الفصل الثالث:
الجوانب النظرية
أ- الحب الالهي
ب- وحدة الشهود
ج- الانسان الكامل
تعد الحضارة العربية الإسلامية, من بين أكثر الحضارات, إهتماما بموضوع الحب بكل أشكاله ومستوياته التي عرفها البشر, ومن خلال جميع أصناف الفكر التي أفرزتها هذه الحضارة, من دين أو أدب أو فلسفة, حتى أننا لا نعدم فيها, فقهيا, ظاهريا, يؤلف كتابا مستقلا في هذا الشأن.(1) وقد كان المرتكز الأهم, لموضوع الحب, لكل أنواع الإبداع الفكري, هو الشعر العربي, الذي لم يغادر, صغيرة ولا كبيرة, ولا لونا من ألوان الحب, سواء الحسي منه أو العفيف, إلا وذكره بأدق تفصيلاته ومعانيه, إلى درجة, أن الصوفية أنفسهم, وهم أهل الحب الإلهي دون منازع, لم يجدوا مندوحة, من الأستعانة به, في توضيح بعض مقاصدهم, وبخاصة, ما يتعلق منه بالحب العذري, وبالأخص شعر مجنون ليلى.
في الحقل الديني, شكّل حب العبد ربه, وطلب التقرب منه, الوازع الأكبر الذي دفع بكثير من عبّاد المسلمين وزهادهم, إلى تحري الوسائل والسبل الكفيلة بتحقيق هذا الهدف ونيل هذا المراد, وكان من بين نتائج هذا (التحري) والتعمق في خطرات القلب وفي لطائف أسراره, أن ظهر الفكر الصوفي الإسلامي, الذي ظلّ, هاجس الحب الإلهي, ملازما له, طوال مراحله وأطواره المتعددة, ولكن, بالتأكيد, مع نضج ملحوظ, ودقة متميزة في التعامل مع لواعجهة وهمومه ونوازله, وكانت هذه الملازمة, بين الحب الإلهي والتصوف الإسلامي, وهي نتيجة لازمة, لأعتقاد أغلب الصوفية, بأن سلوك الطريق الصوفي, وهو الذي سيهدي قلوبهم, حتما إلى مزيد من الحب لمولاهم, وثم إلى مزيد من طلب العزلة, والتفكر فيه والأختلاء معه, وهذه الأمور كلها, تعد في نظر المحبين شروطا تدل على صحة المحبة وصدق الأشتياق.(1) وهو معنى قول أبي طالب المكي (ت 358هـ): (أن من علم المحبة, سهر الليل بمناجاة الجليل والحنين إلى الغروب, شوقا إلى الخلوة بالمحبوب, ومناجاة سرائر الوجد, ومطالعة الغيوب).(2) وكما نلاحظ, فأن الحب, أنّى توجه, نحو السماء أم نحو الأرض, فأنه سيستوجب الأشراط ذاتها, من سهر وحنين وإشتياق إلى المحبوب, حتى وأن كان هذا المحبوب, هو الله تعالى ذاته.
إن كل سعادة, ترتجى, من جرّاء التعلق بأي محبوب, سوى الله تعالى, يرى الصوفية, أنها صورة وهمية للسعادة الحقيقية التي لا تخضع للتغير أو الزوال, وهي السعادة المصاحبة لمطالعة الجمال المطلق, جمال تجليات الحضرة الإلهية ولقد وجد الإنسان المُحب, أن هاجسه الملّح, إلى أمتلاك الحقيقة المطلقة, وبلوغ السعادة المطلقة, والبقاء المطلق, لا يمكن تحقيقه, إلا من خلال السلوك الصوفي, الذي أساسه المحبة الإلهية, والتي تنبثق بدورها من عمق معرفة العبد بربه, ولأجل ذلك, سمّي الصوفية بالعارفين, لأنهم أكثر الناس معرفة بربهم, فلقد خلصوا له وأختصوا به وتفكروا في خلقه وقدرته وعظمته, وأن معرفتهم تلك, هي التي أفضت بهم إلى الحب الإلهي, وليس العكس, إذ لا حب قبل المعرفة.
وفي ساحة السلوك الصوفي, فأن المحبة هي أصل جميع المقامات والأحوال, فهي أصل التوكل والشكر والصبر والرضا, وكذلك فهي أصل الشوق والخوف والرجاء, على أن التمكن من المحبة الإلهية, على الحقيقة, لم يختص به سوى سيد الخلق أجمعين, محمد (r) فهو حبيب الله تعالى بلا منازع, وهو صاحب مقام الحب أصالة, وكل من أخذوا بأسباب الحب بعده, فهم عيال عليه, وهو قدوتهم فيه, ولقد أعطي من أسرار هذا المقام, ما لم يعط غيره من الأنبياء (u) ولتحققه به, فقد قال تعالى في حقهقل إن كنتم تحبون الله فأتبعوني يحببكم الله)(3) وقوله تعالىمن يطع الرسول فقد أطاع الله)(4)
إذن، فقد جعل ألله تعالى، محبته في محبة نبيه، وطاعته من طاعة نبيه، وما ذلك إلا لأنه وفَرَ نصيبه من نوره الذي أفاضه على العالم، بواسطته، ولذلك سماه: نوراً وسراجاً منيراً وجعله رحمةً للعالمين، وبذلك النور، كان (ص) يدعو الخلق إلى ربه تعالى، ليوصلهم بالنور إلى النور .(1) وهكذا هي دائماً، نظرة الصوفية للأمور، فعندهم, ليس بالعقل ولا بالحجج والبراهين, ولا بحفظ الأقوال والأكثار من الرسوم والحركات, يصل الإنسان أو يتقرب من ربه, وإنما هو يصل بنور البصيرة, والحب الذي هو أداة القلب الوحيدة في التقرب إلى الله تعالى.
تعريف الحب عند الصوفية
عرّف الحب الإلهي عدة تعريفات, وهذه التعريفات بمجملها, لا تعدو كونها تعريفات للفعل الصوفي, بعموم معناه, ومن هذه التعريفات, إن الحب الإلهي يعني: تعلق القلب بين الهمّة(2) والأنس(3) في البذل والمنح, على الأفراد. وهو أول أودية الفناء, لأن العبد إذا لم يفعم قلبه بحب مولاه, فسوف لا يتمكن من خلع صفاته ونسيان ذاته في مقابل صفات وذات حبيبه. وحب الله تعالى, هو العقبة التي ينحدر منها المريد على منازل المحو, وكونه عقبة, فأن هذا يعني أنه صعب المنال, إذ إن على محرابه تُذبح الكثير من الصفات والأهواء والطبائع غير الملائمة, وهذا مما يعسر على النفس الإنسانية تقبله. والحب الإلهي, هو: آخر منزل تلتقي فيه مقدمة العامة مع أولى خطوات الخاصة, إذ إن كل الناس يتقربون إلى الله تعالى بأنواع القربات, وأما الحب, فقليل من عانة الناس من يتعاطاه, وأما الخاصة منهم فهو أول منازلهم, وكما أنه في الوقت نفسه آخرها, والحب الإلهي هو سمة الطائفة – أي الصوفية – فهم أهل الحب الإلهي, وهو عندهم عنوان الطريقة, لآن طريقة هي طريقة وصول وتقرّب إلى المولى تعالى, ولا وصول ولا تقرب بغير وازع الحب, والحب الإلهي هو معقد النسبة, أي أنه عامل تقريب المناسبة بين العبد وربه إذ لا وسيلة مثله, ترقق النفوس وتجلي القلوب وتحسن الطبائع.(4)
أما القشيري, فهو في معرض تعريفه للحب الإلهي, يردّ أولا على العلماء – أي أصحاب النظــر العقلي من المتكلمين والفلاسفة – الذين يرون أن المحبة هي الإرادة, وهذا هو غير مُراد الصوفية, إذ إن الإرادة لا تتعلق بالقديم, اللهم إلا أن يُحمل المعنى على إرادة التقرب إليه تعالى والتعظيم له, يرى القشيري: إن المحبة لا توصف بوصف ولا تحد بحد أوضح ولا أقرب إلى الفهم من المحبة نفسها. وهنا أشارة لطيفة من القشيري إلى أن المحبة, عموما, لرقتها وشفافية الإحساس بها, وتعلق القلوب الصافية بها, مثلما لا تتعلق بشئ آخر سواها, فأنه يصعب وجود مثيل لها, تُعّرف به أو من خلاله, ولذلك كان أشبه شئ بها, هو المحبة ذاتها, ولعل في هذه الإشارة جانبا معرفيا, فكون المحبة إحساسا ذوقيا وتجربة معاشة, فأنه يعسر وصفها إلا لمن ذاقها وأحس حرّ لواعجها, ويحاول القشيري أن يدلنا على مقاربة وصفية لمعنى الحب الإلهي من خلال العودة إلى الأصول اللغوية لكلمة الحب, والتي تعني أولا: صفاء المودة فالعرب تقول لصفاء بياض الأسنان ونضارتها: حَبَب الأسنان, وقيل الحُباب هو: ما يعلو الماء عند المطر الشديد وقيل أيضا أن الحب مشتق من حباب الماء, بفتح الحاء وهو معظمه, فسمي بذلك لأن المحبة هي غاية معظم ما في القلب من المهمات, وقيل أن أشتقاقه مأخوذ من اللزوم والثبات, إذ يقال: أحبّ البعير, أي أنه برك فلا يقوم, فكان المحب ل يبرح بقلبه عن ذكر محبوبه, وأخيرا فأن المحبة في التعريف بها تعني: غليان القلب وثورانه عند العطش والأهتياج إلى لقاء المحبوب.(1) ولعل القشيري, بعودته إلى الجذور اللغوية لكلمة الحب, أراد أن يدلنا على ما أشتملت عليه هذه (الجذور) من المعاني التي كان يطمح الصوفية في أن يعبّروا عنها من خلال حبهم الإلهي, ولعله أراد أن يخبرنا بأنهم – أي الصوفية – لم يبتدعوا شيئا جديدا, ولم يقفزوا على واقعهم البشري, بل هم أحبوا ربهم, وعبّروا عن حبهم, مثلما يفعل كل المحبين من البشر, مع أختلاف موضوعاتهم وتفاوت غاياتهم.
وفي الأصطلاح الصوفي, يحصي لنا القشيري, عدة تعريفات للحب الإلهي, فلقد عُرّف بأنه الميل الدائم بالقلب الهائم.(2) وهذا التعريف يميل إلى عد الحب من المقامات وليس من الأحوال, فالحب يعتمد على أستمرارية ميل القلب إلى الحبيب, وأن الذي يدفعه إلى الأستمرار في هذا الميل, هو الهيام الذي يخالطه, فإذا ما عرفنا أن الهيام يعني ذهاب التماسك تعجبا وحيرة,(3) لعلمنا أنه ناتج من فعـل مطالعة العبد في عظمة الملكوت.
وعرّف الحب بأنه: أيثار المحبوب على جميع المصحوب, وهو مقام التفرد والفناء عن كل السوى بما فيه النفس, لأنها أيضا من المصحوبات. ويعني الحب أيضا: موافقة الحبيب في المشهد والمغيب, وهذا التعريف يقترب كثيرا من حدود مقام المراقبة, وهو مقام المحبين المحققين, وهو يعني, علم القلب بدوام شهود المحبوب له, فهو – أي المحب – دائم الأطراق مستجمع الهمّ, شديد الفكر في المحبوب, معرض عما سواه.(1) ويعرّف الحب أيضا بأنه: مواطأة القلب لمرادات الرب, وهذا الحب يشير إلى مقام الفناء عن الإرادة والى التسليم والطاعة والأخلاص وحسن التوكل. ثم يورد لنا القشيري رأي أبي يزيد البسطامي (ت 261هـ ) والذي يعرّف الحب بأنه: أستقلال الكثير من نفسك واستكثار القليل من حبيبك. وهو هنا يقرّب بين مفهوم الحب وبين مفهومي الفتوة(2) والإيثار(3), على أن هذا التعريف, بوضوحه وبساطته, يعكس لنا مستوى الثقافة الصوفية في القرن الثالث الهجري. وأما سهل بن عبد الله التستري ( ت 283هـ ) فقد عرّف الحب الإلهي بأنه: معانقة الطاعة ومباينة المخالفة, والمحبة عنده تعني: أن تهب كلك لمن أحببت, فلا يبق لك منك شئ. ولا داعي لأن نشير إلى مدلولات هذا التعريف, فهو واضح الأرتباط بمدارج السلوك الصوفي بوجه عام. ثم أخيرا يأتي دور أبي بكر الشبلي (ت 334هـ ) الذي يرى أن المحبة مأخوذة من المحو, إلا أنها تمحو من القلب كل ما سوى المحبوب.(4) ولعل هذه الوظيفة الأخيرة للحب هي أخص معانيه ودلالاته الصوفية, إذ لا يمكن للمريد أن يكون محبا لله تعالى, إلا بعد أن يتجرد تماما من جميع العلائق والأغيار والمطلوبات الدنيوية منها والأخروية.
المحبة الخالصة
على أننا كلما تقدمنا خطوات في الزمان (الصوفي), كلما وضعت أمامنا صورة الحب الإلهي وأتخذ معناه مستوى أكثر عمقا, فالشيخ عمر السهروردي (ت 632هـ ) وهو من تلاميذ الشيخ عبد القادر, ومن الآخذين بمنهجه الصوفي, يصنف الحب الإلهي من بين الأحوال, لا بل هو عنده
أصل لكل الأحوال الأخرى, مثلما التوبة في المقامات.(1) يسمي السهروردي المحبة الإلهية بـ (المحبة الخالصة), تمييزا لها عن غيرها من صنوف المحبة, وهذه المحبة لا تكون خالصة, إلا أن يحب العبد ربه بكليته, لأن العبد قد يكون في حال ما, وهو قائم بشروط حاله بحكم العلم, ولكن جبلته تتقاضاه بضد العلم. وعليه, فهو يشير هنا, إلى ضرورة المجاهدة الصوفية من أجل مطابقة فعل الجبلة لحكم العلم. وهذه النقطة تستحق أن نتوقف معها قليلا, إذ أن فيها إشارة إلى تفضيل التصوف العملي, الذي يتدرج المريد معه صعودا, في المقامات والأحوال, حتى يصل إلى مرحلة الفناء عن نفسه والبقاء بالله, على التصوف العقلي أو الأشراقي, الذي يعتمد على العقل والحكمة, وسيلة لأستشفاف فيض النور العلوي الذي صدرت عنه كل الأنوار الأخرى.(2) على أن الشيخ عمر السهروردي لا يطعن في مشروعية هذا السبيل الأخير, ولكنه يرى فيه وسيلة خطرة وهشة قد تنهار أماك ثورة الغرائز ويقظة الطباع.
الحب العام والحب الخاص
والحب الإلهي ينقسم عند الشيخ عمر السهروردي على قسمين, حب عام وحب خاص, الأول يتحقق بالأمتثال للأوامر الإلهية, وهو قد ينبع من العلم بالآلاء والنعم الإلهية, ويمتاز هذا الحب بأنه: يُخرج العبد من صفاته الذميمة ويدفعه نحو التحلي ببدائلها. إذن فللعبد في هذا الصنف من الحب والأرادة, فهو إذن من المقامات.(3) وأما الحب الخاص, فهو حب الذات من دون النظر إلى شئ سواها, حتى لو كان هذا السوى هو نفس المحب, فهو إذن فناء وتماهٍ, وشرط هذا الحب أن تلحقه السكرات, إذ إنه لا يكون حبا حقيقيا. إن لم يكن فيه ذلك, والسكرات هي حالات الشطح والغيبة التي تعتري الصوفية في بعض أحوالهم. هذا الحب ليس لإرادة العبد فيه يد, بل هو أصطناع من الرب وإصطفاء محض, فهو إذن من الأحوال. وأما نسبة هذا الحب إلى النوع الأول, أي الحب العام, فهي كنسبة الروح إلى الجسد, ولك أن تقرر الفرق بين (الحبين).
إذن ففي موضوع الحب, لم تختلط الأمور عند الصوفية, كما يرى ذلك البعض, بل هم يميزون بين حب الناس بعضهم لبعض, وهو عندهم حب وهمي, يدل على عدم أدراك الإرادة الحقيقية للروح البشرية, وحب العبّاد لمولاهم, وهو الحب الحقيقي المغروس في لأصل فطرتهم, وهذا الأخير يقع على درجات, حسب مراتب العباد ومجاهداتهم الروحية.(1) على أن حب العبد ربه, لا يشتمل شكل من الأشكال التجاوز على الذات الإلهية, لأنه لا ينبع من الأشتهاء والنيل التماثلي كما أن حب الرب عبده, يعد حقيقة واقعة, غير مختلفة, تدعمها الكثير من الأسانيد الشرعية التي سيأتي بيانها في حينها, وهو في الوقت نفسه لا يدل على الأشتياق النفسي لسدّ النقائص, وإنما هو يعني الواصلة باللطف والمنة والكرامة.
وهكذا فالشيخ عمر السهروردي يحدّ الحب الخاص بأنه: الخروج من الكلية, إذ إن حقيقة المحبة هي: (أن تهب لمن أحببت كلك, ولا يبق لك منك شئ).(2) وهذا يعني بلغة أخرى, أن الحب الخاص يعني التحقق بمقام الفناء الوجودي, وهو المقام الذي ما بلغه العبد, فستنتفي عنه جميع المساعي لبلوغ المقامات الصوفية الأخرى. إن الحب الخاص يعمل على تصفية النفس وتزيينها بالمعرفة والنور الإلهي, وهذا هو عين المقامات على النفس. وعليه فالحب الإلهي الخاص, هو خير وسيلة للتقرب من الله تعالى(3) إذ إنه مع نزاهة النفس وصفائها, فأن العبد يكون أقرب ما يكون من مولاه على أن (السهروردي) لا ينسى أن يذكرنا, بأن الحب في حقيقته, لا يتوقف على جهد العبد وتزكيته لنفسه, بل هو موهبة ربانية غير مرتبطة بعلة أو سبب, نعم أن تزكية النفس تقرّب الوسيلة, لا تحتمها. وأخيرا, لابد من ذكر ملاحظة مهمة, لعل السهروردي أهتم بها أو آثارها, لكونه قد تتلمذ على يد الشيخ عبد القادر, وهي: إن حب الله تعالى, بكل أشكاله ومستوياته, لا يمكن أن يلغي الورع أو يسقط عن العبد التكاليف والفرائض, وأن من أدعى محبته تعالى من غير تورع عن محارمه وأقبال على أوامره, فهو مدّع كذاب.(4)
الحب أصل الوجود
ولشدة أهتمام مفكري الإسلام بموضوع الحب, فقد تبناه بعضهم مبدأً عاما من مبادئ الوجود الكوني وليس البشري فقط, بحيث أن الحب أصبح هنا, كالنسخ الذي يسري في مفاصل الذوات كافة, حيّها وجمادها. ويأخذ بهذا الرأي المفكر المغربي, أبو زيد عبد الرحمن الأنصاري المعروف بأبن الدبّاغ (ت 696هـ ) صاحب الرسالة المشهورة: (مشارق أنوار القلوب ومفاتح أسرار الغيوب).(1) والتي يقول فيها: أن النور الذي ظهرت به الأشياء, عان في الموجودات كلها, من أعلى العليين ومنحدرا إلى أسفل السافلين, وأن بالمحبة تمت الكائنات وعنها وجدت على أختلاف الحركات, فهي كامنة في كل جوهر, وما من وجود في العالم إلا وله نصيب منها, وبحسب المحبة يكون صعود الصاعد إلى العوالم الروحانية.(2) وقبل الأسترسال مع (أبن الدباغ) في آرائه في الحب, لابد من الأشارة إلى أن آراءه تلك لا تخلو من تأثيرات أشراقية وثنوية ويونانية قديمة, وبخاصة من هذه الأخيرة, فيلسوفها (أنباذوقليس) الذي عاش وأشتهر أمره في أواسط القرن الخامس قبل الميلاد, والذي جعل من المحبة مبدأ اساسيا من مبادئ الوجود, تتكون وتتجمع فيه الأشياء.(3) إذن فقد بلغ أبن الدباغ بعامل الحب الإلهي ذروة تأثيره في الكون, بحيث أنه جعل منه سببا في وجود ماهو موجود, وميزة تدرج الكائنات في المراتب, وفقا لدرجة أخذها منها.
إن أكثر ما يلفت النظر في آراء أبن الدباغ, هو تعريفه الفريد للحب, فهو عنده: إبتهاج يحصل للنفس عن تصور حضرة ما.(4) ولنا أن نتصور فرط الشعور بالبهجة العظيمة الناجمة عن تصور الحضرة الإلهية. إذ إن مجرد التفكر في عظمة الخالق وكبريائه وعزه وجلاله, يورث النفس ألوانا من الأضطراب والأغماء والخزوج عن عالم الحس, وأمور جسيمة أخرى ربما خرجت معها روح المريد فرقا وخوفا من الله تعالى, وربما بدرت منه أمور وأفعال غير مستساغة في العقل.(5) ولعل أبن الدباغ, في هذه العبارة يحاول أن يسوغ ما يعتري الصوفية في بعض أحوالهم من فقدان الحس المؤقت والهياج والأرتجاف, وغير ذلك مما ينكره عليهم خصوصهم.
إذن فالتفكر زالتأمل في بدائع الجمال والكمال الإلهيين, هما من أقوى وأهم العوامل التي تفعم النفس بمحبة خالقها والشوق أليه. ويبدو جليا من هذه العبارة, مدى تأثير أبن الدباغ بالفلسفات الأشراقية التي كانت سائدة بين أوساط المفكرين في عصره, فهو من جانبه, يرجح الأعتماد على العمليات الذهنية لأكتساب مزيد من الحب الإلهي ومن ثم مزيد من القرب من الله تعالى.
الحب العرضي والحب الذاتي
[IMG]file:///C:%5CUsers%5Ctac%5CAppData%5CLocal%5CTemp%5Cmsohtm lclip1%5C01%5Cclip_image001.gif[/IMG]الحب عند أبن الدباغ, يقع أيضا, على قسمين: حب عرضي وحب ذاتي. الحب العرضي له تعلق بغير ذات المحبوب, مثل محبة أحسانه وطلب منافعه ودفع مضاره, وأما الحب الذاتي, فهو متعلق بذات المحبوب, وهو أيضا يقع على قسمين: ما يعقل سببه ومالا يعقل له سبب. الأول هو محبة جمال المحبوب وكماله الذاتيان, والثاني هو محبة المحبوب بحسب ذاته, وهذا الأخير ينقسم على عشرة أقسام, بحسب المبادئ والغايات. خمسة منها هي مقامات للمحبين السالكين وهي: الألفة والهوى والخلّة والشغف والوجد.(1) وخمسة هي مقامات للعشاق السالكين وهي: الغرام والأفتتان والوله والدهش والفناء.(2) علما أن المحب عنده, هو المريد, بينما العاشق هو المراد, وقد مر بنا سابقا,
الفرق بين المريد والمراد عند الشيخ عبد القادر.
الفرق بين حالي الجمع والتفرقة
ويشترط أبن الدباغ, كسابقيه, في المحب, أن لا يتوقف عن الترقي في مقامه, لأنه إذا ما شاهد من محبوبه صفة, فتوقف معها, كان ذلك عين حظه منها, وحجب بها عن الزيادة, بينما المطلوب منه أن يتواصل مع مقامه, حتى يبلغ حالة الدهش, التي تذهل معها النفس عن عالم الحس, بل عن عالمها الخاص بها, وهو مقام الحرية. ومعنى الحرّ عند الصوفية, هو الذي لا يسترقه شئ من الأكوان والأعراض, بل لا يسترقه شئ غير محبوبه, فهو بالأضافة إلى الأكوان حر وبالأضافة إلى المحبوب عبد, إذ المحب مطلقا, هو الفقير مطلقا, والمحبوب مطلقا, هو الغني مطلقا. وعند هذه النقطة فقط, يتحقق للعبد مقام العبودية الحقة التي لم يبلغها إلا النبي محمد (r) وعند هذه المرحلة بالذات يزول الشوق عن المحب, لأنه بلغ الوصول, وتنتفي الحاجة إلى المقامات والأحوال لأنه أصبح من الكاملين.(1) على أنه في كل الأحوال, فأن المحب لا يعدم في نفسه أحدى الحالتين فأما أن يكون في حالة جمع, أو في حالة تفرقة, الأولى يكون فيها فانيا عن نفسه موجودا بوجود محبوبه, لأنه أن فني عن نفسه, فقد فني عن سائر العالم, إذ إن نفسه هي أقرب الأشياء أليه وفي هذه الحالة, يرى المحب محبوبه في كل شئ ويسمع كلامه من كل شئ, ولا يختص أدراكه له بشئ دون شئ, لا يبقى فيه جزء وهو خال عن حبيبه, والأشارة هنا إلى وحدة الوجود. أما الثانية, أي حالة التفرقة, فيكون فيها المحب ناظرا إلى نفسه, أي يكون خارج حدود ساحة الفناء, وهو حالة الوجود الجديد الذي مر ذكره عند الشيخ عبد القادر.(2) ومنكل ما سبق يمكننا أن نخلص, إلى أن مفكري الأسلام, من بقاع الأرض المختلفة, ومن مختلف المشارب والمذاهب والأتجاهات, قد خاضوا في موضوع الحب, سواء منه الحب الإنساني أم الحب الإلهي, ولم يتحرجوا منه ولم يعدوه خروجا عن الملة ولا مروقا على الدين, وأن هذا المفهوم – أي مفهوم الحب – أزداد البحث فيه, نموا ودقة وتفصيلا, مع تعاقب القرون على الحضارة الإسلامية, بحيث أننا نجد أن مفكرا كأبن الدباغ وهو من القرن السابع الهجري, يفصّـل
يفصّل الكلام كثيرا في هذا الموضوع, إلى درجة إنه يذكر له مرادفات ومشتقات كثيرة جدا, ويذكر لكل واحد منها تعريفا دقيقا أو شرحا مفصلا, لا نجد له مثيلا في (القرون الأولى) من عمر الحضارة.
مشروعية الحب الإلهي
إذن, فلا يمكننا أن نعد الحب الإلهي, أمرا طارئا على الفكر الإسلامي, كما حاول أن يذهب إلى ذلك بعض المستشرقين ومن تبعهم بأحسان من الدارسين العرب, إذ نسبوه تارة إلى الأفلاطونية المحدثة, وأخرى إلى الدين المسيحي أو إلى الحضارة الهندية, أو الحضارة الفارسية, أو إلى غير ذلك من المصادر التي نسب أليها أروع نتاجات الحضارة الإسلامية, وكأن الإنسان العربي, على وفق هذه النظرة, كان عاجزا عن أن يحب ربه, إلا أن يرى غيره يفعل ذلك.
إن ذكر الحب كعلاقة تربط بين العبد وربه أو بين الرب وعباده, وردت كثيرا, وبشكل صريح, في مواضع متعددة من مرتكزي الدين الإسلامي, أي الكتاب والسنة, ففي القرآن الكريم, ورد قوله تعالى: (يحبهم ويحبونه)(1) وهذه الآية, تشتمل على إشارتين هامتين إعتمد عليهما الصوفية كثيرا في تأصيلهم لنظرية الحب الإلهي, الأولى أن الله تعالى يحب عبده مثلما العبد يحب إلهه, والثانية هي: إن حب الله عبده سابق على حب العبد مولاه, فالعبد لا يمكنه أن يحب ربه, إلا بعد أن يأذن له ربه بذلك, بأن يحبه أولا. وكذلك ورد قوله تعالى: (والذين آمنوا أشد حبا لله)(2) وهذه الآية تتضمن الأشارة إلى وجود مراتب للمحبين, وأن فيهم من هو أكثر حبا لله تعالى من غيره, وكذلك فهي, تؤكد المجاهدات الروحية والسلوك الصوفي بوجه عام. وأما قوله تعالى: (إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين).(3) فأن فيه تأكيد على أن التوبة والتطهير, هما من شروط المحبة الإلهية, وهما أيضا من دلائل المجاهدات والترقي في مقامات الروح.
وأما في السنة, فقد ورد قوله (r): (لا يؤمن أحدكم حتى يكون الله ورسوله أحب أليه من سواهما).(4) وهذا الحديث أيضا يضع حب الله ورسوله (r), شرطا للأيمان. وكذلك قول الرسول
(r): (من أحب لقاء الله, أحب الله لقاءه, ومن لم يحب لقاء الله, لم يحب الله لقاءه).(1) وهو حديث يتضمن التصريح بأعلى درجات القرب, وهو تحقق اللقاء, أما كيفية هذا اللقاء, وهل هو لقاء معنوي, يشير إلى التمسك بالطاعات وترك المعاصي, أم هو لقاء حقيقي, ينعم به الله تعالى على المقربين من عباده؟ فهذا ما أختلف عليه المفسرون, كل حسب مرجعياته الفكرية والمنهجية. وأخيرا نذكر قوله (r) في الحديث القدسي: (لا يزال عبدي يتقرب اليّ بالنوافل, حتى أحبه, فأذا أحببته, كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي عليها).(2) وهذا الحديث يؤكد, عليه أغلب الصوفية, ويذكرونه كثيرا في أستشهاداتهم, لأنهم يرون فيه صراحة العبارة, في تأكيد كرامات الأولياء وكذلك تأكيد قولهم بالوجود الجديد الذي يؤول أليه العبد بعد تمكنه من درجة القرب من مولاه, وفيه أيضا إشارة إلى مرتبة الخلافة العظمى.(3)
إختلاف الآراء في الحب الإلهي
في تاريخ الفكر الإسلامي, بعامة, كانت مواقف المسلمين من موضوع الحب الإلهي قد تباينت تباينا ملحوظا, إذ أنكره بعضهم متذرعا بأستحالة حصول المناسبة بين الخالق والنخلوق, لإان هذه المناسبة, تعد شرطا لازما لأثبات صحة المحبة, ويرى أصحاب هذا الرأي, أن ما ورد من نصوص, في الأسانيد الشرعية, مما يشير إلى موضوع الحب الإلهي, لا يعدو كونه, في حقيقته ضربا من ضروب المجاز البلاغي والتمثيل اللغوي, وإن الله عز وجل, وعلى خلاف الظاهر من هذه النصوص, لا يحب ولا يُحب, لأن المحبة, وبكل أشكالها وصورها, لها من اللوازم والتبعات, مما لا يليق بالذات الإلهية, مثل الشوق والأنس والألتذاذ, ونحو ذلك من الصفات والنوازع مما يجدها المخلوقون, ومما يجب أن تتنزه عنه الذات الإلهية, بحكم صفة الألوهية التي تستوجب الغنى
والعزة والصمدانية.(1)
طائفة أخرى من مفكري الإسلام, أقرّت صحة الحب الإلهي, وأخذت به, ولكنها أولته تأويلات هي أقرب إلى الفهم الأخلاقي الظاهري منه إلى الفهم الصوفي الذي يصل بالدلالات إلى أقصى مدياتها الظاهرية والباطنية – فأن المراد من الحب الإلهي, على وفق رأي هذه (الطائفة), هو الطاعة والعبادة والشكر من العبد تجاه الرب, والكلاءة والرحمة والحفظ من الرب تجاه العبد, ويضيف أصحاب هذا الرأي, أن أقصى ما يمكن أن نفهمه من المحبة هو: أنها أحدى الصفات التي وصف بها الباري تعالى نفسه, وعليه فلابد من الأعتقاد بها, ولكن من دون النظر في ماهيتها أو كيفيتها.(2) وهذا الرأي يشتمل على موازنة (أشعرية) قد لا يرضى بها الكثير من المأولين والباحثين عمّا وراء الكلمات والسطور.
المتصوفة من جهتهم, لم ينكروا شيئا من معاني الحب الإلهي ومدلولاته, بل هم يعدونه حقيقة واقعة, يمكن أن تعاش, وقد أختصوا بها وجربوها وعرفوها من خلال خلواتهم ومناجاتهم, ومن خلال مواجيدهم وأحوالهم. وفوق ذلك, فهم يرون أن هذه المحبة, هي علاقة متبادلة بين الله تعالى وعباده, فالله تعالى, من جهته, يشتاق للعبد المخلص, ويطلب قربه, كما أن العبد يشتاق أليه ويطلب القرب منه, والله تعالى يناجي العبد ويغار عليه في أن لا يخالج قلبه شيئا سواه, كما يناجي العبد ربه ويغار عليه, طمعا في مزيد من القرب والنور والرضوان, والى غير ذلك من صفات المحبة ولوازمها.(3) والصوفية لا يستغربون من منكري المحبة عليهم, بل هم يعذروهم لأعتقادهم, بأن المحبة, مثلها مثل سائر أحوالهم, لا يمكن شرحها وتفسيرها ولا التعبير عنها لغير من ذاقها وأحسّها, إذ إن فاقد الشئ لا يعطيه.
وقبل الدخول في موضوع الحب الإلهي عند الشيخ عبد القادر, لابد من تسليط الضوء على بعض الجوانب التاريخية المتعلقة بهذا الموضوع إذ يمكن القول: إن الحب الإلهي بوصفه عنصرا أساسيا
من عناصر التصوف الإسلامي, قد برز بشكل مبكر جدا من تاريخ هذا الفكر, وظل ملازما له مع تعاقب خطواته ومراحله وأطواره, ولعل في هذه الحقيقة, دلالة واضحة على أهمية الحب في الفعالية الصوفية برمّتها. لقد رفع روّاد حركة الزهد, الحب الإلهي شعارا لهم, فهذا خُليد العصري,(1) كان ينادي في أهل زمانه وبأعلى صوته فيقول: يا أخوتاه, هل فيكم من أحد لا يحب أن يلقى حبيبه؟ لا فأحبوا ربكم وسيروا أليه سيرا كريما. وهو نداء, فيه دعوة إلى أفشاء الحب الإلهي بين الناس, وجعله وسيلة مثلى للتقرب إلى الله تعالى. وكذلك الحال مع كهمس القيسي (ت 149هـ ) الذي أشتهر بصيحته التي طالما كان يطلقها في جوف الليل: أتراك معذبي وأنت قرة عيني يا حبيب قلباه؟ وهو قول, رغم طروحاته البسيطة إلا أنه يدل على أعتياد عبّاد ذلك ذلك العصر على تعاطي مثل هذه المفاهيم. ثم نذكر عتبة الغلام (ت 164هـ ) الذي يعد من الدعاة الأوائل, الذي يستوس معه, البذل والمنع والرحمة والعذاب ويتبين ذلك من قوله: إن تعذبني, فأني لك محب, وإن ترحمني فأني لك محب. وهي عبارة, تفوق سابقتيها, جرأة ودراية بهيمنة سلطان الحب. ولا يسعنا, في هذه الرحلة العاجلة, ‘لا أن نعرّج على ذكر العاشقة الإلهية الشهيرة, رابعة العدوية(2) التي كان لها كلام عجيب وأشعار رائدة في الحب الإلهي, أشهر من أن تذكر, ثم نأتي أخيرا على ذكر زعيم الحركة الزهدية الثاني بعد شيخه الحسن البصري (ت 110 هـ ) وهو حبيب العجمي (ت 200هـ ) والذي كان مفرط الصراحة في حبه لربه إذ يقول: وعزتك, إنك لتعلم أني أحبك.(3) فهذا إذن, مسح أولي سريع, لمدة من عمر حركة الزهد في الإسلام, تناهز الخمسين عاما, تبين لنا من خلالها إن عدوى الحب التي أصابت أول القوم, لم تلازم نظرائهمن بعده فحسب, بل أنها نمت وتفرعت حتى أثمرت ما أثمرته من نظريات الفناء ووحدة الشهود ووحدة الوجود وغيرها فيما بعد.
الحب الإلهي عند الشيخ عبد القادر
بالرغم من تصدر الشيخ عبد القادر, للأفتاء على مذهب أبن حنبل, فأنه كان في تعريفه للمحبة, يتبنى موقف الصوفية ورؤيتهم بالكامل, فهو يقر بالمحبة الإلهية, بطابعها المفعم بالشوق والهيام والسكر والحنين إلى اللقاء. إنها عنده: أحساس متلبس بالقلب, يشعر به كل من جربه وذاقه, فهي أذن ليست قولا نظريا ولا تأويلا كلاميا أنها معاناة حقيقية, وتشويش تلمسه القلوب من جانب المحبوب, فتصير الدنيا على المحب كحلقة خاتم لضيقها.
فهذه إذن, أول مغازي الشيخ عبد القادر, لقلاع الحب, وهو فيها, لم يأخذ من الحب صنفا ويترك الآخر, بل عرّفه تعريفا ينطبق على كل أشكاله التي عرفها بنو البشر, ويرضى به كل العاشقين في الأرض وبمختلف أصنافهم. إن أبلغ مصداقية للحب, عنده, تتجسد في كونه معاناة وجدانية يتقلب فيها المحبون, ولكن هذه المعاناة, تتفاوت في الصدق, تبعا للجهة التي تحن أليها القلوب, ولا شك في أن محبة الله تعالى, هي أشرف تلك الجهات وأوفرها حظا من الحقبقة واليقين.
والحب عند الشيخ عبد القادر, لا يقاس بالعقل, ولا بحكمه وأدواته, لأنه سكر لا يشوبه صحو أي بمعنى أنه ينمو على أرض تغيب عنها سلطة العقل وحكمه, ولا يعني هذا الكلام, أتهام المحبين بالجنون, ولكنه يشير إلى طبيعة الحب المغايرة لمنطق العقل والتي قوامها العاطفة المحضة, ولعل الشيخ عبد القادر, في رأيه ذاك يتخذ موقفا مناقضا تماما, لموقف مناهج التصوف الأشراقي, التي هي بالتأكيد تؤمن بخلاف ذلك.
ويمتاز الحب أيضا, عند الشيخ عبد القادر, بأنه عطاء مطلق وتوجه كلي إلى المحبوب, بالروح والقلب وكل الحواس والجوارح, وفي السر والعلن, وأيثار المحبوب على الذات وكل شئ آخر سواه, بأختيار تلقائي وبإرادة فطرية وليس بإرادة متكلفة والحب هو العمى عن غير المحبوب غيرةً عليه والمعمى عن المحبوب هيبة له, (فهو عمى كله, والمحبون سكارى, لا يصحون أبدا إلا بمشاهدة محبوبهم, مرضى لا يشفون إلا بملاحظة مطلوبهم, حيارى لا يأنسون بغير مولاهم ولا يلهجون إلا بذكره ولا يجيبون غير داعيه).(1) لقد جمع الشيخ عبد القادر, في هذا التعريف المركب, كل مظاهر الحب وأشكاله, وهو أبتداء يميل إلى تصنيفه بكونه حالا من الأحوال الصوفية وليس بكونه مقاما, لأن المقام يفترض الإرادة والسعي والقصد والدراية, وهذا الحال لا يصيب القلب إلا في مرحلة متأخرة من مراحل السلوك, لأنه يتطلب التوجه بالكلية نحو المجبوب, وهو ما يفترض الأخلاص والفناء الشهودي والفناء الوجودي, وهي كلها مقامات تخص الواصلين من أهل السلوك.
ولكي يستمر الشيخ عبد القادر, على مواظبته على ربط مفاهيمه الصوفية بعجلة الشرع الإسلامي فأنه يؤكد على أن أساس محبة الله تعالى والقرب منه, هو طاعته وأتباع أوامره, وما البعد عنه, في حقيقته, إلا بمخالفته وعصيانه, وهذا ما يتجلى عنده بوضوح, في تفسيره خطيئة آدم (u)
كانت هي أول الحجب التي حجبت آدم عن ربه,(فحضرة الله تعالى طاهرة, لا توطأ بأقدام لوثتها مخالفة المحبوب, وأن من أوكد أسباب الهجر هو: أنك لا تطيق أن تقيم في دار عصيت فيها صاحبها).(1) إذن فالمحبة الإلهية تحتاج إلى سعي وجهد من العبد أولا,(2) ويتم ذلك بجلو البصائر إبتداءً, والبصيرة, هي غير البصر, لأنها مدفونة في أعماق مكامن النفس, وأن إخراجها من الأمكان إلى الوجود, يحتاج إلى صبر ومشقة بحيث تكشف عنها الكثير من براقع الغفلة وكذلك الحال مع القلوب الصدئة, حيث لابد أن تصقل مراياها, كي تلتقط جواهر المعاني الربانية, وان تنقى الأرواح, حتى تستوحش في مساكن هذه الأشباح, وان تخرج العقول من ديار هياكل الطين وتنقل إلى أطوار مراتب القدس, وأما الهمم فيجب أن لا تسعى إلا إلى جنات جلال الوحدانية الحقة.(3) وفي الخلاصة فأن قلب المؤمن إذا كان هو عرش الرحمن, وأن الرحمن يحل في عرشه متى وأين شاء, فأن هذا لا يمنع العبد من أن يطهر هذا العرش ويزينه أستعدادا لقدم مليكه.
مصدر الحب الإلهي
فمتى ينبع الحب في قلب المريد, والى أين يتجه؟ أنه ينبع من مشاهدة بعض جمال المحبوب, ويتجه شوقا إلى لقائه, أما سبب هذا الحب, فهو صورة الجمال أي جمال المحبوب, الكامنة في مرايا الأرواح, والتائقة إلى ملاحقة تجليات الجمال الحقيقي. وهي أشارة إلى حياة الأرواح السابقة والتي تطلعت فيها إلى صور الجمال, ثم حُرمت بعد ذلك بأتصالها بهياكل الصلصال. وتتجسد هذ الأشارة في مواضع متعددة من أقوال الشيخ عبد القادر, فمثلا في ذكره قصة إبراهيم (u) يقول: كان طفل إبراهيم (u) مربى في مهد عهد لطف القدم تحت ظل شجرة الكرم, بروح مرّوح الفضل, بنسيم ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل حين جمع القدر ذرات الذوات وأرواح النسمات ... حتى آن أوان ظهوره في سرادق الزمان ... فنهض ينشق محيا ذاك النسيم في براري الوله يهيم طالبا للتفرد ..(4) وكذلك قوله: (إن المشاهدة هي سلاف راح يطوف بها سقاة الأزل على ندماء الأرواح في أقداح الخطاب, في مجلس الوصل, عند سدرة منتهى الأمل, فوق غاية منى العارفين
تحت ظلال جـلال القدم...)(1) وكذلك قوله: (خرجت بعض طيور الأرواح من أنقاض الصدور, تتلمح أثرا من مطارها القديم, تستنشق نسمة من مهب التكليم تتذكر عيشها في ظل أثل الوصل, تشكو جواها بعد بعاد الأحباب).(2) ثم قوله الذي يفصح عن هذه المسألة أكثر من سواه: (طافت سقاة القدم, على أرواح بني آدم, بكؤسي شراب ألست بربكم, في خلوة مجلس وإذ أخذ ربك, أسكرهم الساقي لا الشراب, سكنت تلك النشوات في ذرات تلك الذوات, حتى أنفلق صبح شرع أحمد.(3)
ولنا أن نتساءل بعد ذلك, هل الشيخ عبد القادر, وكثير غيره من متصوفة الإسلام, ممن قالوا بهذه الطريقة (الخطيرة), أي وجود الأرواح السابق على الحياة الأرضية, قد تأثروا بشكل مباشر بنظرية الهبوط الأفلاطونية, أم كان لهم في شرعهم الإسلامي ما يكفي من الأسانيد التي تسوغ نظريتهم تلك؟ ولعل أقرب الأجوبة إلى الصدق, هو الجواب الذي يجمع بين الأثرين. إذ يمكن القول: إن نظرية الهبوط الأفلاطونية قد أنتشرت بشكل سريع بين أوساط المفكرين المسلمين وأصبحت جزءا من ثقافتهم السائدة, ولكن لم يكن لهذه الفكرة (الغريبة) أن تسود, لو لم لها المسلمون في شرعهم, ما يدعمها ويسوغ الأخذ بها, فلقد ورد في القرآن الكريم, الكثير من الآيات التي تشير إلى المعنى ذاته, كقوله تعالى: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة أنا كنّا عن هذا غافلين).(4) وهذه الآية تشير صراحة إلى إقرار أرواج جميع بني آدم بوحدانية الله تعالى, قبل أتصالها بالأبدان. كذلك قوله تعالى: (وإذ أخذ ربك ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنّه قال أقررتم واخذتم على ذلكم إصري, قالوا أقررنا قال فأشهدوا وأنا معكم من الشاهدين).(5) وهذه الآية تؤكد أيضا المعنى ذاته, ثم أن مجرد ذكر القرآن الكريم قصة آدم (u), وكونه قد سكن الجنّة قبل هبوطه أو بالأحرى إبعاده عنها, وكون الجنّة تعني في أخص ما تعنيه القرب من الله تعالى, فأن ذلك سيترك الباب مفتوحا أمام أي راغب في تبني تلك (النظرية).
وقد يسهل الحكم على هذا الرأي بتهمة التوفيقية, ولكن قبل ذلك, ينبغي أن تحضر في أذهاننا حقيقتان: الأولى: أن مفكري الإسلام, بمختلف إختصاصاتهم الفكرية, سواء منهم المتكلمون أم الفلاسفة أم الصوفية, كانوا حريصين أشد الحرص, على التوافق مع عقيدتهم الإسلامية, ولم يكن من السهل عليهم التفريط بها, كما توحي بذلك أغلب الدراسات الأستشراقية. والثانية: هي أنه ليس من قبيل الولاء للتراث الإسلامي أو الأعتداد بالذات, أن أن نظن أن مفكري الإسلام كانوا بمعزل عن التأثيرات الفكرية والأجتماعية الوافدة عليهم أو المحيطة بهم, لأن هذا ضرب من المستحيل إذ إن أي حضارة, لا يمكن أن تنمو أو تزدهر مالم تتفاعل مع غيرها من الحضارات أخذا وعطاءً.
إن ما كنا نود أن نصل أليه, من وراء هذا الأسترسال, هو أنه ليس من الواجب علينا أن نقف من مفكرينا المسلمين, من ذوي الأبداع المشهود, موقف رجال الكنيسة في القرون الوسطى من السحرة, فنتهمهم بالهرطقة والمروق من الدين, في مقابل أية فكرة تصدر عنهم ونلمس فيها بعض الغرابة أو نشعر حيالها ببعض الأستيحاش, بينما الأجدى والأجدر, أن نبحث لهذه الأفكار, عن مسوغاتها الأجتماعية والسياسية والأعتقادية, التي أستوجبت ظهورها في حينها, ولعل هذا (الطموح) الأخير, هو الذي سيمكننا مرة أخرى من أنتاج أفكارنا الجديدة الخاصة بنا والملائمة لعصرنا إضافة إلى أنه سيمكننا من أن نقرأ مفردات تراثنا الفكري الإسلامي قراءة علمية عميقة وثرية وبعيدة عن كل أشكال التعصبات الضيقة.
أطوار الحب عند الشيخ عبد القادر
ثم نعود مرة أخرى إلى موضوع الحب الإلهي عند الشيخ عبد القادر, فهو عنده لا يهبط على قلب المريد دفعة واحدة وبصورة ثابتة لا تتغير, بل أن معانيه ودرجاته تتغير تبعا لدرجة أيمان المريد وأشتياقه وصدق الطريقة وإمتزاجها في باطنه. أن محبة الله تعالى تعني في بداية سلوك المريد, طاعته تعالى, بالأمتثال لأوامره والأنتهاء عن نواهيه, ثم بعد ذلك تعني القناعة بعطائه والرضا بقضائه ثم تعني: طلب نعمة الأفتقار إلى نواله وعطاياه, ثم أخيرا يبلغ العبد في حبه لربه مرتبة لا يطلب معها عوضا ولا ينتظر أجرا, إذ يكون شوقه خالصا للقاء محبوبه والتقرب أليه, وهو ما يمكن أن نسميه بالحب الخالص, وهو حب خاصة الخاصة , وأما قبله فهو حب العامة الذين يطلبون الأعواض ويشكرون على النعم, فهو حب المحبوب لعطائه وليس لذاته.
علاقة الحب بالشرع
وهكذا فأن المنهج الذي أختطه الشيخ عبد القادر لنفسه, لا يزال يعد (ساري المفعول) حتى مع الموضوعات التي يمكن أن نظنها بعيدة أصلا, عن ساحة الشرع وأحكامه, فالحب عنده, وكما رأينا سابقا, أساسه التمسك بشريعة النبي محمد (r), أي التمسك بالتكاليف, وليس كما يرى أ و يدعي بعضهم, بأنه مدعاة إلى ترك التكاليف والتنصل عن أحكام الدين. إن وصول القلب إلى مقام الحب لا يتم عند الشيخ عبد القادر, إلا بأداء الفرائض والصبر عن المحرمات والشبهات, ثم ترك تناول المباح في الشرع ولكن المقرون بالهوى والشهوة ووجود القلب. ولا تتوقف الشروط عند هذا الحد, بل إنها تزداد مع تعمق المريد أكثر في بحار الحب, إذ يأتي بعد ذلك دور الورع الشافي في المعاملات البدنية والقلبية, وهو شافٍ لأنه يشفي النفس من أشكال الذنوب والكدورات كافة بكونه شرطا ضروريا لبلوغ محطة الصدق في الحب الإلهي, ثم بعد الورع يأتي الزهد الكامل – أي الزهد في الدنيا والآخرة – شرطا ضروريا آخر لبلوغ المحب ذروة الحب الإلهي الخالص, الذي ليس له تعلق بشئ آخر سوى ذات المحبوب, والزهد الكامل كما يعرّفه الشيخ عبد القادر, هو: ترك ما سوى الله تعالى ومخالفة هوى النفس والشيطان, ثم طهارة القلب من الخلق في الجملة إلى الدرجة التي يستوي عندها المدح والذم والحجر والمدر.(1) وإذن, فهل يعني الحب الإلهي عند الشيخ عبد القادر, شيئا آخر سوى خلاصة السلوك الصوفي الذي يعني بدوره, الألتزام بالفرائض والنوافل والتمسك بالطاعات والخذ بأسباب الزهد والورع.
مما سبق يمكننا أن نلاحظ بوضوح, تمسك الشيخ عبد القادر, بأظهار الترابط العضوي القائم بين فقرات نظريته الصوفية, إذ لا وجود عنده, لمقام ولا حال ولا حب ولا رقي روحي, ليس له علا قة ببقية أجزاء تلك (النظرية) بل أن الكل مترابط, بعضه مع بعضه الآخر, أولا, ثم كل هذه الأجزاء مع الشريعة المحمدية ثانيا, والتي تشكل بدورها, القاعدة الصلبة التي لا يمكن الأنطلاق نحو آفاق الروح والملكوت إلا من ساحتها, وعليه, فيمكننا القول: أنه لا يمكن أن يقال عن أي شيخ ذو منهج صوفي وطروحات نظرية معروفة, أنه قد أصاب في هذه المسألة الفكرية وأستقام فيها مع ظاهر الشرع, وأخطأ في الأخرى, وأنحرف فيها عن (الصراط المستقيم), لأن البناء الصوفي برمّته, وعند أي شيخ صــوفي, ومثله في ذلك مثل أي بناء فلسفي, لابد أن يرتكز على مقدمات
وثوابت فكرية أو أعتقادية معينة, بحيث لا يخرج عنها أي جزء آخر من أجزاء ذلك البناء, وان هذا القول هو ردّ على ما جاء في كتاب (الشيخ عبد القادر الجيلاني وآراؤه الأعتقادية والصوفية).(1) والذي جاء فيه: أن الشيخ عبد القادر, قد أكثر من دعوى الألتزام بالكتاب والسنة ونهج السلف الصالح, بينما أقواله جاءت مليئة بالمفارقات وعدم الألتزام بهذه الدعوى عند التطبيق, والغريب في الأمر, إن مؤلف الكتاب, قد تبنى وبشكل منقطع النظير, آراء من أطلق عليه لقب (شيخ الإسلام),(2) دون ان يكلف نفسه عناء دراسة المرجعيات الفكرية التي كان يحتكم أليها شيخ الإسلام, أو في الأقل, دراسة العوامل السياسية والأجتماعية التي أملت عليه الأخذ بتلك الآراء المتشددة.(3) ولعل من اللطيف أن نذكر, أن مؤلف الكتاب, قد تغاضى عن تمسكه بآراء شيخ الإسلام, في فقرة واحدة فقط, وهي حين عمد هذا الأخير, في معرض ذكره هفوات أهل التصوف على أن يبعد ساحة الشيخ عبد القادر عن كل هذه الهفوات, لا بل إنه عدّه من خيرة شيوخ التصوف الذين مثّلوا التيار الصوفي النزيه, وهو سبق أن أوردناه في بداية هذا البحث.
شروط صحة المحبة
غير شروط المحبة الإلهية, يضع الشيخ عبد القادر, شروطا أخلاقية صعبة يجب توفرها في المريد السالك كي يستحق, عن جدارة, منزلة المحب, وكي يكون قلبه مفعما فقط, بحب الله عز وجل, ودون هذه الشروط, لا يكون العبد إلا دعيا مرائيا. أول هذه الشروط هو: أن لا يكون للمريد عينان ينظر بهما إلى غير محبوبه, ويتم له ذلك بأن يزيل من أمام عينيه كل ما سوى محبوبه, فالحب الحقيقي والخالص, إذا تمكن من قلب ما, فأنه يخرج منه حب غيره, بحيث يصير هذا الحب, يتشرب في جميع الأعضاء, ويشتغل به الظاهر والباطن على حد سواء, وبحيث يصير هو صورة العبد ومعناه, ويتمكن منه ويغمره حتى يهيئه لتقبل الصورة الجديدة والمعنى الجديد المغاير لمعناه الأول, فيخرجه عن العادة, وعن التمسك بالظاهر فقط من العبادات والرسوم, ويضعه في قلب التدين النابض بالأخلاص والحب والطاعة الحقيقية لله تعالى.
فأذا ما تم هذا للمريد, أحبه الله عز وجل, فأصبح مرادا بعد أن كان مريدا, وألقيت عنه أحمال طالما تُثقل كاهله, وفُتّحت أمامه أبواب طالما منعت دونه.(1)
فهذا الشرط الأول, يعني إذا: التحقيق بالأخلاص في العبادات والمعاملات وأنواع الطاعات ما ظهر منها وما بطن. والأخلاص الذي رأيناه فيما سبق, أنه يعد العامل الأساسي الذي ترتكز عليه بقية المقامات الصوفية, يعد هنا الشرط الأول الذي يستوجب قبل إدعاء الحب الإلهي الخالص.
الشرط الثاني, يدور حول ضمان صحة الحب الإلهي وهو: أن لا يقبل المحب بقلبه إلى غير محبوبه, فأن القلب إذا صدق في محبة الله تعالى, فأنه سيحجم عن الميل إلى كل ما يمكن أن يشترك مع ذلك الحب, والشيخ عبد القادر, يشتّه القلب في هده الحالة بالنبي موسى (u) حين كان طفلا رضيعا فحُرّمت عليه كل المراضع إلا ما كان قد خصص له.(2)
إن العبد لا يمكن أن يكون له أكثر من قلب واحد في جوفه, فأذا ما امتلأ هذا القلب بشاغل معين, فأنه لا يقبل معه أي شاغل آخر, فالقلب الذي أحب الخالق – والمعنى هنا موقوف حصرا على الحب الخالص – لا يمكنه بعد ذلك من أن يحب الخلق, ولا يمكن لقلب أفعم بهذا الحب أن تجتمع فيه الدنيا والآخرة, بل الأحرى بصاحب هذا القلب وهذا الحب, أن يبيع نفسه وكل ما يملكه من أجل نظرة من محبوبه أو نوال قربة منه, ولأجل هذه الغاية, يرى الشيخ عبد القادر, إن الذين يصدقون في عزائمهم, يسارعون بقطع المنازل النفسية, التي هي حجب ظلمانية, ويسرعون بطيّ مراحل الطريق من غير تلفت و(بعزم مجرد من جواذب الإرادات شوقا إلى رؤية المحبوب وولها بنيل المطلوب).(3) ويمكننا أن نلمس في هذا الشرط, أنه يرتكز, إضافة إلى الأخلاص, على الصدق في التوجه إلى الله تعالى, فالصدق وحده هو الذي يحرم على القلب المحب التطلع إلى غير محبوبه, حتى ولو وجد عند هذا (الغير) ما يحب ويشتهي, في الوقت الذي لا يجد عند محبوبه, إلا المنع والجفاء.
إن هذا الشرط, يؤكد مرة أخرى, على أن الحب عند الشيخ عبد القادر, هو أول وأهم وآخر الدوافع التي تدفع العبد إلى تحمل مشقات السلوك الصوفي, وهو وحده الذي يمكن أن يبلغ بالمريد, إلى مرحلة الصفاء التام والقرب الأبدي, إذ إن من أحب الله تعالى, فهو حتما سوف لا ينظر إلى سواه, ومن ملك الطريق الله تعالى, وصل أليه, ومن وصل إلى الله تعالى عاش في كنفه, ومن أشتاق إلى الله تعالـى أنس به وترك الأغيار, فصفا وقته مع محبوبه.(1) وهكذا فبالحب وبالتحديد, الأخلاص والصدق في الحب, يسلك الطريق ويتحقق الوصول والفناء والبقاء بالله تعالى.
شرط المحبة الإلهية الثالث هو: مجافاة النوم, فقد كذب من أدعى محبته تعالى, ثم إذا جنّ عليه الليل, نام عنه. على أن هذا الأمر المجهد, لا يكون ألا في حق المحب, الذي يتدنى في الرتبة عن المحبوب, كتدني المريد في الرتبة عن المراد. إن المحب فقط هو المتعوب, وأما المحبوب فمستريح, المحب طالب والمحبوب مطلوب, غير أن المحب والمحبوب عند الشيخ عبد القادر, قد يتبادلان الأدوار, لأنهما ليسا في مقامات ثابتة, إذ يمكن للمحب أن يكون محبوبا, فيما لو طهّر قلبه من جميع أصناف السوى, بحيث أصبح لا بديل له عن مطلوبه ولا رجوع له عن حاله, أما مقتربان هذا الوصول فتبدأ من أدمان قلب العبد وجوارحه, ذكر الله تعالى, إبتداءً من قول (لا أله إلا الله) مع مرافقة الأخلاص والصدق, ثم أنتهاءً, بعد سلسلة طويلة من المجاهدات والرياضات, إلى فقد كل الأشياء وجميع الأغيار, قيمتها عنده, لأن من صحّ حبه لله تعالى, أستوى عنده الحجر والمدر والمدح والذم, والعافية والسقم والغنى والفقر, وإقبال الدنيا وأدبارها, فمن بلغ هذه الحالة, ماتت نفسه وسكن هواه, وأنخمدت نيران طبعه وذل شيطانه, وكان أقباله على الله تعالى تاما, وصار بقلبه دربا يجوز به في وسط الخلق, إلى الخالق.(2) وكما نلاحظ, فأن الشيخ عبد القادر, لا ينثني يذكّر مريديه, حتى وهم في غمرة الحب, بالمجاهدات والأذكار وأنواع العبادات, وكأنه يريد أن يخبرهم بأنه لا مناص لهم عن ذلك, وأنه يُعد من الواهمين من ظنّ غير ذلك.
الشرط الرابع: هو أن لا يرضى المحب بغير لقاء محبوبه, لأن المحبين لا راحة لقلوبهم, ولو دخلوا ألف ألف جنّة, حتى يروا محبوبهم. هؤلاء المحبون, لا يريدون أي مخلوق, وإنما يريدون, فقط خالقهم, وهم لا يطلبون النعم, مع أفتقارهم أليها, وإنما يطلبون المنعم, يبغون الأصل لا الفرع. أنهم المحبون حقا, وهم كما يسميهم الشيخ عبد القادر, نزّاع العشائر, أي المنبوذون من الخلق والذين لا أنتماء لهم لقبيلة أو جماعة, والذين ضاقت بهم الأرض بما رحبت على غيرهم. إنهم في شغل جسيم يشغلهم عن الخلق وعن الدنيا الخلق, وعن جنتهم أرضا, إذ إن كل ذلك عندهم القيود والسجون, والدنيا بما فيها تعني لهم الهم والعذاب والحجب الظلمانية, وهم يفرون منها فرارهم من السباع الضارية.
إن هذا الشرط, لا يعدو كونه دعوة إلى الأخذ بالزهد الكامل, الذي يعني في حقيقته, عدم الرضا بغير المطلوب الحقيقي, وعند كل الصوفية, فأن من رضي بالنعمة دون المنعم, فقد أحدث شرخا في صدق توجهه, ولابد من الأشارة هنا إلى أن الصوفية, إذ يزهدون في شهوات الدنيا ونعم الآخرة, فأن ذلك لا يعني أستغناءهم عن ذلك, ولكن يعني أنهم قد وضعوا نصب أعينهم, هدفا محددا لا يحيدون عنه, إلا وهو التقرب إلى المولى تعالى, وإلا فهم لا يسكنون إلى أي ملاذ قبل بلوغهم هذا الهدف, فأذا ما بلغوا مرادهم, فعندها سيتقبلون كل ما يأتيهم من الأقسام, ولكن تقبلهم هنا, سوف لا يكون مصحوبا بالأستلاب وغفلات القلوب.
الشرط الخامس: وهذا يمكن أن نسميه بشرط فناء الإرادات, فأن من أحب الحب الخالص أو حب الخواص, فسوف لا تبقى له إرادة, لأن قانون الحب الثابت ينص على أنه لا إرادة لمحب مع إرادة المحبوب,(1) وهذا (القانون) يعده الشيخ عبد القادر, من البدائة التي يسلم بها كل محب ذاق طعم المحبة. وهو هنا في موضوع الإرادة, يربط بين الحب والفناء, إذ لا يمكن في رأيه, أن نتخيل المحب إلا فانيا في محبوبه, كالعبد بين يدي سيده, العبد المطيع طبعا الذي لا يخالف سيده ولا يعارضه في شئ, أما من لم يبلغ هذه المرحلة ولم يشرب من هذا الكأس, فليسهو محب ولا محبوب, ولا ذاق طعم المحبة ولا ذاق طعم المحبوبية.(2)
إن هذا الشرط, يفترض إضافة إلى ذوبان إرادة المحب في إرادة الحبيب, التحقق بمقام الرضا, ولنا أن ندرك أهمية الحب في الرقي الروحي, فيما لو علمنا بأن الرضا يفترض الصبر والشكر والتوكل. على أننا لو دققنا النظر في مضمون هذا الشرط, لوجدنا أن الشيخ عبد القادر, يعود فيه, مرة أخرى, إلى ربط الحب الإلهي بمعاني الطاعة والخضوع والتحقق بالعبودية المطلقة, ولكن هذه المعاني, هي غير تلك التي وجدناها في المستوى الأول من مستويات الحب, لأن الطاعة والخضوع والعبودية هنا, جاءت بعد طول مجاهدات ورياضات, فهي أصبحت إذن جزءا من السمات الروحية للمريد وليست مقصورة فقط على الطاعات والأوامر والنواهي.
الشرط السادس: هو شرط عدم التملك, فالمحب لا مال له ولا ملكية وهو في معـية محبوبه, وهذا
الشرط يعد مكملا للشرط الذي سبقه, إذ إن من محيت إرادته, لا يقول حتما: هذا لي وهذا مالي وملكي, إن المحب لا مال له ولا عَرَض ولا خزانة ولا دار أضافةً إلى محبوبه. إن الكل عنده منذور لمراده ومحبوبه, وليس هو إلا مملوك وعبد بين يدي محبوبه, وإن شرع العبودية ينص على أن العبد وما ملك لمولاه,(1) وعلى أساس ذلك وصف الشيخ عبد القادر, المحب بالذليل, لأنه لا تطال يداه أي شكل من أشكال الغرة, والتي أولها حرية الإرادة والملكية. غير أن هذا الحب وما أرتبط به من أحمال الفقر والأذلال, هو في حقيقته حال, وليس من صفات الحال والدوام والثبات, فذلة أغلال الحب, ما هي إلا أمر مؤقت, وما تلبث أن تتحول إلى حرية وسيادة, ولا يتم ذلك إلا بعد أن يصح للمحب تسليمه للمحبوب, فيعود المحبوب بعد ذلك فيسلم له ما تسلمه منه وفوضه أليه. عند هذا الحد, تنقلب جميع الأمور, فيصير العبد حرا والذليل عزيزا والبعيد قريبا والمحب محبوبا, على أن هذا التحول والأنقلاب, لا يتم بيسر من غير مشقة, بل هو يحتاج, كغيره من أحوال الصوفية ومقاماتهم, إلى كثير من كاسات الصبر ومقادير الصدق, صبر على محبة الله عز وجل, وصدق في طلبه, فيلازم بابه ولا يغادر هربا من سهام آفاته أو يأسا من القرب والنوال. وتلك حال, يصفها الشيخ عبد القادر, بأنها حال خاصة جدا, لا يعرفها إلا من ذاقها وأحتسى كأسها وأكتوى بنارها, وهي حال (لا تجئ بالصفة – أي لا يمكن وصفها بدقة – لأنها من وراء معقول الخلق وفهمهم).(2)
أن تأكيد هذا الشرط على عدم التملك, هو في حقيقته تأكيد على أزالة جميع علائق النفس بالأغيار, ومن ثم إزالة عوامل الأنانية والأثرة فيها, وهو ما تعارف الصوفية على تسميته بالتجرد الذي يعني التخلص من الصفات الرديئة. أن الصوفي يعلم بسريرته, أو من خلال مجاهداته, أن كل ما يلتحق بنفسه من هذه الصفات, أنما يحدث من جرّاء ألتصاقها بالدنيا وحاجاتها وشهواتها, وإن خير وسيلة للتنصل عن ذلك, تتمثل في إزالة هذه العلائق عنها, فالنفس في أصل فطرتها, تعد صافية نقية عالمة محبة لربها, ولكن ما يلتحق بها من جراء أرتباطها مع متطلبات الجسد وحاجاته, وذلك هو أصل النقص وفصله, وبناء على ما سبق, يمكننا أن نفهم من صوفية الإسلام, أن الزهد في الدنيا عندهم, يعد أمرا تكتيكيا أو مرحليا يجتاز به الصوفي عقبة ويقطع به طريق, ليحوز بعد ذلك على ما كان يريد وينتظر, فأذا ما تحقق له ذلك, فقد صار سيان لديه, أزهد أو لم يزهد.
الشرط السابع: ومع هذا الشرط, يعود الشيخ عبد القادر, مرة أخرى إلى تأكيد التمسك بالطاعات, لأن من كان محبا, فقد لزمت عليه الطاعة لمن أحب, وأنه لا يصدق من أدعى محبة الله تعالى إلا إذا أطاعه. أن محبة الله عز وجل لا يمكن أن تتمكن من قلب العبد, مالم يمتثل أولا إلى لأوامره تعالى, وينتهي عن نواهيه ويقنع بعطائه ويرضى بقضائه, ويذكره ذكرا صادقا متواصلا بالقلب واللسان وكل الجوارح وبالجهر والسر, ويرى السيخ عبد القادر, أن هذا الذكر الأخير, أي الذكر بالسر, هو الذي يصل بالمريد إلى حالة الفناء في ذكر محبوبه. فأذا ما وصل إلى هذه المنزلة من الحب والذكر, (باهى الله عز وجل به خلقه, وميزه عنهم بأحوال وأقوال عجيبة, لأنه حينئذٍ سيكون حق في حق, تفنى ذاته ولا يبقى في قلبه إلا الأول والآخر والظاهر والباطن).(1)
أن الذكر يوضع, عند الشيخ عبد القادر, جنبا إلى جنب, مع الطاعات والتمسك بالأوامر والنواهي, وهو تأكيد من جانبه على أن الطريق الصوفي إذا كان لا يمكن قطعه بغير واسطة الشرع, فأن طاعة الله تعالى, حق طاعته, لا يمكن أن تتحقق بغير ذكره وحبه, والذكر والحب هما من حيثيات التصوف, وعليه فلا وصول إلى الله تعالى بشريعة لا تتزيا بزي الطريقة.
الشرط الثامن: يتعلق بالتوحيد وعدم الشرك في المحبة إذ إن المحبوب في غرف المحبين لا يمكن أن يكون إلا واحدا والمحبة أحادية لا تقبل شريكا, ويكون دعيا من تظاهر بالحب, وإنشغل عن ضيفه المحبوب, أو أشرك غيره معه في قلبه, حتى وأن كان هذا الشريك مالا أو ولدا أو هوى أو رغبة, ولذلك تجد أن الذين صدقوا في محبتهم لله تعالى, رضوا به دون غيره وأستعانوا به وحده وأقتصروا عليه وأحجموا عن سواه, حتى صار الفقر عندهم في صحبته غنى, لا بل أن غناهم صار في فقرهم تجاهه, ونعيمهم صار في سقم أجسامهم وأنسهم في وحشتهم عن الخلائق, وقربهم في بعدهم عن غيره وراحتهم في تعبهم من الدنيا ويأسهم من صفوها ودوام نعيمها.(2) إن ما يشير أليه هذا الشرط يعد مطمحا يسعى كل مريد سالك إلى بلوغه, إنه التوحيد الخالص, الذي لا يشوبه أي شكل من أشكال الشرك, مهما خفي أو دق, وأننا لو تمعّنا في معنى الحب الإلهي عند الصوفية بوجه عام, لوجدنا أنه لا يعني عندهم شيئا آخر سوى كونه توحيدا من نوع خاص, لا يتمكن منه إلا الخاصة من عباد الله تعالى, وهو توحيد يشمل القلب واللسان والخواطر والعقول وكل الجوارح في آن واحد, ولذلك نرى الشيخ عبد القادر قد ألحقه مع آخر شروط الحب, ليؤكد للآخرين, أن الحب الإلهي والتصوف بوجه عام, لا يعني شيئا أكثر من توحيد الله تعالى حق توحيده.
(1) وهو أبن حزم الأندلسي (ت 456هـ ), صاحب الكتاب الشهير المتخصص في الحب (طوق الحمامة) والذي أباح فيه الحب شرعا, بكونه, ليس بمنكر في الديانة ولا بمحظور في الشريعة, إذ القلوب بيد الله عز وجل, وأن المحبة حقيقة واقعة, ولا يمكن الأنصراف عنها والتخلص منها. ص30 من الكتاب. أما ماهية الحب عنده فهي أنه أتصال بين أجزاء النفوس المقسومة في هذه الخليقة في أصل عنصرها الرفيع, لأعلى مثال أهل الفلسفة بكونها أُكر, أي (كرات) ولكن على سبيل مناسبة قواها في مقر عالمها العلوي ومجاورتها في هيئة تركيبها ص49. ومن خلال هذا التعريف, يظهر لنا بوضوح, رغم أنه حاول أن يدفع ذلك عن نفسه بلا طائل, تأثر أبن حزم, بنظرية أفلاطون في الحب والتي تعتمد على ركيزتين, الأولى وجود النفس السابق على وجود الجسد, والثانية, إن أصل النفوس هو كونها كرات كاملة أنقسمت بعد أتصالها بالأبدان, وأن حنينها الى الألتحام من جديد هو منبع الحب والشوق فيها.
(1) يفرق الصوفية بين حالي: الشوق والأشتياق فالشوق الذي هو: إهتياج القلوب إلى لقاء المحبوب, تنطفئ جذوته عند اللقاء, بل هو في زيادة مستمرة, ولذا فقد عدّ من أحوال الخواص, إذ لا طاقة لغيرهم على أحتماله. والذي يحل به الأشتياق, فأنه يهيم على وجهه حتى لايرى له أثر ولا قرار – القشيري – الرسالة – ص255.
(2) قوت القلوب – ج/2 – ص60.
(3) آل عمران/آية /31.
(4) النساء / آية / 80.
(1) عبد الرحمن الأنصاري – مشارق انوار القلوب ومفاتح اسرار الغيوب –بيروت- 1959 – ص19.
(2) الهمّة: هي الأنبعاث للمقصود صرفا, فلا يتمالك صاحبها منعها ولا يلتفت عنها – الهروي – منازل السائرين – ص86.
(3) الأنس: كما عرفه الجنيد يعني: أرتفاع الحشمة مع وجود الهيبة – الطوسي – اللمع – ص60.
(4) الهروي – منازل السائرين – بغداد – 1990 – ص89.
(1) الرسالة القشيرية – ص248.
(2) بهذا المعنى, عرّفت رابعة العدوية المحب الصادق بأنه: من لا يسكن أنينه وحنينه حتى يسكن مع محبوبه. أنظر – السهروردي – عوارف المعارف – ص507.
(3) الهروي – منازل السائرين – ص96.
(1) عبد الرحمن الأنصاري – مشارق أنوار القلوب ومفاتح أسرار الغيوب – ص78.
(2) الفتوة: أنك لا تشهد لك فضلا ولا ترى لك حقا, وهي في مستواها الأخير تعني: أن لا يتعلق المريد في مسيره بدليل وأن لا يشوب إجابته طلب العوض وأن لا يقف في شهود على رسم – السهروردي – منازل السائرين – ص61.
(3) الأيثار: تخصيص وأختيار, هو يعني أيثار رضا الله تعالى على رضا غيره – السهروردي – نفس المصدر – ص57.
(4) الرسالة القشيرية - ص 249.
(1) عوارف المعارف – ص505.
(2) سامي الكيالي – السهروردي – سلسلة نوابغ الفكر العربي – مصر – 1966 – ص42.
(3) عوارف المعارف – ص504.
(1) عوارف المعارف – ص504.
(2) المصدر نفسه – ص507.
(3) يستشهد السهروردي هنا بقول سمنون: ذهب المحبون لله بشرف الدنيا والآخرة, لأن النبي(r) قال: (المرء مع من أحب) فهم مع الله تعالى – المصدر نفسه – ص507.
(4) المصدر نفسه – ص507.
(1) حُققت هذه الرسالة على يد المستشرق – هـ . ريتر – وطبعت في بيروت عام 1959م.
(2) أبن الدباغ – مشارق أنوار القلوب ومفاتح أسرار الغيب – ص26.
(3) د. ناجي التكريتي – الفلسفة الأخلاقية الأفلاطونية عند مفكري الإسلام – ص12.
(4) أبن الدباغ – المصدر نفسه – ص22.
(5) أبن الدباغ – المصدر نفسه – ص22.
(1) جاء في تعريفات أبن الدباغ لهذه المصطلحات أن الألفة هي: إيثار جانب المحبوب على كل مطلوب ومصحوب ويستدعيها الإنسان بأستقراء محاسن المحبوب وأدامة الفكرة في لطافة شمائله وماهو عليه من بديع الصفة وغريب الحكمة الإلهية. وأما الهوى فهو: ميل القلب بالكلية إلى جهة المحبوب, والأعراض عما سواه, وتجريد القصد له في كل حين وصرف الهمة أليه, وفيه تستحكم المحبة وتشتد صورتها وينبسط سلطانها, ويستولي لاعج الشوق فيها. وأما الخلة فتعني: تخلل شمائل المحبوب في روحانية المحب, حتى تتكيف بها النفس والروح وسائر الجملة الإنسانية. وأما الشغف فهو: الكلف والولوع بالمحبوب, ويعني بلوغ الحب إلى شغاف القلب, أي أصله فيستولي عليه ويحجبه عن غيره, وجاء في قوله تعالى: (قد شغفها حبا) يوسف/30. أي حجب حبّه قلبها حتى لاتعقل سواه. فالشغف أستسلاء المحبة على القلب باطنا وظاهرا مع أحتجاب المحب عن أي أمر آخر غير المحبوب. وأما الوجد فهو: وجود ذات المحبوب وسائر صفاته الحقيقية, منطبعة في ذات المحب, أنطباعا ثابتا, بحيث لا يمكن زواله ولا يتصور أنفصاله, وأذا بلغ المحب إلى هذا الحد, فقد زال عنه الأختيار وأستوى في حقه الأعلان والأسرار وظهرت عليه آثار الشهود, فيشهد محبوبه في سائر الذوات وصفاته مع سائر الصفات, فلا يرى في الوجود سواها ولا يراها سواه. – مشارق أنوار القلوب ومفاتح أسرار الغيوب – ص32-36.
(2) يعرّف أبن الدباغ هذه المفاهيم بما ياتي: الغرام: وهو الأنتشاء من خمر المحبة, ويأتي من ملازمة الغريم للغريم وعدم مفارقته له. والأفتتان: وهو خلع العذار وعدم المبالاة بالخلق, ثم الوله: وهو حالة الحيرة, ثم الدهش: وهو الذهول أو البهتة التي تأخذ العبد إذا فاجأه مايغلب عقله أو صبره أو علمه, ثم الفناء: وهو الفناء عن رؤية النفس, وهو أن يكون العاشق لايسمع ألا بمحبوبه ولايبصر إلا به, ولا يدرك ألا به وله, ومنه فناء به عن نفسه وعن الأشياء. – مشارق أنوار القلوب ومفاتح الغيوب – ص3
(1) أبن الدباغ – المصدر نفسه – ص84.
(2) أبن الدباغ – المصدر نفسه – ص89.
(1) المائدة / 54.
(2) البقرة / 160.
(3) البقرة/222.
(4) أخرجه البخاري في صحيحه – كتاب الأيمان.
(1) صحيح مسلم – كتاب الذكر – باب من أحب لقاء الله.
(2) عن أبي هريرة – كما في صحيح البخاري – كتاب الرقاق – باب التواضع.
(3) يستند الجنيد البغدادي في تعريفه للحب إلى هذا الحديث, فالحب عنده هو: دخول صفات المحبوب على البدل من صفات المحب. أنظر – عوارف المعارف – ص508.
(1) الصمد: هو السيد المصمود أليه في الحوائج والمستغني بذاته وكل ما عداه محتاج أليه في جميع جهاته, فلا صمد في الوجود سوى الله تعالى. – إسماعيل البروسوي – تنوير الأذهان من تفسير روح البيان – الدار الوطنية - بغداد – 1990 – ج/4 – ص611. ويضيف أبن عربي, أنه لمّا كان كل ما سواه موجودا بوجوده, أي هو ليس بشئ في نفسه, لأن الأمكان اللازم للماهية لا يقتضي الوجود, فلا يجانسه ولا يماثله شئ في الوجود. – تفسير القرآن الكريم – بيروت – 1981 – ط/2 – ج/2 – ص870.
(2) الرسالة القشيرية – ص247.
(3) عفيفي – التصوف الثورة الروحية في الإسلام – ص195.
(1) لم نعثر في ترجماته على تاريخ وفاته, ولكن من المؤكد أنه توفي في النصف الأول من القرن الثاني للهجرة.
(2) رشيد سالم الجراح – رابعة العدوية شهيرة الحب الإلهي – بغداد – 1988 – ص73 فما بعدها.
(3) د. كامل مصطفى الشيبي – صفحات مكثفة من تاريخ التصوف الإسلامي – بيروت – 1977 – ص64-65.
(1) التادفي – قلائد الجواهر في مناقب الشيخ عبد القادر – ص88.
(1) الشطنوفي – بهجة الأسرار ومعدن الأنوار – ص26.
(2) على أن هذه العبارة لا تتنافى مع قول الشيخ عبد القادر أن المحبة من الأحوال, إذ إن جميع الأحوال, وعلى الرغم من كونها مواهب رحمانية, تستوجب إستعداد العبد بتصفية نفسه بالطرق المعهودة في التصوف.
(3) الشطنوفي – المصدر نفسه – ص32.
(4) الشطنوفي – المصدر نفسه – ص33.
(1) الشطنوفي – بهجة الأسرار ومعدن الأنوار – ص39.
(2) الشطنوفي – المصدر نفسه – ص42.
(3) الشطنوفي – المصدر نفسه – ص70.
(4) الأعراف / 172.
(5) آل عمران / 81.
(1) الجيلاني – جلاء الخاطر من كلام الشيخ عبد القادر – ص18.
(1) لمؤلفه: د. سعيد القحطاني – الرياض – 1997م. وهو في الأصل رسالة دكتوراه صادرة عن جامعة أم القرى.
(2) ويعني به أبن تيمية .
(3) سعيد القحطاني – المصدر نفسه – ص507 فما بعدها.
(1) الجيلاني – الفتح الرباني والفيض الرحماني – ص250.
(2) الجيلاني – جلاء الخاطر في كلام الشيخ عبد القادر – ص17. وهو هنا يشير إلى قوله تعالى: (وحرمنا عليه المراضع من قبل) القصص / 12.
(3) الشطنوفي – بهجة الأسرار ومعدن النوار – ص28.
(1) الشطنوفي – بهجة الأسرار ومعدن الأنوار – ص69.
(2) الجيلاني – جلاء الخاطر في كلام الشيخ عبد القادر – ص18.
(1) يقول الشيخ عبد القادر: أن معنى تلاشي إرادة المحب مع حضور إرادة الحبيب يعني أن لا يشتغل المحب عن محبوبه بدنيا ولا آخرة ولا خلق – أنظر – الفتح الرباني والفيض الرحماني – ص90.
(2) الشيخ عبد القادر – جلاء الخاطر من كلام الشيخ عبد القادر – ص19.
(1) الشيخ عبد القادر – جلاء الخاطر من كلام الشيخ عبد القادر – ص19.
(2) الشيخ عبد القادر – المصدر نفسه – ص19.
(1) الجيلاني – جلاء الخاطر من كلام الشيخ عبد القادر – ص20.
(2) الشيخ عبد القادر الجيلاني – الفتح الرباني والفيض الرحماني – ص143.
الجوانب النظرية
أ- الحب الالهي
ب- وحدة الشهود
ج- الانسان الكامل
- الحب الإلهي
تعد الحضارة العربية الإسلامية, من بين أكثر الحضارات, إهتماما بموضوع الحب بكل أشكاله ومستوياته التي عرفها البشر, ومن خلال جميع أصناف الفكر التي أفرزتها هذه الحضارة, من دين أو أدب أو فلسفة, حتى أننا لا نعدم فيها, فقهيا, ظاهريا, يؤلف كتابا مستقلا في هذا الشأن.(1) وقد كان المرتكز الأهم, لموضوع الحب, لكل أنواع الإبداع الفكري, هو الشعر العربي, الذي لم يغادر, صغيرة ولا كبيرة, ولا لونا من ألوان الحب, سواء الحسي منه أو العفيف, إلا وذكره بأدق تفصيلاته ومعانيه, إلى درجة, أن الصوفية أنفسهم, وهم أهل الحب الإلهي دون منازع, لم يجدوا مندوحة, من الأستعانة به, في توضيح بعض مقاصدهم, وبخاصة, ما يتعلق منه بالحب العذري, وبالأخص شعر مجنون ليلى.
في الحقل الديني, شكّل حب العبد ربه, وطلب التقرب منه, الوازع الأكبر الذي دفع بكثير من عبّاد المسلمين وزهادهم, إلى تحري الوسائل والسبل الكفيلة بتحقيق هذا الهدف ونيل هذا المراد, وكان من بين نتائج هذا (التحري) والتعمق في خطرات القلب وفي لطائف أسراره, أن ظهر الفكر الصوفي الإسلامي, الذي ظلّ, هاجس الحب الإلهي, ملازما له, طوال مراحله وأطواره المتعددة, ولكن, بالتأكيد, مع نضج ملحوظ, ودقة متميزة في التعامل مع لواعجهة وهمومه ونوازله, وكانت هذه الملازمة, بين الحب الإلهي والتصوف الإسلامي, وهي نتيجة لازمة, لأعتقاد أغلب الصوفية, بأن سلوك الطريق الصوفي, وهو الذي سيهدي قلوبهم, حتما إلى مزيد من الحب لمولاهم, وثم إلى مزيد من طلب العزلة, والتفكر فيه والأختلاء معه, وهذه الأمور كلها, تعد في نظر المحبين شروطا تدل على صحة المحبة وصدق الأشتياق.(1) وهو معنى قول أبي طالب المكي (ت 358هـ): (أن من علم المحبة, سهر الليل بمناجاة الجليل والحنين إلى الغروب, شوقا إلى الخلوة بالمحبوب, ومناجاة سرائر الوجد, ومطالعة الغيوب).(2) وكما نلاحظ, فأن الحب, أنّى توجه, نحو السماء أم نحو الأرض, فأنه سيستوجب الأشراط ذاتها, من سهر وحنين وإشتياق إلى المحبوب, حتى وأن كان هذا المحبوب, هو الله تعالى ذاته.
إن كل سعادة, ترتجى, من جرّاء التعلق بأي محبوب, سوى الله تعالى, يرى الصوفية, أنها صورة وهمية للسعادة الحقيقية التي لا تخضع للتغير أو الزوال, وهي السعادة المصاحبة لمطالعة الجمال المطلق, جمال تجليات الحضرة الإلهية ولقد وجد الإنسان المُحب, أن هاجسه الملّح, إلى أمتلاك الحقيقة المطلقة, وبلوغ السعادة المطلقة, والبقاء المطلق, لا يمكن تحقيقه, إلا من خلال السلوك الصوفي, الذي أساسه المحبة الإلهية, والتي تنبثق بدورها من عمق معرفة العبد بربه, ولأجل ذلك, سمّي الصوفية بالعارفين, لأنهم أكثر الناس معرفة بربهم, فلقد خلصوا له وأختصوا به وتفكروا في خلقه وقدرته وعظمته, وأن معرفتهم تلك, هي التي أفضت بهم إلى الحب الإلهي, وليس العكس, إذ لا حب قبل المعرفة.
وفي ساحة السلوك الصوفي, فأن المحبة هي أصل جميع المقامات والأحوال, فهي أصل التوكل والشكر والصبر والرضا, وكذلك فهي أصل الشوق والخوف والرجاء, على أن التمكن من المحبة الإلهية, على الحقيقة, لم يختص به سوى سيد الخلق أجمعين, محمد (r) فهو حبيب الله تعالى بلا منازع, وهو صاحب مقام الحب أصالة, وكل من أخذوا بأسباب الحب بعده, فهم عيال عليه, وهو قدوتهم فيه, ولقد أعطي من أسرار هذا المقام, ما لم يعط غيره من الأنبياء (u) ولتحققه به, فقد قال تعالى في حقهقل إن كنتم تحبون الله فأتبعوني يحببكم الله)(3) وقوله تعالىمن يطع الرسول فقد أطاع الله)(4)
إذن، فقد جعل ألله تعالى، محبته في محبة نبيه، وطاعته من طاعة نبيه، وما ذلك إلا لأنه وفَرَ نصيبه من نوره الذي أفاضه على العالم، بواسطته، ولذلك سماه: نوراً وسراجاً منيراً وجعله رحمةً للعالمين، وبذلك النور، كان (ص) يدعو الخلق إلى ربه تعالى، ليوصلهم بالنور إلى النور .(1) وهكذا هي دائماً، نظرة الصوفية للأمور، فعندهم, ليس بالعقل ولا بالحجج والبراهين, ولا بحفظ الأقوال والأكثار من الرسوم والحركات, يصل الإنسان أو يتقرب من ربه, وإنما هو يصل بنور البصيرة, والحب الذي هو أداة القلب الوحيدة في التقرب إلى الله تعالى.
تعريف الحب عند الصوفية
عرّف الحب الإلهي عدة تعريفات, وهذه التعريفات بمجملها, لا تعدو كونها تعريفات للفعل الصوفي, بعموم معناه, ومن هذه التعريفات, إن الحب الإلهي يعني: تعلق القلب بين الهمّة(2) والأنس(3) في البذل والمنح, على الأفراد. وهو أول أودية الفناء, لأن العبد إذا لم يفعم قلبه بحب مولاه, فسوف لا يتمكن من خلع صفاته ونسيان ذاته في مقابل صفات وذات حبيبه. وحب الله تعالى, هو العقبة التي ينحدر منها المريد على منازل المحو, وكونه عقبة, فأن هذا يعني أنه صعب المنال, إذ إن على محرابه تُذبح الكثير من الصفات والأهواء والطبائع غير الملائمة, وهذا مما يعسر على النفس الإنسانية تقبله. والحب الإلهي, هو: آخر منزل تلتقي فيه مقدمة العامة مع أولى خطوات الخاصة, إذ إن كل الناس يتقربون إلى الله تعالى بأنواع القربات, وأما الحب, فقليل من عانة الناس من يتعاطاه, وأما الخاصة منهم فهو أول منازلهم, وكما أنه في الوقت نفسه آخرها, والحب الإلهي هو سمة الطائفة – أي الصوفية – فهم أهل الحب الإلهي, وهو عندهم عنوان الطريقة, لآن طريقة هي طريقة وصول وتقرّب إلى المولى تعالى, ولا وصول ولا تقرب بغير وازع الحب, والحب الإلهي هو معقد النسبة, أي أنه عامل تقريب المناسبة بين العبد وربه إذ لا وسيلة مثله, ترقق النفوس وتجلي القلوب وتحسن الطبائع.(4)
أما القشيري, فهو في معرض تعريفه للحب الإلهي, يردّ أولا على العلماء – أي أصحاب النظــر العقلي من المتكلمين والفلاسفة – الذين يرون أن المحبة هي الإرادة, وهذا هو غير مُراد الصوفية, إذ إن الإرادة لا تتعلق بالقديم, اللهم إلا أن يُحمل المعنى على إرادة التقرب إليه تعالى والتعظيم له, يرى القشيري: إن المحبة لا توصف بوصف ولا تحد بحد أوضح ولا أقرب إلى الفهم من المحبة نفسها. وهنا أشارة لطيفة من القشيري إلى أن المحبة, عموما, لرقتها وشفافية الإحساس بها, وتعلق القلوب الصافية بها, مثلما لا تتعلق بشئ آخر سواها, فأنه يصعب وجود مثيل لها, تُعّرف به أو من خلاله, ولذلك كان أشبه شئ بها, هو المحبة ذاتها, ولعل في هذه الإشارة جانبا معرفيا, فكون المحبة إحساسا ذوقيا وتجربة معاشة, فأنه يعسر وصفها إلا لمن ذاقها وأحس حرّ لواعجها, ويحاول القشيري أن يدلنا على مقاربة وصفية لمعنى الحب الإلهي من خلال العودة إلى الأصول اللغوية لكلمة الحب, والتي تعني أولا: صفاء المودة فالعرب تقول لصفاء بياض الأسنان ونضارتها: حَبَب الأسنان, وقيل الحُباب هو: ما يعلو الماء عند المطر الشديد وقيل أيضا أن الحب مشتق من حباب الماء, بفتح الحاء وهو معظمه, فسمي بذلك لأن المحبة هي غاية معظم ما في القلب من المهمات, وقيل أن أشتقاقه مأخوذ من اللزوم والثبات, إذ يقال: أحبّ البعير, أي أنه برك فلا يقوم, فكان المحب ل يبرح بقلبه عن ذكر محبوبه, وأخيرا فأن المحبة في التعريف بها تعني: غليان القلب وثورانه عند العطش والأهتياج إلى لقاء المحبوب.(1) ولعل القشيري, بعودته إلى الجذور اللغوية لكلمة الحب, أراد أن يدلنا على ما أشتملت عليه هذه (الجذور) من المعاني التي كان يطمح الصوفية في أن يعبّروا عنها من خلال حبهم الإلهي, ولعله أراد أن يخبرنا بأنهم – أي الصوفية – لم يبتدعوا شيئا جديدا, ولم يقفزوا على واقعهم البشري, بل هم أحبوا ربهم, وعبّروا عن حبهم, مثلما يفعل كل المحبين من البشر, مع أختلاف موضوعاتهم وتفاوت غاياتهم.
وفي الأصطلاح الصوفي, يحصي لنا القشيري, عدة تعريفات للحب الإلهي, فلقد عُرّف بأنه الميل الدائم بالقلب الهائم.(2) وهذا التعريف يميل إلى عد الحب من المقامات وليس من الأحوال, فالحب يعتمد على أستمرارية ميل القلب إلى الحبيب, وأن الذي يدفعه إلى الأستمرار في هذا الميل, هو الهيام الذي يخالطه, فإذا ما عرفنا أن الهيام يعني ذهاب التماسك تعجبا وحيرة,(3) لعلمنا أنه ناتج من فعـل مطالعة العبد في عظمة الملكوت.
وعرّف الحب بأنه: أيثار المحبوب على جميع المصحوب, وهو مقام التفرد والفناء عن كل السوى بما فيه النفس, لأنها أيضا من المصحوبات. ويعني الحب أيضا: موافقة الحبيب في المشهد والمغيب, وهذا التعريف يقترب كثيرا من حدود مقام المراقبة, وهو مقام المحبين المحققين, وهو يعني, علم القلب بدوام شهود المحبوب له, فهو – أي المحب – دائم الأطراق مستجمع الهمّ, شديد الفكر في المحبوب, معرض عما سواه.(1) ويعرّف الحب أيضا بأنه: مواطأة القلب لمرادات الرب, وهذا الحب يشير إلى مقام الفناء عن الإرادة والى التسليم والطاعة والأخلاص وحسن التوكل. ثم يورد لنا القشيري رأي أبي يزيد البسطامي (ت 261هـ ) والذي يعرّف الحب بأنه: أستقلال الكثير من نفسك واستكثار القليل من حبيبك. وهو هنا يقرّب بين مفهوم الحب وبين مفهومي الفتوة(2) والإيثار(3), على أن هذا التعريف, بوضوحه وبساطته, يعكس لنا مستوى الثقافة الصوفية في القرن الثالث الهجري. وأما سهل بن عبد الله التستري ( ت 283هـ ) فقد عرّف الحب الإلهي بأنه: معانقة الطاعة ومباينة المخالفة, والمحبة عنده تعني: أن تهب كلك لمن أحببت, فلا يبق لك منك شئ. ولا داعي لأن نشير إلى مدلولات هذا التعريف, فهو واضح الأرتباط بمدارج السلوك الصوفي بوجه عام. ثم أخيرا يأتي دور أبي بكر الشبلي (ت 334هـ ) الذي يرى أن المحبة مأخوذة من المحو, إلا أنها تمحو من القلب كل ما سوى المحبوب.(4) ولعل هذه الوظيفة الأخيرة للحب هي أخص معانيه ودلالاته الصوفية, إذ لا يمكن للمريد أن يكون محبا لله تعالى, إلا بعد أن يتجرد تماما من جميع العلائق والأغيار والمطلوبات الدنيوية منها والأخروية.
المحبة الخالصة
على أننا كلما تقدمنا خطوات في الزمان (الصوفي), كلما وضعت أمامنا صورة الحب الإلهي وأتخذ معناه مستوى أكثر عمقا, فالشيخ عمر السهروردي (ت 632هـ ) وهو من تلاميذ الشيخ عبد القادر, ومن الآخذين بمنهجه الصوفي, يصنف الحب الإلهي من بين الأحوال, لا بل هو عنده
أصل لكل الأحوال الأخرى, مثلما التوبة في المقامات.(1) يسمي السهروردي المحبة الإلهية بـ (المحبة الخالصة), تمييزا لها عن غيرها من صنوف المحبة, وهذه المحبة لا تكون خالصة, إلا أن يحب العبد ربه بكليته, لأن العبد قد يكون في حال ما, وهو قائم بشروط حاله بحكم العلم, ولكن جبلته تتقاضاه بضد العلم. وعليه, فهو يشير هنا, إلى ضرورة المجاهدة الصوفية من أجل مطابقة فعل الجبلة لحكم العلم. وهذه النقطة تستحق أن نتوقف معها قليلا, إذ أن فيها إشارة إلى تفضيل التصوف العملي, الذي يتدرج المريد معه صعودا, في المقامات والأحوال, حتى يصل إلى مرحلة الفناء عن نفسه والبقاء بالله, على التصوف العقلي أو الأشراقي, الذي يعتمد على العقل والحكمة, وسيلة لأستشفاف فيض النور العلوي الذي صدرت عنه كل الأنوار الأخرى.(2) على أن الشيخ عمر السهروردي لا يطعن في مشروعية هذا السبيل الأخير, ولكنه يرى فيه وسيلة خطرة وهشة قد تنهار أماك ثورة الغرائز ويقظة الطباع.
الحب العام والحب الخاص
والحب الإلهي ينقسم عند الشيخ عمر السهروردي على قسمين, حب عام وحب خاص, الأول يتحقق بالأمتثال للأوامر الإلهية, وهو قد ينبع من العلم بالآلاء والنعم الإلهية, ويمتاز هذا الحب بأنه: يُخرج العبد من صفاته الذميمة ويدفعه نحو التحلي ببدائلها. إذن فللعبد في هذا الصنف من الحب والأرادة, فهو إذن من المقامات.(3) وأما الحب الخاص, فهو حب الذات من دون النظر إلى شئ سواها, حتى لو كان هذا السوى هو نفس المحب, فهو إذن فناء وتماهٍ, وشرط هذا الحب أن تلحقه السكرات, إذ إنه لا يكون حبا حقيقيا. إن لم يكن فيه ذلك, والسكرات هي حالات الشطح والغيبة التي تعتري الصوفية في بعض أحوالهم. هذا الحب ليس لإرادة العبد فيه يد, بل هو أصطناع من الرب وإصطفاء محض, فهو إذن من الأحوال. وأما نسبة هذا الحب إلى النوع الأول, أي الحب العام, فهي كنسبة الروح إلى الجسد, ولك أن تقرر الفرق بين (الحبين).
إذن ففي موضوع الحب, لم تختلط الأمور عند الصوفية, كما يرى ذلك البعض, بل هم يميزون بين حب الناس بعضهم لبعض, وهو عندهم حب وهمي, يدل على عدم أدراك الإرادة الحقيقية للروح البشرية, وحب العبّاد لمولاهم, وهو الحب الحقيقي المغروس في لأصل فطرتهم, وهذا الأخير يقع على درجات, حسب مراتب العباد ومجاهداتهم الروحية.(1) على أن حب العبد ربه, لا يشتمل شكل من الأشكال التجاوز على الذات الإلهية, لأنه لا ينبع من الأشتهاء والنيل التماثلي كما أن حب الرب عبده, يعد حقيقة واقعة, غير مختلفة, تدعمها الكثير من الأسانيد الشرعية التي سيأتي بيانها في حينها, وهو في الوقت نفسه لا يدل على الأشتياق النفسي لسدّ النقائص, وإنما هو يعني الواصلة باللطف والمنة والكرامة.
وهكذا فالشيخ عمر السهروردي يحدّ الحب الخاص بأنه: الخروج من الكلية, إذ إن حقيقة المحبة هي: (أن تهب لمن أحببت كلك, ولا يبق لك منك شئ).(2) وهذا يعني بلغة أخرى, أن الحب الخاص يعني التحقق بمقام الفناء الوجودي, وهو المقام الذي ما بلغه العبد, فستنتفي عنه جميع المساعي لبلوغ المقامات الصوفية الأخرى. إن الحب الخاص يعمل على تصفية النفس وتزيينها بالمعرفة والنور الإلهي, وهذا هو عين المقامات على النفس. وعليه فالحب الإلهي الخاص, هو خير وسيلة للتقرب من الله تعالى(3) إذ إنه مع نزاهة النفس وصفائها, فأن العبد يكون أقرب ما يكون من مولاه على أن (السهروردي) لا ينسى أن يذكرنا, بأن الحب في حقيقته, لا يتوقف على جهد العبد وتزكيته لنفسه, بل هو موهبة ربانية غير مرتبطة بعلة أو سبب, نعم أن تزكية النفس تقرّب الوسيلة, لا تحتمها. وأخيرا, لابد من ذكر ملاحظة مهمة, لعل السهروردي أهتم بها أو آثارها, لكونه قد تتلمذ على يد الشيخ عبد القادر, وهي: إن حب الله تعالى, بكل أشكاله ومستوياته, لا يمكن أن يلغي الورع أو يسقط عن العبد التكاليف والفرائض, وأن من أدعى محبته تعالى من غير تورع عن محارمه وأقبال على أوامره, فهو مدّع كذاب.(4)
الحب أصل الوجود
ولشدة أهتمام مفكري الإسلام بموضوع الحب, فقد تبناه بعضهم مبدأً عاما من مبادئ الوجود الكوني وليس البشري فقط, بحيث أن الحب أصبح هنا, كالنسخ الذي يسري في مفاصل الذوات كافة, حيّها وجمادها. ويأخذ بهذا الرأي المفكر المغربي, أبو زيد عبد الرحمن الأنصاري المعروف بأبن الدبّاغ (ت 696هـ ) صاحب الرسالة المشهورة: (مشارق أنوار القلوب ومفاتح أسرار الغيوب).(1) والتي يقول فيها: أن النور الذي ظهرت به الأشياء, عان في الموجودات كلها, من أعلى العليين ومنحدرا إلى أسفل السافلين, وأن بالمحبة تمت الكائنات وعنها وجدت على أختلاف الحركات, فهي كامنة في كل جوهر, وما من وجود في العالم إلا وله نصيب منها, وبحسب المحبة يكون صعود الصاعد إلى العوالم الروحانية.(2) وقبل الأسترسال مع (أبن الدباغ) في آرائه في الحب, لابد من الأشارة إلى أن آراءه تلك لا تخلو من تأثيرات أشراقية وثنوية ويونانية قديمة, وبخاصة من هذه الأخيرة, فيلسوفها (أنباذوقليس) الذي عاش وأشتهر أمره في أواسط القرن الخامس قبل الميلاد, والذي جعل من المحبة مبدأ اساسيا من مبادئ الوجود, تتكون وتتجمع فيه الأشياء.(3) إذن فقد بلغ أبن الدباغ بعامل الحب الإلهي ذروة تأثيره في الكون, بحيث أنه جعل منه سببا في وجود ماهو موجود, وميزة تدرج الكائنات في المراتب, وفقا لدرجة أخذها منها.
إن أكثر ما يلفت النظر في آراء أبن الدباغ, هو تعريفه الفريد للحب, فهو عنده: إبتهاج يحصل للنفس عن تصور حضرة ما.(4) ولنا أن نتصور فرط الشعور بالبهجة العظيمة الناجمة عن تصور الحضرة الإلهية. إذ إن مجرد التفكر في عظمة الخالق وكبريائه وعزه وجلاله, يورث النفس ألوانا من الأضطراب والأغماء والخزوج عن عالم الحس, وأمور جسيمة أخرى ربما خرجت معها روح المريد فرقا وخوفا من الله تعالى, وربما بدرت منه أمور وأفعال غير مستساغة في العقل.(5) ولعل أبن الدباغ, في هذه العبارة يحاول أن يسوغ ما يعتري الصوفية في بعض أحوالهم من فقدان الحس المؤقت والهياج والأرتجاف, وغير ذلك مما ينكره عليهم خصوصهم.
إذن فالتفكر زالتأمل في بدائع الجمال والكمال الإلهيين, هما من أقوى وأهم العوامل التي تفعم النفس بمحبة خالقها والشوق أليه. ويبدو جليا من هذه العبارة, مدى تأثير أبن الدباغ بالفلسفات الأشراقية التي كانت سائدة بين أوساط المفكرين في عصره, فهو من جانبه, يرجح الأعتماد على العمليات الذهنية لأكتساب مزيد من الحب الإلهي ومن ثم مزيد من القرب من الله تعالى.
الحب العرضي والحب الذاتي
[IMG]file:///C:%5CUsers%5Ctac%5CAppData%5CLocal%5CTemp%5Cmsohtm lclip1%5C01%5Cclip_image001.gif[/IMG]الحب عند أبن الدباغ, يقع أيضا, على قسمين: حب عرضي وحب ذاتي. الحب العرضي له تعلق بغير ذات المحبوب, مثل محبة أحسانه وطلب منافعه ودفع مضاره, وأما الحب الذاتي, فهو متعلق بذات المحبوب, وهو أيضا يقع على قسمين: ما يعقل سببه ومالا يعقل له سبب. الأول هو محبة جمال المحبوب وكماله الذاتيان, والثاني هو محبة المحبوب بحسب ذاته, وهذا الأخير ينقسم على عشرة أقسام, بحسب المبادئ والغايات. خمسة منها هي مقامات للمحبين السالكين وهي: الألفة والهوى والخلّة والشغف والوجد.(1) وخمسة هي مقامات للعشاق السالكين وهي: الغرام والأفتتان والوله والدهش والفناء.(2) علما أن المحب عنده, هو المريد, بينما العاشق هو المراد, وقد مر بنا سابقا,
الفرق بين المريد والمراد عند الشيخ عبد القادر.
الفرق بين حالي الجمع والتفرقة
ويشترط أبن الدباغ, كسابقيه, في المحب, أن لا يتوقف عن الترقي في مقامه, لأنه إذا ما شاهد من محبوبه صفة, فتوقف معها, كان ذلك عين حظه منها, وحجب بها عن الزيادة, بينما المطلوب منه أن يتواصل مع مقامه, حتى يبلغ حالة الدهش, التي تذهل معها النفس عن عالم الحس, بل عن عالمها الخاص بها, وهو مقام الحرية. ومعنى الحرّ عند الصوفية, هو الذي لا يسترقه شئ من الأكوان والأعراض, بل لا يسترقه شئ غير محبوبه, فهو بالأضافة إلى الأكوان حر وبالأضافة إلى المحبوب عبد, إذ المحب مطلقا, هو الفقير مطلقا, والمحبوب مطلقا, هو الغني مطلقا. وعند هذه النقطة فقط, يتحقق للعبد مقام العبودية الحقة التي لم يبلغها إلا النبي محمد (r) وعند هذه المرحلة بالذات يزول الشوق عن المحب, لأنه بلغ الوصول, وتنتفي الحاجة إلى المقامات والأحوال لأنه أصبح من الكاملين.(1) على أنه في كل الأحوال, فأن المحب لا يعدم في نفسه أحدى الحالتين فأما أن يكون في حالة جمع, أو في حالة تفرقة, الأولى يكون فيها فانيا عن نفسه موجودا بوجود محبوبه, لأنه أن فني عن نفسه, فقد فني عن سائر العالم, إذ إن نفسه هي أقرب الأشياء أليه وفي هذه الحالة, يرى المحب محبوبه في كل شئ ويسمع كلامه من كل شئ, ولا يختص أدراكه له بشئ دون شئ, لا يبقى فيه جزء وهو خال عن حبيبه, والأشارة هنا إلى وحدة الوجود. أما الثانية, أي حالة التفرقة, فيكون فيها المحب ناظرا إلى نفسه, أي يكون خارج حدود ساحة الفناء, وهو حالة الوجود الجديد الذي مر ذكره عند الشيخ عبد القادر.(2) ومنكل ما سبق يمكننا أن نخلص, إلى أن مفكري الأسلام, من بقاع الأرض المختلفة, ومن مختلف المشارب والمذاهب والأتجاهات, قد خاضوا في موضوع الحب, سواء منه الحب الإنساني أم الحب الإلهي, ولم يتحرجوا منه ولم يعدوه خروجا عن الملة ولا مروقا على الدين, وأن هذا المفهوم – أي مفهوم الحب – أزداد البحث فيه, نموا ودقة وتفصيلا, مع تعاقب القرون على الحضارة الإسلامية, بحيث أننا نجد أن مفكرا كأبن الدباغ وهو من القرن السابع الهجري, يفصّـل
يفصّل الكلام كثيرا في هذا الموضوع, إلى درجة إنه يذكر له مرادفات ومشتقات كثيرة جدا, ويذكر لكل واحد منها تعريفا دقيقا أو شرحا مفصلا, لا نجد له مثيلا في (القرون الأولى) من عمر الحضارة.
مشروعية الحب الإلهي
إذن, فلا يمكننا أن نعد الحب الإلهي, أمرا طارئا على الفكر الإسلامي, كما حاول أن يذهب إلى ذلك بعض المستشرقين ومن تبعهم بأحسان من الدارسين العرب, إذ نسبوه تارة إلى الأفلاطونية المحدثة, وأخرى إلى الدين المسيحي أو إلى الحضارة الهندية, أو الحضارة الفارسية, أو إلى غير ذلك من المصادر التي نسب أليها أروع نتاجات الحضارة الإسلامية, وكأن الإنسان العربي, على وفق هذه النظرة, كان عاجزا عن أن يحب ربه, إلا أن يرى غيره يفعل ذلك.
إن ذكر الحب كعلاقة تربط بين العبد وربه أو بين الرب وعباده, وردت كثيرا, وبشكل صريح, في مواضع متعددة من مرتكزي الدين الإسلامي, أي الكتاب والسنة, ففي القرآن الكريم, ورد قوله تعالى: (يحبهم ويحبونه)(1) وهذه الآية, تشتمل على إشارتين هامتين إعتمد عليهما الصوفية كثيرا في تأصيلهم لنظرية الحب الإلهي, الأولى أن الله تعالى يحب عبده مثلما العبد يحب إلهه, والثانية هي: إن حب الله عبده سابق على حب العبد مولاه, فالعبد لا يمكنه أن يحب ربه, إلا بعد أن يأذن له ربه بذلك, بأن يحبه أولا. وكذلك ورد قوله تعالى: (والذين آمنوا أشد حبا لله)(2) وهذه الآية تتضمن الأشارة إلى وجود مراتب للمحبين, وأن فيهم من هو أكثر حبا لله تعالى من غيره, وكذلك فهي, تؤكد المجاهدات الروحية والسلوك الصوفي بوجه عام. وأما قوله تعالى: (إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين).(3) فأن فيه تأكيد على أن التوبة والتطهير, هما من شروط المحبة الإلهية, وهما أيضا من دلائل المجاهدات والترقي في مقامات الروح.
وأما في السنة, فقد ورد قوله (r): (لا يؤمن أحدكم حتى يكون الله ورسوله أحب أليه من سواهما).(4) وهذا الحديث أيضا يضع حب الله ورسوله (r), شرطا للأيمان. وكذلك قول الرسول
(r): (من أحب لقاء الله, أحب الله لقاءه, ومن لم يحب لقاء الله, لم يحب الله لقاءه).(1) وهو حديث يتضمن التصريح بأعلى درجات القرب, وهو تحقق اللقاء, أما كيفية هذا اللقاء, وهل هو لقاء معنوي, يشير إلى التمسك بالطاعات وترك المعاصي, أم هو لقاء حقيقي, ينعم به الله تعالى على المقربين من عباده؟ فهذا ما أختلف عليه المفسرون, كل حسب مرجعياته الفكرية والمنهجية. وأخيرا نذكر قوله (r) في الحديث القدسي: (لا يزال عبدي يتقرب اليّ بالنوافل, حتى أحبه, فأذا أحببته, كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي عليها).(2) وهذا الحديث يؤكد, عليه أغلب الصوفية, ويذكرونه كثيرا في أستشهاداتهم, لأنهم يرون فيه صراحة العبارة, في تأكيد كرامات الأولياء وكذلك تأكيد قولهم بالوجود الجديد الذي يؤول أليه العبد بعد تمكنه من درجة القرب من مولاه, وفيه أيضا إشارة إلى مرتبة الخلافة العظمى.(3)
إختلاف الآراء في الحب الإلهي
في تاريخ الفكر الإسلامي, بعامة, كانت مواقف المسلمين من موضوع الحب الإلهي قد تباينت تباينا ملحوظا, إذ أنكره بعضهم متذرعا بأستحالة حصول المناسبة بين الخالق والنخلوق, لإان هذه المناسبة, تعد شرطا لازما لأثبات صحة المحبة, ويرى أصحاب هذا الرأي, أن ما ورد من نصوص, في الأسانيد الشرعية, مما يشير إلى موضوع الحب الإلهي, لا يعدو كونه, في حقيقته ضربا من ضروب المجاز البلاغي والتمثيل اللغوي, وإن الله عز وجل, وعلى خلاف الظاهر من هذه النصوص, لا يحب ولا يُحب, لأن المحبة, وبكل أشكالها وصورها, لها من اللوازم والتبعات, مما لا يليق بالذات الإلهية, مثل الشوق والأنس والألتذاذ, ونحو ذلك من الصفات والنوازع مما يجدها المخلوقون, ومما يجب أن تتنزه عنه الذات الإلهية, بحكم صفة الألوهية التي تستوجب الغنى
والعزة والصمدانية.(1)
طائفة أخرى من مفكري الإسلام, أقرّت صحة الحب الإلهي, وأخذت به, ولكنها أولته تأويلات هي أقرب إلى الفهم الأخلاقي الظاهري منه إلى الفهم الصوفي الذي يصل بالدلالات إلى أقصى مدياتها الظاهرية والباطنية – فأن المراد من الحب الإلهي, على وفق رأي هذه (الطائفة), هو الطاعة والعبادة والشكر من العبد تجاه الرب, والكلاءة والرحمة والحفظ من الرب تجاه العبد, ويضيف أصحاب هذا الرأي, أن أقصى ما يمكن أن نفهمه من المحبة هو: أنها أحدى الصفات التي وصف بها الباري تعالى نفسه, وعليه فلابد من الأعتقاد بها, ولكن من دون النظر في ماهيتها أو كيفيتها.(2) وهذا الرأي يشتمل على موازنة (أشعرية) قد لا يرضى بها الكثير من المأولين والباحثين عمّا وراء الكلمات والسطور.
المتصوفة من جهتهم, لم ينكروا شيئا من معاني الحب الإلهي ومدلولاته, بل هم يعدونه حقيقة واقعة, يمكن أن تعاش, وقد أختصوا بها وجربوها وعرفوها من خلال خلواتهم ومناجاتهم, ومن خلال مواجيدهم وأحوالهم. وفوق ذلك, فهم يرون أن هذه المحبة, هي علاقة متبادلة بين الله تعالى وعباده, فالله تعالى, من جهته, يشتاق للعبد المخلص, ويطلب قربه, كما أن العبد يشتاق أليه ويطلب القرب منه, والله تعالى يناجي العبد ويغار عليه في أن لا يخالج قلبه شيئا سواه, كما يناجي العبد ربه ويغار عليه, طمعا في مزيد من القرب والنور والرضوان, والى غير ذلك من صفات المحبة ولوازمها.(3) والصوفية لا يستغربون من منكري المحبة عليهم, بل هم يعذروهم لأعتقادهم, بأن المحبة, مثلها مثل سائر أحوالهم, لا يمكن شرحها وتفسيرها ولا التعبير عنها لغير من ذاقها وأحسّها, إذ إن فاقد الشئ لا يعطيه.
وقبل الدخول في موضوع الحب الإلهي عند الشيخ عبد القادر, لابد من تسليط الضوء على بعض الجوانب التاريخية المتعلقة بهذا الموضوع إذ يمكن القول: إن الحب الإلهي بوصفه عنصرا أساسيا
من عناصر التصوف الإسلامي, قد برز بشكل مبكر جدا من تاريخ هذا الفكر, وظل ملازما له مع تعاقب خطواته ومراحله وأطواره, ولعل في هذه الحقيقة, دلالة واضحة على أهمية الحب في الفعالية الصوفية برمّتها. لقد رفع روّاد حركة الزهد, الحب الإلهي شعارا لهم, فهذا خُليد العصري,(1) كان ينادي في أهل زمانه وبأعلى صوته فيقول: يا أخوتاه, هل فيكم من أحد لا يحب أن يلقى حبيبه؟ لا فأحبوا ربكم وسيروا أليه سيرا كريما. وهو نداء, فيه دعوة إلى أفشاء الحب الإلهي بين الناس, وجعله وسيلة مثلى للتقرب إلى الله تعالى. وكذلك الحال مع كهمس القيسي (ت 149هـ ) الذي أشتهر بصيحته التي طالما كان يطلقها في جوف الليل: أتراك معذبي وأنت قرة عيني يا حبيب قلباه؟ وهو قول, رغم طروحاته البسيطة إلا أنه يدل على أعتياد عبّاد ذلك ذلك العصر على تعاطي مثل هذه المفاهيم. ثم نذكر عتبة الغلام (ت 164هـ ) الذي يعد من الدعاة الأوائل, الذي يستوس معه, البذل والمنع والرحمة والعذاب ويتبين ذلك من قوله: إن تعذبني, فأني لك محب, وإن ترحمني فأني لك محب. وهي عبارة, تفوق سابقتيها, جرأة ودراية بهيمنة سلطان الحب. ولا يسعنا, في هذه الرحلة العاجلة, ‘لا أن نعرّج على ذكر العاشقة الإلهية الشهيرة, رابعة العدوية(2) التي كان لها كلام عجيب وأشعار رائدة في الحب الإلهي, أشهر من أن تذكر, ثم نأتي أخيرا على ذكر زعيم الحركة الزهدية الثاني بعد شيخه الحسن البصري (ت 110 هـ ) وهو حبيب العجمي (ت 200هـ ) والذي كان مفرط الصراحة في حبه لربه إذ يقول: وعزتك, إنك لتعلم أني أحبك.(3) فهذا إذن, مسح أولي سريع, لمدة من عمر حركة الزهد في الإسلام, تناهز الخمسين عاما, تبين لنا من خلالها إن عدوى الحب التي أصابت أول القوم, لم تلازم نظرائهمن بعده فحسب, بل أنها نمت وتفرعت حتى أثمرت ما أثمرته من نظريات الفناء ووحدة الشهود ووحدة الوجود وغيرها فيما بعد.
الحب الإلهي عند الشيخ عبد القادر
بالرغم من تصدر الشيخ عبد القادر, للأفتاء على مذهب أبن حنبل, فأنه كان في تعريفه للمحبة, يتبنى موقف الصوفية ورؤيتهم بالكامل, فهو يقر بالمحبة الإلهية, بطابعها المفعم بالشوق والهيام والسكر والحنين إلى اللقاء. إنها عنده: أحساس متلبس بالقلب, يشعر به كل من جربه وذاقه, فهي أذن ليست قولا نظريا ولا تأويلا كلاميا أنها معاناة حقيقية, وتشويش تلمسه القلوب من جانب المحبوب, فتصير الدنيا على المحب كحلقة خاتم لضيقها.
فهذه إذن, أول مغازي الشيخ عبد القادر, لقلاع الحب, وهو فيها, لم يأخذ من الحب صنفا ويترك الآخر, بل عرّفه تعريفا ينطبق على كل أشكاله التي عرفها بنو البشر, ويرضى به كل العاشقين في الأرض وبمختلف أصنافهم. إن أبلغ مصداقية للحب, عنده, تتجسد في كونه معاناة وجدانية يتقلب فيها المحبون, ولكن هذه المعاناة, تتفاوت في الصدق, تبعا للجهة التي تحن أليها القلوب, ولا شك في أن محبة الله تعالى, هي أشرف تلك الجهات وأوفرها حظا من الحقبقة واليقين.
والحب عند الشيخ عبد القادر, لا يقاس بالعقل, ولا بحكمه وأدواته, لأنه سكر لا يشوبه صحو أي بمعنى أنه ينمو على أرض تغيب عنها سلطة العقل وحكمه, ولا يعني هذا الكلام, أتهام المحبين بالجنون, ولكنه يشير إلى طبيعة الحب المغايرة لمنطق العقل والتي قوامها العاطفة المحضة, ولعل الشيخ عبد القادر, في رأيه ذاك يتخذ موقفا مناقضا تماما, لموقف مناهج التصوف الأشراقي, التي هي بالتأكيد تؤمن بخلاف ذلك.
ويمتاز الحب أيضا, عند الشيخ عبد القادر, بأنه عطاء مطلق وتوجه كلي إلى المحبوب, بالروح والقلب وكل الحواس والجوارح, وفي السر والعلن, وأيثار المحبوب على الذات وكل شئ آخر سواه, بأختيار تلقائي وبإرادة فطرية وليس بإرادة متكلفة والحب هو العمى عن غير المحبوب غيرةً عليه والمعمى عن المحبوب هيبة له, (فهو عمى كله, والمحبون سكارى, لا يصحون أبدا إلا بمشاهدة محبوبهم, مرضى لا يشفون إلا بملاحظة مطلوبهم, حيارى لا يأنسون بغير مولاهم ولا يلهجون إلا بذكره ولا يجيبون غير داعيه).(1) لقد جمع الشيخ عبد القادر, في هذا التعريف المركب, كل مظاهر الحب وأشكاله, وهو أبتداء يميل إلى تصنيفه بكونه حالا من الأحوال الصوفية وليس بكونه مقاما, لأن المقام يفترض الإرادة والسعي والقصد والدراية, وهذا الحال لا يصيب القلب إلا في مرحلة متأخرة من مراحل السلوك, لأنه يتطلب التوجه بالكلية نحو المجبوب, وهو ما يفترض الأخلاص والفناء الشهودي والفناء الوجودي, وهي كلها مقامات تخص الواصلين من أهل السلوك.
ولكي يستمر الشيخ عبد القادر, على مواظبته على ربط مفاهيمه الصوفية بعجلة الشرع الإسلامي فأنه يؤكد على أن أساس محبة الله تعالى والقرب منه, هو طاعته وأتباع أوامره, وما البعد عنه, في حقيقته, إلا بمخالفته وعصيانه, وهذا ما يتجلى عنده بوضوح, في تفسيره خطيئة آدم (u)
كانت هي أول الحجب التي حجبت آدم عن ربه,(فحضرة الله تعالى طاهرة, لا توطأ بأقدام لوثتها مخالفة المحبوب, وأن من أوكد أسباب الهجر هو: أنك لا تطيق أن تقيم في دار عصيت فيها صاحبها).(1) إذن فالمحبة الإلهية تحتاج إلى سعي وجهد من العبد أولا,(2) ويتم ذلك بجلو البصائر إبتداءً, والبصيرة, هي غير البصر, لأنها مدفونة في أعماق مكامن النفس, وأن إخراجها من الأمكان إلى الوجود, يحتاج إلى صبر ومشقة بحيث تكشف عنها الكثير من براقع الغفلة وكذلك الحال مع القلوب الصدئة, حيث لابد أن تصقل مراياها, كي تلتقط جواهر المعاني الربانية, وان تنقى الأرواح, حتى تستوحش في مساكن هذه الأشباح, وان تخرج العقول من ديار هياكل الطين وتنقل إلى أطوار مراتب القدس, وأما الهمم فيجب أن لا تسعى إلا إلى جنات جلال الوحدانية الحقة.(3) وفي الخلاصة فأن قلب المؤمن إذا كان هو عرش الرحمن, وأن الرحمن يحل في عرشه متى وأين شاء, فأن هذا لا يمنع العبد من أن يطهر هذا العرش ويزينه أستعدادا لقدم مليكه.
مصدر الحب الإلهي
فمتى ينبع الحب في قلب المريد, والى أين يتجه؟ أنه ينبع من مشاهدة بعض جمال المحبوب, ويتجه شوقا إلى لقائه, أما سبب هذا الحب, فهو صورة الجمال أي جمال المحبوب, الكامنة في مرايا الأرواح, والتائقة إلى ملاحقة تجليات الجمال الحقيقي. وهي أشارة إلى حياة الأرواح السابقة والتي تطلعت فيها إلى صور الجمال, ثم حُرمت بعد ذلك بأتصالها بهياكل الصلصال. وتتجسد هذ الأشارة في مواضع متعددة من أقوال الشيخ عبد القادر, فمثلا في ذكره قصة إبراهيم (u) يقول: كان طفل إبراهيم (u) مربى في مهد عهد لطف القدم تحت ظل شجرة الكرم, بروح مرّوح الفضل, بنسيم ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل حين جمع القدر ذرات الذوات وأرواح النسمات ... حتى آن أوان ظهوره في سرادق الزمان ... فنهض ينشق محيا ذاك النسيم في براري الوله يهيم طالبا للتفرد ..(4) وكذلك قوله: (إن المشاهدة هي سلاف راح يطوف بها سقاة الأزل على ندماء الأرواح في أقداح الخطاب, في مجلس الوصل, عند سدرة منتهى الأمل, فوق غاية منى العارفين
تحت ظلال جـلال القدم...)(1) وكذلك قوله: (خرجت بعض طيور الأرواح من أنقاض الصدور, تتلمح أثرا من مطارها القديم, تستنشق نسمة من مهب التكليم تتذكر عيشها في ظل أثل الوصل, تشكو جواها بعد بعاد الأحباب).(2) ثم قوله الذي يفصح عن هذه المسألة أكثر من سواه: (طافت سقاة القدم, على أرواح بني آدم, بكؤسي شراب ألست بربكم, في خلوة مجلس وإذ أخذ ربك, أسكرهم الساقي لا الشراب, سكنت تلك النشوات في ذرات تلك الذوات, حتى أنفلق صبح شرع أحمد.(3)
ولنا أن نتساءل بعد ذلك, هل الشيخ عبد القادر, وكثير غيره من متصوفة الإسلام, ممن قالوا بهذه الطريقة (الخطيرة), أي وجود الأرواح السابق على الحياة الأرضية, قد تأثروا بشكل مباشر بنظرية الهبوط الأفلاطونية, أم كان لهم في شرعهم الإسلامي ما يكفي من الأسانيد التي تسوغ نظريتهم تلك؟ ولعل أقرب الأجوبة إلى الصدق, هو الجواب الذي يجمع بين الأثرين. إذ يمكن القول: إن نظرية الهبوط الأفلاطونية قد أنتشرت بشكل سريع بين أوساط المفكرين المسلمين وأصبحت جزءا من ثقافتهم السائدة, ولكن لم يكن لهذه الفكرة (الغريبة) أن تسود, لو لم لها المسلمون في شرعهم, ما يدعمها ويسوغ الأخذ بها, فلقد ورد في القرآن الكريم, الكثير من الآيات التي تشير إلى المعنى ذاته, كقوله تعالى: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة أنا كنّا عن هذا غافلين).(4) وهذه الآية تشير صراحة إلى إقرار أرواج جميع بني آدم بوحدانية الله تعالى, قبل أتصالها بالأبدان. كذلك قوله تعالى: (وإذ أخذ ربك ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنّه قال أقررتم واخذتم على ذلكم إصري, قالوا أقررنا قال فأشهدوا وأنا معكم من الشاهدين).(5) وهذه الآية تؤكد أيضا المعنى ذاته, ثم أن مجرد ذكر القرآن الكريم قصة آدم (u), وكونه قد سكن الجنّة قبل هبوطه أو بالأحرى إبعاده عنها, وكون الجنّة تعني في أخص ما تعنيه القرب من الله تعالى, فأن ذلك سيترك الباب مفتوحا أمام أي راغب في تبني تلك (النظرية).
وقد يسهل الحكم على هذا الرأي بتهمة التوفيقية, ولكن قبل ذلك, ينبغي أن تحضر في أذهاننا حقيقتان: الأولى: أن مفكري الإسلام, بمختلف إختصاصاتهم الفكرية, سواء منهم المتكلمون أم الفلاسفة أم الصوفية, كانوا حريصين أشد الحرص, على التوافق مع عقيدتهم الإسلامية, ولم يكن من السهل عليهم التفريط بها, كما توحي بذلك أغلب الدراسات الأستشراقية. والثانية: هي أنه ليس من قبيل الولاء للتراث الإسلامي أو الأعتداد بالذات, أن أن نظن أن مفكري الإسلام كانوا بمعزل عن التأثيرات الفكرية والأجتماعية الوافدة عليهم أو المحيطة بهم, لأن هذا ضرب من المستحيل إذ إن أي حضارة, لا يمكن أن تنمو أو تزدهر مالم تتفاعل مع غيرها من الحضارات أخذا وعطاءً.
إن ما كنا نود أن نصل أليه, من وراء هذا الأسترسال, هو أنه ليس من الواجب علينا أن نقف من مفكرينا المسلمين, من ذوي الأبداع المشهود, موقف رجال الكنيسة في القرون الوسطى من السحرة, فنتهمهم بالهرطقة والمروق من الدين, في مقابل أية فكرة تصدر عنهم ونلمس فيها بعض الغرابة أو نشعر حيالها ببعض الأستيحاش, بينما الأجدى والأجدر, أن نبحث لهذه الأفكار, عن مسوغاتها الأجتماعية والسياسية والأعتقادية, التي أستوجبت ظهورها في حينها, ولعل هذا (الطموح) الأخير, هو الذي سيمكننا مرة أخرى من أنتاج أفكارنا الجديدة الخاصة بنا والملائمة لعصرنا إضافة إلى أنه سيمكننا من أن نقرأ مفردات تراثنا الفكري الإسلامي قراءة علمية عميقة وثرية وبعيدة عن كل أشكال التعصبات الضيقة.
أطوار الحب عند الشيخ عبد القادر
ثم نعود مرة أخرى إلى موضوع الحب الإلهي عند الشيخ عبد القادر, فهو عنده لا يهبط على قلب المريد دفعة واحدة وبصورة ثابتة لا تتغير, بل أن معانيه ودرجاته تتغير تبعا لدرجة أيمان المريد وأشتياقه وصدق الطريقة وإمتزاجها في باطنه. أن محبة الله تعالى تعني في بداية سلوك المريد, طاعته تعالى, بالأمتثال لأوامره والأنتهاء عن نواهيه, ثم بعد ذلك تعني القناعة بعطائه والرضا بقضائه ثم تعني: طلب نعمة الأفتقار إلى نواله وعطاياه, ثم أخيرا يبلغ العبد في حبه لربه مرتبة لا يطلب معها عوضا ولا ينتظر أجرا, إذ يكون شوقه خالصا للقاء محبوبه والتقرب أليه, وهو ما يمكن أن نسميه بالحب الخالص, وهو حب خاصة الخاصة , وأما قبله فهو حب العامة الذين يطلبون الأعواض ويشكرون على النعم, فهو حب المحبوب لعطائه وليس لذاته.
علاقة الحب بالشرع
وهكذا فأن المنهج الذي أختطه الشيخ عبد القادر لنفسه, لا يزال يعد (ساري المفعول) حتى مع الموضوعات التي يمكن أن نظنها بعيدة أصلا, عن ساحة الشرع وأحكامه, فالحب عنده, وكما رأينا سابقا, أساسه التمسك بشريعة النبي محمد (r), أي التمسك بالتكاليف, وليس كما يرى أ و يدعي بعضهم, بأنه مدعاة إلى ترك التكاليف والتنصل عن أحكام الدين. إن وصول القلب إلى مقام الحب لا يتم عند الشيخ عبد القادر, إلا بأداء الفرائض والصبر عن المحرمات والشبهات, ثم ترك تناول المباح في الشرع ولكن المقرون بالهوى والشهوة ووجود القلب. ولا تتوقف الشروط عند هذا الحد, بل إنها تزداد مع تعمق المريد أكثر في بحار الحب, إذ يأتي بعد ذلك دور الورع الشافي في المعاملات البدنية والقلبية, وهو شافٍ لأنه يشفي النفس من أشكال الذنوب والكدورات كافة بكونه شرطا ضروريا لبلوغ محطة الصدق في الحب الإلهي, ثم بعد الورع يأتي الزهد الكامل – أي الزهد في الدنيا والآخرة – شرطا ضروريا آخر لبلوغ المحب ذروة الحب الإلهي الخالص, الذي ليس له تعلق بشئ آخر سوى ذات المحبوب, والزهد الكامل كما يعرّفه الشيخ عبد القادر, هو: ترك ما سوى الله تعالى ومخالفة هوى النفس والشيطان, ثم طهارة القلب من الخلق في الجملة إلى الدرجة التي يستوي عندها المدح والذم والحجر والمدر.(1) وإذن, فهل يعني الحب الإلهي عند الشيخ عبد القادر, شيئا آخر سوى خلاصة السلوك الصوفي الذي يعني بدوره, الألتزام بالفرائض والنوافل والتمسك بالطاعات والخذ بأسباب الزهد والورع.
مما سبق يمكننا أن نلاحظ بوضوح, تمسك الشيخ عبد القادر, بأظهار الترابط العضوي القائم بين فقرات نظريته الصوفية, إذ لا وجود عنده, لمقام ولا حال ولا حب ولا رقي روحي, ليس له علا قة ببقية أجزاء تلك (النظرية) بل أن الكل مترابط, بعضه مع بعضه الآخر, أولا, ثم كل هذه الأجزاء مع الشريعة المحمدية ثانيا, والتي تشكل بدورها, القاعدة الصلبة التي لا يمكن الأنطلاق نحو آفاق الروح والملكوت إلا من ساحتها, وعليه, فيمكننا القول: أنه لا يمكن أن يقال عن أي شيخ ذو منهج صوفي وطروحات نظرية معروفة, أنه قد أصاب في هذه المسألة الفكرية وأستقام فيها مع ظاهر الشرع, وأخطأ في الأخرى, وأنحرف فيها عن (الصراط المستقيم), لأن البناء الصوفي برمّته, وعند أي شيخ صــوفي, ومثله في ذلك مثل أي بناء فلسفي, لابد أن يرتكز على مقدمات
وثوابت فكرية أو أعتقادية معينة, بحيث لا يخرج عنها أي جزء آخر من أجزاء ذلك البناء, وان هذا القول هو ردّ على ما جاء في كتاب (الشيخ عبد القادر الجيلاني وآراؤه الأعتقادية والصوفية).(1) والذي جاء فيه: أن الشيخ عبد القادر, قد أكثر من دعوى الألتزام بالكتاب والسنة ونهج السلف الصالح, بينما أقواله جاءت مليئة بالمفارقات وعدم الألتزام بهذه الدعوى عند التطبيق, والغريب في الأمر, إن مؤلف الكتاب, قد تبنى وبشكل منقطع النظير, آراء من أطلق عليه لقب (شيخ الإسلام),(2) دون ان يكلف نفسه عناء دراسة المرجعيات الفكرية التي كان يحتكم أليها شيخ الإسلام, أو في الأقل, دراسة العوامل السياسية والأجتماعية التي أملت عليه الأخذ بتلك الآراء المتشددة.(3) ولعل من اللطيف أن نذكر, أن مؤلف الكتاب, قد تغاضى عن تمسكه بآراء شيخ الإسلام, في فقرة واحدة فقط, وهي حين عمد هذا الأخير, في معرض ذكره هفوات أهل التصوف على أن يبعد ساحة الشيخ عبد القادر عن كل هذه الهفوات, لا بل إنه عدّه من خيرة شيوخ التصوف الذين مثّلوا التيار الصوفي النزيه, وهو سبق أن أوردناه في بداية هذا البحث.
شروط صحة المحبة
غير شروط المحبة الإلهية, يضع الشيخ عبد القادر, شروطا أخلاقية صعبة يجب توفرها في المريد السالك كي يستحق, عن جدارة, منزلة المحب, وكي يكون قلبه مفعما فقط, بحب الله عز وجل, ودون هذه الشروط, لا يكون العبد إلا دعيا مرائيا. أول هذه الشروط هو: أن لا يكون للمريد عينان ينظر بهما إلى غير محبوبه, ويتم له ذلك بأن يزيل من أمام عينيه كل ما سوى محبوبه, فالحب الحقيقي والخالص, إذا تمكن من قلب ما, فأنه يخرج منه حب غيره, بحيث يصير هذا الحب, يتشرب في جميع الأعضاء, ويشتغل به الظاهر والباطن على حد سواء, وبحيث يصير هو صورة العبد ومعناه, ويتمكن منه ويغمره حتى يهيئه لتقبل الصورة الجديدة والمعنى الجديد المغاير لمعناه الأول, فيخرجه عن العادة, وعن التمسك بالظاهر فقط من العبادات والرسوم, ويضعه في قلب التدين النابض بالأخلاص والحب والطاعة الحقيقية لله تعالى.
فأذا ما تم هذا للمريد, أحبه الله عز وجل, فأصبح مرادا بعد أن كان مريدا, وألقيت عنه أحمال طالما تُثقل كاهله, وفُتّحت أمامه أبواب طالما منعت دونه.(1)
فهذا الشرط الأول, يعني إذا: التحقيق بالأخلاص في العبادات والمعاملات وأنواع الطاعات ما ظهر منها وما بطن. والأخلاص الذي رأيناه فيما سبق, أنه يعد العامل الأساسي الذي ترتكز عليه بقية المقامات الصوفية, يعد هنا الشرط الأول الذي يستوجب قبل إدعاء الحب الإلهي الخالص.
الشرط الثاني, يدور حول ضمان صحة الحب الإلهي وهو: أن لا يقبل المحب بقلبه إلى غير محبوبه, فأن القلب إذا صدق في محبة الله تعالى, فأنه سيحجم عن الميل إلى كل ما يمكن أن يشترك مع ذلك الحب, والشيخ عبد القادر, يشتّه القلب في هده الحالة بالنبي موسى (u) حين كان طفلا رضيعا فحُرّمت عليه كل المراضع إلا ما كان قد خصص له.(2)
إن العبد لا يمكن أن يكون له أكثر من قلب واحد في جوفه, فأذا ما امتلأ هذا القلب بشاغل معين, فأنه لا يقبل معه أي شاغل آخر, فالقلب الذي أحب الخالق – والمعنى هنا موقوف حصرا على الحب الخالص – لا يمكنه بعد ذلك من أن يحب الخلق, ولا يمكن لقلب أفعم بهذا الحب أن تجتمع فيه الدنيا والآخرة, بل الأحرى بصاحب هذا القلب وهذا الحب, أن يبيع نفسه وكل ما يملكه من أجل نظرة من محبوبه أو نوال قربة منه, ولأجل هذه الغاية, يرى الشيخ عبد القادر, إن الذين يصدقون في عزائمهم, يسارعون بقطع المنازل النفسية, التي هي حجب ظلمانية, ويسرعون بطيّ مراحل الطريق من غير تلفت و(بعزم مجرد من جواذب الإرادات شوقا إلى رؤية المحبوب وولها بنيل المطلوب).(3) ويمكننا أن نلمس في هذا الشرط, أنه يرتكز, إضافة إلى الأخلاص, على الصدق في التوجه إلى الله تعالى, فالصدق وحده هو الذي يحرم على القلب المحب التطلع إلى غير محبوبه, حتى ولو وجد عند هذا (الغير) ما يحب ويشتهي, في الوقت الذي لا يجد عند محبوبه, إلا المنع والجفاء.
إن هذا الشرط, يؤكد مرة أخرى, على أن الحب عند الشيخ عبد القادر, هو أول وأهم وآخر الدوافع التي تدفع العبد إلى تحمل مشقات السلوك الصوفي, وهو وحده الذي يمكن أن يبلغ بالمريد, إلى مرحلة الصفاء التام والقرب الأبدي, إذ إن من أحب الله تعالى, فهو حتما سوف لا ينظر إلى سواه, ومن ملك الطريق الله تعالى, وصل أليه, ومن وصل إلى الله تعالى عاش في كنفه, ومن أشتاق إلى الله تعالـى أنس به وترك الأغيار, فصفا وقته مع محبوبه.(1) وهكذا فبالحب وبالتحديد, الأخلاص والصدق في الحب, يسلك الطريق ويتحقق الوصول والفناء والبقاء بالله تعالى.
شرط المحبة الإلهية الثالث هو: مجافاة النوم, فقد كذب من أدعى محبته تعالى, ثم إذا جنّ عليه الليل, نام عنه. على أن هذا الأمر المجهد, لا يكون ألا في حق المحب, الذي يتدنى في الرتبة عن المحبوب, كتدني المريد في الرتبة عن المراد. إن المحب فقط هو المتعوب, وأما المحبوب فمستريح, المحب طالب والمحبوب مطلوب, غير أن المحب والمحبوب عند الشيخ عبد القادر, قد يتبادلان الأدوار, لأنهما ليسا في مقامات ثابتة, إذ يمكن للمحب أن يكون محبوبا, فيما لو طهّر قلبه من جميع أصناف السوى, بحيث أصبح لا بديل له عن مطلوبه ولا رجوع له عن حاله, أما مقتربان هذا الوصول فتبدأ من أدمان قلب العبد وجوارحه, ذكر الله تعالى, إبتداءً من قول (لا أله إلا الله) مع مرافقة الأخلاص والصدق, ثم أنتهاءً, بعد سلسلة طويلة من المجاهدات والرياضات, إلى فقد كل الأشياء وجميع الأغيار, قيمتها عنده, لأن من صحّ حبه لله تعالى, أستوى عنده الحجر والمدر والمدح والذم, والعافية والسقم والغنى والفقر, وإقبال الدنيا وأدبارها, فمن بلغ هذه الحالة, ماتت نفسه وسكن هواه, وأنخمدت نيران طبعه وذل شيطانه, وكان أقباله على الله تعالى تاما, وصار بقلبه دربا يجوز به في وسط الخلق, إلى الخالق.(2) وكما نلاحظ, فأن الشيخ عبد القادر, لا ينثني يذكّر مريديه, حتى وهم في غمرة الحب, بالمجاهدات والأذكار وأنواع العبادات, وكأنه يريد أن يخبرهم بأنه لا مناص لهم عن ذلك, وأنه يُعد من الواهمين من ظنّ غير ذلك.
الشرط الرابع: هو أن لا يرضى المحب بغير لقاء محبوبه, لأن المحبين لا راحة لقلوبهم, ولو دخلوا ألف ألف جنّة, حتى يروا محبوبهم. هؤلاء المحبون, لا يريدون أي مخلوق, وإنما يريدون, فقط خالقهم, وهم لا يطلبون النعم, مع أفتقارهم أليها, وإنما يطلبون المنعم, يبغون الأصل لا الفرع. أنهم المحبون حقا, وهم كما يسميهم الشيخ عبد القادر, نزّاع العشائر, أي المنبوذون من الخلق والذين لا أنتماء لهم لقبيلة أو جماعة, والذين ضاقت بهم الأرض بما رحبت على غيرهم. إنهم في شغل جسيم يشغلهم عن الخلق وعن الدنيا الخلق, وعن جنتهم أرضا, إذ إن كل ذلك عندهم القيود والسجون, والدنيا بما فيها تعني لهم الهم والعذاب والحجب الظلمانية, وهم يفرون منها فرارهم من السباع الضارية.
إن هذا الشرط, لا يعدو كونه دعوة إلى الأخذ بالزهد الكامل, الذي يعني في حقيقته, عدم الرضا بغير المطلوب الحقيقي, وعند كل الصوفية, فأن من رضي بالنعمة دون المنعم, فقد أحدث شرخا في صدق توجهه, ولابد من الأشارة هنا إلى أن الصوفية, إذ يزهدون في شهوات الدنيا ونعم الآخرة, فأن ذلك لا يعني أستغناءهم عن ذلك, ولكن يعني أنهم قد وضعوا نصب أعينهم, هدفا محددا لا يحيدون عنه, إلا وهو التقرب إلى المولى تعالى, وإلا فهم لا يسكنون إلى أي ملاذ قبل بلوغهم هذا الهدف, فأذا ما بلغوا مرادهم, فعندها سيتقبلون كل ما يأتيهم من الأقسام, ولكن تقبلهم هنا, سوف لا يكون مصحوبا بالأستلاب وغفلات القلوب.
الشرط الخامس: وهذا يمكن أن نسميه بشرط فناء الإرادات, فأن من أحب الحب الخالص أو حب الخواص, فسوف لا تبقى له إرادة, لأن قانون الحب الثابت ينص على أنه لا إرادة لمحب مع إرادة المحبوب,(1) وهذا (القانون) يعده الشيخ عبد القادر, من البدائة التي يسلم بها كل محب ذاق طعم المحبة. وهو هنا في موضوع الإرادة, يربط بين الحب والفناء, إذ لا يمكن في رأيه, أن نتخيل المحب إلا فانيا في محبوبه, كالعبد بين يدي سيده, العبد المطيع طبعا الذي لا يخالف سيده ولا يعارضه في شئ, أما من لم يبلغ هذه المرحلة ولم يشرب من هذا الكأس, فليسهو محب ولا محبوب, ولا ذاق طعم المحبة ولا ذاق طعم المحبوبية.(2)
إن هذا الشرط, يفترض إضافة إلى ذوبان إرادة المحب في إرادة الحبيب, التحقق بمقام الرضا, ولنا أن ندرك أهمية الحب في الرقي الروحي, فيما لو علمنا بأن الرضا يفترض الصبر والشكر والتوكل. على أننا لو دققنا النظر في مضمون هذا الشرط, لوجدنا أن الشيخ عبد القادر, يعود فيه, مرة أخرى, إلى ربط الحب الإلهي بمعاني الطاعة والخضوع والتحقق بالعبودية المطلقة, ولكن هذه المعاني, هي غير تلك التي وجدناها في المستوى الأول من مستويات الحب, لأن الطاعة والخضوع والعبودية هنا, جاءت بعد طول مجاهدات ورياضات, فهي أصبحت إذن جزءا من السمات الروحية للمريد وليست مقصورة فقط على الطاعات والأوامر والنواهي.
الشرط السادس: هو شرط عدم التملك, فالمحب لا مال له ولا ملكية وهو في معـية محبوبه, وهذا
الشرط يعد مكملا للشرط الذي سبقه, إذ إن من محيت إرادته, لا يقول حتما: هذا لي وهذا مالي وملكي, إن المحب لا مال له ولا عَرَض ولا خزانة ولا دار أضافةً إلى محبوبه. إن الكل عنده منذور لمراده ومحبوبه, وليس هو إلا مملوك وعبد بين يدي محبوبه, وإن شرع العبودية ينص على أن العبد وما ملك لمولاه,(1) وعلى أساس ذلك وصف الشيخ عبد القادر, المحب بالذليل, لأنه لا تطال يداه أي شكل من أشكال الغرة, والتي أولها حرية الإرادة والملكية. غير أن هذا الحب وما أرتبط به من أحمال الفقر والأذلال, هو في حقيقته حال, وليس من صفات الحال والدوام والثبات, فذلة أغلال الحب, ما هي إلا أمر مؤقت, وما تلبث أن تتحول إلى حرية وسيادة, ولا يتم ذلك إلا بعد أن يصح للمحب تسليمه للمحبوب, فيعود المحبوب بعد ذلك فيسلم له ما تسلمه منه وفوضه أليه. عند هذا الحد, تنقلب جميع الأمور, فيصير العبد حرا والذليل عزيزا والبعيد قريبا والمحب محبوبا, على أن هذا التحول والأنقلاب, لا يتم بيسر من غير مشقة, بل هو يحتاج, كغيره من أحوال الصوفية ومقاماتهم, إلى كثير من كاسات الصبر ومقادير الصدق, صبر على محبة الله عز وجل, وصدق في طلبه, فيلازم بابه ولا يغادر هربا من سهام آفاته أو يأسا من القرب والنوال. وتلك حال, يصفها الشيخ عبد القادر, بأنها حال خاصة جدا, لا يعرفها إلا من ذاقها وأحتسى كأسها وأكتوى بنارها, وهي حال (لا تجئ بالصفة – أي لا يمكن وصفها بدقة – لأنها من وراء معقول الخلق وفهمهم).(2)
أن تأكيد هذا الشرط على عدم التملك, هو في حقيقته تأكيد على أزالة جميع علائق النفس بالأغيار, ومن ثم إزالة عوامل الأنانية والأثرة فيها, وهو ما تعارف الصوفية على تسميته بالتجرد الذي يعني التخلص من الصفات الرديئة. أن الصوفي يعلم بسريرته, أو من خلال مجاهداته, أن كل ما يلتحق بنفسه من هذه الصفات, أنما يحدث من جرّاء ألتصاقها بالدنيا وحاجاتها وشهواتها, وإن خير وسيلة للتنصل عن ذلك, تتمثل في إزالة هذه العلائق عنها, فالنفس في أصل فطرتها, تعد صافية نقية عالمة محبة لربها, ولكن ما يلتحق بها من جراء أرتباطها مع متطلبات الجسد وحاجاته, وذلك هو أصل النقص وفصله, وبناء على ما سبق, يمكننا أن نفهم من صوفية الإسلام, أن الزهد في الدنيا عندهم, يعد أمرا تكتيكيا أو مرحليا يجتاز به الصوفي عقبة ويقطع به طريق, ليحوز بعد ذلك على ما كان يريد وينتظر, فأذا ما تحقق له ذلك, فقد صار سيان لديه, أزهد أو لم يزهد.
الشرط السابع: ومع هذا الشرط, يعود الشيخ عبد القادر, مرة أخرى إلى تأكيد التمسك بالطاعات, لأن من كان محبا, فقد لزمت عليه الطاعة لمن أحب, وأنه لا يصدق من أدعى محبة الله تعالى إلا إذا أطاعه. أن محبة الله عز وجل لا يمكن أن تتمكن من قلب العبد, مالم يمتثل أولا إلى لأوامره تعالى, وينتهي عن نواهيه ويقنع بعطائه ويرضى بقضائه, ويذكره ذكرا صادقا متواصلا بالقلب واللسان وكل الجوارح وبالجهر والسر, ويرى السيخ عبد القادر, أن هذا الذكر الأخير, أي الذكر بالسر, هو الذي يصل بالمريد إلى حالة الفناء في ذكر محبوبه. فأذا ما وصل إلى هذه المنزلة من الحب والذكر, (باهى الله عز وجل به خلقه, وميزه عنهم بأحوال وأقوال عجيبة, لأنه حينئذٍ سيكون حق في حق, تفنى ذاته ولا يبقى في قلبه إلا الأول والآخر والظاهر والباطن).(1)
أن الذكر يوضع, عند الشيخ عبد القادر, جنبا إلى جنب, مع الطاعات والتمسك بالأوامر والنواهي, وهو تأكيد من جانبه على أن الطريق الصوفي إذا كان لا يمكن قطعه بغير واسطة الشرع, فأن طاعة الله تعالى, حق طاعته, لا يمكن أن تتحقق بغير ذكره وحبه, والذكر والحب هما من حيثيات التصوف, وعليه فلا وصول إلى الله تعالى بشريعة لا تتزيا بزي الطريقة.
الشرط الثامن: يتعلق بالتوحيد وعدم الشرك في المحبة إذ إن المحبوب في غرف المحبين لا يمكن أن يكون إلا واحدا والمحبة أحادية لا تقبل شريكا, ويكون دعيا من تظاهر بالحب, وإنشغل عن ضيفه المحبوب, أو أشرك غيره معه في قلبه, حتى وأن كان هذا الشريك مالا أو ولدا أو هوى أو رغبة, ولذلك تجد أن الذين صدقوا في محبتهم لله تعالى, رضوا به دون غيره وأستعانوا به وحده وأقتصروا عليه وأحجموا عن سواه, حتى صار الفقر عندهم في صحبته غنى, لا بل أن غناهم صار في فقرهم تجاهه, ونعيمهم صار في سقم أجسامهم وأنسهم في وحشتهم عن الخلائق, وقربهم في بعدهم عن غيره وراحتهم في تعبهم من الدنيا ويأسهم من صفوها ودوام نعيمها.(2) إن ما يشير أليه هذا الشرط يعد مطمحا يسعى كل مريد سالك إلى بلوغه, إنه التوحيد الخالص, الذي لا يشوبه أي شكل من أشكال الشرك, مهما خفي أو دق, وأننا لو تمعّنا في معنى الحب الإلهي عند الصوفية بوجه عام, لوجدنا أنه لا يعني عندهم شيئا آخر سوى كونه توحيدا من نوع خاص, لا يتمكن منه إلا الخاصة من عباد الله تعالى, وهو توحيد يشمل القلب واللسان والخواطر والعقول وكل الجوارح في آن واحد, ولذلك نرى الشيخ عبد القادر قد ألحقه مع آخر شروط الحب, ليؤكد للآخرين, أن الحب الإلهي والتصوف بوجه عام, لا يعني شيئا أكثر من توحيد الله تعالى حق توحيده.
(1) وهو أبن حزم الأندلسي (ت 456هـ ), صاحب الكتاب الشهير المتخصص في الحب (طوق الحمامة) والذي أباح فيه الحب شرعا, بكونه, ليس بمنكر في الديانة ولا بمحظور في الشريعة, إذ القلوب بيد الله عز وجل, وأن المحبة حقيقة واقعة, ولا يمكن الأنصراف عنها والتخلص منها. ص30 من الكتاب. أما ماهية الحب عنده فهي أنه أتصال بين أجزاء النفوس المقسومة في هذه الخليقة في أصل عنصرها الرفيع, لأعلى مثال أهل الفلسفة بكونها أُكر, أي (كرات) ولكن على سبيل مناسبة قواها في مقر عالمها العلوي ومجاورتها في هيئة تركيبها ص49. ومن خلال هذا التعريف, يظهر لنا بوضوح, رغم أنه حاول أن يدفع ذلك عن نفسه بلا طائل, تأثر أبن حزم, بنظرية أفلاطون في الحب والتي تعتمد على ركيزتين, الأولى وجود النفس السابق على وجود الجسد, والثانية, إن أصل النفوس هو كونها كرات كاملة أنقسمت بعد أتصالها بالأبدان, وأن حنينها الى الألتحام من جديد هو منبع الحب والشوق فيها.
(1) يفرق الصوفية بين حالي: الشوق والأشتياق فالشوق الذي هو: إهتياج القلوب إلى لقاء المحبوب, تنطفئ جذوته عند اللقاء, بل هو في زيادة مستمرة, ولذا فقد عدّ من أحوال الخواص, إذ لا طاقة لغيرهم على أحتماله. والذي يحل به الأشتياق, فأنه يهيم على وجهه حتى لايرى له أثر ولا قرار – القشيري – الرسالة – ص255.
(2) قوت القلوب – ج/2 – ص60.
(3) آل عمران/آية /31.
(4) النساء / آية / 80.
(1) عبد الرحمن الأنصاري – مشارق انوار القلوب ومفاتح اسرار الغيوب –بيروت- 1959 – ص19.
(2) الهمّة: هي الأنبعاث للمقصود صرفا, فلا يتمالك صاحبها منعها ولا يلتفت عنها – الهروي – منازل السائرين – ص86.
(3) الأنس: كما عرفه الجنيد يعني: أرتفاع الحشمة مع وجود الهيبة – الطوسي – اللمع – ص60.
(4) الهروي – منازل السائرين – بغداد – 1990 – ص89.
(1) الرسالة القشيرية – ص248.
(2) بهذا المعنى, عرّفت رابعة العدوية المحب الصادق بأنه: من لا يسكن أنينه وحنينه حتى يسكن مع محبوبه. أنظر – السهروردي – عوارف المعارف – ص507.
(3) الهروي – منازل السائرين – ص96.
(1) عبد الرحمن الأنصاري – مشارق أنوار القلوب ومفاتح أسرار الغيوب – ص78.
(2) الفتوة: أنك لا تشهد لك فضلا ولا ترى لك حقا, وهي في مستواها الأخير تعني: أن لا يتعلق المريد في مسيره بدليل وأن لا يشوب إجابته طلب العوض وأن لا يقف في شهود على رسم – السهروردي – منازل السائرين – ص61.
(3) الأيثار: تخصيص وأختيار, هو يعني أيثار رضا الله تعالى على رضا غيره – السهروردي – نفس المصدر – ص57.
(4) الرسالة القشيرية - ص 249.
(1) عوارف المعارف – ص505.
(2) سامي الكيالي – السهروردي – سلسلة نوابغ الفكر العربي – مصر – 1966 – ص42.
(3) عوارف المعارف – ص504.
(1) عوارف المعارف – ص504.
(2) المصدر نفسه – ص507.
(3) يستشهد السهروردي هنا بقول سمنون: ذهب المحبون لله بشرف الدنيا والآخرة, لأن النبي(r) قال: (المرء مع من أحب) فهم مع الله تعالى – المصدر نفسه – ص507.
(4) المصدر نفسه – ص507.
(1) حُققت هذه الرسالة على يد المستشرق – هـ . ريتر – وطبعت في بيروت عام 1959م.
(2) أبن الدباغ – مشارق أنوار القلوب ومفاتح أسرار الغيب – ص26.
(3) د. ناجي التكريتي – الفلسفة الأخلاقية الأفلاطونية عند مفكري الإسلام – ص12.
(4) أبن الدباغ – المصدر نفسه – ص22.
(5) أبن الدباغ – المصدر نفسه – ص22.
(1) جاء في تعريفات أبن الدباغ لهذه المصطلحات أن الألفة هي: إيثار جانب المحبوب على كل مطلوب ومصحوب ويستدعيها الإنسان بأستقراء محاسن المحبوب وأدامة الفكرة في لطافة شمائله وماهو عليه من بديع الصفة وغريب الحكمة الإلهية. وأما الهوى فهو: ميل القلب بالكلية إلى جهة المحبوب, والأعراض عما سواه, وتجريد القصد له في كل حين وصرف الهمة أليه, وفيه تستحكم المحبة وتشتد صورتها وينبسط سلطانها, ويستولي لاعج الشوق فيها. وأما الخلة فتعني: تخلل شمائل المحبوب في روحانية المحب, حتى تتكيف بها النفس والروح وسائر الجملة الإنسانية. وأما الشغف فهو: الكلف والولوع بالمحبوب, ويعني بلوغ الحب إلى شغاف القلب, أي أصله فيستولي عليه ويحجبه عن غيره, وجاء في قوله تعالى: (قد شغفها حبا) يوسف/30. أي حجب حبّه قلبها حتى لاتعقل سواه. فالشغف أستسلاء المحبة على القلب باطنا وظاهرا مع أحتجاب المحب عن أي أمر آخر غير المحبوب. وأما الوجد فهو: وجود ذات المحبوب وسائر صفاته الحقيقية, منطبعة في ذات المحب, أنطباعا ثابتا, بحيث لا يمكن زواله ولا يتصور أنفصاله, وأذا بلغ المحب إلى هذا الحد, فقد زال عنه الأختيار وأستوى في حقه الأعلان والأسرار وظهرت عليه آثار الشهود, فيشهد محبوبه في سائر الذوات وصفاته مع سائر الصفات, فلا يرى في الوجود سواها ولا يراها سواه. – مشارق أنوار القلوب ومفاتح أسرار الغيوب – ص32-36.
(2) يعرّف أبن الدباغ هذه المفاهيم بما ياتي: الغرام: وهو الأنتشاء من خمر المحبة, ويأتي من ملازمة الغريم للغريم وعدم مفارقته له. والأفتتان: وهو خلع العذار وعدم المبالاة بالخلق, ثم الوله: وهو حالة الحيرة, ثم الدهش: وهو الذهول أو البهتة التي تأخذ العبد إذا فاجأه مايغلب عقله أو صبره أو علمه, ثم الفناء: وهو الفناء عن رؤية النفس, وهو أن يكون العاشق لايسمع ألا بمحبوبه ولايبصر إلا به, ولا يدرك ألا به وله, ومنه فناء به عن نفسه وعن الأشياء. – مشارق أنوار القلوب ومفاتح الغيوب – ص3
(1) أبن الدباغ – المصدر نفسه – ص84.
(2) أبن الدباغ – المصدر نفسه – ص89.
(1) المائدة / 54.
(2) البقرة / 160.
(3) البقرة/222.
(4) أخرجه البخاري في صحيحه – كتاب الأيمان.
(1) صحيح مسلم – كتاب الذكر – باب من أحب لقاء الله.
(2) عن أبي هريرة – كما في صحيح البخاري – كتاب الرقاق – باب التواضع.
(3) يستند الجنيد البغدادي في تعريفه للحب إلى هذا الحديث, فالحب عنده هو: دخول صفات المحبوب على البدل من صفات المحب. أنظر – عوارف المعارف – ص508.
(1) الصمد: هو السيد المصمود أليه في الحوائج والمستغني بذاته وكل ما عداه محتاج أليه في جميع جهاته, فلا صمد في الوجود سوى الله تعالى. – إسماعيل البروسوي – تنوير الأذهان من تفسير روح البيان – الدار الوطنية - بغداد – 1990 – ج/4 – ص611. ويضيف أبن عربي, أنه لمّا كان كل ما سواه موجودا بوجوده, أي هو ليس بشئ في نفسه, لأن الأمكان اللازم للماهية لا يقتضي الوجود, فلا يجانسه ولا يماثله شئ في الوجود. – تفسير القرآن الكريم – بيروت – 1981 – ط/2 – ج/2 – ص870.
(2) الرسالة القشيرية – ص247.
(3) عفيفي – التصوف الثورة الروحية في الإسلام – ص195.
(1) لم نعثر في ترجماته على تاريخ وفاته, ولكن من المؤكد أنه توفي في النصف الأول من القرن الثاني للهجرة.
(2) رشيد سالم الجراح – رابعة العدوية شهيرة الحب الإلهي – بغداد – 1988 – ص73 فما بعدها.
(3) د. كامل مصطفى الشيبي – صفحات مكثفة من تاريخ التصوف الإسلامي – بيروت – 1977 – ص64-65.
(1) التادفي – قلائد الجواهر في مناقب الشيخ عبد القادر – ص88.
(1) الشطنوفي – بهجة الأسرار ومعدن الأنوار – ص26.
(2) على أن هذه العبارة لا تتنافى مع قول الشيخ عبد القادر أن المحبة من الأحوال, إذ إن جميع الأحوال, وعلى الرغم من كونها مواهب رحمانية, تستوجب إستعداد العبد بتصفية نفسه بالطرق المعهودة في التصوف.
(3) الشطنوفي – المصدر نفسه – ص32.
(4) الشطنوفي – المصدر نفسه – ص33.
(1) الشطنوفي – بهجة الأسرار ومعدن الأنوار – ص39.
(2) الشطنوفي – المصدر نفسه – ص42.
(3) الشطنوفي – المصدر نفسه – ص70.
(4) الأعراف / 172.
(5) آل عمران / 81.
(1) الجيلاني – جلاء الخاطر من كلام الشيخ عبد القادر – ص18.
(1) لمؤلفه: د. سعيد القحطاني – الرياض – 1997م. وهو في الأصل رسالة دكتوراه صادرة عن جامعة أم القرى.
(2) ويعني به أبن تيمية .
(3) سعيد القحطاني – المصدر نفسه – ص507 فما بعدها.
(1) الجيلاني – الفتح الرباني والفيض الرحماني – ص250.
(2) الجيلاني – جلاء الخاطر في كلام الشيخ عبد القادر – ص17. وهو هنا يشير إلى قوله تعالى: (وحرمنا عليه المراضع من قبل) القصص / 12.
(3) الشطنوفي – بهجة الأسرار ومعدن النوار – ص28.
(1) الشطنوفي – بهجة الأسرار ومعدن الأنوار – ص69.
(2) الجيلاني – جلاء الخاطر في كلام الشيخ عبد القادر – ص18.
(1) يقول الشيخ عبد القادر: أن معنى تلاشي إرادة المحب مع حضور إرادة الحبيب يعني أن لا يشتغل المحب عن محبوبه بدنيا ولا آخرة ولا خلق – أنظر – الفتح الرباني والفيض الرحماني – ص90.
(2) الشيخ عبد القادر – جلاء الخاطر من كلام الشيخ عبد القادر – ص19.
(1) الشيخ عبد القادر – جلاء الخاطر من كلام الشيخ عبد القادر – ص19.
(2) الشيخ عبد القادر – المصدر نفسه – ص19.
(1) الجيلاني – جلاء الخاطر من كلام الشيخ عبد القادر – ص20.
(2) الشيخ عبد القادر الجيلاني – الفتح الرباني والفيض الرحماني – ص143.
تعليق