا يمكن أن تظهر وتتجلى في الإنسان، ما لم يعمل على تصفية روحه وتجلية مرآة قلبه إستعداداً لها. وفي كتابه(( الطواسين)) يشير الحلاّج إلى نفسه بكونه أكمل التجليات الإلهية، وهو ما يتبين لنا من قوله: (( إن لم تعرفوا الله فأعرفوا آثاره، وأنا ذلك الأثر وأنا الحق، لأني ما زلت بالحق حقاً)).(3) ثم يأتي من بعدهما الحكيم الترمذي وهو محمد بن علي الحسين الترمذي ( ت –320هـ) صاحب أول كتاب متخصص في هذا الموضوع، وهو كتاب ((ختم الولاية)) الذي حاول أن يصوغ فيه فكرة (الولي الكامل) الذي يصل عن طريق الصــدق

        وآخر درجات المعرفة، إلى النور الإلهي، فيمّر في أطوار الكمال ودرجات المعرفة، حتى يصل إلى كمال المعرفة الذي يكشف له فيها الغطاء عن العلوم الإلهية، ويُفتح له في الغيب الأعلى حتى يلاحظ ملك الملك، وكل ذلك يتم له بعد أن تكتنفه يد العناية الإلهية، فيقوَّم ويُهذَّب ويؤدب ويُنقّي ويُطهر ويطيب ويوسع ثم يعوَّذ، وعندها فقط، تتم له الولاية لله تعالى، وهي الولاية العظمى(1) ثم بعد الترمذي، يمكننا أن نختصر الزمان، فنصل إلى القرن السابع الهجري، وبالتحديد مع إبن عربي( ت – 638 هـ)، الذي يُعدُّ أول مبدع لنظرية الإنسان الكامل بشكلها الناضج والمتكامل.

        الإنسان الكامل عند إبن عربي

        يرى إبن عربي: أن الإنسان الكامل هو وحده الذي تتمثل فيه الكلمة الجامعة وعلم الله تعالى بذاته، يصل إلى ذروته فيه، وفيه إيضاً، يتحقق الغرض من الخلق وهو التحقق بالمعرفة الإلهية، فالله تعالى أحبّ أن يعرف، فخلق الخلق، فكان أول ما خلق هي الدرة البيضاء التي تشرق بتجلي أول الأنوار الإلهية فيها.

        والإنسان الكامل عن إبن عربي، هو الإنسان الجامع لكل الصفات والتجليات فهو الحادث الأزلي والنشيء الدائم الأبدي والكلمة الفاصلة الجامعة، لأن قيام العالم يكون بوجوده،فهو من العالم كفصّ الخاتم من الخاتم، وهو محل النقش والعلامة التي يختم بها الملك على خزائنه، وقد سمّاه تعالى خليفته من أجل هذا، لأنه تعالى الحافظ به خلقه كما يحفظ الختم الخزائن 0000 فلا يزال العالم محفوظاً، ما دام فيه هذا الإنسان الكامل.(2)

        إذن فالإنسان عند إبن عربي، هو حلقة الوصل بين الحق والخلق، وهو الجامع لكل الأسرار الوجود والمختصر لتجليات الأنوار الإلهية، وهو الفرد الأوحد في كل وقت، وإنما كانت حكمته – أي الإنسان الكامل – فردية، لأنه أكمل موجود في هذا النوع الإنساني، ولهذا بديء به الأمر وختم، فكان نبياً وآدم بين الماء والطين وأمّا النبي محمد(r) فأنه أوضح دليل على ربّه في هذا الوجود، لأنه قد إشتمل على خلاصة الحكمة الإلهية، ولأنه قد عكس في ذاته معاني الوجود، قبل وجود الوجود.(3)
        والإنسان الكامل، هو أكمل مجلى خَلقي ظهر فيه الحق تعالى، لأنه أكمل المخلوقات ولأنه قد تجلت فيه حسن الصنعة وتَمام الحكمة الإلهية، فهو الخلقة الكامل بأخصّ معانيه، وهو مبدأ خلق العالم والنور الذي ظهر فيه لنفسه، في حالة الأحدية المطلقة.(1) وعليه، فالإنسان الكامل مهما ظهرت عليه من قدرات ومهما تجلت فيه من كمالات، فأن ذلك لا يخرج به عن حيَّز الخلق و لا يبلغ به إلى مصافي الإلوهية، كما يمكن أن توهم بذلك أوصافه ونعوته. إنه الموجود الحائز على أقصى درجات الكمال التي يمكن أن يبلغها مخلوق.وفي (الفتوحات المكية) يذكر أبن عربي أن الأنسان الكامل، هو وحده الأنسان الحقيقي، لأنه الكلمة الجامعة لكل معاني الوجود ونسخة العالم، وإن كل ما في العالم هو جزء منه، ولكن إذا كان هذا الأنسان قد حمع في اصل خلقته على كل أسرار الوجود وعلى مجلى الحكمة الالهية،فلم انفصل عنه الوجود بكل تفصيلاته ومظاهره، يرى إبن عربي، وأن السبب وراء هذا الفصل ووراء أيجاد هذا المنفصل الأول، يكمن في طلب الأنس بالمُشكل في الجنس الذي هو النوع الاخص، وليكون في عالم الأجسام، بهذا الالتحام الطبيعي الأنساني الكامل بالصورة التي اراده الله تعالى عليها مما يشبه القلم الاعلى واللوح المحفوظ الذي يعبَّر عنه بالعقل الأول والنفس الكلية، وكونه يوصف بالقلم الاعلى، فان في هذا إشارة تتضمن الكاتب وقصد الكتابه، وهو معنى قول الشارع: إن الله تعالى خلق ادم على صورته.(2) أي أن له من خلال إستمداده من هذه الصورة: الفاعلية والقصد والقدرة على التاثير الموجودات، لا بل إن له القدرة على تقدير أقدارها وتصيير مصائرها.
        وأما من حيث الجانب الروحي والمعرفي، فأن الأنسان الكامل هو الروح المحمدي والممدّ لجميع الأنبياء والرسل وكذلك الأقطاب، من حين النشيء الأنساني الأول وإلى يوم القيامة، ولهذا الروح المحمدي مظاهر في العالم الأنساني، وإن أكمل مظهر له يتجلى في قطب الزمان وفي الأفراد وفي ختم الولاية المحمدية.(3)




        الأنسان الكامل عند عبد الكريم الجيلي

        وبعد محي دين بن عربي يأتي عبد الكريم الجيلي ( ت – 813 هـ ) الذي تصل نظرية الأنسان الكامل على يديه، إلى انضج صورها، فلقد وضع فيها كتاباً مفصلاً سماه بـ(( الأنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل ))، وفيه يخبرنا بأن الأنسان الكامل هو القطب الذي تدور عليه افلاك الوجود من أوله إلى أخره، وهو واحد منذ كان الوجود وإلى أبد الآبدين، وإن له تنوّعاً في مظاهر شتى، ولكن أسمه الأصلي هو (محمد).(1) وهذا الأنسان الكامل يقابل جميع الحقائق الوجدية بنفسه، إذ يقابل الحقائق العلوية بلطافته ويقابل الحقائق السفلية بكثافته، ويذهب الجيلي إلى أكثر من ذلك فيقول إن الأنسان الكامل هو الذي يستحق الأسماء الذاتية والصفات الألهية، إستحقاق الأصالة والملك، بحكم المقتضى الذاتي، إذ ليس لها مستند في الوجود إلا الأنسان الكامل، فمثاله للحق مثال المرأة التي لا يرى الشخص صورته إلا فيها.(2) إذن فقد بلغ الجيلي بفكرة الأنسان الكامل إلى درجة أنها صارت تعكس صورة مطابقة تماماً للحقيقة الألهية وليست أنه حقيقة، ولكنها الحقيقة الذاتية . وما بين فكرة الكمال عند البسطامي ونظرية الانسان الكامل عند الجيلي سنرى أين يمكننا أن نضع أفكار الشيخ عبد القادر حول الغوث أو الشيخ الكامل .

        صفات النسان الكامل

        بقي علينا، بعد هذا التقديم، وقبل الدخول في تفصيل أراء الشيخ عبد القادر في الإنسان الكامل، أن نبين بعض أهم سمات أو الخصائص العامة التي أتفق عليها أغلب متصوفة الإسلام، والتي يجب أن تتوفر في العارف، كي يستحق معها درجة الكمال، أو تسمية ((الإنسان الكامل))علماً أن كل ما يتصف به الإنسان الكامل من صفات الكمال هو هبة من الله تعالى ونور يقذفه في قلب العبد، أي أنه لا يُستحصل بالإعمال والمجاهدات .
        يتصف الإنسان الكامل، بأن له التصرف على نفسه وعلى غيره، وأنه أحيل أليه خلق كثير وجمّ غفير، وإنه لقربه من ربَّه صار أنساناً مطلقاً وصار تصرفه مطلقاً، وإن كل من وصل أليه وعرفه أو إتصل به، فأنه ستظهر بركة تصرفه عليه،فهو غياث الخلق بقوله وفعله وحاله ودعائه وسكوته ونظره وهمته ونومه ويقظته .
        وهذا الإنسان لكماله فأنه قد وصل إلى مرحلة من التجرد والعزوف والتخلص من جميع العلائق سواء بنفسه أم بالعالم حوله، بحيث أنه لم يبق له تصرف طبع ولا إرادة نفس ولا إختيار شهوة، بل جميع تصرفاته بالله تعالى، لأنه يشاهده في جميع الأفعال والتصرفات والحركات والسكنات، وإن الله تعالى هو المتصرف في جميع أفعاله بواسطته، وإنه هو المتصرف في الأشياء بواسطة الله تعالى.(1) والإنسان الكامل في قومه، كالنبي في أمته، لأن الله تعالى قد جعل في باطنه وقلبه تبصرةً ونوراً، وبالنور جعل له الهّمة جاسوساً يتجسس في القلوب، فهي للقلوب بمثابة المساعي للملوك عن خطرات قلوب المريدين ولها مقام الحراسة والحفظ، فألى من وجهها وبمن وكلها وعلى أي أمر سلطها، أظهرت قوتها وأتمت فعلها وأتقنت حفظها وحراستها، لأنها الهمة الفعالة، خصّها الله تعالى لقلوب الأنباء والأولياء لأجل الأمتثال والخدمة والسمع والطاعة، فهي في تصرف القلب كالملوك في تصرف المالك.(2) ويتصف الإنسان الكامل، بانه محفوظ من الله تعالى، وأن يده كيد الله تعالى وأنه مؤيد بالله وبنصره ومكرم بالكرامات التي تتايد بها ولايته وتعرف بها منزلته بين الناس، وأنه يمتاز بالشفاعة عند الله تعالى في الخلق يوم القيامة .وفوق ذلك، فأنه يأخذ الدرجة النهائية من كل مراتب الكمال، وهي التكوين والتوحيد وعين اليقين والحرية والغيب والتولي.(3) ويتصف الإنسان الكامل بأنه: مرأة الحق، وهو خليفة الله تعالى ونائبه الذي ينوب عنه في التصرف والولاية والحفظ والرعاية وهو يتصرف في الخلق، كي يظهر في نفسه جلال من أوجده. وقد إقتضت إرادة الله تعالى أن يجعل لهذا الأنسان وجهاً في القدم يستمد به من الحق تعالى ووجهاً في الحدث يمد به الخلق، فجعله على صورته خليفةً يخلف عنه في التصرف، وخلع عليه جميع اسمائه وصفاته، ومكنه في مسند الخلافة [القاء مقاليد الأمور اليه وإحالة حكم الجمهور عليه وتنفيذ تصرفاته في خزائن ملكه وملكوته وتسخير الخلائق لحكمه وجبروته وسماه أنساناً لأمكان ومقوع الأنس بينه وبين الخلق، وجعل له بحكم أسمية الظاهر والباطن، حقيقة باطنه وصورة ظاهره ليتمكن بهما من التصرف في الملك والملكوت.(4)



        وقبل المباشرة في ذكر آراء الشيخ عبد القادر في الإنسان الكامل، لا بدّ من الإشارة إلى ملاحظة هامة وهي: أن أغلب المتصوفة الذين تناولوا موضوع الإنسان الكامل، أجمعوا على أن هذا الإنسان، ليس هو على الحقيقة إلا إنعكاساً للحقيقة المحمدية، وإن كل من جاء بعد النبي محمد (صلى) وتحلى ببعض صفاته، فأنه لا يعدو كونه ((وريثاً محمدياً)) أو صاحب ولاية أو خلافة محمدية.

        مكانة النبي محمد (r) عند الصوفية

        إن من أهم العقائد التي يؤمن بها الصوفية بوجه عام، والتي لا يمكن فهم وإستيعاب أي بناء نظري في التصوف إلا من خلالها، هي عقيدة (الحقيقة المحمدية) التي تجسد صورة الحق والتي لا يشكل العالم إلا إنعكاساً لصورتها، وأما الإنسان الكامل، فأنه واحد من بين تجلياتها التي لا تُعدّ و لاتحصى. والحقيقة المحمدية هي أصل الحياة الروحية في الوجود الذي ظهر في صورة الأنبياء والأولياء، من لدن آدم حتى النبي محمد (صلى) نفسه، إنها النور الذي أضاء ظلمة العماء، وهذا النور هو أول التجليات الإلهية، والذي تجسد أولاً في النور المحمدي. إنه العقل المطلق والعلم الإلهي وإنه اللوح والقلم وقد سمي نوراً لكونه صافياً عن الظلمات الجلالية التي تفترض بعد المسافة وعدم المشاكلة، إنه خلاصة الأكوان وأول الكائنات وأصلها.(1)
        على أن كون النبي محمد (r) هو أحد تجليات الروح الأعظم أو الحقيقة المحمدية العظمى، فأن ذلك لا ينال من علوّ مكانه أو من عظم قدره، وهذا ما يؤكده كثيراً الشيخ عبد القادر وفي مواضع متعددة من كتبه، فالنبي محمد (r) لا يصل أحدٌ، ولو من الأنبياء، إلى علو مقامه، ولا يقدر أن يشاركه في بعض خصائصه، غير الأبدال والأولياء من أمته، يردون على بقايا طعامه وشرابه ويعطون قطرة من بحار مقاماته وذرة من جبال كراماته، لأنهم ورثته، المتمسكون بدينه الناصرون له الدالوّن عليه.(2)

        إن درجة عمق التجربة الصوفية في الأسلام، تعتمد أساساً على درجة فهم الصوفي لحقيقة النبي محمد (r)، وعلى درجة إرتباطه الروحي به، وإن عقيدته تلك تختلف حتماً عن عقيدة غيره من المسلمين الذين يرى أكثرهم تشدداً، أن النبي محمد هو رجل من بين الرجال أدى دوره بكونه نبياً

        أثناء حياته الدنيوية، وإن تأثيره الروحي قد إنعدم بإنتهاء تلك الحياة. إن النبي محمد (r) عند الصوفية، يُعدّ الطاقة الروحية اللامتناهية التي يستمد منها كل السالكين والعارفين أنوارهم وعلومهم ومعارفهم، ولا يضير الصوفي ضمن هذا الإعتقاد، كونه بعيد زمانناً عن صحبة النبي محمد (صلى)، لأنه يؤمن بدوام تأثيره الروحي في العالم بأجمعه، وأكثر من ذلك، بأنه الأصل الذي ترتكز عليه كل أركان الوجود وأنه الغاية الإلهية التي خلق هذا العالم لأجلها، وهذا الإعتقاد لا يُعدّ عند الصوفية من ضمن الإدعاءات الكلامية التي لا يمكن البرهنة عليها، فالدين لا يقتصر فقط على أدلة النقل والعقل، كما يذهب إلى ذلك علماء الظاهر، وإنما هو يشتمل على ((أدلة الرؤية والبصيرة، وهي ما يختص بها الأولياء والمختارين عند الله تعالى)).(1)
        إذن فالنبي محمد (r) في إعتقاد الصوفية، هو صاحب المقام الذي لرفعته وقربه من الله تعالى فإنه تزل أقدام العقول في سره، لعد قدرتها على الإحاطة به وفهمه، وتضل أفهام الأفكار في جلاله، وتخضع رقاب الألباب لهيبته وتدهش أبصار البصائر لأشعة أنواره. وإنه ليس فوق هذا المقام، إلا عرش الرحمن، وإن كل مقام لواصل أو حال المجذوب أو سرّ لمحبوب أو علم لعارف أو تصريف لولي أو تمكين لمقرب، فبدؤه ومّاله وجملته وتفصيله وكله وبعضه وأوله وآخره، فيه إستقر زمنه نشأ وعنه صدر وبه كمل.(2) ومحمد (صلى) هو سلطان الحقيقة وإنسان عين الوجود الذي على عتبة باب معرفته تخضع أعناق العارفين وفي حمى جلالته توضع جباه الخلائق أجمعين، وهو الأوحد الذي لا ثاني له في هذا المقام، لأن حسب الواحد الذي هو الله تعالى، إفراد الواحد الذي هو حبيبه وأقرب خلقه إليه.(3)
        ولكل هذه الصفات ولعلو هذا المقام، فقد فوّض الله تعالى نبيه محمداً (r) في الحكم بين الأرواح وفي تربية المريدين وفي إمارة الصالحين على الأصالة، وقد جعله كذلك، قسّام الأحوال والمقامات بين العباد(4)، فلا يمكن والحالة تلك، أن يصل أي سالك أو ينال حالاً أو يبلغ مقاماً، إلا إذا إستوعب الحقيقة المحمدية إستيعاب تجربة وذوق لا إستيعاب ف هم وعقل، وإلا غاص في أغوارها، وإستخرج من مكنوناتها درر الحقائق ومعادن الأسرار، وأما الأولياء من أمة محمد( r)، فإنهم يعدّون متصرفين بالنيابة، إذ الفاعل على الحقيقة هو محمد (r) وحده، الذي هو وأما الأولياء فأنهم مظاهر لصدق هؤلاء الأنبياء.(1)

        ويمكننا أن نلحق بهذه الإشارة، ملاحظة مهمة، وهي: أن أغلب الصوفية الذين كتبوا في موضوع الحقيقة المحمدية، قد أشار كل واحد منهم إلى نفسه بكونه الوريث المحمدي أو صاحب الخلافة العظمى في الزمن الذي عاش فيه، ويمكن أن يُعدّ الشيخ عبد القادر، من أبرز من أشار إلى ذلك فلقد تضمنت كتبه والكتب التي أرخَّت لسيرته، الكثير من تلك الإشارات، كجوابه مثلاً، للقوم الذين سألوه: أنهم يصّلون كما يصلي هو ويصومون كما يصوم ويجتهدون مثلما يجتهد، ولكنهم لا يرون من أحواله شيئاً؟ فأجابهم بقوله: (( زاحمتموني في الأعمال أتزاحموني في المواهب، والله ما أكلت حتى قيل لي بحقّي عليك كل و لا شربت حتى قيل لي بحقي عليك إشرب وما فعلت شيئاً حتى أُمرت بفعله))(2) وكذلك قوله وينطق بلسان الحال: (( أنا نار الله الموقدة، أنا سلاّب الأحوال، أنا بحر بلا ساحل، أنا دليل الوقت، أنا المتكلم في غيري أنا المحفوظ أنا الملحوظ))(3) وكذلك قولته الشهيرة التي دلّت على علوّ مقامه ورفعة منزلته الروحية وسيادته المطلقة على جميع أولياء زمانه وهي: ((قدمي هذه على رقبة كل ولي لله)).(4) إذن فهذا المقام هو تعين رباني لا يحتمل المزاحمة ولا المنافسة، وهو أختصاص تفريد لا يغادر ساحة المشيئة الألهية، وإن ما يترتب على هذه المكانة هو طاعة الناس لصاحبها، وليست أية طاعة، وإنما طاعة روحية تختفي معها إرادتهم ويزول أختيارهم، وهي طاعة تطال حتى مصائرهم وميولهم وأهوائهم، وهم إنما يفعلون ذلك لعلمهم بولايته عليهم وسلطته المطلقة المستمدة من سلطته تعالى عليهم . إن الولي الذي يخلف رسول الله (r) في أمته، هو ضرورةً أدرى بمصالحهم وأحرص على سلامة أرواحهم ونجاتها في الدنيا والاخرة .

        الإنسان الكامل عند الشيخ عبد القادر :

        يعدد الشيخ عبد القادر، للغوث أو القطب أو الإنسان الكامل، صفات وخصائص كثيرة، تدل على مدى نضج هذه الفكرة ووضوحها لديه، فمن هذه الصفات : أن أحوال الشيخ الكامل تعد ميزة إلهية لا تخضع لمقاييس العقول والأفهام، بحيث يمكن القول، غنه لا يمكن قياس حاله على أحوال غيره من البشر، لأن حقيقته لا يعلمها إلا الله تعالى .(1)
        وهذا ما يتضمنه قول الشيخ عبد القادر، لأولاده في مرضه الذي توفي فيه : بيني وبينكم وبين الخلق كلهم، بعد ما بين السماء والارض، فلا تقيسوني بأحد ولا تقيسوا عليَّ أحداً.(2) وكذلك قوله: أنا من وراء أمور الخلق، أنا من وراء عقولكم، كل الحق إذا وصلوا إلى القدر ، أمسكوا إلا أنا وصلت اليه وفتح لي فيه ، فأدلجت فيها ونازعت أقدار الحق بالحق للحق ،فالرجل هو المنازع للقدر لا الموافق له . (3) وبما أن هذه الصفة ، هي لشيخ خطا نحو الكمال ، وإن له مريدين ضرورةً ، فأنه يترتب على هؤلاء أن يطيعوه طاعة ما بعدها عصيان أو مروق ، ولا حتى بالفكرة أو الخاطرة ، بل إن عليهم أن يدخلوا تحت كنفه ويؤمنوا أن خلاصهم لايتم إلا على يديه ويتحملوا ما يلقونه من الأذى من جّرآء ذلك وأن يكون أحدهم بين يدي شيخه كالميّت بين يديّ الغاسل ، أو كالطفل الرضيع بين يدي مرضعته . وهنا يسلط ّ الشيخ عبد القادر ، الضؤء على الدافع الذي يقف وراء إتفاق معظم شيوخ التصوف ، على ضرورة ووجوب طاعة المريد القامه ، أي طاعة الظاهر والباطن لشيخه الكرشد ، لأنه في الحقيقة يمثل أداة تحقيق المشيئة الألهية التي لاتامر إلا بالخير والمعروف ، ولأن له من المعارف والعلوم الألهية ما يعجز معها عقل المريد عن استيعابها ولذلك كانت الطاعة أولى به من إعمال الفكر .

        ألصفة الثانية التي يتصف بها الشيخ الكامل هي : أنه يتصرف في قومه كتصرف النبي في أمته لأنه غلام النبي ونائبه وخليفته في أمته، وهو المعنى الذي تضمنته مناجاة الشيخ عبد القادر لربه إذ يقول إلهي أسألك العفو والعافية في هذه النيابة، أعنّي على الأمر الذي أنا فيه . قد أخذت الأنبياء والرسل اليك وقد أوقفتني في الصف الأول، أُقاسي خلقك، فأسألك العفو والعافية ، إكفني شرّ شياطين الأنس والجن وشر جميع المخلقات . (1) إنه خليفة الرسول (r) وهذا يعني بالأستنتاج البسيط، أنه خليفة الله تعالى في أرضه ((لأن من وصل إلى درجة القرب وكشف الحجب ، فهو نائب الحق عز وجل في الأرض وخليفته فيها ، وهو باب الاسرار وعنده مفاتيح خزائن القلوب التي هي خزائن الحق عز وجل ، وإن هذا شيء من وراء معقول الخلق ، وإن ما يظهر منه فهو ذرة من جبله وقطرة من بحره ومصباح من شمسه)) أي من الشيخ الكامل -. (2) وهو أيضاً إمام لجميع المسلمين في الباطن ، وإن كان لهؤلاء إمام متقدم عليهم في الظاهر .

        وممّا سبق يمكننا أن نتصور ما هو تصرف الرسول في أمته، لنقيس عليه تصرف القطب في قومه ، فالرسول (r) كان هو الهادي لأمته وهو الشهيد عليهم وهو الذي جعله الله أولى بهم من أنفسهم /وهو المسؤول عنهم يوم القيامة ،وهو الشفيع لهم يوم الحشر وهو البشير وهو النذير ، وأنه (r) كان يريد بأرادة الله تعالى ويأمر وينهى عن نهيه، وغيرها الكثير من المهام التي إضطلع المصطفى (r) بحملها.

        ولا تقف متابعة القطب للرسول (r) على هذه المهمات فقط .(3) وغنما تتعداها إلى متابعته في أقواله وأفعاله وأحواله، لا بل حتى في تلقيه للآمر الإلهي، يوحي الى قلوبهم باطناً، (( لأنهم وُرّاثه وأتباعه في جميع ما أمرهم به )).(4) ولكن قد يسبق إلى الظن، إن الشيخ عبد القادر قد أتى في مقولته تلك شططاً وإدعى لنفسه مقام النبوة ووحيها. بينما العكس هو الصحيح، إذ إن ما يريد قوله هو : أن القطب أو الشيخ الكامل، متى ما تمكن من نوازع نفسه وقطع مفاوز الطريق، وصار خبيراً بفقه القلوب، فأنه سيكون سائراً على خطى النبي (r) وسيكون قلبه مستوحياً إلهاماته من وحي النبوة وبلا واسطة، وهو ما يمكن أن نسميه بالحفظ، وهذا فيه تمسك بالشريعة الإسلامية أكثر مما فيها مروق عنها، وكأن الشيخ عبد القادر، قد أدرك هذا التوهم والخلط من الآخرين، فأستعدَّ لدرئه بقوله: ((إن آثار النبوة لا تُنال جميعها، فأن فيها أقداماً للنبوة لا ينالها إلا نبي))(1) وكذلك قوله: (( كل وليٍّ لله على قدم نبي، وأنا على قدم جدي (r)، وما رفع المصطفى قدماً إلا وقد وضعت قدمي في الموضع الذي رفع قدمه منه، إلا أن يكون قدماً من أقدام النبوة، فأنه لا سبيل إلى أن يناله غير نبي))(2).

        ويضيف الشيخ عبد القادر توضيحاً آخر فيقول: إن الأقطاب والمشايخ الكاملين لا يكونون خلفاء وورثة للنبي، إلا بعد جهد ولأي وسعي ومكابدة، إذ يسعون من خلال ذلك، إلى أن ينهضوا ومن مراقد أكوانهم الدنيوية، ومن ثقل أبدانهم، بإشراق أفكارهم وصفاء أسرارهم، ويسعون إلى أن يخرجوا من معاقل وجودهم، بطهارة أشباحهم وأنوار أرواحهم، وأن يقيموا مرايا سرائرهم الصقيلة وعيون بصائرهم الصحيحة بإزاء عوالم الملكوت ومظاهر أسرار الجبروت، ويجتهد لأن يقفوا تحت مناظر الأنبياء – كناية عن ملازمة أحكام الشريعة – ومطالع إسراقات شموس الأصفياء لكي يقع إنعكاس ضوء شمس الأصل ، على صفاء مرآة الفرع فينطبع فيها أثر نور الغيب. أي أن الكمال الإنساني ليس توهماً وإداءً، وليس هو من محض الخيال، وإنما هو عمل شرعي ممكن التحقيق، فيما لو توفرت له الشروط اللازمة والتي أهمها: مجاهدة النفس وتصفيتها وتهيأتها لتلقي الأنوار الإلهية، ثم متابعة سنة النبي محمد(r) والمرابطة على باب شرعه.

        الصفة الأخرى التي يتصف بها الشيخ الكامل هي:- تمكنه من السيطرة على نوازعه وأهواءه وطبائعه الرديئة، إذ إنه لم يبلغ ما بلغه من المقامات الروحية العالية، إلا بعد تحققه في ذلك، وبع تغلب الطابع الروحي على الطابع النفسي لديه، وبذلك فقط، كان إنساناً كاملاً، ومحلاً للأمانة، وكان الخليفة المشار إليه بقوله تعالى: (( وإذ قال ربك للملائكة، إني جاعل في الأرض خليفة))(3) وبذلك فقط أصبح معصوماً، ولكن لا كعصمة الملائكة الذين أمنوا من زلّة الإرادة، أي إرادة ما يخالف إرادة الله تعالى ويغضبه، ولا كعصمة الأنبياء الذين عصموا عن الهوى، فهم لا يميلون معه حيث مال ولا هم كباقي الخلق من الإنس والجن المكلفين الذين لم يعصموا، لا من الإرادة ولا من الهوى. إن عصمة الشيوخ الكاملين تأتي على معنى خاص بهم، إذ يجوز في حقهم الميل مع الإرادة ومع الهوى في بعض الأحيان، ولكن الله عز وجل يتداركهم بالتذكير والتنبيه من لدن رحمته.(1) ولكن لا بدّ من التنبيه هنا، على أن ميل الشيخ الكامل مع إرادته، لا يأتي من نقص في تربيته الروحية أو خلل في إستعداده للكمال النفسي، وإنما يأتي في بعض الأحيان، من إشراك إرادة الحق بإرادته على وجه السهو والنسيان وغلبة الحال والدهشة، فيدركه الله تعالى برحمته بالتذكرة واليقظة، إن الشيخ الكامل، لا تطلّع لنفسه و لاميل لهواه، لأنهما ذابا في سبل المجاهدات والرياضات وتلاشت معهما إرادة نفسه وأمانيه، فهو في صفاء تام ونور مبين، ولأجل ذلك إكتسب الولاية التي تعني عند الشيخ عبد القادر: (( مطالعة روح الكشف وملاحظة مطالع البيان، بصفاء يذهب كدورة البشرية وطهارة تنقي دنس الأسرار)).(2) أي مباشرة الأسرار والعلوم الإلهية، بإستعداد نفسي وتهيؤ قلبي ومداومة على نهج الصفاء.

        يتصف الشيخ الكامل أيضاً، بأنه ذو كرامات ظاهرة يدركها جميع الناس، المصدّقين له والمنكرين عليه، وكراماته غير معدودة وغير محدودة، فهو يفعل ما يطلب منه أو ما لا يخطر ببال بشر كإحياء الزرع الميت ومخاطبة الأمطار والأنهار، وكذلك إقامة المقعدين والتنبؤ بالحوادث المستقبلية ومطالعة أقدار الناس قبل مثولهم بين يديه وطلبهم لذلك، وكذلك إخبار الناس بما يأكلون وما يدّخرون في بيوتهم وفوق ذلك، فهو يمتلك القدرة، إن جَدَّ جدها، على إشفاء الأكمه والأبرص والأصم وإحياء الموتى بإذن الله تعالى.(3) ولا ندري هل من قبيل الصدفة أن تتطابق كرامات الإنسان الكامل عند الشيخ عبد القادر مع معجزات نبي الله عيسى(u)، أم هي مستمدة من كون عيسى (u) هو آخر الرسل قبل بعثه النبي محمد من الذين بشروا به وصهَّدوا لظهوره، أم هو بالأحرى يعتمد على الرواية المثيرة للجدل، والتي ترى أن عيسى (u) هو خاتم الأولياء في أمة محمد (r)، بكونه من أشراط الساعة وأنه سيظهر في آخر الزمان هابطاً من السماء على جناحي ملكين على القبّة البيضاء في الشام، وأن زمنه هو زمن القيامة الصغرى التي تكثر فيها الملاحم وتتكالب الفتن.(4)


        يتصف الغوث أو الشيخ الكامل أيضاً، بأنه ذو نظر ثاقب، لا تصمد أمامه أسرار السرائر الكنونة وأن الناس بين يديه يصبحون مكشوفي الباطن كالقوارير، بحيث يرى ما في ظواهرهم كما يرى في بواطنهم. والشيخ الكامل، لولا لجام الشريعة على لسانه، لأخبر الناس بما لا يطيقون ولا يعقلون.(1) وإن له لمن القدرة والهمة ما يستطيع معها أن يغيث الناس متى ما ندبوه واستمدوا منه حتى وإن كان هذا الندب قد جاء من مسافة بعيدة جداً، لأنهم بحكم الغوث تلغى المسافات والأزمان وتتطوع القوانين الطبيعية وتذل الصعاب، وكذلك الأقدار التي تحدد مصائر البشر، فإنها بدعاء الغوث تتبدل، بحيث إن الأمور التي كتب لها أن تكون سيئة وضارة، تصبح جيدة ومفيدة. وغير ذلك كثير من الروايات والحوادث التي حفلت بها الكتب التي ترجمت (للغوث) عبد القادر الجيلاني، والتي إتفقت جميعها على إن كراماته كثيرة جداً وبينة وأكيدة، وهي دون غيرها من كرامات الشيوخ، قد ثبت بالتواتر وتناقلتها الأمة عن الأمة من عصر إلى عصر. على إن مجموع هذه الكرامات وغيرها، تدل على إن الشيخ الكامل قد تحرر مما يتقيد به بنو البشر عادةً، فهو غير خاضع لحكم الجسد ولا لثقل المادة ولا لقوانين الطبيعة بوجه عام، وهذا التحرر هو عين معنى قول الصوفية: إن الحرية الحقيقية تنبع من صلب العبودية، والعبودية بدورها تنبع من سعة الحرية وإن العبد كلما إزداد عبودية لربه، إزدادت حريته، أي قل خضوعه لحكم الأشياء، فكلما إزدادت حريته، رسخت عبوديته أكثر لرب العالمين.(2)
        وإضافةً إلى ما سبق، فإن الشيخ الكامل يمكنه التصرف في أحوال جميع أولياء زمانه، سلباً أو عطاءً. فبنظرة منه يهب الأحوال أو يسلبها ويتصرف في بواطن العارفين كما يشاء.(3) وهؤلاء – أي العارفون – لا مجال لهم لتجاوز حكم القطب عليهم، أو عدم طاعته أو الشك في صدقه، لأن


        في ذلك سمّاً لأديانهم وعقائدهم، وسبباً لذهاب دنياهم وأخراهم، ويصب في هذا المعنى جواب الشيخ بن الهيتي (ت – 564هـ) وهو من معاصري الشيخ عبد القادر والملازمين لصحبته، حين سئل : لم كان أول من صعد إلى منبر الشيخ عبد القادر وأخذ قدمه وجعلها على عنقه ودخل تحت ذيله ؟ فقال : لأن الشيخ عبد القادر، أُمر أن يقولها وأُذن له في عزل من أنكرها عليه من الأولياء فأردت أن أكون أول من سارع إلى الإنقياد له، وكذلك الشيخ رغيب الرجي* فقد ذكر عن الشيخ عبد القادر: إنه قد سلِّمت له أزمة معالم الحقائق، فكان سيد البُزاة الشهب من العارفين وقائد ركب المحبين الصادقين من الواصلين، وكان سَمْته يحلل القلوب هيبةً ووقارً وصمته يكسو القلوب إجلالاً وأنواراً، ونطقه يحصِّل ما في الصدور وإنفاسه تبعثر ما في القلوب وأنواره تضيء بها أركان الطريقة والحقيقة بالشريعة. ولقد رحم الله تعالى به محبه ومتبعه ورفيقه.(1) والشيخ عبد القادر نفسه، تحدث يوماً لأصحابه، بعد طول إطراق وصمت، وهو بلسان الحال، فقال: (( أنا سيفي مشهود وقوسي موتور ونبالي مفوقة وسهامي صائبة ورمحي مصوب وفرسي مسرج. أنا نار الله الموقودة، أنا سلاب الأهوال، أنا بحر بلا ساحل، أنا دليل الوقت، أنا المحفوظ، أنا الملحوظ، أنا المحظوظ. يا صوّام يا قوّام، يا أهل الجبال دكت جبالكم، يا أهل الصوامع هدمت صوامعكم. أقبلوا إلى أمر من أمر الله. أنا أمرٌ من أمر الله.(3) وتجدر الإشارة هنا، إلى أن هذه الأقوال وتلك التصريحات، لها تعلق أكيد بأحوال الصوفية وتجلياتهم وذلك بدلالة ممارستهم الحياة الاعتيادية وهم بين الناس، وعليه فأنه لا يمكن التعامل أو فهمها إلا من خلال (قوانين) التجارب الروحية نفسها فأمّا إن سميناها شطحاً أو قلقاً دينياً واجتماعياً، وحاولنا أن نرجعها إلى أسباب مادية ضيقة، فلعلنا بذلك نقلل من قيمتها المعرفية، كونها حقائق صوفية وروحية ثرية، ويكفي لدعم هذا الرأي، أن نذكِّر أن أغلب شيوخ التصوف في التأريخ، كانوا في أوقاتهم على درجة كبيرة من الشهرة والتميز والصدق، بحيث لا نملك مع ذلك، إلا أن نحمل كلامهم على محمل الجدّ، في الأقل إلى أن نمتلك الأدوات المعرفية الكفيلة بفهم مراميهم.




        إضافة إلى التحكم في أحوال وسرائر الرجال، فأن للشيخ الكامل أيضاً، التصرف في الأنواء والبحار والانهار وكل ظواهر طبيعية، لا بل تطيعه حتى الدواب وخواص الأشياء الجامدة.(1)وغلى ذلك أشار محي الدين بن عربي، في حديثه عن صاحب الخلافة العظمى إذ قال ((فإذا أعطي التحكم في العالم، فهي الخلافة، فأن شاء تحكم وظهر كعبد القادر الجيلي، وإن شاء سلم وترك التصرف لربه في عباده، مع التمكن من ذلك )).(2) ولا يعد هذا الوصف من قبيل المبالغات التمجيدية التي حيكت حول شخصية الشيخ عبد القادر بعد وفاته، وإنما يصدر منه،(3) ومن الصوفية المعاصرين له من أمثال الشيخ عمر السهروردي (ت-635 هـ) الذي كان يصفه بكونه سلطان الطريق والمتصرف في الوجود على التحقيق، وأنه كان له اليد المبسوطة من الله تعالى والتصرف النافذ والفعل الخارق الدائم، وأنه قد انتهت إليه رئاسة هذا الأمر – أي أمر الطريقة – وإليه يلقى أمر الكون.(4)

        الصفة الأخرى للشيخ الكامل هي: سيادته المطلقة على كل أهل زمانه من الإنس والجان، لأنه إذا كان للإنس مشايخ، فأن سيكون حتماً للجن مشايخ، لأنهم مكلفون أيضاً، والقطب هو شيخ الكل. وأما سلطته المطلقة على الجميع، تلك فإنها، متأنية من خوفه الحقيقي من الله تعالى، فبهذا الخوف، خافه كل شيء، فبهذا الخوف صار لا يبالي أين كان ولا أين حلّ، إذ هو على اليقين من ربِّه بأنه ( أين سقط لقط ) وبأنه إذا خدم الله تعالى، فسيخدمه الحكم والعلم والقدر والإنس والجان وحتى الملائكة (( لأن من خاف الله عز وجل، خاف منه كل شيء، ومن لم يخف منه، أخافه من كل شيء، ومن خدم الله عز وجل، أخدم له كل شيء، لأنه لا يضِّيع من أحدٍ من عباده، ذرة)).(1) ويتبين لنا بوضوح، مما سبق، تأكيد الشيخ عبد القادر، المعهود، على الربط المحكم بين قدرات الشيخ الكامل ( الخارقة) وإلتزامه وتمسكه بشريعة الدين، وإن الغرض من كل هذه الامكانات والسلطات، ليس هو امتلاكها بحد ذاتها، وإنما لآجل خدمة دين الله وعباده. والشيخ الكامل، بعد أن يبلغ درجته تلك، وبعد أن تصفو مرآة روحه، فستفتح على قلبه من العلوم اللدنية، ما لا أذن سمعت، و لا خطر على بال بشر.(2) ويكشف له من أسرار الله عز وجل وأفعاله، ما يبهر العقول ويخرق العادات والرسوم، فإذا ما أفعم قلبه بهذه العلوم وتلك الأسرار، فسيكون مهيأً للتوجه لكلا العالمين: العالم العلوي والعالم السفلي وفي الوقت نفسه ومن غير أن يذهل عن أحدهما. على أن ذلك لا يحصلُ إلا بعد إكمال سلوك طريق المقربين وإتمام فرض الجهاد الأكبر. المهم هنا، هو أن الشيخ الكامل، إذا ما بلغ هذا المبلغ من العلم، فلا يسعه السكوت، و لا يسعه إلا التحدث لأهل زمانه بما أنعم الله تعالى به عليه. علماً، إن القطب المتحدث هو الأكمل في مقام القطبية، لأنه لسان التبشير والتنذير ولسان المعرفة ولسان الشفاعة ولأنه على بصيرة من ربه، ولأنه أيضاً صاحب مقام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو مقام الإرشاد، ولذلك فإن الشيخ عبد القادر كان طالما يحدث أصحابه بأنهم لو سافروا ألف عام، من أجل أن يسمعوا منه كلمة واحدة، لما خرجوا من صفه.(3) أي بمعنى أن نجاته في الدنيا والآخرة، وكمال دينه سيكون على يده لأنه خليفة الرسول (r) والحافظ لإرثه. وهذه النقطة بالذات، هي ما يؤكدها الصوفية بإستمرار ويعدونها من أهم القضايا في الدين الإسلامي، فالدين عند الصوفية يعد رسالة حية وتجربة روحية معاشة، يتوارث أسرار العارفون حياً عن حي، أي بمعنى إنها ليست أقوالاً مكتوبة يتناولها العلماء عن الأموات، بحيث إنها تدخل الأسماع وقد لا تدخل القلوب.


        وظيفة الإنسان الكامل

        وقبل أن ننتهي من ذكر صفات الشيخ الكامل، لا بدّ من أن نعرج على وصف الشيخ عبد القادر مقاماً هذا القطب ودوره في الحياة والهدف من وجوده بين الناس، وسنلاحظ من خلال ذلك، إن الشيخ عبد القادر ظلَّ وفياً لمنهجه الأساس في الربط العضوي بين الحقيقة والشريعة، وذلك على الرغم من إن موضوع الإنسان الكامل، كان يبدو للكثيرين، ممن هم خارج الحقل التجريبي والصوفي، وكأنه إنفلات سافر وتمرد معنى على قواعد الشرع وأصول الدين، وهذا بالضبط هو ما حاول أن يكرسه د. عبد الرحمن البدوي في كتابه (( الإنسان الكامل في الإسلام ))(1) من خلال تصويره هذه الفكرة يشكل طوبائي حالم وبشكل إنعكاس نفسي فجّ لواقع مؤلم وحياة محبطة للأمال وعّده بكونه ليست إلا محاولة غير معلنة من قبل الإنسان المتمرد، للانعتاق من أسر عبوديته الوجدية ومحاولة الإلتحاق بدائرة الوجود الإلهي المطلق. ولعل ( د. بدوي ) في هذا التفسير، كان وفياً أكثر مما اللازم للفلسفة الوجدية، بحيث أنه لم يلتفت كثيراً للواقع الديني والاجتماعي للفكر الصوفي الإسلامي. الشيخ الكامل أو القطب، عند الشيخ عبد القادر، هو موضع نظر الله عز وجل أي إنه بيت الرحمة والنور والمعرفة ومصدر العناية الإلهية. وهو المركز المشع الذي تتطلع كل المخلوقات، إلى الإقتباس من أنواره اللامتناهية. وهو المربي الروحي الذي اضطلع بواجب تربية النفوس، وهو منبع العلم والحكم والمعرفة، وهو ملاذ الأمن والرجاء، وإليه يلجأ الأولياء والعارفون، لأنه كهفهم الذي يأوون إليه وموئلهم ومرجعهم ومتنفسهم ومستراحهم، وإن في صحبتهم له، مسرة عظيمة، ولا تدانيها مسرة أخرى، لأنهم يدركون ببصائرهم رفعة منزلته عند بارئه فهو (( عين القلادة ودرة التاج))(2). إذن فمقام الشيخ الكامل، يعدّ عند الشيخ عبد القادر ضرورة دينية ومعرفية ملحة، فدونه لا تكون درجات و لا مقامات ولا وصول، ودونه تتقطع السبل بين السماء والأرض، والأهم من كل ذلك فإن وجود الشيخ الكامل يعد ضمانة وأمانة لإتمام جواز الطريق الصوفي، فهو الخبير وهو العارف وهو الدليل.

        وتجدر الإشارة، إلى أن بيان وظيفة الشيخ الكامل والكشف عن مقامه ومنزلته، لا يعني الأحاطة بسرَّه وصفته إحاطة تامة، لأن من ذلك يكاد أن يكون ضرباً من المستحيل، فلا يمكن للواصف في نظر الشيخ عبد القادر، أن يبلغ وصف القطب، لأنه متشعب الصفات متعدد الوجوه، كثير الخصال جم المواهب، وإن الثراء في سجاياه، متأت ثراء معارفه في علومه وأحواله، إذ لا يوجد مسلك من مسالك الحقيقة، بكل أشكالها وتجلياتها، إلا وله فيه موطئ قدم ثابت، ولامقاماً عالياً وخطيراً، يقف على نهاية الطريق الصوفي، إلا وله فيه قدم راسخ، ولا منزلة في المشاهدة غلا وله فيها مشرب هنئ ولا معراج روحي إلا وله فيه مسرىً، ولا أمر في كوني الملك والملكوت، إلا وله فيه كشف خارق، ولا سر في عالمي الغيب والشهادة، إلا وله فيه مطالعة، ولا نور الهي إلا ومنه إقتبس ولا معرفة إلا وله فيها نفس، ولا مكرمة إلا وهو لها مخطوب ولا مرتبة إلا ولها مجذوب ولا نَفَس إلا وهو فيه محبوب. وهو مع كل هذه الأوصاف، لا تجده إلا متصدراً على أهل وقته، فهو قائدهم من غيابات الظلمات إلى أفاق النور، وكل الناس له تبع، وهو يتقدمهم حاملٌ لواء العزّ ومنتضي سيف القدرة، وهو حاكم الوقت وسلطان جيوش الحبّ وولي عهد التولية والعزل، وهو لا يشقى به جليسه ولا يغيب عنه شهوده ولا يتوارى عنه حاله، وإنه لا مرمى فوق مرماه ولا وجود أتم من وجوده و لاشهود أظهر من شهوده. على أن كل هذه السجايا الخارقة والفائقة، قد جمعت داخل حيزِّ ناسوته فهو في الوقت نفسه، أرضي وسمائي قدسي غيبي، له حدّ ينتهي إليه ووصف ينحصر فيه،(( وولولا لأن عالم الملك والحكمة لا يظهر فيه شيء من عالم الغيب والقدرة، إلا في قشرة الحجاب وإشارة الرمز وقيد الحصر، لشاهد أهل الكون من هذا الأمر عجباً)).(1)

        إذن فهو إنسان كليّ القدرة كامل الصفات كثير المواهب، لا يخضع لما يخضع له البشر العاديون ويخضع له كل شيء، على أن كل هذه المزايا لا تخرجه من عالم البشر وأحكامهم و لا من سلطة الشريعة وأحكام الفرائض، فهو رغم كماله يبقى إنساناً يعيش بين الناس، ولكن الله تعالى كرّمه به كي يتمكن من حمل ما أنيط به حمله، وهي الأمانة التي كلّت عن حملها الجبال، فأما ما سبق من ذكر (بعض) قدراته وأوصافه غير المعقولة، فأنها من لإمكانات الروح التي تخرج عن نطاق فهم العقول وإستيعابها. ومن جهة أخرى، فأن علينا أن نكون متأكدين من أن أي ذكر لصفات من هذا القبيل، فأن المعني بها على وجه الخصوص، هو الشيخ عبد القادر ذاته، بتورية أحياناً وبمكاشفة أحياناً أخرى، وسواء أصدر هذا الوصف منه شخصياً أم من أصحابه المعاصرين له كالشيخ رسلان الدمشقي(2) مثلاً، الذي قال في وصف منزلة الشيخ عبد الروحية: لله دّره، فلقد شرب من بحار القدس وجلس على بساط المعرفة والأنس وشاهد سره بعظيم الربوبية وإجلال الأحدية، فتلاشي وصفه في شهود الكبرياء، وفني وجوده عند معاينة مقام القرار وهبّ على روحه نسمات روح الأزل، بلا خجل ولا وجل، فنطق بالحكم من معادن الأنوار وإمتزج بسويداء سره مكنون الأسرار، فهو في الحضور صاحي وفي الصحو ما حي،واقفاً بالحيا منبسطاً بالإذن والصفا، متكلماً بالتواضع مذللاً بالإفتقار ومقرباً بالتخصيص بالإكرام.(1)

        ويمكننا أن نلاحظ، مما سبق، أن وصف (الدمشقي)مقام الشيخ عبد القادر، قد إشتمل على أغلب النظريات الصوفية التي تضمنَّها الصوفي الإسلامي، فهو قد تضمَّن القول بوحدة الشهود والفناء الشهودي وكذلك الفناء الوجودي والصحو قد والمحو والبسط والقبض والفقر والوقرب والوصول 000الخ وهذا إن دلَّ على شيء، فأنه يدلّ على عمق العبعد الفكري الذي إشتمل عليه المنهج الصوفي للطريقة القادرية، بكونها طريقة أُسست لتكون طريقة عمل وسلوكٍ صوفي في الحياة العامة، قبل كل شيء.

        ثم نأتي أخيراً، إلى أقصى درجات الجهر والإفصاح والكشف عن الأسرار، وأعني به كلام الشيخ عبد القادر الذي أبان فيه عن نفسه، وجهر بمستوى رتبته الروحية، إذ يقول: قلبي في مكنون علم الله، في زاوية عن الخلق، ملك على باب الحق سبحانه أظهره قبلةً لكل وارد من أهل زماني، فهو يطلّع على أسرار الخليقة، ناظرا إلى وجوه القلوب، قد صنّفاه الحق عن رؤية سواه، حتى صار لوحاً ينقل إليه ما في اللوح المحفوظ، وسلّم إليه أزمَّة أمور أهل زمانه وصرَّفه في عطائهم ومنعهم، وقال له بلسان الغيب: إنك اليوم لدينا مكين أمين، وأقعده مع أرواح أهل اليقين على دكة بين الدنيا والآخرة، بين الخلق والخالق بين الظاهر والباطن وجعل له أربعة وجوه، وجه ينظر به إلى الدنيا ووجه ينظر به إلى الآخرة ووجه ينظر به إلى الخلق ووجه ينظر به إلى الخالق، وصَيّرَه خليفةً في أرضه وعوالمه، فإذا أراد به أمراً قلبه من صورة إلى صورة ومن هيئة إلى هيئة فأطلعه على خزائن الأسرار، لأنه مفرد الملك ونائب أنبيائه وأمين مملكته في وقته.(2) وهذا نص يفصح عن نفسه أكثر من أي شرح وهو يتضمن تمام البيان عن منزلة القطب أو الغوث أو الشيخ الكامل في قومه.

        ومن خلال ما سبق، يتبين لنا، أن الشيخ الكامل، هو المتوحد والمتجرد، الذي أفزع قلبه من كل ما هو سوى مولاه تعالى، سواء أكان هذا السوى دنيا أم آخرة، والذي صفّاه الله تعالى وإستخلصه لنفسه وجعل منه باب رحمة بينه وبين خلقه ومكـنَّه منهم بأن جعل أزمّة قلوبهم في يديه، ثم أعانه

        على حمل تلك الأمانة بأن جعل له قوىً وهيئات متعددة. على أن ما يهّمنا من هذا تأكيد على ذكر صفات الشيخ الكامل، هو سعينا إلى بيان أن فكرة الإنسان الكامل عند الشيخ عبد القادر، كانت واضحة وضوحاً تاماً، بحيث إننا نجدها حاضرة كذلك، حتى عند أتباعه المعاصرين في الوقت الحاضر.(1)

        إن فكرة الكمال بشكل عام، أو الحلم الأزلي لبلوغ الكمال الروحي والجسمي والعقلي، أو نيل الخلود أو إمتلاك القدرات الخارقة، يعد أمراً مألوفاً في تأريخ الحضارات البشرية طرقه الإنسان منذ قديم الزمان وفي حضارات متنوعة وأماكن مختلفة من العالم، وبإستنساخ بسيط، يمكن القول: إن هذا (الحلم) يمكن أن يعدَّ إنعكاساً يوتوبياً(2) لواقع ناقص يعتوره الظلم والفقر والإضطهاد من جهة، والشعور بالعجز والضاّلة أما الموت وأمام الظواهر الطبيعية والكونية القاهرة من جهة أخرى. وهنا يحق للسائل أن يتسأل عن مدى إرتباط هذا (الحلم)، بفكرة الإنسان الكامل عند متصوفة الإسلام، وهل هذا الأخير يمكن أن يندرج ضمن نفس المرجعيات الفكرية والنفسية والاجتماعية للأول؟. وقبل الإجابة عن هذا السؤال، لا بدّ من أن نسأل أولاً عن ماهية التصوف بشكل عام، من أجل أن ننطلق من أرض صلبة في إجابتنا عن السؤال الأساس.

        إن السؤال عن ماهية التصوف، يعني إبتداءً، البحث عن حقيقته، أو بالأحرى البحث عن مسوغ ظهوره على الساحة الفكرية وهل إنه ظهر كرد فعل تجاه شعور الإنسان بالعجز عن إيجاد حل لمشكلاته المستعصية؟ أم إنه ظهر بكونه ناتج طبيعي لصراع مستمر بين أعراق وحضارات مختلفة، كما يذهب إلى ذلك أغلب رواد الإستشراق من الذين تناولوه هذا الموضوع؟ أم إنه ليس إلا تكتلاً اجتماعياً يهدف إلى توفير أكبر قدر من الحرية والحماية لأفراده تجاه الإضطهاد الاجتماعي والسياسي؟.(3)

        وبإختصار فهل يمكننا أن نفسر النزوع الطبيعي للتصوف لدى الإنسان تفسيراً اقتصادياً أو اجتماعياً أو سياسياً أو نفسياً، فقط، ومن ثم نبوبه ونقننه كأي سلوك إنساني طبيعي له إرتباط معلوم بمرجعيات معرفية أو فكرية أو اجتماعية محددة؟

        ومن أجل مزيد من توضيح القصد، فأنه يمكن توسيع دائرة الإستفهام، وذلك من خلال توجيه سهامها كافة صوب الدين بوجه عام. حيث نسأل: ما هو أصل النزوع إلى التدين لدى البشر؟ وهل يمكننا أن نكتفي بإرجاعه إلى تفسيرات مادية بحتة؟. لقد تعرض الدين فعلاً، ومنذ بدايات القرن التاسع عشر، إلى كثير من هذه المحاولات ( العلمية ) في التفسير، لكن يحق لنا أن نسأل ونحن داخل أسوار القرن الواحد والعشرين، هل تمت السيطرة فعلاً على ( ظاهرة) الدين؟ وهل تمَّ تفسيرها تفسيراً علمياً محدداً؟ وهل تم الاستغناء عن الدين بعد أن ظن الإنسان أنه قد عرف آلياته التي يعمل على أساسها؟ ومن غير استرسال مع هذه الأسئلة، فإنه يمكن الجواب عن جميعها بالنفي، لأن جميع التفسيرات المادية، كانت قد أغفلت ماهية الدين الحقيقية، أو جانبه الروحي أو الغيبي وكونه فطرة مغروسة في أصل النفس البشرية، وبناءً فوق وجهة النظر العلمانية، وليس تجاوزاً أو نكراناً لها، فإنه يمكن القول: إن كون الدين غيباً لا يعني الانتقاص منه أو المساس بمشروعية وجوده، فلقد أصبح ثابتاً الأن، وأكثر من أي وقت مضى وعلى وفق المعطيات العلمية ذاتها، إنه يوجد إلى جانب حياتنا المعتادة والزاخرة بالحاجات المادية والتفسيرات والنظريات والقوانين العلمية، جانب روحيُّ خصب، لا يمكن تخطيه دون إحداث شرخ هائل في التوازن المفترض في حياة البشر، أفراداً ومجتمعات، وإن التوجه الثقافي العام يشهد في الوقت الحالي محاولات جادة ومتعددة، تبغي إلى إحياء جوانب في حياة البشر، تعارف الغرب على تسميتها بـ ( اللامعقول ) وهي تلك الجوانب التي لا يمكن أن تنضوي تحت حكم نظريات العقل وقوانينه وأحكامه.

        ومن صلب الدين تنبثق التجربة الصوفية، وهذه التجربة، مثلها في ذلك مثل أي فعالية إنسانية توجد على أرض الواقع، تتأثر بكل العوامل المادية والاجتماعية، ولكن في الوقت نفسه، تبقى لها حقيقتها الخاصة بها وآلياتها الذاتية، وكونها حاجة فطرية إنسانية، وهذه التجربة، فيما لو توفرت لها الشروط اللازمة، فإنها ستدفع بالإنسان دفعاً قوياً، إلى أن يلهب الجوانب الروحية في داخله، من أجل مزيد من الرقي الروحـــي والسمو الأخلاقي، ومن أجل أن ينتصر على كثير من العوائق


        والحجب التي تحول بينه وبين مبتغاه الحقيقي، وهو التقرب من الله تعالى تقرباً حياً مفعماً بالعاطفة الصادقة وغير مقتصر على ما ظهر من الرسوم والحركات والأقوال.
        ومن صلب التجربة الصوفية في الإسلام، تنبثق نظرية الإنسان الكامل بسعيها الدائب نحو بلوغ الكمال الممكن، الذي يعتقد الإنسان الصوفي إن الله تعالى قد غرسه فيه، ولكن في الوقت نفسه حفّه بالكثير من الحجب الظلمانية، كالغرائز والشهوات. إن الصوفي في سعيه الحثيث للانتصار على ذاته، لا يضع الطبيعة وأحكامها خصماً أمام ناظريه، ولا الجوانب الاجتماعية أو السياسية، وإنما هو يهدف أولاً وقبل كل شيء إلى طلب المزيد من القرب والحب لمولاه، عن طريق زيادة نسبة المشاكلة بين طرفي المعادلة، وذلك من خلال التحلي بالمزيد من محامد الآداب ومكارم الأخلاق، ولكن مع ضرورة التأكيد: أن هذه الرؤية لحقيقة التصوف لا تعني إلغاء التأثيرات المادية والاجتماعية والنفسية على صيرورة وحركة ونمو الغرس الصوفي خصوصاً ونحن نرى أن التصوف المولود مع ولادة الإسلام، كان قد إزدهر وترعرع وبشكل ملحوظ مع بدايات الانتكاس الحضاري في التأريخ الإسلامي. ولكن من جانب أخر فإن هذا الربط، يمكن أن يسلط المزيد من الضوء على التفسيرات الروحية للتجربة الصوفية، إذ يمكن القول: إن إحساس الإنسان ببداية الانهيار الاجتماعي والسياسي يحدو به إلى أن يضاعف من مسؤولياته الأخلاقية تجاه نفسه وتجاه المجتمع من أجل أن يثبت الآخرين: أن الإنسان يمكنه أن يكون في حال أفضل مما هو عليه وأيضاً لكي يذكرهم بالهدف الحقيقي من وجودهم وهو تحقيق الصلة الصحيحة التي تربط العبد بخالقه وإن هذه الصلة كفيلة بأن تعيد الإنسان خلقاً أخر بحيث يصبح بإمكانه أن يسمو على كثير من الظروف والعوائق التي يخضع لها البشر.__________________________________________________ __________________________________________________ ______________________



        (*) ترد في التراث الصوفي، للإنسان الكامل، تسميات متعددة فهو : الوريث المحمدي وهو صاحب الخلافة العظمى، وهو صاحب الولاية الكبرى، وهو قطب الوقت وهو غوث الزمان وهو المُطاع.

        (1) الإنسان الكامل: هو الجامع لجميع العوالم الإلهية والكونية. الكلية والجزئية، وهو كتاب جامع للكتب الإلهية والكونية، فمن حيث روحه وعقله فهو كتاب عقلي يسمى بأمّ الكتاب ومن حيث قلبه فهو اللوح المحفوظ ومن حيث نفسه فهو كتاب المحو والإثبات وهو الصحف المكرّمة المرفوعة المطهرة التي لا يمسها ولا يدرك أسرارها إلا المطهَّرون من الحجب الظلمانية. – الجرجاني – التعريفات – ص39.

        (2) للمزيد من التفصيل حول هذه الآراء – أنظر – د. عبد الرحمن بدوي – الإنسان الكامل – الكويت – ط/2 – 1976.

        (1) إبن عربي – الفتوحات المكية – ج/ 1 – ص263.

        (2) ناجي التكريتي – الفلسفة الأخلاقية عند مفكري الإسلام – ص467.

        (3) القلم / 4

        (1) الشيخ محمد الكسنزاني – الطريقة العلية القادرية الكسنزانية – ص147.

        (2) الطوسي – اللمع – ص326.

        (3) الحلاّج – كتاب الطواسين – بغداد –1991 – ص49.

        (1) الترمذي – ختم الأولياء – بيروت –1965 – ص327.

        (2) إبن عربي – فصوص الحكم – تحقيق – د. أبو العلا عفيفي – بيروت – ط/2 – 1989 – ص50

        (3) إبن عربي – المصدر نفسه – ص214.

        (1) إبن عربي – فصوص الحكم – تحقيق – د. أبو العلا عفيفي – بيروت – ط/2 – 1989 – ص319

        (2) أبن عربي – الفتوحات المكية –ج / 2 – ص300

        (3) أبن العربي – المصدر نفسه – ج/2 – ص363 وللمزيد من التفصيل حول نظرية الأنسان الكامل عند أبن عربي، يمكن مراجعة كتاب فلفسة التاويل – دراسة في تأويل القران عند محي الدين بن عربي – نصر حامد ابو زيد –ط/1- 1983 – بيروت.

        (1) عبد الكريم الجيلي – الأنسان الكامل في معرفة الاواخر والاوائل – ط/1- بيروت – 2000 – ص206

        (2)عبد الكريم الجيلي – المصدر نفسه – ص208

        (1) الترمذي – ختم الأولياء - ص470

        (2) الترمذي – المصدر نفسه – ص471

        (3) الترمذي – ختم الأولياء – ص473

        (4) الترمذي – المصدر نفسه – ص471


        (1) الجيلاني – سر الأسرار ومظهر الأنوار – ص6.

        (2) الجيلاني – الفتح الرباني والفيض الرحماني – ص184.

        (1) الترمذي – ختم الأولياء – ص463.

        (2) الشطنوفي – بهجة الأسرار ومعدن الأنوار – ص38.

        (3) الشطنوفي – المصدر نفسه – ص52.

        (4) الجيلاني – الفتح الربّاني والفيض الرحماني – ص179.

        (1) يذكر الشيخ عبد القادر: أن كرامة الولي، ما هي إلا إستقامة فعل على قانون قول النبي والكرامة هي أثر إنعكاس نور الحق على قلب الولي، على أنها لا تظهر على الولي إلا مع اختياره. – الشطنوفي – المصدر نفسه –ص39.

        (2) الشطنوفي – بهجة الأسرار ومعدن الأنوار - 8

        (3) التونسي – رياض البساتين في أخبار الشيخ عبد القادر الجيلي – ص119.

        (4) يذكر الشطنوفي: أن تحية المشايخ بعد أن قال الشيخ عبد القادر: (( قدمي هذه على رقبة كل ولي لله )) حين يحضرون عنده : السلام عليك يا ملك الزمان ويا أمام المكان، يا قائماً بامر الله ويا وارث كتاب الله ويا نائب كتاب رسول الله، يا من السماء والارض مائدته وأهل وقته كلهم عائلته،يا من ينزل القطر بدعوته ويدر الضرع ببركته .. بهجة أسرار ومعدن الأنوار - ص18 ويقو ل الشيخ حياة بن قيس الحراني ( ت- 581 هـ ) وهو أيضاً من معاصري الشيخ عبد القادر : قد عشنا زماناً مديداً في ظل الشيخ عبد القادر، وشربنل كؤوساً هنيئة من مناهل عرفانه، ولقد كان النفس الصادق يصدر عنه، فيستطير شعاع نوره في الآفاق، إستطارة النار، فتقتبس منه أسرار أحوال الأصحاب على قدر مراتبهم ، وأنه لما أتاه الأمر بأن يقول، قدمي هذه على رقبة كل ولي لله، زاد الله تعالى جميع الأولياء نوراً في قلوبهم وبركة في علومهم وعلواً في أحوالهم، ببركة وضعهم رؤوسهم ، وقد مضى إلى الله تعالى في حلبة السابقين مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين . – المصدر نفسه . – ص12

        (1) الجيلاني – سير السلوك إلى ملك الملوك – مخطوطة

        (2) الشطنوفي- بهجة أسرار ومعدن ألانوار – ص23

        (3) عبد الرحمن السائح – مناقب عبد القادر الجيلي – مخطوطة

        (1) الجيلاني – الفتح الرباني والفيض الرحماني – ص 239

        (2) الجيلاني – جلاء الخاطر من كلام الشيخ عبد القادر – ص 106

        (3) روي عن لسان الشيخ عبد القادر قوله : إن السعداء والأشقياء ليعرضون علي، وإن بؤبؤ عيني في اللوح المحفوظ، وأنا غائص في بحار علم الله عزوجل ومشاهدته . أنا حجة الله عليكم، أنا نائب محمد رسول الله (r) ووارثه في الأرض .-عبد الرحمن السائح – مناقب عبد القادر الجيلاني – مخطوطة

        (4) الجيلاني - المصدر نفسه – ص214

        (1) عبد الرحمن السائح – مناقب عبد القادر الجيلي .

        (2) عبد الرحمن السائح – المصدر نفسه.

        (3) البقرة / 30.

        (1) الجيلاني – فتوح الغيب – ص16.

        (2) الشطنوفي – بهجة الأسرار ومعدن الأنوار – ص39.

        (3) للتفصيل حول هذه الكرامات وغيرها – أنظر الشطنوفي – بهجة الأسرار ومعدن الأنوار – ص63 فما بعدها.

        (4) الترمذي – ختم الأولياء – ص336.

        (1) يذكر الشيخ عبد القادر قوله: لولا لجام الحكم على لساني، لنطق صاع يوسف بما فيه، لكن العلم مستجير بذيل العالم، لا يبدي مكنونه – عبد الرحمن السائح، مناقب عبد القادر الجيلي – مخطوطة.

        (2) جعفر عليوي – مفهوم الحرية في فكر عصر النهضة العربية – رسالة ماجستير – جامعة بغداد – 1990 – ص14.

        (3) حفل كتاب ( بهجت الأسرار ومعدن الأنوار ) أكثر من غيره من الكتب التي أرخَّت لسيرة الشيخ عبد القادر الروحية، بالكثير من القصص التي تذكر معاقبة الشيخ عبد القادر للمخالفين له أو المنكرين عليه بعض أحواله أو الخارجين عن حكم الشرع، لسلب أحوالهم ومحق الأنوار القدسية من بواطنهم – أنظر ص83 من الكتاب وكذلك ص30 التي تضمنت قصة الشيوخ الثلاثة الذين أذن لهم الشيخ عبد القادر بإن يطلب كل منهم أمنيته الروحية كي يحققها لهم.

        * لم نعثر له في كتب التراجم على تأريخ ولادة أو وفاة.

        (1) الشطنوفي – بهجة الأسرار ومعدن الأنوار – ص15.

        (2) عبد الرحمن السائح – مناقب الشيخ عبد القادر الجيلي – مخطوطة.

        (1) يذكر أن الشيخ عبد القادر، قد تعرض لحرس السلطان الذين كانوا يحملون على دوابهم خمرً الى القصر، وحين لم يعيروه إنتباهاً، أمر دوابهم بألتوقف فأطاعته وحول خمرهم خلاً – أنظر الشطنوفي – المصدر نفسه – ص41 . وكذلك قصته مع الخليفة المستنجد بالله وجلبه التفاح له في غير أوانه وإستخراجه الدم من مال الحرام – المصدر نفسه – ص61 . وكذلك قصة أمره للمطر الذي فرق مجلسه، بالكف عن الهطول وأمره دجلة بالتوقف عن إغراق بغداد – المصدر نفسه – ص75 وقد ورد عنه قوله : ما تطلع الشمس إلا وتسلم عليَّ – المصدر نفسه – ص22 . وقد حفلت قصائده بالكثير الكثير من هذه الخصائص والقدرات، وبخاصةٍ منها قصيدته المشهودة المسماة بـ(الوسيلة) التي يقول فيها : وكل بلاد الله ملكي حقيقةً وأقطابها من تحت حكمي وطاعتي. أنظر ديوان الشيخ عبد القادر الجيلاني – مخطوطة – دار صدام للمخطوطات – تحت رقم (999) . ولسنا هنا بصدد التحري عن مدى صحة هذه الروايات ، وإنما الذي يهمنا فقط ، هو تسليط الضوء على ما يعتقده أهل التصوف في (الغوث) وفي شيخ الصوفية وفيما يشتمل عليه من صفات خارقة للعادة.

        (2) محي الدين بن عربي – الفتوحات المكية – ج / 2 – ص308

        (3) يذكر عبد الرحمن السائح، أن الشيخ عبد القادر قد قال يوماً لأصحابه : أنه قد سلم إلي العراق ثم بعد مدة قال : الآن سلمت إلي الأرض شرقها وغربها وقفرها وعمرانها وبرها وبحرها وسهلها وجبالها، ولم يبق أحد من الأولياء، إلا أتاه وسلم عليه – أنظر – مناقب الشيخ عبد القادر الجيلي – مخطوطة .

        (4) الشيخ محمد أمين التونسي – رياض البساتين في أخبار الشيخ عبد القادر – ص290.

        (1) الجيلاني – الفتح الرباني والفيض الرحماني – ص241. وقد ذكرت الكتب التي أرخت لسيرة الشيخ عبد القادر، قصة الرجل الذي خطف الجن إبنته، والذي إستجار بالشيخ عبد القادر فأمر الجن فأعادها إليه.

        (2) ورد عن الشيخ عبد القادر قوله، بعد سهوة طويلة وفي جمع من أصحابه : وقد فتح لقلبي الآن سبعون باباً من أبواب العلم اللدني، سعة كل باب منها كسعة ما بين السماء والأرض ولا محيط بما في المحيط من الدر. – عبد الرحمن السائح – مناقب عبد القادر الجيلي – مخطوطة.

        (3) عبد الرحمن السائح – المصدر نفسه.

        (1) التفصيل – أنظر - ص50 فما بعدها من المصدر أعلاه.

        (2) الجيلاني – الغنية لطالبي طريق الحق عز وجل – ج/3 – ص1271.

        (1) محمد أمين التونسي – رياض البساتين في أخبار الشيخ عبد القادر الجيلي محيي الدين – ص290.

        (2) لم نعثر له على تأريخ ولادة أو وفاة.

        (1) الشطنوفي – بهجة الأسرار ومعدن الأنوار – ص15.

        (2) الشطنوفي – المصدر نفسه – ص24.

        (1) للتفضل حول رؤية الطريقة القادرية في الوقت الحاضر لمفهوم الإنسان الكامل – أنظر – الشيخ محمد الكستزاني – الطريقة العلية القادرية الستزانية – ص 147 فما بعدها.

        (2) اليوتوبيا في المعنى الحرفي تعني المكان الذي لا وجود له، وفي الإصطلاح تعني المكان الذي يتخليه الإنسان خالياً من جميع أنواع النقص والشر. الموسوعة الفلسفية – وضع علماء السوفيت – بيروت – ص508.

        (3) يذهب إلى هذا الرأي – د. عبد الله العروي في كتابه – مفهوم الحرية – الدار البيضاء – ط3- 1984.


        تعليق

        يعمل...
        X