إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

التصوّف عند الشيخ عبد القادر الجيلاني 2

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • التصوّف عند الشيخ عبد القادر الجيلاني 2

    تكملة الموضوع:












    أ - النفس ومراتبها

    تقديم :
    تعدّ النفس الإنسانية من بين أكثر الموضوعات إثارة وخصوبة في الدراسات الصوفية الإسلامية فلا يخلو بناء نظري أو كتاب في التصوف – على الأغلب – من تخصيص جانب كبير منه لدراستها وبيان درجاتها ومراتبها ونوازعها إضافة إلى بيان الوسائل الكفيلة بترويضها وسياستها ثم التغلب عليها.

    إن النفس هي العدو / الصديق, الذي لا يجد الصوفية عنه خلاصا ولا منه محيص, فهي خصمهم الذي يجالدونه مرة ويهادنونه أخرى, وهي في الوقت نفسه, حصنهم الذي يحمون حماه ويذودون عنه, كي لا يخترق أو يستباح. إنها منبت السوء الذي يصدر منه كل أنحطاط أو هلاك قد يحيق بالإنسان في الدنيا أو في الآخرة, وهي كذلك, منبت الصلاح والخير, الذي يثمر عنه كل رقي روحي وخلاص ديني يطمع به الإنسان في هذه الدنيا أو في الآخرة.

    النفس الإنسانية هي النفس ذاتها, واحدة بطباعها وطبيعتها, عند جميع البشر, تقريبا, ولكنها قد تلقي بصاحبها في الدرك الأسفل والحضيض, أو قد تضع بين يديه خيوط الخلاص والمجد ألملكوتي والسعادة الأبدية. إنها في الوقت نفسه وفي الإنسان ذاته, تجدها الخائنة الوفية والشرسة المسالمة والكدرة النقية, وقل فيها ما شئت من الصفات والنعوت المتناقضة, فهي (النفس الإنسانية) التي إن استرسلت معها وأطعتها, أرتك العجائب والغرائب من الموبقات والرذائل, والتي إن خالفتها وتعهدتها بالتربية وأنواع الرياضات والمجاهدات ولازمت مراقبتها ومحاسبتها, أرتك العجائب والغرائب أيضا ولكن من جنس مغاير تماما, وهو جنس الكرامات والفضائل السامية والخصال النبيلة, وهي أيضا النفس (نفسها) التي أن تكدرت وصدئت, صارت نفسا ترابية أرضية, لا تختلف كثيرا عن نفوس العجماوات, والتي إن صفت ورقت, صارت (روحا سماوية غيبية)(1) تكاد تضاهي أرواح الملائكة.




    النفس عند الفلاسفة الإغريق

    لقد تناول موضوع النفس الإنسانية, كثير من الفلاسفة القدماء سواء الإغريق منهم أم المسلمون, ولكن طريقة تناول هؤلاء, تختلف نوعا عن طريقة تناول الصوفية لها, فالفلاسفة من جهتهم, كانوا يركزون جهدهم على البحث عن أصل النفس وأقسامها وطبيعة فعالياتها وكذلك عن علاقتها بالجسد, وعن خلودها أو فنائها بعد موت الإنسان, وكانوا في ذلك يتوزعون على مذهبين: المذهب الأول منهما يمثله سقراط (469 – 399 ق.م) وتلميذه أفلاطون (427 – 347 ق.م) وأصحاب هذا المذهب يرون أن النفس جوهر عقلي – أي غير مادي – متحرك من ذاته, وهي علة أولى لوجود الكون, وإن وجودها سابق على وجود المادة, وإنها أنحدرت إلى هذا العالم الأرضي, فأصبحت سجينة الجسد, ولكنها ظلت تحمل من عالمها السابق معارفا وعلوما يمكن استرجاعها بالتذكر والتوليد, وهذه النفس لابد يوما أن ترجع إلى عالمها الأول بعد انفصالها عن الجسد بالموت. وعلى وفق هذا المذهب, فأن النفس هي الحائزة على الوجود الحقيقي وأما الجسد فوجوده ثانوي عارض. النفس خالدة وهي سيدة الجسد وأنها تبتعد عنه كي تمارس الفلسفة وتتعلق بالحكمة. هذه النفس تقاوم البدن وإرادته وتتحكم بالأعضاء, وهي حينما تتحد مع الجسد, فأن الطبيعة تأمرها أن تحكم وأن تسيطر, كما تأمر الجسد أن يعمل ويطيع. يقسم أفلاطون النفس الإنسانية على ثلاث قوى وهي: القوة الشهوية التي تشترك فيها مع الكائنات الحية كافة بنباتها وحيوانها, ثم القوة الغضبية, وهي ما تشترك فيه مع الحيوانات, ثم القوة العاقلة أو الإلهية, وهذه مما يختص بها الإنسان وحده دون سواه من المخلوقات وهذه النفس هي موطن العلوم والمعارف ومبادئ الرياضيات والأخلاق والجمال.(1)

    آراء أرسطو في النفس

    عند أرسطو (384 – 321 ق.م) النفس الإنسانية واحدة لا تتجزأ, كما إنها لا تمتلك وجودا مستقلا عن الجسد, إذ هي صورة لمادة الجسم, وهي لا تبقى بعد الموت, بمعنى البقاء الشخصي, وأن كان العقل النظري الذي هو أحدى ملكات النفس, يمكنه أن يكتسب صفة الخلود.
    النفس عند أرسطو, تنقسم على ثلاث أقسام أيضا وهي القوة الغاذية أو النامية والقوة الحاسة والقوة العاقلة, وأن سعادة هذه النفس تشكل الغاية النهائية لوجود البشر وحياتهم, ولا تتحقق هذه السعادة إلا من خلال حياة عقلية نشطة تزينها الفضيلة ويمارسها الإنسان دون إنقطاع.
    العلاقة بين النفس والجسد هي العلاقة بين الهيولى والصورة, فالنفس صورة البدن كما يكون البصر صورة العين, والإنسان الميت, الذي هو بدن دون نفس, ليس إنسانا بالمعنى الدقيق, لأنه تنقصه على وجه التحديد تلكم القوى التي تحدد بتوافرها ماهية الإنسان. والنفس التي هي قوة الحياة لا يمكن أن توجد في أي بدن وكل بدن, إذ الصورة تستدعي هيولى مناسبة, فلا يستطيع أن يحصل على الحياة إلا بدن ذو أعضاء ملائمة, ومثل هذا البدن هو بالقوة حيوان أو نبات حي, والنفس هي التحقق بالفعل لهذا البدن.(1)

    النفس عند الفلاسفة المسلمون

    أما الفلاسفة المسلمون, فأنهم بأجمعهم, لم يخرجوا عن دائرة هذين المذهبين, إلا أن تفردهم وأستقلالهم الفكري تحقق من خلال جهدهم الدؤوب الذي حاولوا من خلاله التوفيق بين معطيات الفلسفة اليونانية الباهرة ومعطيات الشريعة الإسلامية غير القابلة للاختراق, وخير من يمثل هذا الأتجاه الفيلسوف الإسلامي أبن سينا (370 – 428 هـ ) الذي يرى أن النفس هي مبدأ حركة الجسم, وهي تحركه كما تحرك النفوس السماوية أجرام الفلك, والنفس هي كمال الجسم الطبيعي, وهي ليست محركة للجسم فحسب, بل هي سبب الحافظة (الذاكرة) والمخيلة والإدراك وهي مبدأ الفكر. أما علاقة النفس بالجسد فأنها علاقة عرضية طارئة, فالنفس هبطت من عليائها واتصلت مع الجسد على كره منها, بعد أن فاضت عن واهب الصور (العقل الفعال). النفس عند أبن سينا حادثة, حدثت بحدوث الجسد, وهي لا وجود لها قبل ذلك وهي تنقسم على ثلاثة أنفس وهي: نفس نباتية ونفس حيوانية ونفس إنسانية,(2) ولكنها جميعا تعد وحدة واحدة لا تتجزأ, لأن أفعال الإنسان خاضعة لمبدأ واحد, هذه النفس تخلد بعد فناء الجسد, لأنها جوهر بسيط والبسيط لا يفسد ولا يتحلل, وقد لخّص أبن سينا نظريته في النفس في قصيدته العينية الشهيرة التي يقول في مطلعها:

    هبطت أليك من المـحـل الأرفع ورقـــــــــــــــــاء ذات تعــــــزز وتــــــمنع
    محجوبة عن كل مقلة عــــارف وهي التي سفرت ولم تتبقــــع (1)
    مما سبق يمكننا أن نخلص إلى: إن الفلاسفة, بوجه عام, كانوا يحصرون جهدهم على دراسة النفس الإنسانية, من زاوية أنتولوجية معرفية خالصة, فهم يتحدثون عن وجودها ومصيرها وعن علاقتها بالجسد وعن قدراتها وملكاتها, أما كيفية التعامل معها أو معالجتها أو الترقي بها نحو آفاق التسامي فهذا ما سيشغل إهتمام أرباب السلوك الصوفي, الذين كرسوا جلّ إهتمامهم في تعاملهم مع النفس الإنسانية على الجوانب الأخلاقية العملية, بحيث أصبح هذا التعامل يشكل, بمرور الزمن, مشروعا تربويا أصلاحيا يرجى من خلاله إصلاح الأفراد والمجتمعات.

    النفس عند المتصوفة

    إن الصوفي الذي ينطلق, في معرفة ربه والآخرين والعالم الخارجي, من خلال نفسه, يكون لزاما عليه معرفة هذه النفس ومعرفة طرق التعامل معها, على العكس من الفيلسوف الذي لا تمثل النفس عنده إلا جزأ من نظام عالمه الكبير.

    ومن أجل تكريس الفرق بين طريقتي تعامل كلٍ من الفلاسفة والمتصوفة مع النفس الإنسانية, سوف نستعرض, وباختصار, آراء أثنين من كبار منظري التصوف الإسلامي, ممن يمثل تصوف الشيخ عبد القادر الكيلاني, إمتدادا لمناهجهم الصوفية والإصلاحية, وهما: أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن المعروف بالقشيري (376 – 465 هـ ) والإمام الغزالي (450 – 505 هـ ).

    عند القشيري

    يعرِّف القشيري النفس بأنها: ماكان معلوما من أوصاف العبد ومذموما من أخلاقه وأفعاله(2) وهو تعريف يتجلى فيه الجانب الأخلاقي بكل وضوح – أما المعلومات من أوصاف العبد على ضربين: حدهما يكون كسبا له كمعاصيه ومخالفاته والثاني أخلاقه الدنيئة فهي في أنفسها مذمومة, فإذا عالجها العبد ونازلها فسوف تنتفي عنه بالمجاهدة واستمرار العادة, أي مع كمون الطبع وبقائه(1 )
    ومعالجة النفس عند القشيري لا تتم بمقاساة الجوع والعطش والسهر وغير ذلك من المجاهدات, من دون أن تكون هذه الأعمال مصحوبة بالعزم على كسر النفس وكبح جماحها.
    النفس في حقيقتها هي لطيفة مودعة في هذا القالب (الجسد) وهي محل الأخلاق المذمومة, كما أن الروح هي لطيفة مودعة في هذا القالب وهي محل الأخلاق المحمودة وتكون الجملة من النفس والروح والجسد, مسخرا بعضها لبعض والجمع إنسان, والحشر يكون لهذه الجملة وكذلك الثواب والعقاب. والنفس مخلوقة وليست قديمة. غير النفس والروح هنالك (السر) وهو أيضا لطيفة مودعة في القالب كالنفس والأرواح, والسر هو محل المشاهدة كما أن الروح محل المحبة والقلب محل المعرفة, والسر هو مالك عليه إشراف وإطلاع وسر السر هو مالا إطلاع لغير الحق تعالى والسر ألطف من الروح والروح أشرف من القلب.(2)

    القشيري إذن, يفرق بين النفس والروح والقلب والسر, والنفس عنده لا تعدو كونها محلا للأوصاف الذميمة والأخلاق السيئة بينما تشتمل الروح على الضد من ذلك وعليه فأن الهدف الحقيقي من السلوك الصوفي هو العبور من أوحال النفس نحو ربوع الروح.

    عند الغزالي

    أما عند الغزالي: فالنفس تدلّ على الروح, وهي مصدر الحياة, بل إن النفس تدلّ على الحياة نفسها أو على الرغبات والشهوات, النفس والروح يرتبطان مع الجسد وهما يعملان معا وبالأشتراك. أما تعريف النفس عنده فهي: تلك اللطيفة الربانية, وهي جسم لطيف ينتشر بواسطة العروق إلى سائر أرجاء البدن عن طريق فيضان النور, فيكون تأثيرها في الجسم كتأثير السراج في زوايا البيت. النفس / الروح هي من عالم الملكوت ولا يربطها في هذه الأرض أي رابط, لذلك عدّت عند الصوفية من أسمى أدوات المعرفة.(1)

    يرى الغزالي أن النفس هي حقيقة الإنسان التي يتميز بها من سائر المخلوقات, وهذه النفس إذا صفت وأطمانت بذكر الله تعالى محيت عنها آثار الشهوات والصفات المذمومة وسميت بالنفس المطمئنـة أما قبل ذلك فان لها درجتان باعتبار صفاتها، أحداهما تسمى بالنفس اللوامة وهي التي تلوم على المعاصي ولا تركن إليها ولا ترضى بها والآخرى تسمى بالنفس الأمّارة بالسوء وهي في حالة لا تأمر معها بخير ولا تلوم على الشر وهي حضيض النفس والمطمئنة سماؤها واللوامة بينها لاهي ترضى بالشر فتركن إليه ولا تبلغ الأطمئنان فتطمئن إلى الخير الذي هو ذكر الله تعالى.(2) النفس بأعتبار السلوك الصوفي, تكون متجهة من ناحيتها صوب العودة إلى أصلها, أنها جاءت إلى هذا العالم مرغمة, لتحصل على معرفة أوسع بربها, ومستوى عودتها هو درجة المعرفة التي تكتسبها في هذا العالم، على إن سعيها هذا ليس يسيراً ولا طريقها سالكاً، إذ تقف أمامها عوائق كثيرة تعيق بلوغها السعادة، إذ تتوزعها غرائز وأهواء متضاربة ولا ريب في إن هذه الصعوبات هي أساس مشقة الإنسان وفشله أحيانا في أداء أمانته.(3) وهنا بالذات يجيء دور المجاهدة ورياضة النفس التي تعني إخضاع هذه الصعاب كافة وتذليلها لخدمة الروح العارفة.

    ومع الغزالي أيضا لا يوجد دور يذكر للجسد، لان السيادة والفاعلية كلها للنفس ولا يوجد دور للدنيا إلا من حيث كونها معبرة للآخرة ، فالآخرة هي الهدف، وأما أهم الأعمال التي يمكن أن يؤديها الإنسان في حياته الدنيا فهي اكتساب الصفات والخصال الحميدة وتحصيل المعارف الإلهية، وكلا العمليتين يتجه صوب الآخره. إذن فالمنظار الذي يوجه رؤية الغزالي للنفس هو منظار أخلاقي ديني يهدف إلى الإصلاح بوجه عام.
    النفس عند الشيخ عبد القادر الجيلاني


    تمثل رؤية الشيخ عبد القادر للنفس الإنسانية، امتداداً طبيعياً للرؤية الصوفية السابقة عليه. فهي عنده أيضا تمثل مجموعة الصفات السيئة التي يحملها الإنسان، بينما الروح تمثل الحسنة منها، وهو أيضا يرى أن لا وجود لنفس وروح مستقلة أحداهما عن الآخرى، وإنما هنالك ، فقط ، حاجز وهمي يفصل بينهما ، فالنفس فيما لو صفت وتخلصت من الصفات الرديئة، فأنها ستؤول حتماً إلى إن تكون روحاً صافية خالية من الصفات الذميمة.
    النفس إذن تُعدُّ عند الشيخ عبد القادر، خصماً للإنسان وغريماً، وهو يحذّر ميرديه منها، بكونها خدّاعة ماكرة مراوغة، تظهر خلاف ما تبطن وتدعو إلى عكس ما تريد(1) ولذا فان العلاقة معها - أي علاقة الإنسان مع نفسه-(2) لا بد من إن تكون علاقة تربص وعداء ، يصل إلى حدّ التشفي منها، فيما لو لحق بها أذى أو أصابها ضرّ،إنها تشكل ثانية العقبتين اللتين تحولان بين العبد وبين نجاته، فإما الأولى منهما فهي الدنيا. وأما إذا قطع العبد هاتين العقبتين فانه سيكون حتماً قريباً من ربه وبعيداً عن مكامن الخطر.
    وقبل إن نسترسل مع وصف الشيخ عبد القادر للنفس الإنسانية، لا بدّ من إن نشير إلى إن الحديث عن النفس بوجهها الكالح، ينطبق عنده ، فقط ، على المرتبة الأولى أو الدنيا من مراتبها، وهي التي اصطلح الصوفية على تسميتها بـ (النفس الأمّارة بالسوء) وهي قرينة السوء التي لا تأمر صاحبها إلا بإتيان الشرور والمنكرات ، والتي لا يمكن إن يتخلص الشخص من أذاها، إلا إذا تخطاها إلى المرتبة التي تليها وحتى آخر مراتبها وهي ( النفس الكاملة ) ، عندها سوف تتخلص هذه النفس من الدور الشائن الذي تقمصته، وثم فأنها لن تعود ذلك الخصم المعاند أو العدو اللدود .





    الفرق بين النفس والروح

    ويمكننا إن نلاحظ هنا، إن الشيخ عبد القادر ، كان اكثر وضوحاً من سابقيه في ترسيم الحدود بين النفس والروح ، وهذا إشكال واجهه الكثير من المفكرين المسلمين، إذ ورد ذكر الإنسان في القران الكريم ، مقروناً بالنفس مرةً وبالروح آخرى، فانقسم الناس بحسب ذلك على مذاهب، فمنهم من اقرّ بوجود الاثنين معاً ومنهم من قال بوجود النفس دون الروح، ومنهم من عدّ النفس خاصة بالدنيا وهي تفنى بعد الموت وأما الروح فأنها تخص الآخرة وهي تبقى خالدة بعد فناء الجسد، وغير ذلك من المذاهب. الشيخ عبد القادر، واجه هذا الاشكال ، من جهته ، بحلٍ ممتاز، فهو يتحدث عن النفس فقط وهذه النفس كلما ارتقت إلى مرتبة أعلى ، اكتسبت اسماً جديدأ ، واكتست بخصال وصفات، هي حتماً، احسن من سابقاتها، فاذا كانت النفس في مرتبتها الأولى تسمى بالنفس الأمّارة بالسوء، فأنها بعد ذلك يمكن إن تسمى بالروح أو بالسّر، على إن الانتقال من مرتبة إلى مرتبة آخرى لا يتم إلا عبر متابعة مفردات السلوك الصوفي.

    النفس عدوة الله

    النفس، اذن ، بوجهها الأول، هي ضدّ الله تعالى وعدوته، نعم انها خاضعة لحكمه وقضائه، وهي له خلقاً وملكاً ، ولكن ذلك لا يمنع كونها مشتملة على شرور كثيرة تدفعها إلى تقمص هذا الدور السلبي، ولكن ، يؤكد الشيخ عبد القادر ، ان النفس عاجزة عن اتيان ما تشتهي وما تريد، حتى يوافقها الإنسان على ذلك ويلابسها ويطيعها، فان فعل معها ذلك، كانت صاحبة إدّعاء وتمنٍ وشهوة، واّما ان خالفها وناهزها العداء، بموافقته لربه، فانه سيكون عندئذٍ ، خصماً امام ربه على نفسه.(1) وهنا يظهر لنا الشيخ عبد القادر ، مكمن التكليف وموضع الحرية في الوجود الإنساني فعوامل الشرّ الكامنة في هذا الوجود، ما هي في حقيقتها الا عوامل سلبية غير فعالة، وعاجزة عن اتيان أي فعل من تلقائها، وانما هي تفعل ما تفعله ، فقط، في حالة انصياع بقية قوى الإنسان لها . ان الإنسان ، في حقيقته ، محمّل بجميع الامكانات خيرها وشرها، وما عليه الا ان يرجّح احدها على الآخر، فأِن رجح اعمال الخير، كانت اعماله هو، واستحق عليها الثواب وان رجّح اعمال الشر ، كانت اعماله هو ايضاً واستحق عليها العقاب.

    يرى الشيخ عبد القادر، إن النفس الأمّارة بالسوء، ما كانت كذلك إلا لجهلها، ولذلك فهي تحتاج إلى تعليم، إنها سيئة الأدب وتحتاج إلى تأديب، إنها- لجهلها- لا تفرق بين الداء والدواء أو بين الحلال والحرام، أو بين ما يصلح وما يفسد، وهي فوق ذلك تواجه الآخرين بالكبر والغضب والاحتقار. إنها، قبل إن يباشرها الإنسان بالمجاهدات، (فرعونة) طاغية، مهرة غير أمنة غير مروضة غير معلمة، وهي لا تفتأ تنازع ربها، لأنها مصنوعة من الكبر والعظمة، ولأجل ذلك ولصعوبة وخطورة موقف العبد الذي يبغي النجاة، فان الشيخ عبد القادر، ينصح بضرورة تسليم الإنسان نفسه، بيد رائض الأيمان- أي الشيخ الصوفي العارف – كي تتعلم وتتأدب وتطمئن، فان اطمأنت تواضعت وذلت وحسن خلقها وعرفت قدرها واحتملت غيرها، وسعت بعد ذلك إلى عمل الخير والصلاح وهو المطلوب منها.(1)

    التصوف وسيلة لإصلاح النفس

    إذن فالسلوك الصوفي، كما يرى الشيخ عبد القادر، هو الوسيلة الوحيدة لتحصيل المعرفة الحقيقة معرفة الإنسان لنفسه ومعرفته لربه، وعن هذه المعرفة تصدر الآداب وتُستحصل المراتب وتُنال الدرجات، ولكن هذه المعرفة ليست يسيرة المنال، ولا ممكنة التحصيل بالاعتماد على الذات وحدها، بل لابد لها من معونة خارجية، وهذه المعونة يجسدها الشيخ المرشد الذي اختص بطبّ النفوس وتمرس بسياستها، وتجسدها أيضا الرسالات السماوية التي علمت الإنسان أصول الحق والحكمة والفضيلة. هذه النفس الأمّارة بالسوء، لا يمكن إن يرخى لها العنان، إذ لا بد من إن تستاس وتُقتاد وتحجب عنها الرؤيا، حتى لا تنظر إلى ما حولها، فيكون نظرها هذا سبباً لهلاكها. إنها لا بد من إن تكون تابعة لغيرها، لمن هو أعلى درجة واقرب إلى ربه منها، أي القلب ثم من بعد القلب السرّ الذي هو أعلى درجة من القلب، فان أطاعتهما النفس وتبعتهما، ولم تخرج لهما عن رأي واتحدت معهما، عندئذٍ لا تعود تفترق معهما في المطلوب أو في المقصود، فتصير حينئذٍ تأمر بما يأمران به وتنهى عما ينهيان عنه وتختار ما يختارانه، وحينئذ فقط، تصير نفساً مطمئنة.(2) ومما سبق ، يمكننا إن نستنتج : إن طاعة النفس للقلب والسر، تمثل الخطوة الأكثر أهمية في السلوك الصوفي بوجه عام، فهي تجسيد أولي لحالة الفناء الصوفي التي يطمح كل مريد إلى بلوغها، فالنفس بطاعتها القلب يعني إتباعها لأوامره، التي هي أوامر تتفق ومبادئ الشريــــعة
    والحقيقة، وهذا الأتباع سيخلصها حتماً من كثير مما علق بها من معّاص وآثام، فهي إذن حالة فناء موضعية تحدث داخل الإنسان، فتبدل محل طباعه السيئة طباعاً حسنة، وهذا ما ينسجم وتعريف الشيخ عبد القادر للفناء الذي هو: (( إفناء الصفات الذميمة المغروسة في نفس الإنسان واستبدالها بصفات جيدة))(1) وهو تعريف أخلاقي بحت سيأتي تفصيل الكلام فيه في موضع لاحق من هذا البحث.
    إن الاهتمام الملفت للنظر، الذي يوليه الشيخ عبد القادر لموضوع النفس، والذي نراه واضحاً في أكثر كتبه الصوفية، متأتٍ من اعتقاده الجازم – وهو اعتقاد ملازم للسلوك الصوفي بوجه عام – بان السيطرة على نوازع النفس، يعني فيما يعنيه، إلغاء نصف المسافة التي تفصل بين المريد السالك و نيل مراده الأوحد، الذي هو بلوغ أعلى درجات القرب والوصول إلى حضرة (ملك الملوك)، تلك المسافة التي يقدرها الشيخ عبد القادر، تهويناً، بـ (قدمين)، فقدم تقطع به الدنيا والقدم الآخر تقطع به نفسك، ثم ((ها أنت وربك))(2) هكذا بكل بساطة في القول والادعاء وبكل صعوبة في الفعل والسلوك، تلك الصعوبة التي حدت بالشيخ عبد القادر، إلى إن يضع(قطع) المريد السالك لنفسه في الكفة المقابلة لكفة قطعه للدنيا، بكل أهوالها وبلاياها وأحلامها ومغرياتها.

    إن (قطع) المريد السالك لنفسه، لا يعني التخلص منها بخلعها وإلقائها جانباً، ولا يعني تخطيها وهي باقية على ما هي عليه، فذلك لا يكون، لان النفس الإنسانية، بكل تفاصيلها غير المرغوب فيها، ما هي في حقيقتها إلا جزء من التكوين الإنساني، إنها الطبيعة البشرية التي يستحيل الفكاك عنها أو تخطيها بشكل نهائي، إن الذي يحصل، من جرّاء السلوك الصوفي والمجاهدات والرياضيات، هو: تغيير النفس الإنسانية وتحويلها من حالة إلى حالة أخرى، بحيث تبدو وكأنها بدلت خلقاً آخر وكأنها قُدت من معدن جديد، هو، ضرورةً، اثمن وأجود من سابقه، لا بل إن ثمنه لا يقارن بسابقه، إذ إن النفس معه، تكون قد خرجت منها روح وجودها، وهي روح الأنانية والكبر والطمع، ودبًّ فيها بدلاً من ذلك، روح الطمأنينة والصفاء فأصبحت, حينئذ, مهيأة لأن ترى, هي والقلب والسّر, ربها عز وجل, رؤية ذوق ومعنى, وهذه الروّية وهذا التجانس, لم يتحققا للنفس, إلا بعد إن خضعت وأطاعت ربها فآطمآنت, فنفخ فيها ربها, روحاً غير الروح الأولى, إنها ((روح الربوبية روح العقل, روح الزهد في الخلق, روح الوجود بالحق عز وجل, روح الطمأنينة إليه والنفور من غيره)). إن السلوك الصوفي على وفق هذا المنظور, يحتاج إلى قطبين: العبد من جهة والــرب

    من الجهة الآخرى, العبد يسعى إلى إعداد أرض نفسه وتنقيتها وتهيئتها للغرس الجديد، والربّ يدركه بغيث لطفه, فيحيلها من بلقاء إلى خضراء لا تثمر إلا كل طيب مفيد. إن الشيخ عبد القادر بوضعه هذه ( المعادلة ), يبدو كأنه قد حلّ إشكالية التوفيق بين سابق العناية الإلهية وسعي العبد وكسبه, فالعبد دون عناية ربه، لا يمكنه إن يرتقي ويفلح في السلوك، وكذلك فان الذي ينتظر مدد ربه من دون إن يعمل له عمله ويسعى له سعيه، فهو بلا شك، طويل الأمل.

    كيفية تغيير النفس

    إن كل تغيير ايجابي، يطرأ على نفس المريد، لا يتم إلا بعد إن يفارق إياه(1) أي يفارق نفسه بالمخالفات والمجاهدات، وان يتطارش عن أجابتها لما تميل إليه من الشهوات واللذات وأنواع المطلوبات. إن الهبات الروحانية، الإلهية المصدر، لا تنال، أبدا، بالتمني والادّعاء وترديد كلام أهل الطريق وحفظ حكاياتهم، وإنما تُنال بالعمل المتواصل والجهاد والجوع والسهر، والمحاباة والمعاداة - مجابات الخير وأهله ومعاداة الشر وأهله- فلا يُحسب المريد أبدا في زمرة الروحانيين ما لم يعادِ جملته ويباين جميع الجوارح وينفرد عن وجوده وحركاته وسمعه وبصره وعلمه وعقله.(2) وجميع ما كان منه قبل وجود الروح فيه،(3) وجميع ما أوجد بعد نفخ الروح فيه لأن جميع ذلك يشكل حجاباً يحجب الإنسان عن ربه، فإذا تجاوز ذلك، وعقد العزم على هذا التغيير، فانه سيصير روحاً فريدة، سـرّ السرّ، غيب الغيب، فيباين الأشياء في سره، عادّاً الكل عقبةً وحجاباً وظلمة، حينئذٍ فقط، يصل إلى أقصى ما يمكن إن يصل إليه إنسان من الصفاء والنقاء

    والوجود السامي الذي يحاكي وجود الملائكة المقربين. فيؤتمن على الأسرار الروحية والعلوم الربانية، ثم يُردّ إليه التكوين وخرق العادات.(1) وكأنه قد بعث بعد الموت ووجد في الآخرة، لما سيعهده في نفسه من القدرات الخارقة والصفات السامية والنقاء الذي لا تغيير له، وكل ذلك يعزيه الشيخ عبد القادر إلى: إن المريد في هذه الحالة سيكون بكليته ومجموعة قدرة ربانية، فيسمع بالله ويبصر بالله وينطق بالله ويبطش بالله، ويفعل كل أفعاله بالله، وفي الوقت نفسه يعمى عمن سواه فلا يرى لغيرة تعالى وجوداً، على إن كل ذلك يتقيد عند الشيخ عبد القادر، بشرط حفظ الحدود والالتزام بالأوامر والنواهي.(2) وهو الشرط الذي يؤكده دائماً، بحيث إن خرقه أو عدم التمسك به يلغي الهدف من السلوك الصوفي برمته، فالصوفي السالك، مهما بلغ من الدرجات الروحية العالية ومهما ظهر عليه من الكرامات البينة والقدرات الخارقة، وانحزم معها عنده شيء من الحدود فليعلم انه مفتون ممكور به. وليعمل، إن كان صادقاً، على إعادة قياس أفعاله، على وفق تلك الحدود. إن الشيخ عبد القادر بأحكامه لهذه العبارة، لم يترك المجال، لأي دخيل، بان يدّعي القرب من الله تعالى، وهو مخالف أو حتى متكاسل عن إتيان شروط الشرع، فلا تصوف خارج حدود الله تعالى ولا وصول بغير أجنحة الشريعة.

    التوحيد غاية مجاهدة النفس

    إن الغاية الحقيقية، عند الشيخ عبد القادر، من مجاهدة النفس، أو من السلوك الصوفي بوجه عام تكمن في بلوغ العبد مرتبة التوحيد الحق، والتوحيد الحق عنده يعني تلك العلاقة الاستثنائية والفائقة التي تربط العبد بربه، برباط تحكمه موازنة طردية دقيقة تجمع بين عبودية العبد وألوهية المعبود فكلما ازداد إحساس العبد بثقل عبوديته من جهة، ازداد إحساسه بعظمة ألوهية خالقه من الجهة الآخرى، وهذا الإحساس يتعزز، حصراً، عن طريق تكريس فعاليات العبودية التي أقرتها الشريعة وهذا التكريس يتعزز أكثر كلما عمل العبد على التخلي عن حظوظ نفسه وسحق وازع الأنانية فيها، وكبح جماح شهواتها ونزوعها المستمر نحو مباشرة لذائذها التي لا تزيــدها- في حــالة الانغماس فيها- إلا غفلةً وانقطاعاً عن الإحساس بعظمة خالقها وعن الشعور بفقرها تجاهه وحاجتها المستمرة إليه، فإذا كانت عقيدة التوحيد تمثل جوهر الدين الإسلامي، وهي يمكن إن لا يترتب عليها أي عمل أو سلوك روحي، فان التوحيد الحق، يمثل عند الشيخ عبد القادر، مرتبة روحية لا ينالها العبد إلا بعد جهد مضنٍ وأعمال شاقة، ويمكن فهم ذلك من خلال زاوية تأكيد الصوفية المستمر على النظر إلى معاني الأمور وفحواها، وعدم حصر النظر إلى المظاهر والحركات، فكما انه يمكن فهم معنىً للصوم هو فوق الجوع والعطش، فكذلك يمكن إن يكون للتوحيد معانٍ هي أكثر عمقاً من الإقرار باللسان والالتزام بالشرائع.

    إن التوحيد الحق، هو الذي يجسد حقيقة وجود الإنسان، وليس شيئاً غيره، فالإنسان ما خلق إلا ليعبد ربه، ولا يمكنه إن يعبده بعبادةٍ هي اصحّ واقرب من هذا التوحيد الذي إذا ما بلغه المريد وتحقق به من غير تلفت ولا نظر إلى مخلوق قط، فانه سيتشرب في جميع جوارح الجسم وأفاق النفس وفضاء القلب وعمق السرّ، وسيقلب كيان العبد رأسا على عقب، يقلبه خلقاً آخر، خلقاً جديداً وعجيباً، ولا عجب، فالإنسان لا يأتيه شيء من خارج نفسه، لأنه هو في ذاته، مستودع الأسرار الإلهية ومكمن العلوم اللدنية، وموضع النبوّة، وصفّي الخلافة(1) هذا الكائن المميز الذي أشتمل خلقه على اغرب الحكم، وأودع فيه الصانع اثمن المعادن الروحية وأعظم الكنوز القلبية، والذي أشتمل كيانه على غرائب أسرار الغيب وجوامع أصناف العلم الرباني، والذي حمل ثقل الأمانة التي كلّت الجبال عن حملها، والذي علّمَ الملائكة ما لم يكونوا يعلمون. ولا ندري، بعد هذا الوصف، هل إن نور التوحيد الحق هو الذي يقلب كيان الإنسان العادي، فيعيده إلى سيرته الأولى قبل إن يهبط إلى الأرض، أم إن ذلك هو من فعل السلوك الصوفي فيه أم من تأثير الزهد في الدنيا والإقبال على الله تعالى، أم من تأثير المداومة على الذكر والعبادة ولزم حدود الشرع، أم إن كل هذه العوامل، ما هي في حقيقتها، إلا أوجه متعددة لعملة واحدة، معدنها الإنسان الحقيقي النوراني الصوفي الزاهد في الدنيا والذاكر لربه والموّحد بقلبه وعقله ولسانه وكل جوارحه.

    مخالفة النفس

    يشكل اتفاق جميع الصوفية، وبكل ألازمان، وبمختلف مشاربهم ومذاهبهم، على قاعدة ( مخالفة النفس)، دليلاً واضحاً وأكيدا على ما لهذه (القاعدة) من أهمية كبيرة في تحقيق الفـــعل الصوفي
    وفــي إنجاح المناهج الصوفية العملية التي وضعها كبار مؤسسي الطرق الصوفية في العالم الإسلامي، من الذين دأبوا، ومنذ باكورة تنظيراتهم الصوفية على دراسة حلات النفس الإنسانية دراسة دقيقة ومتأنية، معتمدين في ذلك على وسائل التأمل الباطني والاستبطان والمراقبة الذاتية تلك الوسائل التي أصبحت فيما بعد، مناهج علمية يعتمدها علماء النفس المعاصرون. إن الشيخ العارف، في الطرق الصوفية، مثلاً، يؤدّي دوراً مباشراً وفعّالاً، في معرفة آفات وعيوب وإمراض نفوس مريديه، فيصف لها ما يلائمها من الأدواء المتمثلة بأنواع المجاهدات والرياضيات والأوراد والأذكار، بغية تصفيتها وتطهيرها وتزكيتها، وثم التقليل من تعلقها بالجسد لأجل إطلاقها، بعد ذلك في عالم الروح والولاية.
    هذه القاعدة نفسها- أي قاعدة مخالفة النفس- يتخذها الشيخ عبد القادر، أساسا لبناءاته الصوفية النظرية ومساراً لمناهجة الصوفية العملية، وهو يرى إضافة إلى ما سبق: إن ماهية وفحوى العبادات التي أمرت بها الشرائع السماوية، تتلخص في مخالفة العبد لنفسه وهواه.(1) فالإنسان مهما بذل من جهد وشمَّر عن ساعدي الجدّ وبالغ في عبادته لربه، من غير ما معالجة لهوى نفسه ومكافحة لنزواتها، فان تلك العبادة قد تعطيه مفعولاً معاكساً، فتنقلب وبالاً عليه وتورثه الكبر والعجب وتولد لديه الشعور بالمنة على الخالق والشعور بالتفوق على بقية العباد، فيقسو عندها قلبه وتنتفخ نفسه، وقد يبلغ بها ذلك حدّ الانفجار الذي هو موت القلب المؤدي إلى التهلكة. لذلك كان لابد أولا، من مبادرة الإنسان صوب نفسه، وسعيه إلى تأديبها ومحاولته لتزكيتها وتصفيتها فالتصوف ما سمي تصوفاً في تعريف الشيخ عبد القادر له، إلا لأنه فعل تصفية للنفوس وتجلية للقلوب(2) وان القلب لا يتم جلاؤه حتى تتم تصفية النفس أولا عن طريق تأديبها وترويضها فتصير عندئذٍ مثل كلب أهل الكهف، رابضة بلا حراك، على باب الرحمة وتُنادي: ( يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك)(3) (( فحينئذٍ يدخل القلب إلى الحضرة ويصير كعبة لنظرات الربّ، ويكشف عن جلال الملِك وكمال الملك، ويستوطن خيمة القرب، ويغرس في جوار الملك، وتظهر نجابته وتسلم إليه وراثته، ويسمع النداء من الرفيق الأعلى: يا عبدي كن عندي، أنت لي وانأ لك، فإذا طالت صحبته، صار بطانة للملك وخليفته على رعيته، وغمينه على أسراره، وأرسله إلى البحر لينقذ الغرقى وإلى ابرّ ليهدي الضال، فأن مرَّ على ميتٍ أحياه أو على عاصٍ ذّكره أو على بعيدٍ قرّبه أو على شقّي أسعده)).(4) وكما نلاحظ، فان الشيخ عبد القادر، يسمح، بين الحين والآخر لنصوصه، بان تسترسل فتفصح عن مخبآت ومكامن هي حتماً مما لا يرضى عنه الفقهاء، بينما هو عرف بحرصه الشديد على حفظ المقاربة معهم. ولعله في ذلك كان محكوماً بمقدماته الصوفية التي لا محيص عنها، فهنا مثلاً تمثل إمامنا صورة الإنسان الرباني الفائق، الكلي القدرة، الذي اخلص في نيته في إنقاذ نفسه، وصبر لأجل ذلك وقاسى أصناف الآلام والأهوال، وحين ظفر بمراده صار هو المنقذ والمغيث لغيره، فلقد اخذ الخلافة من الله تعالى على عباده وهي الخلافة العظمى التي لا تكون في هذه الأرض إلا لواحدٍ من البشر.

    ان تأكيد الشيخ عبد القادر على: ان تنقية معدن النفس وتصفية مادتها، من العلائق الدنيوية والأوهام والأمراض، يجب ان يكون هو المنطلق الأول للرقي الروحي، متأتٍ من اعتقاده بان النفس هي الأمينة على الجوارح، فاذا ما انحرفت فقد أهلكت معها الكل، وأما إذا استقامت وصفت واطمأنت، عندها سيسلم اليها مهمة حفظ الجوارح، لأجل إن يتفرغ القلب بعد ذلك للسفر إلى الحق عز وجل ويطلب ما عنده(1) ويتقرب اليه ويتنور بنوره، وان كل ما يجنيه القلب من هذه الرحلة فانه ضرورةً سيفيض من فضله على النفس ومن النفس على الجوارح، فيصفو الكل ويتنور الكل وتحصل النجاة الدائمة. إذن فالتصوف عند الشيخ عبد القادر، هو حصراً تصوف القلوب وكذلك الوصول، هو وصل القلب، وأما النفس فهي في بداية أمرها تشكل عقبة في الطريق، فإذا ما تجاوزها الإنسان صحت رحلته إلى ربه وأما إن فشل في ذلك، فلا طريق ولا وصل ولا تصوف.

    أطوار النفس

    من النفس المطَوعة المروَّضة، فقط، يكون انطلاق المريد نحو هدفه، فهي التي يعمل عليها اولاً ويتعهدها بالشدة والصبر والمكابدة، حتى تصفو وتطمئن وتتنـور، فتكـون له عندها، كالنجم الذي يهتدي به السائرون وسط ظلمة الليل، واما السرّ، فان الشيخ عبد القادر، يشبهه، بعد الصفاء بالشمس الساطعة وليست الشمس كالقمر وليس القمر كالنجوم، ومن غير نور الشمس لا يكون نهار ولا رؤية يقينية، فهي مراتب اذن، والصدارة فيها تكون للسر، وفي تشبيه آخر، فان السرّ، هو الملك المتربع على عرش مملكة الإنسان وامّا القلب فهو وزيره واما النفس واللسان وبقية الحواس والجوارح، فهي خدم بين ايديهما.(2)لا تملك الا الطاعة والخضوع لهما، ولكي لا نستغرب وصف الشيخ عبد القادر، للنفس، هنا بالطاعة والخضوع، فاننا نودّ ان نذّكر بان مجرد سطوع شمس السرّ، داخل الإنسان، بعد جلاء نور القلب، يدلّ على تغيير معدن النفس، ضرورةً، فلولا ذلك التغيير، لما وصل الإنسان، إلى هذا الترقي الروحي.

    معارف النفس

    على أساس هذا التقسيم (الطبقي) لعناصر الإنسان، يقسم الشيخ عبد القادر، معارف البشر على ثلاثة أصناف وهي: الحكمة والعلم والمعرفة، وهذه المعارف تتدرج رقياً وبالتتابع، فنجم الحكمة أولا، وهي مما يتعلق بأمور النفس والدنيا، وهي معرفة ظنية يبلغ الشك فيها مستوىً أعلى من مستوى اليقين، ويسميها الشيخ عبد القادر بـ ((مظنّة التهمة))(1) ولعل مردّ هذا التدني في درجة اليقين، يعود إلى اعتماد هذه (الحكمة) على الحواس، مصادر للمعرفة، والحواس، كما هو معروف لا تتعامل إلا مع الأشياء المادية، وهذه لا تملك من الوجود، عند الصوفية، إلا المرتبة الثانية بعد الروح. بعد هذه (الحكمة) يأتي دور قمر العلم، وهذا الشق من المعارف الإنسانية، متعلق بأمور الآخرة، وهو من اختصاص القلب، والمعرفة فيه تكون مصطبغة بصبغة الشبه، أي انه يستوي فيها الشك مع اليقين، وأما مقام القلب هنا، فهو مقام الشبه أيضا، وذلك لتوزعه بين وجهين، فوجه ينظر صوب النفس، فيورثه هذا النظر، العلم الظني، أي الشك، ووجه ينظر به صوب السرّ، فيورثه هذا النظر المعرفة اليقينية. أخيرا تأتي مرتبة المعرفة، وهي تاج السرّ، وشمس المعرف، وهي مما ينظر به إلى المولى عز وجل(2) ، إنها من صنف اليقين الخالص، (عين اليقين)، الذي لا يتطرق إليه الشك من قريب أو من بعيد، وأما وسيلتها، فالحدس الفائق مضافاً إليه فيض المواهب الإلهية أو ما يسمى بـ ( المعارف اللدنية). هذه المعرفة، لا تجنى إلا بعد صفاء السرّ، فإذا صفا السرّ أتت منه العجائب مما لا عين رأت ولا أُذن سمعت ولا خطر ببال بشر، حيث عالم الملكوت الأعلى، عالم القدس والخلود والقرب الأبدي.

    السلوك الصوفي، اذن، على وفق هذا التشبيه، يمكن عدّه وسيلة من وسائل المعرفة البشرية وليست اية معرفة، بل المعرفة اليقينية التي تعتمد على الذوق والمشاهدة. وهذه المعرفة لا تُنال دفعة واحدة، بل لا بدّ من ان تتدرج صعوداً، ابتداءاً من المعلومات الظنية التي تعتمد على الحدس والاستدلال والاستقراء، وهي مما ينظوي تحتها العلوم الدنيوية، بما فيها العلوم الشرعية، ثم بعدها في المرتبة، تأتي (العلوم) وهي مما يتعلق بالأمور الغيبية، وهذه تحتاج إلى أسس عقلية وحجج وبراهين، ولكنها تعتمد أساساً على التصديق القلبي بالأمور الغيبية والأيمان بها، الذي هو أساساً من عمل القلوب والسرائر. أما المعارف، وهي المرتبة الأخيرة، فأنها تتجاوز كل ذلك داخلةً بصورة مباشرة إلى عالم اليقين الذي لا يتطرق إليه شك أو حتى اشتباه، وكون المعرفة لدنية، أي إنها ربانية المصدر، ولكن كونها تأتي من خارج نطاق مدارك الإنسان فان ذلك لا يلغي دور الإرادة الإنسانية في تحصيلها، فالعبد الذي لم يهيئ وعاء قلبه لاستدراج فيضها، لا يمكن ان ينال منها قبساً واحداً، لا بل إنها تُعدّ من أصعب المعارف على الإطلاق، لأنها تحتاج إلى جهد ومثابرة عظيمين .

    مما سبق , يمكننا ان نفسّر مقولة الشيخ عبد القادر: (( ان السير إلى الله عز وجل – يكون- على قدر نور المعرفة))(1) أي نور المعرفة بالنفس أولا ثم نور المعرفة به تعالى,وبغير ذلك لا يتحقق وصول ولا يستحصل قرب, ثم إن هذه المعرفة ,كما تفصح العبارة تقع على درجات,وان هذه الدرجات تختلف باختلاف المصـادر التي تنبع منها,وان أرق درجة من درجاتــها , هي تلك التي تتعلق بالسر, وان هذا السـر, إذا ما تمكن منه نور المعرفة , فسيصبح كالشـمس التي تنير ما حولها, فيملي على القلب ثم يملي القلب على النفس المطمئنة, وهذه بدورها تملي على اللسان واللسان أخيراً يملي على الخلق, ومن يتكلم على الخلق (( فعليه أن يتكلم بهذه الصفة وألا فلا يتكلم))(2) إذ إن الكلام في الحقائق الصوفية والمراتب الروحية , لا يمكن أن يباح لكل متكلم , بل هو يوقف حصراً على أهله المتمرسين بحقائقه , المجاهدين أنفسهم والحافظين أصولَ شرائعهم .





    الجدل الصاعد والجدل النازل

    إن الطريق الصوفي الذي يبغي السالك اجتيازه , والذي ينتهي به إلى درجة القرب من المولى تعالى ,لا يمكنه قطعه دفعه واحده ,ولا اعتماداً على الوسيلة نفسها , بل أن هذا الطريق ,يقسمه الشيخ عبد القادر على ثلاث مراحل ,وفقاً للتقسيم الثلاثي لباطن الإنسان, المرحلة الأولى منها, يمكن للمريد السالك أن يقطعها اعتماداً على نفسه التي استنارت بعد ان تخلصت من أدرانها وصفت, وصارت مطيعة للقلب ساعيةً لفعل الخير . هذه المرحلة تنتهي عند تخوم باب (الحضرة).(1) وفي هذا (المكان) تبلغ النفس منتهى مراقيها ومراتبها ,فلا وجود للنفس ـ بصورها كافه ـ فيما بعد هذه المرحلة, إذ يبدأ بعدها دور القلب , الذي يمكنه أن يبلغ بصاحبه إلى مقام (الحضرة). أخيرا يأتي دور السر الذي وحده يمكن أن يصل إلى مقام (المخدع), قائماً بين يدي الحق تعالى, وهذا هو أقصى ما يمكن إن يصل إليه أو يناله بشر . ولكن الشيخ عبد القادر لا يوقف(مسيرة الروح) تلك, مع نهاية مطاف (جدله الصاعد) , إذ تبدأ عنده, بعدها , رحلة (الجدال النازل), أو رحلة العودة من السماء إلى الأرض, فالسر بعد أن يتمكن من مقامه و ينعم بالقرب والحظوة ,وتنكشف امامه مخباَت العلوم الالهيه, يعود فيلقن القلب من معارفه الربانية (الجديده),فيحوله إلى قلب جديد وهذا القلب بدوره يلقن النفس ويعيد صياغتها , وهكذا.

    الخلاص الجماعي

    وهكذا يمكننا أن نلخص , مما سبق , إلى نتيجتين مهمتين , تسلطان الضوء على فحوى المنهج الصوفي العملي , أو مضمون طريقته الصوفية التي حاول أن يرسي دعائمها وان يبثها في الآفاق.

    الأولى منهما تتعلق برؤية الشيخ عبد القادر للإنسان بكونه وحدة عضوية واحدة، لا تقبل التجزئة أو التفريد على الحقيقة, فالإنسان يصلح كله أو يفسد كله, ولا يمكن أن نرى في الشخص ذاته, نفساً صافيه وقلباً آثماً, أو سراً منوراً بنور المعارف الإلهية وبإزائه روح متمرده غارقة في ظلام الجهل, بل ان مجموع الأجزاء الصالحة ,تشكل إنسانا صالحاً ,وان أي خلل أو نقص في احد أجزاء الإنسان ,سواء أكان يمثل هذا الجزء, نفساً أم قلباً أم روحاً أم سراً, لا يمكن أن يعطينا إلا إنساناً ناقصاً. الملاحظة الثانية تتعلق بنظرة الشيخ عبد القادر للمجتمع البشري بكونه، أيضا، وحدة عضوية واحدة ، لا تقبل التجزئة في الواقع، فلا خلاص لإنسان بمفرده دون بقية أبناء جنسه، بل أن الصوفي الحقيقي، يكون لزاماً عليه- بعد وضوح الرؤية أمامه، وبعد تمكنه من طريقته- إن يدلّ الناس على أكثر السبل نجاةً وأقربها إلى الباري عز وجل، فالنجاة، على وفق هذا المنظور، لا تكون الا جماعية، وكذلك الإصلاح، فهو جماعي أيضا، فلا مجال، إذن ، والحالة تلك، لانطواء الصوفي على نفسه واعتزاله عن الناس بصورة دائمة. أن الصوفي الذي استطاع ان يقطع شوطه في الصعود بنجاح، ثم توقف بعد ذلك، لا يمكن عدّه صوفياً على وجه الكمال، اذ ان هذه الصفة، لا تنال الا من خلال رحلة العودة والنزول، ثم الاندماج بالناس من اجل اصلاحهم.

    معرفة النفس الأمّارة بالسوء

    فيما سبق، تابعنا، مع منهج الشيخ عبد القادر، الصوفي، مراحل تصفية النفس الإنسانية ووسائل تحسين صفاتها، ومراقي سمو مراتبها، وكيف انه يمكن لهذه النفس أن تغدو صالحة مطمئنة، مهيأةً لان تلج إلى غرفات رضوان الآخرة من أوسع أبوابها. وهنا، لا بدّ لنا من العودة إلى نقطة البداية وإلى الخطوة الأولى من خطوات السلوك الصوفي وإلى الحالة الأولى من حالات هذه النفس. أما الخطوة الأولى فهي معرفة الإنسان نفسه، وأما حالة النفس الأولى فهي: النفس الأمّارة بالسوء.
    يرى الشيخ عبد القادر: إن معرفة النفس الأمّارة بالسوء، يُعدّ ركناً أساسياً ومهماً من بين أركان المجاهدات والرياضيات وسلوك سبيل القوم بوجه عام.(1) إذ إن هذه المعرفة تدفع بالمريد السالك إلى أن يضع نفسه الأمّارة بالسوء في الموضع الذي وضعها ربها عز وجل فيه ويصفها بما وصفها به، من قبل إن تخادعه وتظهر له خلاف ما هي عليه.
    ولكي لا يترك الشيخ عبد القادر، كيفية هذه المعرفة مبهمة، أو عرضة لاجتهاد المجتهدين وتأويل المتأولين، فقد وزعها على شقين: يتضمن الأول منهما متابعة كلامه تعالى، فقد ورد فيه الكثير من الأوصاف للنفس الإنسانية، ولا يخفى ما في هذه المتابعة من تأكيد منهج الشيخ عبد القادر، الذي يحث على ضرورة الالتزام بحدود وأوامر الشرع ونواهيه وان الخطوة الأولى من مرحلة السلوك الصوفي، لا بد من أن تبدأ من خط شروع الشريعة. أما الشق الثاني، فانه يعتمد بالدرجة الأساس على الجهد الذاتي للمريد وعلى صبره وإخلاصه في مسعاه، فهو يتمّ عن طريق الاستبطان والرصد الداخلي والمتابعة الدقيقة لخطرات وحركات النفس، وعن طريق هذه الخطوة، يمكن للمريد من أن يعرف الكثير من خبايا نفسه وأسرارها، فلا يشق عليه بعد ذلك أو يخفى، كيفية ملاحقتها ومقارعتها وترويضها وثم حسن سياستها.

    صفـة النفس الأمّارة بالسوء

    هذه النفس الأمّارة بالسوء، هي- كما يراها الشيخ عبد القادر – أعدى للإنسان من أي عدو آخر حتى ولو كان إبليس ذاته، وإنما يقوى إبليس على الإنسان بهذه النفس وبقبولها منه، ولذا فان على المريد إن يعرف، أولا وقبل كل شيء، ماهية طباعها وما رإدتها، وألام تدعو وبم تأمر وكيف هو تكوينها وخلقها. هذه النفس جُلبت بطريقة عجيبة، فهي موطن لكثير من الصفات والطبائع المتناقضة، إنها مخلوق ضعيف بذاته، ولكنها في الوقت نفسه، قوية الطمع، شرهة مدّعية، خارجة عن طاعة الله تعالى، متملكة، متمنية. إنها إن خافت، فهذا يعني في حقيقة الأمر أنها آمنة، وهي إن صدقت، فهذا يعني إنها كاذبة، رجاؤها أماني ودعواها باطلة وكل شيء مـنها غرور، وليس لها فعل محمود ولا دعوى حق.(1) ولولا أن الشيخ عبد القادر قد ابتدأ بوصف هذه النفس بالضعف لبدا لنا إن مصير الإنسان معها محكوم لا محالة بالهلاك. ولعل ذلك (الضعف) لا يغير من حقيقة الأمر شيئاً، فالرهان صعب وواقع حياة البشر أصعب، أو لعل الشيخ عبد القادر، كان يبغي، من وراء إظهاره لقتامة موقف الإنسان، إن يبين لنا مدى خطورة السبيل الذي يضع المريد نفسه فيه فالذي يبغي النجاة ويهدف إلى انتشال ذاته من ذلك المصير، لا بدّ عليه من إن يشمرّ عن ساعدي الجدّ وان يشد العزم على اجتياز العقبات كافة ولو كلفه ذلك تغيير بعض طباعه والتخلص من بعضها الآخر.


    إذن فعلى المريد السالك، والحالة هذه، إن لا يغتر بما يظهر له من نفسه من طاعة وخضوع، وان لا يرجو منها خيرا أو يطمع في صواب، بل أن يبقى معها في دوام المراقبة والمخالفة والمحاسبة فهو إن حلّ عنها قيودها شردت، وان أطلق وثاقها جمحت وان أعطاها سؤلها هلكت وان غفل عن محاسبتها أدبرت وان عجز عن مخالفتها غرقت وان اتبع هواها تولت إلى التهلكة.(1)وعليه، فليس للنفس الأمّارة بالسوء حقيقة ولا صدق ولا رجوع إلى صلاح أو خير، وهي رأس البلاء ومعدن الفضيحة وخزانة إبليس ومأوى كل سوء ولا يعرفها أحدّ غير خالقها، فهي في الصفة التي وصفها به.(2) وإضافة إلى ذلك, فان النفس لا توصف بمنقصة أو رذيلة, إلا وهي في حقيقتها, أكثر مما توصف به, وهي لأجل كل ذلك صارت صديقة إبليس ومستراحه ومسامرته ومحدثته, فإذا عرفها المريد على هذا الوجه, فقد عرفها وهانت عليه وذلت وقوي هو عليها بالله تعالى وبمعرفته هو بها.(3)
    إذن فالقصد من وراء معرفة المريد بنفسه هو: اكتساب الخبرة والدراية بها وبقدراتها ونوازعها وطباعها, وكذلك مكامن القوة والضعف فيها لأجل التمكن منها والسيطرة عليها ولأجل الاستعداد والتأهب لمكائدها ومصائدها. فأنها إن كانت عدوة, فهذا يعني أنّ المريد السالك في حالة حرب مستعرة معها، فان كان قد عقد العزم على كسب الجولة في هذه الحرب، فان عليه إن يتبحر جيداً في معرفة عدوه وان يعمل جاهداً على كشف أسراره. ولكن مــعرفة هذا العدو(النفــس) ليست شعاراً يردده المرء مع نفسه، بل هي عمل دؤوب وشاق يتبعه سعي إلى تغيير دوافع النفس وتوجيهها الوجهة الصحيحة. ويسأل الشيخ عبد القادر، بعد كم وكم من المجاهدات والأفعال الشاقة والجوع والعطش، يمكن لهذه النفس، التي جبلتها وحقيقتها الأمر بالسوء، أن تأمر بما يأمر به القلب؟ أي بمعنى آخر، إن تتهذب طباعها فتصدر عنها أفعال مغايرة تماماً لما كان يصدر عنها في سابق عهدها. إنها في هذه الحالة، ستكون بحاجة إلى عملية تذويب وإفناء، فهي ((إذا ذابت وفنيت، اطمأنت إلى القلب، ثم يأتي دور القلب بعدها، فيطمئن إلى السرّ، ثم يطمئن السرّ إلى الحق تعالى، فيكون شرب الجميع- أي النفس والقلب والسرّ- من هنالك(4) أي من منبع الحق والذوق والمشاهدة، وهو منبع علم اليقين الذي ما بعده علم يفوقه.
    إن عمليتي التذويب والإفناء، لا تدلاّن عند الشيخ عبد القادر على قلع أو إزالة النفس بكل طباعها وأهوائها ونوازعها، وإنما هما تدلاّن على عملية تمثيل أخلاقي لصفات القلب وطبائعه الحسنة، فالنفس التي تعتاد التطلع إلى مقام القلب، لا بدَّ من إن تقتبس من نوره الشيء الكثير. على إن عملية التذويب والإفناء هذه، لا تتم بنجاح إلا بعد إن يكون المريد قد امتلأ إرادةً وعزماً على إن يخالف نفسه في موافقته ربه وموافقته لنفسه في طاعته ربه، في الوقت نفسه الذي يكون فيه قد خالفها في معصيتها ربها، فكل الأعمال التي يأتيها المريد، لا بدّ إن تكون مقرونة بمرضاة الله تعالى وطاعته، وألا فأنها لا تحسب من أعمال القلوب ولا تعدُّ من فقرات السلوك الصوفي0 وهذا النهج- أي اقتران الفعّاليات الصوفية بنية مرضاة الله تعالى- يُعدّ الدليل الوحيد على صحة النهج الصوفي ومشروعيته، ويُعدّ أيضاً، الحدّ الفاصل بين صدق أم كذب هذا ألفعل0

    التصوف وطول الأمل

    إذن فعملية الترقي بطباع النفس وأهوائها ترتكز بالدرجة الأولى على الإنسان ذاته فالإنسان هو حتماً أشفق شخص واحرصه على حفظ نفسه وإنقاذها وتجنيبها الضياع ، لأنه إن ضيع نفسه فكيف يرجو من غيره أن يوليها عناية أو يحفظها له؟ ويرى الشيخ عبد القادر ، إن طول الأمل والحرص على الدنيا ، هما أنكى ما يمكن أن يصيب الإنسان من داء يودي بنفسه إلى التهلكة والضياع ، ولذ فهو ينصح مريديه وسالكي الطريق الصوفي بوجه عام ، أن يجتهدوا من اجل تقصير الأمل وتقليل الحـرص على الدنيا عن طريق الإكثار من ذكر المـوت (هـادم اللذات) وعن طريق مراقبة الله عز وجل والتداوي بأنفاس الصدّيقين وكلماتهم وهم شيوخ ألتصوف المتمرسون بطبّ النفوس وأخيراً عن طريق الذكر الصافي من التكدر، سراً وجهراً وفي جميع الأوقات.(1) وهذا (العلاج) الأخير، يعدّ من أهم العلامات التي تميز جماعة الصوفية من غيرهم من الجماعات، وهم في الوقت نفسه ،يعدّونه ،فيما لو صحبه جهاد النفس، من أفضل وسائل نيل درجات القرب من الله تعالى.

    يعرف الشيخ عبد القادر طويل الأمل بأنه : من يظن إن بأمكانه أن يقترب من مولاه ، وان ينجح في سلوك طريق القوم ، قبل أن يتمكن من تزكية نفسه وتنقيتها من الاكدار وإذابة شرورها ، وقبل أن يتمكن من تغذية قلبه بالغذاء الحقيقي ، وهو ذكر الله تعالى وطاعته(1) إن الاكدار التي تعلق بالنفس والغفلات التي تحجب القلب عن ذكر ربه ، تعد من قبيل النجاسة الباطنية وعدم الطهارة الروحية في الإنسان، ومن كانت هذه صفته، فلا يطمعن في قرب أو وصول، إذ لا وصول، على الحقيقة، من دون يقظة القلب وصفاء النفس وقصر أملها، وان من قصر أمل نفسه ، فأنها سوف تطيعه إلى ما يريد منها، وهو حتماً، بعد أن أصبح سالكاً، لا يريد منها، إلا الاستزادة من وهج الأنوار القدسية. إن النفس طويلة الأمل، لا تعدو كونها حجاباً، بحجب بصيرة الإنسان عن النظر إلى الحقائق الربانية اليقينية، لا بل إنها تحجب الإنسان عن خالقه وذلك بتعلقها بالدنيا، أو حتى تعلقها بالآخرة ، فالدنيا والآخرة كلتاهما مخلوق، وان من تعلق بمخلوق حجب عن الخالق إذ إن (مالك ومملوك لا يجتمعان )(2) على إن عبارة الشيخ عبد القادر هذه، لا تشكل مانعاً يمنع المريدين من الأخذ بنصيبهم من الدنيا، فهذا ما يؤكده دائماً، بل ان الذي يمتنع عنده فقط، هو اجتماع الدنيا والآخرة في القلب، فالقلب هو موطن الذكر والعلم والحب الإلهي، وهو أيضا، موضع نظر الرب فإذا ما التزم القلب بهذا الحد واخلص في ولائه لمولاه، عندها، سوف لا يكون هنالك خوف على العبد فيما لو نال من الدنيا نصيبه، عبر المنافذ المباحة في الشرع .

    مجاهدة النفس

    إن مجاهدة النفس الأمّارة بالسوء ، هو الشعار الذي لا يكل الشيخ عبد القادر عن ترديده في اكثر مناسبات حديثه، فهو يرى أن الهداية الحقيقية تكمن في مجاهدة المرء نفسه، وانه لا هداية من غير تلك المجاهدة ،وقوله ( جاهد نفسك حتى تهتدي )(3) وإننا إذا أردنا أن نسلط الضوء على هذه العبارة، فسيمكننا القول انه يستحيل علينا تصور بلوغ الإنسان سبل الرشاد، وهو مسلوب الباطن وموزع بين أهواء متضاربة ونوازع شتى تدفعه بعيدا حتى عن مجرد النظر إلى تلك السبل والهداية إذا ما فسرت بمعنى الاهتداء والوصول الذي يتم بعد التيه والضياع، فأنها ستحتاج حتماً إلى حواس سليمة وبصيرة نافذة، وهذه لا تكتسب إلا بعد تصفية النفس من خلال فعل المجاهدة.



    والمجاهدة لصعوبتها وشدة وطأتها على نفس المريد، فأن الشيخ عبد القادر يشبهها بالموت الإرادي الذي يسـعى إليه الإنسان بنفسه في مقابل الموت الطبيعي الذي يأتي حتف الأنف، فالمجاهدة إذن تعني أن يميت المريد نفسه قبل إن يدهمها الموت الطبيعي وهي على حالها الأول فتحرم الحرمان الأبدي، وتعذب وتبعد، فلا قرب لها بعد ذلك ولا جزاء ، أن يميتها بين يدي الحق عز وجل، بالصبر والمخالفة ((فعن قريب يحمد عاقبة ذلك، إذ أن صبره يفنى وأما جزاؤه فلا يفنى))(1) ولأجل هذه ( الاماته ) يضع الشيخ عبد القادر، لمريديه، خطة عملية، يعلمهم من خلالها – تعليم خبير متمرس – كيفية تعاملهم مع نفوسهم الأمّارة بالسوء فيقول: لا ترخص لها – أي لنفسك – ولا تطعها، كي تفلح، ولا تتبسم في وجهها، وجاوبها عن كل ألف كلمة بكلمة واحدة، إلى أن تتهذب وتطمئن وتقنع ، فإذا ما طلبت منك الشهوات واللذات، فماطلها وآخرها وواعدها في الآخرة، إذ إن لها فيها نعيماً دائماً وملكاً لا يزول، صبرّها على مرارة المنع، حتى يجيئها العطاء الحقيقي الذي ما بعده منع. إذن فلاحّظ للنفس في هذه الدنيا، وأما الحظوظ التي هي نصيب المريد من دنياه والتي لابدّ له من تناولها، فأنه لا يمكنه من أن يتناولها، إلا بعد أن يميت أهواء نفسه بحيث يُقبل بعدها على الدنيا من غير إستلاب نفسي أو غفلة قلبية.

    ولأجل أن يُحكم المريد، ضرب طوقه حول عنق النفس، فأن الشيخ عبد القادر، ينصحه، إضافة إلى ما سبق، بأن يحرص على التزام الصمت، وأن يمسك عن الإِدّعاء، وأن لا يكون له كلام و لافعل وهو في (الطريق)، حتى يخرج من بيت طبعه وهواه ووجوده وحتى يخرج، أخيراً، عن نفسه، بأن ((يترك نفسه وهواه وطبعه على الباب كي يُسرع إلى الأساس، لأنه إذا أحكم الأساس، أسرع في البناء، وأنجز ما عقد عليه العزم، فكان من الواصلين، وما الأساس إلا الشريعة، وما مادته إلا الفقه في الدين)).(2) ويستدرك الشيخ عبد القادر، هنا، فينبه، إلى أن قصـده من الفقه في الدين في هذه

    المرحلة، هو فقه القلب،(1) وليس فقه اللسان، لأن فقه القلب هو الذي يقرّب العبد إلى الحق عز وجل, وأما فقه اللسان فأنه لا يُقرَّب إلا من الخلق وملوكهم. (إن فقه القلب يتركك في صدر مجلس القرب من الحق عز وجل، يصدَّرك ويرفعك ويقرَبّ خطاك إلى ربك عز وجل).(2) ولكن ليس علينا أن نعتقد، بناءً على سبق، بأن للنفس عند الشيخ عبد القادر، كيانها المستقل عن باقي التكوين الكلي للإنسان، لكونها قد بدت أمامنا، وكأنها عبد مارق أعجز سيده، فبدا له ضرورة تطويعه وترويضه بأقسى الوسائل. إنه يعاملها بإحتقار وتشفٍّ، بحيث يفرح لحزنها ويحزن لفرحها. إن النفس الإنسانية، عند الشيخ عبد القادر، إذا كانت جزأ لا يتجزأ من القلب أو السرّ، أو الإنسان بوجه عام بكونه وحدة عضوية لا تقبل التجزئة، فأنها في الوقت نفسه، تبدو لنا كجهاز يعمل على وفق آلية خاصة، لها نوع من الاستقلال عن باقي (أجهزة) الإنسان الأخرى، بحيث أنه يمكنه العمل بما يخالف مراد الإنسان ومبتغاه، وعلى هذا الأساس، تكمن مجاهدة المريد في تحوير آلية هذا الجهاز وثم تشغيله عبر آلية جديدة تعمل في تناغم تام مع بقية أجزاء (المجمَّع) الإنساني.

    حقيقة النفس

    إن حديث مشايخ التصوف، بعامة، عن النفس الإنسانية، بهذه اللهجة التي تغلب عليها نبرة الكراهية والمعاداة، لا يشمل هذه النفس، بمراتبها ومقاماتها كافة، وإنما يشمل منها، فقط، النفس الأمّارة بالسوء، التي لا تمثل، في حقيقتها، إلا وجهاً واحداً من بين أوجه النفس الإنسانية المتعددة، التي سيأتي تفصيل الكلام فيها، فيما بعد. أما لماذا أولى الصوفية، وبخاصة منهم الشيخ عبد القادر النفس الأمّارة بالسوء، كل تلك الأهمية، بحيث انهم، اشبعوها، دون بقية الأنفس، بحثا وتاملا واختبارا، فان ذلك يعود، إلى اعتقادهم: بان هذه النفس، تشكل فى طريق السالكين، مرحلة صعبة وعقبة كأداء، بحيث إذا ما استطاع المريد تجاوزها، فأنة سيتيسر عليه بعد ذلك، الإسراع صـعودا

    فى مراقى النفس التالية، فيستحق عندها تسمية الصوفي. وتجدر الإشارة هنا، إلى أن الشيخ عبد القادر، لا يعني بإحصائه لأوجه النفس المتعددة، وجود كثرة من الأنفس في الإنسان ذاته، منفصلة إحداها عن الأخرى، بحيث تخلع وتُستبدل، كفعل المرء مع قطع ثيابه، وإنما هي عنده، نفس واحدة، ولكنها تكثرت باعتبار صفاتها الغالبة، وهو يرى أن هذه النفس، بمجموع صفاتها هي: النفس الناطقة وهي القلب، ولكن ليس المراد، هنا، بالقلب هو تلك المضغة اللحمية القابعة في جوف الإنسان، وإنما هو، اللطيفة الربانية، أو الجوهر المجرد عن المادة في ذاته، المقارن لها في أفعاله.(1) و لا يخفى على القارئ، أن هذا التعريف ينسجم ومعطيات النظرية الأفلاطونية في النفس، فهذه النظرية تضع للنفس الإنسانية وجوداً مجرد ومستقلاً عن المادة، لا بل حتى وجوداً سابقاً عليها، على أن هذه الإشارة، لا تعني ضرورة، تأثر الشيخ عبد القادر، المباشر، بآراء هذه المدرسة، إذ لم نجد في فكره، أي تقارب أو تعامل مع الفلسفة بوجه عام، هذا بالإضافة إلى أنه يمكن القول: إن إعتقاد مفكري الإسلام، بإستقلال وجود النفس أو الروح عن وجود الجسد وكذلك قولهم بأسبقية هذا الوجود، هو أقرب إلى معطيات العقيدة الإسلامية منه إلى المدرسة الإفلاطونية، إذ إن لهم في أسسهم الشرعية أسانيد كثيرة تؤكد لهم ذلك.

    أسماء النفس

    هذه النفس، كلما إتصفت بصفة، سميت، لأجل إتصافها بها، بأسم من هذه الأسماء، فإن صادفت ما وافقها من الشهوات وصارت تحت حكمها، سميت أمّارة، وإن سكنت تحت الأمر التكليفي وأذعنت لإتبّاع الحقَّ ولكن بقي فيها ميل للشهوات، سميت لوّامة فأن زال عنها هذا الميل،وقويت على معارضة الاهواء الشهوانية،سميت نفساً مُلهمة0 فأذا ماسكن أضطرابها،ولم يكن للنفس الشهوانية حكم فيها ولاسلطان أصلا،سميت عندئذٍ بالنفس المطمئنة فأَن ترقَّت عن جميع ذلك،وأسقطت كل المقامات والمراتب من عينها،وفنيت عن جميع موادها،سميت نفساً راضية،فأن زاد حالها هذا،وتطبعت به بحيث لم تطلب الرجوع عنه،صارت نفساً مرضية،عند الحق وعند الخلق، وأخيراً فأن هذه النفس،إذا ماأُمرت بألرجوع إلى العباد،من اجل هدايتهم وارشادهم وتزكيتهم وتكميلهم،سميت نفساً كاملة(1).لان الله عز وجل، كمّلها ببلوغها أعلى المقامات والمراتب ألمرجوّة،وهو مقام الخلافة العظمى(2) وهداية العباد0
    إننا أذا ما أحصينا عدد هذه (الانفس) التي ذكرها ألشيخ عبد القادر،وجدناها سبع أنفس،وهذا(العدد) كبير نسبياً،يكاد ينفرد به دون من سبقه من الصوفية، فألغزالي مثلا،وهو(آخر) الشيوخ السابقين عليه، إكتفى، كما مرَّ بنا في بداية هذا المبحث، بخمس أنفس فقط0 ولعل عدد ألانفس عند الشيخ عبد القادر،متعلق بعدد ماأحصاه فيها من صفات ومراتب ومقامات، فهو قد توسع في ذلك، وأولاه كثير عناية وأهتمام، أنسجاماً مع توجهه التربوي وألاصلاحي. وعلى العموم،فأن تقسيم ألنفس الإنسانية على عدة أنفس،سواء عند الشيخ عبد القادر ،أو عند غيره من شيوخ التصوف، ماهو في حقيقته، إلا تقسيم أجرائي، يخدم أغراضهم التربوية وألتعليمية، وامّا في واقع الحال، فأنهم جميعاً متفقون،على أن هذه النفس، ماهي في حقيقتها إلا وحدة واحدة وكيان متماسك،له صفات متعددة،تتدرج من المستويات السيئة أو الدنيا إلى المستويات الحسنة أو العليا0 وعند الشيخ عبد القادر،فأن أدنى مستوى لهذه ألنفس،هو مستوى ألنفس الأمّارة بألسوء، ثم يأتي بعدها مستوى النفس أللوّامة ثم ألنفس ألملهمة ثم النفس المطمئنة ثم النفس المرضية ثم النفس الراضية،ثم أخيراً مستوى النفس الكاملة،وهو مطمح جميع الصوفية ومبتغاهم،أما تفصيل الكلام في ذلك فهو كما يأتي:

    أولا: النفس الأمّارة بالسوء

    هذه النفس تولد مع كل إنسان، فهي قدره الذي لا يستطيع عنه فكاكاً، إلا إذا تعهدها بالتأديب والرياضات،وهي نفس ذات حجب ظلمانية، لونها أزرق(3) ومحلها الصدر، بكون الصدر في عرف الصوفية، هو محل الوساوس والهواجس، ومنه تنطلق الرغبات والأهواء الدوافع الحسية كافةً وعالمها الشهادة، وهو العالم الحسي المحض الذي لا يخالطه غيب، وواردها الشريعة،(1) إذ لابد لصاحب هذه النفس من أن يتفقه في علوم الدين وحدوده، لكي يعرف ماله وما عليه، ولكي لا يقترف المحارم والمناهي عن جهالة. هذه النفس تشتمل على تمام دائرة صفات الكفر والعناد والإنسان معها يكون تابعاً لهوى نفسه، ولذا فهو يحتاج إلى الرياضة(2) المتواصلة وإلى تصفية النفس والإشتغال بالذكر، وخصوصاً منه ذكر ( لا الله إلا الله )، فلهذا الذكر في إعتقاد الشيخ عبد القادر، خاصية عجيبة تتمثل في القدرة على التطهير، أي تطهير النفس، ولو كانت سيئاتها مثل زبد البحر في الكثرة والتتابع. ولأجل إحكام القبضة على هذه النفس، فأن الشيخ عبد القادر، ينصح مريده، صاحب هذه النفس، بأن يتذكر أسباب الخوف، لأنه، في هذه المرحلة، أنفع له من الرجاء ولكن شـرط أن لا يوصله هذا الخوف إلى حالة القنوط أو يلقي به في ظلمة اليأس من النجاة من الهلكة. وهنا، يؤكد الشيخ عبد القادر، كما في مواضع كثيرة على ضرورة الموازنة بين الأحاسيس والدوافع الدينية المختلفة، كي لا يصل المريد، من جرّاء إفراطه في التشبت بحاله، إلى حالة الشعور بالإحباط الديني الذي كثيراً ما يصاب به السالكون.

    وعلى صاحب النفس الأمّارة بالسوء، أيضاً، أن يعتاد على التذلل والخضوع والتضرع إلى الله تعالى، لأن في ذلك علاجاً لهذه النفس من الشعور بالكبر والاستعلاء على الآخرين والأنانية المفرطة. وليكن همّ المريد في هذا (المقام)، الخلاص من ضيق النفس والتوجه إلى فضاء الروح وأن يكون ديدنه المستمر ومطلبه الأوحد، هو التخلي عن الأوصاف الذميمــة والتحلي بأضدادها


    وإستبدال أخلاقه السيئة، بالأخلاق الحميدة التي أوصت بها الشريعة المحمدية.(1) ولعل الشيخ عبد القادر، يريد أن يخبرنا من وراء ذلك، أنْ لا جديد و لا إبتداع في كل ما يأمر به النهج الصوفي الصحيح، إذ أن الذي يدعو إليه، لا يخرج قط عن مظلة الشرع الإسلامي، لا بل إنه هو الشرع بعينه، وإن كل ما عداه، هو مما يقصر عن بلوغ مراد وحقيقة الشرع.

    يرى الشيخ عبد القادر، أن هذه النفس الأمّارة بالسوء، كانت في الأصل نفساً صافية، ولكنها لمّا تدنست بالميل إلى الطبيعة والركون إلى الشهوات، وصادفت الدوافع الشهوانية والميول والطبائع الغريزية، انخرطت في السلوك الحيواني، وتبدلّ صفاءها كدراً ومحاسنها معائباً، وصارت لا تتميز عن الروح الحيواني إلا بالصورة، وصار الشيطان من جندها، فهي التي تأمره وهي التي توجهه وهو لا يستطيع إن يفعل شيئاً من دون رغبتها أو إرادتها وفي هذه النقطة الأخيرة، يشير الشيخ عبد القادر إلى مسألتين مهمتين: الأولى، اعتقاده الصريح بثنائية الإنسان، وبأسبقية وجود الروح على وجود الجسد، والثانية إعطاؤه مزيداً من الدفع لحرية الإنسان ومسؤوليته عن أعماله، وذلك بتقليصه لدور قوى الشر، التي طالما يعزو البشر أسباب خطأهم إليها.

    أما عن صفات هذه النفس، فأن الشيخ عبد القادر، لم يبقِِ ولم يذر شياً من الصفات السيئة إلا وألصقها بها، فهي تتصف بالبخل والحرص الشديد والغل وسوء الخلق، والخوض فيما لا يعني من كلام وغيره، وكذلك الاستهزاء بألآخرين والبغض لهم وايذاؤهم، إنها النفس الخبيثة، وذلك لأنها واقعة تماماً في ظلمة الطبيعة، فلا فرق عندها بــين الحق والباطل و لا بين الخير والشر، ولذلك
    كان الشيطان لا يقدر على الدخول إلى الحرم الإنساني الا بواسطتها.(2) ولذلك ايضاً، كان الإنسان مع هذه النفس، أبعد ما يكون عن مرتبة الإنسانية الحقة، لأن نفسه في هذا المقام، تكون محجوبة بالحجب الظلمانية الكثيفة، أما ما عداها من النفوس التالية، فهي محجوبة بحجب نورانية بعضها أرقّ من بعض، ولذلك فأن السالك لا يستحق تسمية المريد إلا إذا تجاوز حدود أرض هذه النفس.

    نخلص مما سبق، إلى أن النفس الإنسانية، ما هي في الأصل إلا روح طاهرة نقية خيرّة، لا يربطها بمكامن الشر والغرائز والأهواء أي رابط، وهي لا ينالها ما ينالها إلا من جرّاء إتصالها بالجسد مكمن النقائص والشهوات، إذن، فلا داعي لليأس والقنوط فالســــبيل غير مغلقة أمام الإنسان

    لإٍصلاح حاله، بل إن الخير والصلاح هما حقيقته الأصلية وأما ما عداها من الشرور، فأنها أمور طارئة، يمكنه تجاوزها فيما لو عقد العزم على ذلك. الإنسان إذن خيرِّ بطبعه نقي بسريرته، ولا يحتاج منه العمل على العودة إلى الصلاح (المفقود) إلا عقد العزم والصبر على الشهوات، وليس في الأمر تغيير للطباع وإنما سيطرة عليها وإستعادة لما فُقد منها في السابق.

    ثانيا: النفس اللوّامة

    وهي المرتبة الثانية من مراتب النفس الإنسانية، لون نورها أصفر، ومحلها القلب، بكون القلب هو موضع اللوم والتبكيت والمحاسبة والمراقبة، وأما عالمها فهو عالم البرزخ(1) وواردها الطريقة، بما يتضمنه هذا الوارد من الأخذ بالرياضات والمجاهدات والخوض في ضروب التجويع والتزهد في الدنيا والمداومة على الأذكار، وكل ذلك يُعد من العوامل التي تعين النفس على ترجيح كفة الخير فيها.

    تميل النفس اللوّامة إلى الحلال ونفع الناس وحمل الأذى عنهم، وهي تتحرى كسب الحلال ومتابعة الأخلاق الحميدة وحبّ الإِصلاح والأخلاص في الأعمال، ويحدد الشيخ عبد القادر لفظ الجلالة (الله) ورداً لهذه النفس، وذلك لأن سيرها لله عز وجل وحالها المحبة، وهذا الورد، فيما لو أخلص المريد في ذكره، قلباً ولساناً وحالاً، فأنه سيقترب كثيراً من رحمة الله تعالى.(2)
    ولا تعدم النفس اللوّامة بعض الصفات السيئة، فهي تتسم بكثرة اللوم والفكر والعجب وكثرة الإعتراض على الخلق والرياء الخفي وحبّ الشهوات وطلب الرئاسة. ولكن مع كل هذه النقائص التي تحملها، إلا إنها ترى الحق حقاً والباطل باطلاً، وتعلم أن هذه الصفات مذمومة، لكنها في الوقت نفسه لا تقدر عنها فكاكاً. ومن جهة أخرى فأن لهذه النفس رغبة في المجاهدة وموافقة الشرع ولها أعمال صالحة، رغم أن هذه الأعمال يخالطها دائماً العجب والرياء الخفي، إذ يحب صاحبها أن يطلِّع الناس على ما هو عليه من الصلاح، رغم أنه يخفي ذلك عنهم. على أنه في الوقت نفسه يكره هذه الخصلة أيضاً، ولكن لا يمكنه قلعها بالكلية عن قلبه.(3)
    مما سبق، يبدو أن الشيخ عبد القادر، قد أفلح، وبشكل ملحوظ، في تصوير هذه النفس وهي في حالة إنفصام مطلق، فهي مليئة بتناقضات متوازية لا نهاية لها، إن صاحب النفس اللوّامة يكون قد شرع تواً في المجاهدات الصوفية، بينما باطنه لا زال مليئاً بالترسبات التي لحقت به من المرحلة السابقة، إنه موزع بين مستوى الطموح العالي وواقع الحال المتردي، ومن هنا سبب قلقه وعدم إستقراره وشعوره بالخطر، ولأجل ذلك، عُدت هذه المرحلة من أصعب مراحل السلوك الصوفي وأشدها وطأةً على النفس.

    تُعد النفس اللوّامة، مقاماً ثانياً بالنسبة للسالكين المقربين الطالبين للفناء عن نفوسهم وللوجود بربهم وأما الأبرار، أصحاب اليمين، فهي آخر منازلهم وأعلى مقاماتهم، فهم لا يطلبون إلا ثواب الآخرة وتجنب عقابها، وهذا ما يحققه لهم هذا المقام فهو يغنيهم بالحلال عن الحرام وبالطاعات عن المعاصي. المقربون من جهتهم، وضعوا لأنفسهم هدفاً بعيداً، فهم لا يقرون أو يريحون، إلا ببلوغه، ولأجل ذلك قيل: إن حسنات الأبرار، سيئات المقربين.(1) فأما ما يحدو هؤلاء المقربين فهو إحساسهم بالخطر العظيم والتعب المقيم الذي يرون إنه محيط بهذا المقام، فهو يرتكز على أعلى درجات الأخلاص، والحقيقة تقول: إن المخلصين على خطر، ولا منجاة من هذا الخطر إلا بالفناء عن شهود الأخلاص، بشهود إن المحرك والفاعل على الحقيقة، هو الله تعـالى شهود ذوق وحال، لا شهود عقل وقال: هذا الشهود متوقف على سلوك طريق المقربين، الذي لا تشم له الأبرار رائحة ولا ترى منه قبساً، لأن المقربين هم وحدهم فقط، الذين نظروا ببصائرهم إلى ربهم ولم ينظروا إلى أعمالهم وعباداتهم، موقنين إن المنّة له تعالى عليهم، إذ فتح لهم أبواب الطاعات ومكنهم من الدخول في زمرة عباده وأهلهم للقبول منه، ومن كانت هذه أحواله، فهو ضرورةً لا يحتاج إلى تحري الأخلاص لأن ذلك لا يخطر بباله أبداً، لأنه مخلص بسجيته، وهو لا يرى لنفسه فعلاً حتى يخلص فيه، و لا يرى لغير الله تعالى قدرةً حتى يتجنب التضرر منها، وهو ما يعد تجاوزا لعمل الأبرار الذين لم يصلوا إلى هذا الحال ولم يبلغوا هذا الشهود، فطولبوا بالأخلاص لأنهم لم يشهدوا شهود قلب، بأن الله تعالى هو خالق الأفعال كلها، إذ لا يقين إلا بهذا الشهود ولأجل ذلك فقد تضرروا من بعض أفعالهم ووقعوا بسببها، في التعب والعناء، (( وصار أحدهم لو دخل في حجر ضبّ، لقيض الله تعــالى له من يؤذيه، وذلك لما فيه من البشرية المقتضية للعــجب


    والتكبر والحقد والحسد وسوء الخلق والعداوة والبغض والانهماك في طلب الرزق وما شابه ذلك)).(1)

    إذن فيكفي عوام الناس من أهل الإحسان التوقف عند هذا المقام، حيث تبكيت الضمير ولوم النفس وحثها على الاستزادة من فعل الخيرات وتجنب اقتراف الشرور، فأما السالكون من ذوي الطموح الروحي، ممن لا يرضون بغير القرب مغنماً، فهؤلاء يعملون جاهدين على التخلص من (ربقة) هذا المقام الذي يحكمه التذبب والتارجح بين صوبي الخير والشر وناحيتي الفجور والتقوى، فاما الأخلاص الذي هو تاج الابرار فانه عند هؤلاء، يعد مصيدة قد تذهب باعمال العبد، اذ هي توكله إلى نفسه وتجعله يشعر بالمنة .

    يعزو الشيخ عبد القادر، السبب الذي يقف وراء قلق واضطراب، صاحب هذه النفس رغم تحريه الأخلاص في أعماله، بالدرجة الأولى، إلى أن مرآة قلبه، تكون في جهة منها، متوجهة صوب الخلق، فينتقش فيها لأجل ذلك،صور الخلق وأفعالهم ومحاسنهم وقبائحهم وحركاتهم وسكناتهم، وهو يكره ذلك من نفسه ويحاول أن يدفعه فلا يقدر إلا إذا أجتهد في الإعراض عن جميع الخلق، بحيث لا يرى لهم صورة ولا يسمع لهم كلاماً وأن يعزف عن جميع اللذات، فلا يرى لهل طعماً و لا فائدة، وينصح الشيخ عبد القادر، مريده، ممن بلغ هذه النفس أو توقف عندها، إلى أن يسعى سعياً حثيثاً من أجل تكميل نفسه وتزكيتـها، وتـصفية قلبه وجلي مرآته – أي مرآة قلبه – ليصير قلباً حقيقياً ويصير به صاحبه إنساناً حقيقياً(2) ، والقلب لا يكون قلباً حقيقياً، إلا إذا تخلص من ميله إلى الشهوات، ومن تلفت مرآته، صوب الخلق والدنيا، إذ انه بخلاصة من كل ذلك ،يكون قد تصّفى وأصبح خالصاً لربهِ، فلا يرى غيره ولا يتوجه إلى سواه ، وهذا هو معنى وجوده الحقيقي أو حقيقته الاصليه، وكل ما سوى ذلك وهم وخداع. فأما إذا ما تحقق القلب ، فأن حامله سيكون إنسانا حقيقيا لا تنازعه الأوهام ولا تتجاذبه الهواجس.
    إضافة إلى ما سبق ، ينصح الشيخ عبد القادر ، صاحب النفس اللّوامة بالخلوة والاعتزال وتجنب مخالطة الناس ،وسنرى فيما بعد ، أي في المراحل المتقدمة للنفس انه يعود فيؤكد ضرورة العودة إلى معاشــرة الناس والاختلاط بهم، لأجل منفعتهم الأخروية، وأما السبب في التفاوت بين هذين


    الموقفين، فيمكن أن يُعزى، أولاً، إلى ضعف حال المريد وهو في مراحله الأولى، وعجزه عن تحمل أذى الخلق، بينما في المراحل المتأخرة، فأنه سيكون قوي الحال وقادراً على إحتمال ذلك منهم، وثانياً، لأن المريد المبتدئ، هو ضرورةً، قليل الخبرة في طرق التعامل مع نفوس الآخرين وعلاجها، وإن نفسه تكون أحوج إليه من غيرها، فأما بعد أن يقوى حاله ويصلب عوده، فأنه سيصبح خبيراً في علاج أمراض النفوس، لأنه عاناها جميعاً وخبرها.

    ثالثا: النفس الملهمة

    هذه النفس لونها أحمر, ومحلها الروح لأن الروح هي موطن الألهام, وحالها العشق الذي يأتي بعد الحب وقبل الفناء في المرتبة, وعالمها الهياج, إذ يعتريها بأستمرار, ومن جرّاء تلذذها بحالة الصفاء, الشوق العارم للأنعتاق من قيود الجسد والتوق للتخفف من أثقاله وعلائقه, وأما وارد هذه النفس, فهو المعرفة, التي هي من إختصاص القلوب والأرواح, والمعرفة عند الصوفية أرفع منزلة من العلم لأتصالها بالحقائق الإلهية والأسرار الربانية.

    هذه النفس, هي كسابقتيها, أيضا, تحتاج إلى أن تعامل بالرياضات والمجاهدات والأذكار, وتحتاج إلى دوام المراقبة والمراجعة والتذكير, والورد الذي يصفه الشيخ عبد القادر, لصاحب هذه النفس هو أسمه تعالى (ياهو), وهو أسم يدلّ على الذات العليا ويشير إلى الهوية, بحيث لا ينظر الذاكر معه, إلى أية صفة أو فعل, من صفاته وأفعاله تعالى, فأذا ما داوم المريد على ذكر هذا الأسم, فني عن ذاته وتجرد عن صفاته وإرادته, وأستعد بعد ذلك لتلقي الهبات والعطايا الإلهية المتمثلة بالوجود الجديد الذي يعقب حالة الفناء.

    إن المريد في نطاق هذه الدائرة, أي دائرة النفس الملهمة, يتحرى تتمّة نقصان عقله ودينه وتصحيح معتقده, ومتابعة الحق والشرع والتخلص من الرياء,(1) فتخوم هذه الدائرة, تعد أولى مراتب الكمال والتتميم وآخر مهاوي التردي والنقص على أن الغلبة فيها تكون لكفة الكمال, إذ يطغى على هذه النفس الأفعال الحسنة والصفات الحميدة, فهي تتصف بالسخاء والقناعة والعلم والتواضع, وهي لأجل ذلك صار يتعاقب عليها حالا القبض والبسط,(1) فأما حال القبض, فأنه يأتي أولا كي يُذهب الفرح الزائف والأقبال على الدنيا, واما البسط فأنه يأتي بعد ذلك, كي يزحزح المريد عن حالة اليأس, وكي يفعم قلبه بمزيد من الحب لمولاه, وكي يدفعه أيضا نحو مزيد من الرقي الروحي, طمعا في مزيد من القرب.


    سميت هذه النفس بـ (الملهمة) لأن الحق عز وجل ألهمها سبيلي الصلاح والطلاح وهو معنى قوله تعالى: (ونفسٍ وما سواها . فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها . وقد خاب من دسّاها).(2) وكون هذه النفس ملهمة, فهذا يعني أنها أصبحت تسمع, بغير آلة, أي بالألهام المباشر, نداء الرحمة ووسوسة الشيطان, بعد أن كانت وهي في المقام الذي قبله, لا تسمع شيئا, لأقترابها من مستوى طباع الحيوانات, وهنا يتجلى, وبوضوح تام, أعتقاد الشيخ عبد القادر, بأن النفس الإنسانية, واحدة بحقيقتها, وإنما الذي يتغير منها, فقط, هو طباعها وأهوائها وميولها.

    هذه النفس, لأجل أنها تسمع ((لمة المَلَك ولمّة الشيطان))(3) صار المريد معها, أيضا, في مقام خطر وصعب, فهو يحتاج هنا كذلك, إلى من يأخذ بــيده - والأشارة هنا صريحة إلى ضرورة السلوك على يدي الشيخ المرشد العارف – ليخرجه من ظلمة الشبهات إلى نور الحقائق اليقينية لأنه, وهو في هذا المقام, لايزال ضعيف الحال, لا يفرّق بين الجلال والجمال, ولا بين الوساوس والألهامات لعدم خلوصه تماما من الطبائع الرديئة, إضافة إلى إنه يُخشى عليه, فيما لو ترك من غير دليل, أن يغفل عن نفسه, أو يعجز عن المحافظة عليها, فيعود القهقري, إلى المقام الأول وتعود له نفسه الأمّارة بالسوء, فيكون عندها من الخاسرين, ولا يصح له بعدها سلوك, ولا تنفع معه طريقة.



    إذن فالمجاهدات تستمر مع هذه النفس, وكذلك ملازمة السهر والجوع والأعتزال عن الخلق والأقلال من الكلام, مع التمسك بأذيال الشيخ العارف وأطلاعه على جميع هواجس القلب وخطراته, حسنة كانت أم قبيحة, على أن يكون ذلك مصحوبا بالثقة التامة والطاعة العمياء للشيخ والمريد كلما زادت ثقته بشيخه وقوي أعتقاده به, قوي أنجذابه نحو عالم القدس, وضعفت قوة البشرية لديه, لأنه بهذه الطاعة, سيستقي من أنوار شيخه القدسية المصدر, ولأنه كلما أزداد أنجذابه نحو شيخه, سيحقق له بذلك نوعا من التوحد القلبي الذي ينيله بعض أحوال شيخه. أن تأكيد الشيخ عبد القادر, على ربط سلوك المريد بأرادة الشيخ العارف, أنما هو يؤسس لسيادة نهج الطرق الصوفية, على بقية أنواع السلوك الصوفي الفردي التي كانت سائدة قبل ذلك, والتي أدت إلى ظهور الكثير من المروقات والشطحات وأنواع الخروقات الشرعية, مما عمل على تنفير الناس من السلوك الصوفي برمّته.

    إن الطريقة عند الشيخ عبد القادر, تسعى إلى تحري الأنضباط في سلوك المريدين, وتسعى أيضا إلى تحقيق المراقبة الشديدة والمباشرة من لدن شيخ الطريقة, على جميع حركاتهم وحتى خطراتهم.
    وكون المريد (ذا) النفس الملهمة, جامعا في باطنه, لنزعتي الخير والشر, لا يمنع من وجود علامات أكيدة, تدّله على غلبة أحدى هذه النزعات على الأخرى فأما علامات غلبة نزعة الخير لديه, فتتمثل في أن يرى باطنه معمورا بالحقيقة الأيمانية, وظاهره بالشريعة الإسلامية, وأن يكون وجدانه محققا, بأن جميع مافي الوجود, جارٍ على وفق إرادته تعالى, مقدورٌ بقدرته, وان تكون جميع جوارحه متلبسة بالطاعات ومنخلعة عن جميع كبائر الذنوب وأكثر صغائرها. وأما علامة غلبة نزعة الشر لديه, فتتمثل في أن يرى في نفسه القدرة على شهود الحقيقة الأيمانية, مع بقاء شئ من علائق بشريته الدنيوية, وأن لايكون ظاهره معمورا بالشريعة, فيترك الطاعات ويرتكب بعض المعاصي, ويحدث له ذلك خاصةً, عندما يقوى عود بصيرته, مع بقاء علائقه السابقة, على شهود الحقيقة الأيمانية, ويرى أن أفعاله هو, جارية على وفق إرادة الله تعالى, فتحجب بصيرته بأنوار الحقيقة عن النظر إلى أسرار الشريعة, ((فيطرد عن أبواب الحضرة الجامعة للضدين – أي الظاهر والباطن – وعن شهود الواحد الحقيقي أثنين – متكثرا بالشريعة وواحدا بالحقيقة – فيقف حينها عند البوارق التي وافقت طبعه))(1) وهي بوارق وحدة الشهود وفناء الإرادات, التي إذا ما خالطها شئ من علائق الطبع, فأنها ستؤدي حتما إلى هجر الشريعة وأسقاط التكاليف. ولا يخفى على المطّلع هنا, أن الشيخ عبد القادر, كان دقيقا جدا في ربطه بين جانبي الشريعة والحقيقة بحيث إن المريد السالك, حتى وهو متماه مع حالة شهوده, لا يمكنه من أن يخلع عنه رداء الظاهر, وإلا فسيخرج عن نعمتي الظاهر والباطن معا, والسالك الذي تبعده البوارق والمطالع عن متابعة الشرع, فأن ذلك يدل على ثقل طبعه وعدم صفاء نفسه, لأن مجانبة حدود الشرع, فيه دلالة أكيدة على الميل إلى الكسل والدعة والتذرع بالواهي من الذرائع, وهي من أهواء النفس التي أُمر أصلاً بالتجرد عنها.

    صاحب النفس الملهمة, هو أيضا على خطر, لأنه في تلفت مستمر صوب مقاميه السابقين, فأذا كان من شيمة الطبع أن لا يني عن التغالب مع التطبع, فأن من طبع النفس الإنسانية أن تترقب غفلة من صاحبها, فمتى ماغفل عن سوقها وزجرها, عادت مرة آخرى إلى ما ألفته وأعتادته, فأما ما يصفه الشيخ عبد القادر, من علاج لهذه النفس في هذه المرحلة, فهو: أن يجتهد المريد في أن يلهب نفسـه بالعشق والهيمان والشوق للوصال وإلى الأجتماع مع الأحبة والتطلع إلى النظر إلى وجه المعشوق, فأن هذه الدوافع تشدّ من عزيمة السالك, وتقويه على السير في طريقه, وخاصة إذا لمس من نفسه الميل إلى الأنتكاس والتقهقر. إذن فليس الخوف من العقاب أو تذكر (هادم اللذات) هو الحافز المثالي للمريد في هذه المرحلة, فالنفس في مقام الألهام تبدو وكأن البواعث أمامها قد تعادلت, والأحتمالات قد توازنت, فهي تبدو وكأنها مشدودة إلى جميع أوتارها الداخلية المتقابلة فهي والحالة تلك, في حاجة إلى وازع جديد وجذب خارجي مختلف يحرك ركودها ويدفع بها نحو كسر الحياد والأندفاع نحو مزيد من الرقي الروحي, ولا أنفع لها في ذلك ولا أنجح من العشق والأشتياق الذي أكتفى به (أرسطو) دافعا لتحريك سكون الأفلاك والأكوان.


    رابعا: النفس المطمئنة

    هذه النفس لون نورها أبيض, وهو لون الصفاء والنقاء, والاستعداد للنقش الجديد, كما أنه يدل على الفناء الذي يسبق الوجود الفائق, وأما عالمها, فهو الحقيقة الجامعة لكل الحقائق, ما ظهر منها وما بطن وما كان منها متعلقا بالدنيا أم بالآخرة, وأما محلها فهو السر, الذي يدل على الكمال والوصول, وأما واردها فهو الحقيقة, لإكمال تحققها بالشريعة, فأصبحت لا تأتي حركة أو فعلا ظاهرا كان أم باطنا, إلا وهو مطابق في مقصودة لمطلوب الشريعة.
    الحال الغالب على هذه النفس هو: الطمأنينة الصادقة, وهذا ما يميزها من حال الطمأنينة الكاذبة التي مرت علينا في النفس الملهمة, والتي كانت تغري صاحبها بالأكتفاء بأنوار الحقيقة دون الشريعة, وقد علمنا أن هذا هو مكمن عدم الطمأنينة والخطر فيها.

    تتصف هذه النفس بالجود والحلم وحسن التوكل وكثرة العبادة والصدق في شكر وطاعة الله تعالى وكذلك الأستقامة وطهارة القلب وصفاء النفس.(1) الورد الذي يضعه الشيخ عبد القادر لصاحب هذه النفس هو أسمه تعالى (الحي)(2) والذي يدل على أكتساب الحياة الجديدة الطيبة والأبدية المفعمة بالمعارف الربانية والعلوم اللدنية والمتطلعة إلى الأرتشاف من الحضرات الشهودية. إذن فلا يمكننا من أن نحصي في هذه النفس إلا صفات الخير والصلاح, لأن المريد في هذه المرحلة يكون قد خطا خطواته الأولى في بر الأمان وذلك بعد تخلصه من كثير من أثقال طبائعه وأوزار أهوائه.

    يرى الشيخ عبد القادر, أن النفس المطمئنة تمثل الطور الأول من أطوار النفس الكاملة إذ يبلغ المريد معها أولى درجات الكمال الروحي, وذلك بعد أن تكون قد هبت عليه نسمات القرب والوصال, التي تنقله من حال التلوين – وهو حال التذبذب والتقلب – إلى حال التمكين – وهو حال الأستقرار والثبات -, وأن من علامات بلوغ وصحة هذا المقام, هو: أن يغلب خير المريد شرّه وان يكون باطنه معمورا بالحقيقة الإيمانية وظاهره منورا بالشريعة الإسلامية, أي ((متلبسا بالطاعات متجنبا عن جميع الكبائر وأكثر الصغائر, سواء أكان بين الناس أو كان في خلوة)).(3) وأن كل هذا الأفعال تصدر عن صاحب هذه النفس بيسر وبصورة طبيعية وتلقائية, أي مـن غير كلفة أو مشقة, وذلك لأطمئنان النفس, بعد تحققها وتيقنها بأن جميع ما في الوجود, جارٍ على وفق إرادته تعالى, مقدورا بقدرته. وأما المقامات التي يحوز عليها صاحب النفس المطمئنة, فهي مقام التوكل والصبر الشكر والرضا, فلا يمكن أن نتخيل نفسا مطمئنة إلا وهي متوكلة على ربها صابرة على بلائه, شاكرة لنعمه, راضية بعطائه.

    سميت هذه النفس بالمطمئنة, لأن صاحبها لا يفارق حدود الأمر التكليفي ولو قليلا, ولا يلتذ إلا بالتخلق بأخلاق المصطفى (r) ولا يطمئن إلا بأتباع أقواله وأفعاله وأحـواله لأنه (r) هو وحده

    على الحقيقة, صاحب مقام التمكين وعين اليقين والأيمان الكامل, ولأن حقيقته (r) هي الحقيقة العظمى الجامعة لكل الحقائق, ولأنه (r) أصل الوجود وعين الشاهد والمشهود, ولأنه (r) أول الأوائل وأدل الدلائل ومنتهى العروج الكمالي والمثل الأعلى الألهي.

    ويظهر على صاحب هذه النفس بعد أطمئنانها, مزايا وصفات, لم تكن لتظهر على من لم يلتحق بهذا المقام, فترى الخلق, مثلا, ينجذبون إليه, وتلتذ به أعين الناظرين وأسماع السامعين, حتى لو تكلّم طول الدهر, فلا يمل كلامه, لأن لسانه سيصبح ترجمانا لما يلقيه الله تعالى في قلبه من حقائق الوجود وأسرار الشرائح, فهو لا يتكلم بكلمة إلا وتجئ مطابقة لما قاله تعالى أو قاله رسوله محمد (r), من غير مطالعة في كتاب أو سماع من غير.(1) إنه يسمع في داخله نداء: ((أنا سرك أيها الحبيب وأنت سري))(2) فيطمئن ما كان يعتمل فيه من الأضطراب, ويغرق في بحر الحياة الروحية والخلق المحمدي وتلازمه الخشية والهيبة, وتخلع عليه خلع الوقار والقبول, وتظهر له حقيقة عالم الكون والفساد, فيرى رؤية بصيرة, حقيقة قوله تعالى: (وكل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والأكرام).(3) إذن فهذه الميزات التي حصل عليها المريد, سواء فس هذا المقام أو في سواه, ما هي إلا حاصل جهد مضنٍ وعمل شاق مع حرص شديد على الموازنة بين شقي الشريعة والحقيقة, من غير إفراط في أحدهما أو تفريط في الآخر. وهذا هو خلاصة ما كان يرمي الشيخ عبد القادر لأن يوصله إلى سامعيه. أخيرا, ينصح الشيخ عبد القادر, المريد, صاحب النفس المطمئنة, رغم تنعمه بالأمان بأن يتحرى الحذر في علاقته مع الآخرين, فهو إن كان عليه أن يجتمع معهم ليرشدهم ويدلهم, وليفيض عليهم مما أنعم الله تعالى عليه, ولكي يترجم لهم عمّا في قلبه من درر الحكم, فأن عليه, من جهة أخرى, أن يترك لنفسه, أوقاتا مخصوصة يختلي بها مع خالقه, ويسعى من خلالها إلى زيادة في الصفاء والقرب, لأنه, وهو في هذا المقام ما يزال في أدنى درجات الكمال الروحي, فلا يناسبه, مع هذه الحالة, مخالطة الخلق في جميع الأوقات, كي


    لا يحرم نفسه الترقي إلى المرتبة التي تليها.(1)

    خامسا: النفس الراضية

    يضع الشيخ عبد القادر, لهذه النفس اللون الأخضر, وهو أسعد الألوان وأقربها من الرحمة الإلهية والعطاء الرباني, وأما عالمها فهو اللاهوت, إذ لا مجال في هذه المرتبة لعالم الناسوت, بشقيه الذات والآخرين ولا عالم الخلق بشقيه, الدنيا والآخرة, إذ أن توجه الهمة يكون خالصا لبارئها. وارد هذه النفس, هو المعرفة أيضا, , ومحلها هو سر السر, وهو آخر المراتب الوجودية للنفس إذ لا يكون بعدها إلا المحق, وأما سيرها فهو في الله, الذي هو أرفع منزلة من السير إلى الله تعالى إذ أن السير في الله يدل على ذوبان الإرادة الإنسانية في الإرادة الإلهية. وأما حالها فهو الفناء وهذا ما ينسجم وجميع الخصائص التي ذكرت لهذه النفس, وأما دلالتها, فأنها تدل على كمال العقل وتمامه وحب التقرب إلى الله عز وجل.(2) ونلاحظ هنا أن الشيخ عبد القادر, قد منح لهذه النفس الكمال العقلي, فأما كمال الروح, فأن أوانه لم يحن بعد, لأن حال الروح هنا هو الفنـاء, وهو ليس آخر المقامات ولا أعلاها, إذ يتبعه البقاء الجديد الذي ما بعده فناء.

    في هذه المرتبة, تزول جميع الطباع السيئة والأهواء الرديئة عن النفس, حتى لا يبقى لها أثر يذكر, فيكون السالك معها فانيا بالله عز وجل لا باقيا بنفسه, كما كان قبل ذلك, ولا باقيا بالله عز وجل, كما سيــكون عليه الحال في المحطة الأخيرة, وهذه الحالة – يقول الشيخ عبد القادر – لا تدرك إلا ذوقا, وهو بذلك يقطع الســبيل أمام المعترضين, ممن هم من غير المشتغلين في الحقل
    الصوفي, فكون المرء جاهلا بأمر ما فأن ذلك لا يلغي وجود هذا الأمر ولا يدل على خطئه, ثم إن الحقائق لا تستحصل كلها عن طريق الأستدلال والأستنباط والقياس, أو النظر العقلي بوجه عام بل إن هناك حقائق, يرى الصوفية إنها لا تنال إلا بالتجربة والذوق والمشاهدة القلبية, وهذا هو موضع الخلاف الأصلي بين الصوفية وغيرهم من المشتغلين بحقول المعرفة المختلفة.

    يغلب على النفس الراضية, صفات الزهد فيما سوى الله عز وجل, وهي إشارة إلى الزهد في الدنيا والآخرة على حد السواء, ويغلب عليها الأدب معه تعالى, والأخلاص والورع والنسيان, أي نسيان

    الأذى وسيئات الآخرين, وكذلك نسيان حظوظ النفس والدنيا, وكذلك الرضا بكل ما يقع في الوجود من غير أختلاج ولا أعتراض ولا قصد أو توجه لرفع المكروه منه, لأن المريد مع نفسه الراضية يكون متفرقا, غارقا في شهود الجمال المطلق, وقلبه مشغول بعالم اللاهوت وسر السر.(1) وأما نفسه فغريقة في بحر الأدب مع الله تعالى. ومن العلامات الدالة على صاحب النفس الراضية هي كونه عزيزا عند الخلق بصورة منقطعة النظير, لأنه قد نودي عليه من حضرة القرب (أنك اليوم لدينا مكين أمين)(2) فصار تعظيم الخلق له قهريا, فلا يعلمون لماذا يعظمونه أو يجلونه, وهو كلما أعرض عنهم وإشتغل بربه, زاد شوقهم إليه. ومن جهة آخرى فأن المريد مع هذه المرتبة, يكون قد أشرف على سلطنة الباطن, التي تكون الظواهر, خاضعة لسلطتها الواقعة تحت قهرها.(3) فهو مع هذه الحالة, لا يكون له ركون أو أعتماد, على أي مخلوق, بل يكون ركونه إلى الله تعالى وحده. الورد الذي يصفه الشيخ عبد القادر, للمريد في هذه المرتبة, هو أسمه تعالى (الواحد) بلفظة (يا واحد), إذ إن الأكثار من ذكر هذا الأسم, يعجل في زوال حال الفناء عن النفس الراضية, كي يحل محله حال البقاء بالله تعالى.(4) كما أنه يدل على الوحدانية المطلقة المؤيدة بشهود قرب أنسه والدالة على وجوده في ذاته وألوهيته المتعالية.(5)

    وأخيرا فأنه يمكننا أن نلمس هنا بوضوح, نبرة التصعيد الروحي المتناغم, الذي يمثل فحوى النهج الصوفي عند الشيخ عبد القادر, والذي يبدأ من النفس الأمّارة بالسوء الموجودة بنفسها والملتصقة بالجسد والشهوات والأهواء والمتعلقة بالمخلوقات دون الخالق والمفرّطة بالشريعة والحقيقة معا, ثم يصل تدريجيا إلى النفس الراضية التي لا تأمر إلا بالخير والتي ليس لها وجود إلا بربها والتي لا تربطها أية علاقة بالشهوات والأهواء والتي تجمع في داخلها, حقيقتي الشريعة والطريقة, على السواء.


    سادسا: النفس المرضية

    هذه النفس لونها أسود, وهو اللون الجامع لكل الألوان أي أنه يدل على أحتواء جميع المراتب والكمالات والأحوال والمقامات, وجامع أيضا لنوري الشريعة والحقيقة, ولحبي الخالق والخلق وأما عالمها, فهو عالم الشهادة لأنها قد أتمت رحلتها في عالم الغيب, ولم يبق أمامها إلا العودة إلى موضعها السابق, وأما محلها فهو الخفاء, ودائرتها الفناء والنور, تمييزا لها عن دائرة الفناء المحض الذي تلفعه الحجب الظلمانية, وسيرها عن الله عز وجل, وهو يختلف عن السير في الله تعالى كأختلاف الصبر في الله تعالى, عن الصبر عن الله تعالى, والسير عن الله تعالى فيه دلالة على بداية ظهور علامات الخلافة العظمى التي ستتحقق في المرتبة اللاحقة. وأما حالها فهو الحيرة المتولدة عن مطالعة الغيب ومتابعة الشهادة, وأما واردها فهو الشريعة, لأن صاحب النفس المرضية يحتاج إلى الشريعة للحكم بين الناس, ولكي يكون لهم قدوة في ذلك.

    تتصف هذه النفس بحسن الخلق وترك كل ما سوى الله عز وجل, واللطف بالخلق - وهو مقام الشيخ المرشد – وحملهم على الصلاح, والصفح عن ذنوبهم وحبهم والميل أليهم من أجل آخراجهم من ظلمات طباعهم وأهواء أنفسهم, إلى أنوار أرواحهم, ولكن ليس ميله إلى الخلق, هو كالميل الذي في النفس الأمّارة بالسوء, فأن هذا الأخير هو ميل شرك وحاجة وخضوع.(1) ومما يتصف به صاحب النفس المرضية, أنه يجمع بين حبي الخالق والخلق, ويرى الشيخ عبد القادر, إن ذلك أمر عجيب لا يشير إلا إلى أصحاب هذا المقام, ولذا كان صاحب هذه النفس, لا يتميز من عوام الـناس من حيث ظاهره, وأما من حيث باطنه, فأنه يعد معدن الأسرار وقدوة الأخيار, وليس في شهوده شئ من الأغيار من حيث هي أغيار, بل من حيث هي خلق وعباد لله عز وجل, ويتصف صاحب هذه النفس بالوفاء بالوعود والعهود, ووضع كل شئ في موضعه الصحيح, فتراه مثلا ينفق الكثير من المال إذا صادف محله, فأذا لم يصادف له محلا, فأنه يحجم عن ذلك, وهو يتصف أيضا, بأنه لا يغادر حالة الموازنة أو الحالة الوسطى التي هي بين الأفراط والتفريط. وهذه الحالة لا يقدر عليها إلا من كان في هذا المقام, فهي خـــفيفة على اللسان ثقيلة عند الأمتحان, وأن كل


    شخص يحب هذه الخصلة ويحب من يتصف بها, إلا أنها صعبة المنال.(1) لأن الإنسان مجبول بطبعه على الميل إلى ما يحب ويشتهي بحيث لا يمكنه أن يعتاد على الأتزان المحايد إلا بعد مجاهدات شاقة يتجاوز من خلالها الكثير من الأهواء والميول النفسية.

    ينضوي صاحب النفس المرضية, ضمن دائرة العلم الألهي (الحالي)(2) لا علم الرسوم المقالي وهنا يكمن مصدر طاعة الناس له وتقبلهم منه, إذ أن من ميزة العلم الألهي إنه يلج إلى القلوب والأرواح قبل أن يطرق الأسماع والعقول, والمريد, منذ البواكير الأولى لبلوغه مرتبة النفس المرضية, فأنه تلوح عليه بشائر الخلافة الكبرى, وأما في نهاية المطاف, فأنه تخلع عليه خلعتها وهي خلعة: كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها.(3) ويلاحظ هنا الشيخ عبد القادر, يسترسل كثيرا في توضيح حال هذه النفس, وهو يستعين في ذلك بأقوال مستمدة من الشرع, وهو يفعل ذلك خشية اللبس في فهم الآخرين لمقاصده فتراه يقول مثلا: إن هذا التأثير الخارق للعبد, لا يكون إلا بالأستعانة بقوة الحق عز وجل, ولا يمكن أن يرى السالك أنه هو الحق جلّ أسمه, كما فهم ذلك بعض الملاحدة عن أكابر الصوفية.(4)
    أما كيفية بلوغ وتحقيق هذا الحال فهو ما يأتي: أن السالك إذا وصل إلى مقام الفناء, وهو المقام الذي تبلغه النفس في مرتبتها السابقة, أي مرتبة النفس الراضية, فستنمحق صفاته الذميمة وأخلاقه البشرية الرديئة التي هي محل الأنفعال والشقاوة, وهذا يتم بسبب تقربه إلى مولاه عز وجل بالنوافل التي تشتمل على أنواع العبادات, بما فيها الرياضات الروحية ومجاهدة النفس والذكر المستمر, فيهبه الله تعالى, كرما منه ومنّة, صفات بديلة عن صفاته السابقة بحيث سيبدو أمام الناس


    وكأنه قُدَّ من معدن جديد لا مثيل له بين البشر, وإن هذه الصفات الجديدة التي تلحق به, تكون مؤثرة في جميع المخلوقات من بشر وغيرهم وبأذن ربها, وأما علومه ومعارفه فأن منبعها يكون من (حق اليقين)(1) الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

    سميت هذه النفس بالمرضية, لأن الحق تعالى رضي عنها وسيرها عنده, فأخذت ما تحتاج أليه من العلوم, من حضرة الحي القيوم, ورجعت من عالم الغيب إلى عالم الشهادة, بأذن الله تعالى, لتنفع الخلق مما أنعم الله تعالى به عليها. وهذا هو دورها الذي خُلقت لأجله, وهذا هو في الوقت نفسه الدور الإيجابي الذي يميز التصوف الإسلامي من سواه في الأديان الآخرى.

    سابعا: النفس الكاملة

    مع هذه النفس يكون المريد قد بلغ آخر مرتبة من مراتب الكمال وأرقاها, وهي لا تكون إلا لخاصة الخاصة من البشر, ممن أدركتهم سابق العناية الإلهية. ليس لهذه النفس نور, وليس في ذلك دلالة على عتمتها, وإنما هو يدل على درجة فنائها الفائقة في الذات الإلهية, ويدل أيضا على شدة فقرها وذلها وخضوعها لربها, بحيث لا تمثل أمامه بأي سمة تميزها. وأما عالمها فهو الحيرة, وذلك لأقترابها من حضرة الجلال والعظمة الإلهية التي تُعجز العقول وتحير الألباب, وأما حالها, فهو البقاء الذي يلي الفناء وليس البقاء الذي هو قبله, ومحلها الأخفى الذي نسبته إلى الخفيّ, كنسبة الروح إلى الجسد ونسبة القلب إلى بقية الأعضاء. وارد النفس الكاملة, هو جميع الأسماء الحسنى وصفاتها هي جميع ما ذكر من الصفات الحسنة. وهي تنضوي تحت دائرة الرحمة والأخلاص بمعرفته تعالى والتصديق بشرائعه.(2)
    مع هذه النفس, يكون الصوفي قد بلغ أعلى مراتب الكمال الروحي التي يمكن أن يبلغها مخلوق لأنه قد كملت فيه سلطنة الباطن, وتمت به المكابدات وجميع أنواع المجاهدات ومع النفس الكاملة يكون الإنسان قد أستعاد الصورة الآدمية الأولى التي كانت قبلةً للملائكة ومصدرا لعلومهم, والتي كانت حقيقتها هي (الحقيقة المحمدية) وهي سر الله الأعظم واللطيفة الإلهية التي لا ثاني لها. ومع كل هذه الصفات, يكون الصوفي قد بلغ أقصى درجات القرب المتاحة من الحضرة الإلهية, فإذا ما بلغها, تحقق بالعبودية المحضة والعجز والذل, فعرف نفسه بهذا الوصف وعرف ربه بنقيضه.(1) إذن فالنهج الصوفي عند الشيخ عبد القادر, يهدف إلى أستعادة الإنسان سيرته الأولى, وهي سيرة أبيه آدم (u) من حيث درجة قربه من ربه تعالى, وإتصاله به من دون واسطة أو وسيط, وكذلك درجة صفائه النفسي وعدم خضوعه للحاجات والأشياء المادية, وسيادته المطلقة على جميع المخلوقات بما فيها الملائكة.
    ليس لصاحب النفس الكاملة مطلوب, سوى رضوان ربه تعالى, فهو, رغم علوّ مقامه, لا يفتر عن الذكر والشكر والعبادة بكله, أي بقلبه ولسانه وجميع جوارحه, ولذلك ترى أن حركاته حسنات وأنفاسه قدرة وحكمة وعبادة, وهو إن رآه الناس ذكروا ربهم. على أنه لا يرى إلا في حبور ظاهر مادام الناس متوجهين إلى ربهم تعالى, ولكنه يحزن أشد الحزن ويغضب لإدبارهم عن ربهم. وليس في قلبه كراهية لمخلوق, وهو يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر, ولا يفتر عن ذلك أو يملّ, وإنه ليضع كل شئ في موضعه الصحيح, وهو متى ما وجّه همته إلى كون من الأكوان, أوجده الله تعالى على وفق مراده, لأن مراده في مراد الحق ومن مراده, فأذا ما أراد شيئا وتوجه في طلبه من الله تعالى, فأنه لا يخيبه, وهذه الميزة تسمى الدعوة المستجابة, وهي من أخص خصائصه وأوفر كراماته.(2)

    ومع صفات النفس الكاملة, نكون قد أقتربنا كثيرا من صفات الوريث المحمدي أو الإنسان الكامل أو صاحب الخلافة العظمى, الذي سيرد عنه الكلام مفصلا في الفصل التالي, ويمكننا أن نلمس مما سبق, فضل الريادة والسبق, اللذين تميز بهما الشيخ عبد القادر, من خلال توسعه في ذكر أنواع الأنفس وصفاتها, وبهذه الدرجة من الدقة والتفصيل, ويمكننا أن نلمس أيضا ما أشتمل عليه وصـفه للنفس الإنسانية, من حدس فائق وإستبطان دقيق, سلطا الضوء على زوايا كثيرة من هذه النفس, كانت خافية قبل ذلك.

    النفس والمنهج الأصلاحي

    إن توسع الشيخ عبد القادر, في بحثه في النفس, يمكن القول, أنه متأت أولا من طبيعة منهجه الأصلاحي, فهو قد عمل جاهدا على جعل التصوف الإسلامي العملي وسيلة فعالة من وسائل إصلاح الأفراد والجماعات, وثانيا, لأنه أمل في نشر مبادئ طريقته الصوفية بين أكبر عدد ممكن من الناس, كمنهج بديل لترك هؤلاء لجوهر التعاليم والمبادئ الإسلامية وتشبثهم بالظاهر من رسومها, وكذلك إنغماسهم في الشهوات ورزوحهم تحت نير ظلم بعضهم لبعض, وتسلط أعدائهم عليهم. فكان التوسع في الحديث عن النفس, مع التبسيط المقصود, في أحصاء مراتبها وأحوالها وأنفعالاتها, خير وسيلة لتقريب معناها من أفهام الناس وثم مساعدتهم على معرفة نفوسهم, وهذه هي الخطوة الأولى والأهم في جماع الفعل الصوفي بوجه عام.

    يبقى هنالك تساؤل مهم لابد من طرحه قبل الأنتهاء من هذا الموضوع, وهو: هل إن تصور النفس عند مفكري الإسلام, كان مرتبكا ومائعا وغير محدد الملامح, بحيث أنهم تخبطوا كثيرا في تحديد ماهية النفس وفي التفريق بينهما وبين الروح أو العقل, وبحيث أنهم ظلّوا حبيسين للتصورات الجاهلية الخرافية عن النفس وللجذر اللغوي القديم الذي ربط بين النفس والدم وذات الإنسان, كما يذهب إلى ذلك بعض المستشرقين المعاصرين ومن تبعهم من المفكرين العرب؟(1)

    إننا لو بحثنا في الناتج الفكري لمفكري الإسلام, وبخاصة منه ما يتعلق بموضوع النفس, لوجدنا إن هؤلاء المفكرين سواء أكانوا فلاسفة أم متكلمين أم صوفية, كانوا هم الأوفر بحثا والأكثر عمقا من مفكري الحضارات والأديان الأخرى, في بحثهم ودراستهم للنفس الإنسانية, ويتجلى ذلك بوضوح أكثر, لدى الطائفة الأخيرة, فهؤلاء لم يتركوا صغيرة ولا كبيرة لها علاقة بالنفس, إلا وأحصوها لا بل أنهم ذهبوا إلى أبعد من ذلك, فوضعوا مناهج, يمكن أن نقول عنها (علمية), في كيفية التعامل مع النفس وكيفية علاجها والترقي بها نحو مدارج الرقي الروحي, ولنا فيما سبق من كلام الشيخ عبد القادر, خير مثال على ذلك.


    ثانيا: المقامات عند الشيخ عبد القادر
    تقديم :

    يعدّ موضوع المقامات, من الموضوعات الأساسية في الفكر الصوفي الإسلامي, فلا يمكن لأي شيخ صوفي أو دارس للتصوف الإسلامي, أن يتجاوز هذه الموضوع, بل هو لا يستطيع إلا أن يقف معه طويلا, إسهابا وتفصيلا, لأهميته من جهة, ولتغلغله في جميع مفاصل التجربة الصوفية – بوجه عام – من الجهة الآخرى.
    كذلك الحال عند الشيخ عبد القادر, إذ يمكن للدارس, أن يرى بوضوح, ان موضوع المقامات عنده, وبكافة مفرداته وفقراته المعهودة, كالشكر والصبر والأخلاص والتوكل والرضا والصدق, قد أخذ مساحات واسعة من مؤلفاته الصوفية, بحيث أنك لا تجد, صفحة واحدة من تلك المؤلفات خالية من أحدى هذه المفردات.

    عدد المقامات وأسمائها

    قبل الدخول في صلب موضوع المقامات عند الشيخ عبد القادر, لابد, إبتداءً, من تثبيت ملاحظتين مهمتين: الأولى منهما تشير إلى أن عدد المقامات وتسلسلها, غير محدد عنده بشكل قطعي وثابت كما هو الحال عند بقية الصوفية, فهي تتفاوت, زيادة ونقصانا, تقدما وتآخرا, حسب الموضوع الذي يرى (الشيخ) توضيحه في حينه, ولعل الأمر يتعلق, أساسا, برأيه الذي يربط فيه المقامات فيما بينها بعلاقات عضوية, متفاعلة ومتداخلة, بحيث انه لا غنى لصاحب مقام الخوف مثلا, عن مقامي الشكر والرجاء, وكذلك فلا غنى لصاحب مقام التوبة عن مقامي الزهد والأخلاص, وهكذا وعليه, فأن المقامات عند الشيخ عبد القادر, تشكل, في مجموعها, الخيوط التي ينسج منها بساطه الصوفي, من غير عزل وتمييز لهذه اللُحمة أو ذاك السدى. وما كان تصنيف هذه المقامات وتبويبها, إلا لأسباب توضيحية, لا علاقة لها بهيكلية التجربة الصوفية عنده. أما الملاحظة الثانية فهي تشير إلى أن مؤلفات الشيخ عبد القادر, قد أشتملت على تصنيفات متعددة للمقامات, غير تلك التي عهدناها في كتب التصوف الإسلامي بوجه عام, والتي لم يغفل هو أيضا, عن ذكرها. فنراه مثلا, يذكر في كتابه (الفتح الرباني): الإسلام والأيمان والأيقان والمعرفة, مقامات ودرجات للرقي الــروحي وأن هذه المقامات, هي أيضا مرتبط أحدها بالآخر برباط عضوي, وأن أحدها متعلق


    بصحة ما سبقه, وهكذا. وكالمعتاد أيضا فأن الشيخ عبد القادر, لا ينسى تذكير مريديه, بأن أي صفاء روحي أو تدرج معرفي, لايتم, في هذه المقامات, إلا مع حفظ حدود الشرع وملازمة آدابه.(1) وأما في كتابه: (الغنية لطالبي الحق عز وجل), فأنه يضع ترتيبا آخر للمقامات يختلف عن سابقه, فهو يبدأ أولا بالزهد والمجاهدة, اللذين ما أن تركن النفس أليهما حتى ينقلها الله عز وجل, إلى ملك الجبروت, وبسلطان الجبروت, تقمع النفس وتقهر, فأذا ما إستجابت وخشعت, نقلت منه بعد ذلك إلى ملك السلطان, لتهذب وتذوب فيها تلك الغدد العالقة التي هي أصول الشهوات, ثم تنقل بعد ذلك إلى ملك الجلال, فتأدب ثم إلى ملك الجمال فتنقى ثم إلى ملك العظمة فتطهر ثم إلى ملك البهاء فتطيب ثم إلى ملك البهجة فتوسّع ثم إلى ملك الهيبة فتربى ثم إلى ملك الرحمة فترطب وتقوى وتُشجع ثم إلى ملك الفردية حيث تُفرد وتعاد إلى موضعها الأول.(2)

    أما المريد السالك, فأنه في جميع هذه المقامات, من أشدها وطأة على نفسه وحتى أيسرها وأهونها عليه, يتقلب في رحمة الله عز وجل, إذ يعتقد الشيخ عبد القادر, بأنه لولا رحمة الله تعالى وفضله لما أستطاع الإنسان أن يغير ولو قليلا من طباع نفسه. إن اللطف الإلهي هو الذي يعذب نفس المريد – أي يزيدها عذوبة بأن يزيل عنها ظلمة الكدورات – والرأفة هي التي تجمعه وتكتنفه والمحبة تقويه والشوق يدنيه والمشيئة تؤديه إليه تعالى, والجواد العزيز يقلبه فيقربه ثم يدنيه ثم يمهله ثم يؤديه ثم يناجيه ثم يبسطه بمنه ثم يقبض عليه, فاينما صار المريد السالك, وفي كل مكان جال وفي كل حال لربه دان, فهو في قبضته عز وجل وأمين من أمنائه على أسراره وما يؤديه من ربه إلى خلقه.(3) فأذا صار إلى هذا المحل, فقد أنقطعت الصفات وأنقطع الكلام والعبارات – وهو حال الفناء – وهذا هو منتهى العقول والقلوب, وغاية ما تبلغه حالات الأولياء وتؤول أليه, وأما ما وراء ذلك, فهو مختص بالأنبياء والرسل دون غيرهم.(4)
    يمكننا أن نخلص مما سبق, إلى أنه لا وجود لشئ من المغايرة و(الأبتداع) في تصنيفات الشيخ عبد القادر, لتلك للمقامات, وإنما هو أختلاف في الصياغة وأختصار في التعبير, بينما مراحل السلوك عنده, واحدة لا تتغير, فمثلا, المريد الذي يجتاز المراحل أو المقامات الصوفية, إبتداءً من الزهـد
    وحتى الفناء, فأنه حتما سيمر بمراحل: الإسلام والأيمان والإيقان والمعرفة, وهو أيضا, سيتقلب حتما بين ملك الجبروت وملك السلطان وملك الهيبة وملك الجلال... الخ. إذن فلا وجود, عنده, إلا لتصنيف واحد للمقامات, وهو ما سنذكره بالتفصيل فيما بعد.

    الفوائد الروحية للمقامات

    إن بلوغ المقامات الروحية, عبر السلوك الصوفي, لا يعد في نظر الشيخ عبد القادر, هدفا أو غاية في حد ذاته, بل هو وسيلة, يراد من خلالها, تجاوز عقبة نفسية أو أزالة ظلمة من ظلمات هذه النفس المليئة بالحجب الكثيفة المانعة لها من التمكن من مقام العبودية الحقّة, وأن أعظم غنيمة يمكن للإنسان أن يجنيها من وراء بلوغه هذا المقام, هو إكرامه نفسه, التي كرّمها الله عز وجل إبتداءً وإن أعظم ما يُكرم به السالك في سلوكه, أو من خلال مجاهداته وعباداته, هو: أن تبدّل أوصافه الذميمة, بأوصاف هي حميدة عند مولاه تعالى وهي مقبولة في الشرع والعرف وهي منجّية له من المهالك, فالمقصود من هذا السلوك هو, ((الوصال مع ملك الملوك, والوصل لا يكون إلا برفع الحجب, وأن الحجب في حقيقتها, هي عدم مناسبة بين الطالب والمطلوب, وأن تبديل الصفات تقرّب المناسبة))(1) وتجدر الأشارة, إلى أن هذه الحجب, ترجع في نظر الشيخ عبد القادر, إلى العبد وحده دون المعبود, لأن الله تعالى, لا يحجبه شئ, لأنه لو كان له حجاب, لكان له قاهر, والله تعالىهو القاهر فوق عباده)(2) إذن فالمحجوب على الحقيقة هو العبد, وأما المقصود من الحجب عند التحقيق, فهي الذنوب والمعاصي والغفلات, على أن تبديل العبد أصافه الذميمة, بصفات مولاه الحميدة, لا يعني سعيه لأكتساب صفات الألوهية والقدرة والعظمة, وإنما الصفات الحميدة التي وصف بها المولى تعالى نفسه, وأمر عباده بالتحلي بها, مثل الأيمان والكرم والصدق...الخ.

    لقد عمل الشيخ عبد القادر جاهدا, على أن يجد للمقامات الصوفية غايات عملية, تسلّط الضوء على المقصود الرباني الذي يمكن أن يتحقق من خلالها, وأولى هذه الغايات وأهمها, هي تعلم آداب الخضـوع للحضرة الإلهية, ويتم ذلك إقتداءً بصــاحب الخلق العظيم, محمد (r). ثم, إكتساب


    الشعور بالعجز عن الأدراك, أي إدراك كل ما يتعلق بالذات الإلهية أو القدرة أو العظمة, وهذا الشعور بالعجز, إذا تحقق, فأنه يرتقي بالعبودية إلى المستوى الحق المرجو منها, وكذلك فأن السلوك يدفع إلى التوجه للمعارف عامة, إهتداءً لعالمي الغيب والشهادة, فبغير العلوم والمعارف, لا يمكن الولوج إلى عالم الغيب ولا التعامل مع عالم الشهادة, وكذلك يعلم السلوك المريد أن يتخذ الجوع وسيلة للوصال وأستعجالا للّقاء في الدنيا قبل الآخرة, ثم يعلمه كيفية إنفصال الأرواح عند المناجاة, حالا يحاكي فيه الملائكة بتجردهم وصفائهم, ثم الوقوف مع التوحيد, وضعا ثابتا لا يمازجه خاطر من شرك خفي أو ظاهر, ثم يعلمه كيفية التواصل مع ذكره تعالى وتلاوة كلامه سرا وخفاءً, زيادة في الأخلاص. وكلما أتم العارف مقاما من هذه المقامات, فتح الله تعالى له في كل آخر مقام, بابا من أبواب مواهبه الرحمانية, فيفتح له مثلا, من تعلمه آداب الحضرة إقتداءً, باب البسط في الملك والملكوت والجبروت, فأما في الملك فيكون في العلم والجسم وأما في الجبروت فيكون في الحال والقلب وأما في الملكوت فيكون في الروح والسر, إذ تظهر له أسرار المقامات وحقائق الأحوال, فأذا ما تم للمريد ذلك, فأن روحه ستجد نسيم القرب فلا تألف إلا نسبته, وهذا هو سر العرفان المتولد عن التقوى, وهو أولى حقائق العارفين في أول مشاهدتهم ومبادئ منازلتهم.(1) إذن فما يطمح المريد للوصول أليه, هو أن يكون عبدا حقيقيا لمولاه, وأن يكون ذكره خالصا لربه وان يكون صافي النفس نقي القلب أمينا على حدود الله تعالى, ناصحا لعباده, آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر, وهذا هو عين ما تبغي الطريقة بلوغه وهو عين ما تأمر به الشريعة.

    المقام لغة وأصطلاحا

    وقبل الدخول في تفصيل الكلام عن المقامات عند الشيخ عبد القادر, لابد أولا, من التذكير ببعض دلالات كلمة (مقام) اللغوية, والأصطلاحية, من أجل تسليط مزيد من الضوء على جوانب هذا الموضوع.
    المقام في اللغة هو موضع الأقامة, واما مفرداته فهي: قام, يقوم, قوما, قياما, قومة, قامة وقام: أي ثبت ولم يبرح ومنه قولهم: أقام بالمكان, ويقال قام الماء, إذا ثبت متحيرا لا يجد منفذا أو إذا جمد والمُقامة بالضم تعني الأقامة, وقيل المقام بالفتح هو المنزلة الحسنة, وأقام الشئ: أدامه, وقام الشئ وأسـتقام أي أعتدل وأستوى.(2) فالمقام في اللغــة إذن, لا يخرج عن معنى الثبات والأستقرار

    والدوام, وهذه هي المعاني نفسها التي ألتزم بها الصوفية في أصطلاحهم.(1)

    عند الصوفية يشير المقام إلى: مقام العبد بين يدي الله تعالى, فيما يقام فيه من العباداتوالمجاهدات والرياضات والانقطاع إلى الله عز وجل(2) ويذكر القشيري أن المقام هو ما يتحقق به العبد بمنازلته من الآداب, بما يتوصل اليه بنوع تصرف ويتحقق به بضرب تطلب ومقاساة تكلف – أي أن المقام يعتمد على سلوك العبد وجهده – فمقام كل أحد, هو موضع أقامته عند ذلك, وماهو مشتغل بالرياضة له, وشرطه أن لا يرتقي من مقام إلى مقام آخر, مالم يستوفي أحكام ذلك المقام, فأن من لا قناعة له لا يصح له التوكل ومن لا توكل له لا يصح له التسليم وهكذا. والمقام هو الأقامة كالمدخل بمعنى الأدخال والمخرج بمعنى الآخراج, ولا يصح لأحد منازلة مقام, ألا بشهود إقامة الله تعالى أياه بذلك المقام, ليصبح بناء أمره على قاعدة صحيحة.(3) إذن فالقشيري يرى أنه لا يجوز الأنتقال إلى مقام جديد مالم يتم التمكن من المقام الذي سبقه, وهذا مالا يؤيده الشيخ عبد القادر, كما مرّ بنا سابقا.

    الحـــال

    ومن ذكر الشئ بالشئ, فلابد من أن نعرّج هنا على بعض ما قيل في رديف المقام الذي يذكر معه في أكثر الأحيان, وهو الحال: والحال في اللغة مأخوذ أصلا من التحول والتغير, فيقال حال الشئ حولا, وحؤولا. وأحال, بمعنى تحوّل, وحال الشخص يحول إذا تحول. والتحول يعني التنقل من موضع إلى آخر, والحال يعني أيضا الوقت الذي أنت فيه.(4) وأما في أصطلاح الصوفية, فيعني الحال: كل ما يرد على القلب – من غير تصنع ولا أجتلاب ولا أكتساب – من طرب أو حزن أو بسط أو هيبة أو شوق. والحال يزول بظهور صفات النفس, أي بزوال صفائها, فأذا مادام وصار ملكا, سمي مقاما. فالأحوال إذن مواهب والمقامات مكاسب, والأحوال تأتي من عين الجود والمقامات تحصل ببذل الجهد, وصاحب المقام ممكن في مقامه, وصاحب الحال مترقٍ عن حاله.(1) وقال بعض العارفين أن الأحوال كأسمها, يعني أنها كما تحل في القلب تزول في الوقت وأشار قوم إلى بقاء الأحوال ودوامها, وقالوا أنها إذا لم تدم ولم تتوال فهي لوائح وبواده.(2) ولم يصل صاحبها بعد إلى الأحوال. فأذا ما دامت تلك الصفة, فعند ذلك, فقط, تسمى حالا. ويضيف القشيري بأن الحال هو: منازلة العبد في الحين – أي ما يطرأ عليه في حينه – فيصفو له في الوقت حاله ووقته.(3) وخلاصة ما يمكن أن نخلص أليه, من تعريفي المقام والحال, يمكن أن نجدها في قول الشيخ عمر السهردوري (ت632 هـ ) وهو من أشهر تلامذة الشيخ عبد القادر وذلك في معرض تفريقه بين المقام والحال, فيقول: إن اللفظ والعبارة عنهما – أي المقام والحال – مشعر بالفرق. فالحال سمي حالا لتحوله والمقام مقاما لثبوته وأستقراره, وقد يكون الشئ بعينه حالا ثم يصير مقاما.(4)

    أما عم عدد المقامات عند الصوفية, فيمكن القول, إتها كثيرة وغير ثابتة العدد, بحيث أنها قد تكثر فتصل إلى مائة مقام كما هو الحال عند الهروي الأنصاري (ت 481هـ ) في كتابه منازل السائرين, وقد تقل فتصبح سبعة مقامات, كما نجدها عند أبي يكر الطوسي (ت 378هـ ) في كتابه الشهير (اللمع) أما عن الشيخ عبد القادر, فقد أحصى لنا سبعة مقامات, هي على عدد الأنفس التي مر ذكرها سابقا. وهذه المقامات هي ما يأتي:

    أولا:- مقام التوبة
    الأصل في التوبة,قوله تعالى(وأني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم أهتدى)(5)وقوله تعالى

    (ومن تاب وعمل صالحا فأنه يتوب إلى الله متابا)(1) وقوله تعالى (فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فأن الله يتوب عليه)(2) والتوبة هي أول المقامات عند الشيخ عبد القادر, وهي نقطة البداية في سلوك طريق القوم الموصل إلى حق اليقين, والتوبة تعني التبري من الذنوب التي هي ظلمات القلوب وحجب الأنفس, وهي باب يظل مفتوحا, مادام العبد في الحياة, فأن مات أغلق دونه,(3) وكما نلاحظ, فأن الشيخ عبد القادر, يعمل على أن يقدم للتوبة تعريفا مقبولا من لدن الصوفية والفقهاء على حد سواء, وهذا هو جوهر رسالته الفكرية.

    التوبة إذن, واجبة على كل أنسان, سواءٌ أكان سالكا أم غير سالك, لأن حقيقتها هي اللجوء إلى الله تعالى, فالعبد إذا ما تاب إلى ربه, فهذا يعني أنه قد لجأ أليه, وفي اللغة يقال: تاب فلان من أمر أي رجع عنه, فالتوبة هي الرجوع عما كان مذموما في الشرع إلى ماهو محمود فيه, وهي كذلك تعني الندم على ما فات من الذنوب وتعني التوبة أيضا: الرجوع إلى الله تعالى, بحلّ عقدة الأصرار عن القلب, ثم القيام بكل حقوق الرب, والتوبة النصوح هي: توثيق العزم على أن لايعود بمثله ولا يبقى على عمله أثرا من المعصية سرا وجهرا. وقيل: التوبة هي الأعتراف والندم والأقلاع.(4) أما أذا أريد للتوبة أن تكون مقاما من بين المقامات الصوفية, فأن للشيخ عبد القادر فيها رأيا آخر, فالمريد هنا, لابد من أن يتحقق بالتوبة ويتمكن منها ويتلبس بها, بحيث إنها تسري على ظاهره وباطنه وعلى جميع جوارحه, فتبدو وكأنها, قلب دولة, أي أن يتبعها تغيّر جذري ملحوظ على المريد التائب بكليته. ويشترط في التوبة (الصوفية) أن تكون مجردة, لا تتعلق بشئ ولا يتعلق بها شئ وهي ما تسمى بالتوبة النصوحة الخالصة لوجهه تعالى, التي لا تعلق لها بترجي مكافأة أو طلب مدح أو جاه في الدنيا أم في الآخرة ويشترط لصحة هذه التوبة, أن يكون العبد معها, مستقيما على الطاعة غير مائل إلى المعصية, ((لا يروغ كما يروغ الثعلب, ولا يحدث نفسه بعود إلى معصية ولا ذنب من الذنوب, وأن يترك الذنب لله خالصا, كما أرتكبه للهوى خالصا))(5)


    من العبارة السابقة يتبين لنا ملامح الأسلوب الصوفي في التعامل مع مفردات الحياة, الدنوية منها و الآخروية, إذ إن الصوفي لا يرضى من المعاملات والعبادات, ألا ماكان جوهريا في تأثيره في كيانه بأجمعه, فهو لا تكفيه النية الخاوية ولا ترديد الكلام المحفوظ, وإنما النية المقرونة بالفعل المستمر والمقصود, والمتغلغل في جميع مفاصل الحياة, فالتوبة بهذا المعنى, تهدف إلى إجراء تغيير ملحوظ في حياة الإنسان الداخلية وفي علاقته مع ربه والآخرين, وأما ما عدا ذلك فأنها ستصبح رسما من بين الرسوم التي يمارسها الناس, ولا يكلفون أنفسهم مشقة فهمها وأستنباط معانيها. أن الصوفي لا يرضى من العبادات إلا بمعانيها الحقيقية, على أنه لايفرط في الوقت نفسه بما يظهر منها من شعائر وحركات.

    إن التوبة إذا ما وصلت إلى هذه النقطة من الفعل والتأثير, فأنها ستقترب كثيرا من حدود الورع فيمتزج الأثنان ويتداخلان, ويكون صاحب التوبة ورعا ويكون الورع في توبة دائمة,(1) وهنا يمكننا أن نلمس التداخل الذي سبقت الأشارة أليه, بين المقامات الصوفية عند الشيخ عبد القادر.

    ولأهمية التوبة, سواء في السلوك الصوفي أم في الحياة الأعتيادية, فقد عدّها الشيخ عبد القادر فرض عين في حق كل إنسان, إذ لا يخلو أحد من معصية, سواء في الجوارح أم في القلوب, فأن خلا منها بهذين الوجهين, فأنه لا يخلو من الوساوس والخواطر التي تذهله عن ذكر ربه, فأن خلا من هذه أيضا, وهو نادر الوقوع, فأنه لا يخلو حتما من ريبة وحيرة في عقيدته الدينية, مما له علاقة بعلم الصفات والأفعال. والشيخ عبد القادر, هنا يعمل على غلق جميع المنافذ, أمام أتهام الصوفية, بأدعاء العصمة والحفظ المطلق، في أي مرحلة من مراحل سلوكهم الصوفي، وهو ما يحاول ان يُلصقه بهم خصومهم، فالصوفي، اذن، مهما ارتقَ في مراحل الكمال الروحي، فانه يبقَ في حاجة ماسة لسدّ نقصه الطبيعي الذي هو وليد بشريته.





    مراتب التوبة

    والتوبة عند الشيخ عبد القادر، ليست واحدة في حق كل الناس، وإنما هي تتفاوت وتتنوع على قدر منازلهم وأحوالهم ومقاماتهم، إذ إن لكل حال يناله الصوفي، مثلاً، طاعات وذنوباً وحدوداً وشروطاً، فحفظ الحال طاعة وتركه والغفلة عنه ذنب يحتاج إلى توبة، والتوبة هنا تعني الرجوع عن الزلة التي وجدت، إلى سنن الطريق المستقيم الذي شُرِّع له والمقام الذي أقيم فيه والمنزلة التي مُهِّدت له. فكل الناس، في نظر الشيخ عبد القادر، يفتقرون للتوبة، حتى لو بلغوا ارفع درجات الولاية.(1) وإنما هم يتفاوتون في مقادير هذه التوبة، فتوبة العوام تكون من الذنوب وتوبة الخواص تكون من الغفلات وإما توبة خواص الخواص، فأنها تُستوجب من ركون القلب إلى ما سوى الله تعالى.(2)

    مما سبق، يمكننا ان نخلص إلى أن التوبة كمقام، لا يمكن للمريد ان يتعدّاها صعوداً، إلى المقام الذي يليها، بل هي تظل ملازمةً له كظلّه، منذ باكورة سلوكه وحتى مراقيه النهائية إنها سلوك يومي يدرأ به عن نفسه مهاوي الزلاّت والغفلات، وعليه فلا مجال لأي سالك يدّعي الوصول إلى برّ ألامان، وثم يتخلى عن الواجبات الشرعية، إذ انه حتى خواص الخواص من الأولياء، يحتاجون إلى للتوبة، أي بمعنى إنهم يحتاجون إلى إتيان فعل الطاعات طوال حياتهم.
    لا تصحّ التوبة، عند الشيخ عبد القادر فتصبح مقاماً، إلا إذا استوفت شروطاً ثلاثةً: أولها الندم(3) على ما اقترف من المخالفات، وعلامة صحة الندم هي: رقة القلب وغزارة الدمع. وثانيها: ترك الزلاّت في جمــيع الأحوال والأوقات، وثالثها: عقد العزم على عدم العودة إلى ما أُقترف من المعاصي والخطايا. فأن تمت هذه الشروط، نصحت التوبة وأصبح المريد بعدها، لا يبالي كيف أمسى أو كيف أصبح، إذا أن الندم الذي انتابه، سيورثه عزماً وقصداً على ان لا يعود لما أسلف من المعاصي، لعلمه المستفاد من ذلك الذي مفاده: ان المعاصي تحول بينه وبين معبوده.

    وكما تختلف التوبة باختلاف الناس واختلاف مراتبهم الروحية، فانها تختلف أيضا، باختلاف الأزمنة وهي: الحاضر والماضي والمستقبل، فامّا ما يتعلق منها بالزمن الحاضر فهو يعني: ترك كل محظور وأداء كل فرض، وأما ما يتعلق بالماضي، فهو: تدارك ما فرط، وأما ماله علاقة بالمستقبل، فهو: المداومة على الطاعة وترك المعصية إلى الموت.(1) على أن هذه التوبة، لا تكون من العبد تجاه ربّه فقط، بل ان لها وجهاً يتعلق بالعباد، ويعالج بأداء حقوقهم والإحسان إليهم وإرضائهم، بينما الوجه الأول الذي هو إزاء الرب تعالى، فانه يعالج بالاستغفار باللسان والندم بالقلب وإضمار النيّة على عدم العودة إلى ما تاب العبد منه.

    مصدر التوبة

    ولنا أن نسأل، أخيرا، هل التوبة هي من سابق عناية الله تعالى لعباده، أم إنها فعل خالص لإرادة العبد وقصده ؟ علماً إن ما يصح على التوبة من جواب على هذا السؤال، يصح على الفعل الصوفي برمته. يتميز جواب الشيخ عبد القادر عن هذا السؤال، بأنه يجمع كل الأمرين في مزيج واحد متجانس. فالتوبة تبدأ من التوفيق وسابق العناية الإلهية، وان بداية نزوع العبد نحو صدق التوبة، يبدأ من عند الله عز وجل ((فالتوبة لا تخرج عن كونها نظر الحق تعالى إلى عنايته السابقة القديمة لعبده، وإشارته بتلك العناية إلى قلب عبده، وتجريده ايّاه بالشفقة، مجتذباً إليه قابضاً، فإذا كان كذلك، انجذب القلب إليه عن كل همّة فاسده وتابعه الروح ووافقه العقل، فصحّت التوبة وصار الأمر كله لله تعالى)).(2) فإذا ما استجاب العبد لهذه الدعوة، وسعى لها سعيها، طبعت بطــابعـه
    وكانت له فعلاً خالصاً وصادراً من محض إرادته وقصده، وفوق ذلك، فانه يستحق لأجله الثواب. وهكذا هو الفعل الصوفي عامة إذ انه في الوقت نفسه دعوة ربانية وتلبية بشريته، فإذا ما اختلطت هذه التلبية، بصدق العبد وإخلاصه فانه سيصل معها إلى ابعد المرامي وأعلى الرتب.

    علاقة التوبة بالورع

    فإذا ما نصحت التوبة، واستوفى العبد شروطها، وتشرّب بها قلبه وروحه وعقله وكل جوارحه وصارت لنفسه طبعاً مستفاداً دائماً، تطورت فاستحالت ورعاً. أي إنها صارت حذراً ايجابياً ملازماً للمريد في جميع حركاته وسكناته، أو بالاحرى صار الخوف من اقتراف المحضور، والخشية من مباشرة الشبهات، طبعاً من طباع النفس، يعلم من خلاله المريد، وبفطرته السليمة التي استعادها ((ان سلوك طريق الحق، متعذر على من هبط إلى سجيّن الطبيعة وأسفل السافلين، وانحبس في قفص العادات، واصطيد بشبكة المخالفات)).(1) فإذا ما عكسنا هذا القول فان النتيجة هي: إن طريق الحق متيسر لكل من ارتقى فوق طبائعه الدنيئة وتحرر من قفص عاداته وشبكة أهوائه.

    الورع اذن، هو الخطوة التالية التي تكمّل مقام التوبة، فتمنحه صفة الديمومة والثبات(2)، والورع بأيسر معانيه، يعني ترك الشبهات(3) وهو بهذا المعنى، يدلّ على انه فعل شرعي محض، وما دامت التوبة تُفضي إلى الورع والورع يفضي إلى التوبة، فهذا يعني ان الحقيقة تفضي إلى الشريعةوالشريعة تفضي إلى الحقيقة، او بالاحرى فانه لا وجود لفواصل حقيقية بينهما، وهذا هو جوهر ما يرمي الشيخ عبد القادر إلى بيانه. واما الورع بمعناه الموسع فهو: اشارة إلى التوقف في كل شيء وترك الاقدام عليه الا بأذن شرعي، فان وجد للشرع فيه فعلاً لتناوله فيه مساغاً، والا تركه. والورع هو ملاك الأمور كلها.(4)



    مستويات الورع

    يقسم الشيخ عبد القادر- كعادته في تقسيم الموضوعات- الورع على ثلاثة مستويات: ورع العوام وهو ورع عن الحرام والشبهة، وورع الخواص وهو ورع عن كل ما للنفس والهوى فيه شهوة وورع خواص الخواص، وهو ورع عن كل ما للنفس فيه إرادة ورؤية، فالعام يتورع في ترك الدنيا، والخاص يتورع في ترك الجنة العليا وخاص الخاص يتورع في ترك كل ما سوى الذي خلق وبرا. وغير هذا التقسيم، فان الورع عند الشيخ عبد القادر، ينقسم على قسمين، ورع ظاهر وورع باطن، فأما الظاهر فهو ان لا يتحرك العبد إلا بالله عز وجل، وأما الباطن، فهو إن لا يدخل قلبه سوى الله تعالى.(1) وكان الشيخ عبد القادر، يريد ان يخبرنا، بان الورع هو اختصار لفعل الصوفي برمته، فبه تتحقق الطاعة الحقة لله تعالى، وهو الذي يفضي إلى التوكل الصحيح، وهو الذي لا يبقي إرادة للعبد مع إرادته تعالى، وهو فوق ذلك يؤدي إلى بلوغ العبد أعلى درجات العبودية والتوحيد، وذلك بان يمنع أي داخل إلى قلبه سوى ذكر مولاه تعالى.

    إن من بين أهم وأنبل آداب السلوك للمريد، عند الشيخ عبد القادر، هو عدم ترك الاحتياط في الورع، في حال ضيق اليد، فلا يخرج المريد السالك إلى ما لا يحلّ في الشرع متذرعاً بفقره فيتحول من العزيمة إلى الرخص. ان الورع هو مِلاك الدين والطمع هلاكه وتناول الشبهات فساده وان من لم يصحبه الورع طوال مسيرته الصوفية، أكل الحرام وهو لا يدري، فعليه إذن أن لا يخلد إلى التاويلات في دينه، في حال فقره، بل يركب الأشق والاحوط الذي هو العزيمة. وفوق ذلك فان من لم ينظر في دقائق الورع، فلن يحصل على نفائس العطاء الروحي.
    والورع إذا ما دُقق النظر فيه، صار متنوعاً ومتفاوتاً، فهو يختلف من موضوع لآخر، فالورع في الكلام،أشدُّ منه في الذهب والفضة، والورع الذي يكون في الزهد في طلب الرئاسة، هو اشد من الورع الذي يصدر عن الزهد في المال، لان المال قد يبذل في طلب الرئاسة. والزهد هو أول الورع، إذ إن من لم يعتد على الزهد في طلب اللذات لا يمكنه التواصل مع الورع. ويرى الشيخ عبد القادر، ان الورع يمثل شرطاً أساسياً للنجاة في الدنيا والآخرة، والا فان من ترك الورع، فان الهلاك سيلازمه حتماً، الا ان يتغمده ربه برحـمته.(2) أي ان العبد، اذا ما احتكم إلى ميزان العدل

    الإلهي، فان تركه الورع سيؤدي به حتماً إلى الهلاك،لأنه سيقترف بهذا الترك، إحدى المعاصي لا محالة، ومن هنا، جاء الشيخ عبد القادر على ضرورة إن يكون الورع مصاحباً للسلوك الصوفي في مراحله كافة وللإنسان الاعتيادي في أطواره المختلفة .
    وللتمثيل على تطبيق قواعد الورع، في الحياة العملية، يذكر الشيخ عبد القادر، الطعام واللباس امثلة يتجلى فيها الاخذ بمبدأ الورع، بشكل ملحوظ. ففي الطعام يكون الناس على ثلاثة اضرب: متقٍ وولي محق، وبدل عارف. فحلال المتقي فيما ليس للخلق عليه تبعة ولا للشرع عليه مطالبة، وهو ما تعارف عليه الناس بالاكل الحلال. وطعام الولي المحق الذي هو الزاهد الزائل الهوى، ممّا ليس فيه للهوى موضع، بل هو إئتمار بأمره تعالى، وطعام البدل الذي هو العارف، المفعول فيه، زائل الإرادة، كرة القدر. وهو مما لم تكن فيه همّة ولا إرادة، بل فضل كله من الله تعالى، يرزقه ويحفظه ويربيه بمقدرته الشاملة ومنّته العامة ومشيئته النافذة، كالطفل الرضيع في حجر أمّه الشفيقة. على ان من لم يتحقق بالمقام الأول لا يصل إلى الثاني، ومن لم يتحقق بالمقام الثاني، لا يصل إلى الثالث. وعلى أساس هذه المراتب، فان طعام التقي(1) يعدّ شبهة في حق زائل الهوى وطعام زائل الهوى يعد شبهة في حق زائل الإرادة والهمة وكما قيل، فان سيئات المقربين هي حسنات الابرار، وان الحلال المطلق هو الذي لا يعصى الله تعالى به ولا بشيء فيه، وهذا لا يتحقق الا للانبياء فقط.(2)
    اما في اللباس، فأن الناس فيه على ثلاثة اضرب ايضاً، فلباس الاتقياء هو عينه الحلال المتقدم ذكره، سواء اكان كتّاناًً ام قطناً ام صوفاً، ام غير ذلك ولباس الأولياء هو ما وقع به الامر، وهو ادنى ما تستر به العورة وتدعو اليه الضرورة ويتحقق به زوال الاهوية، واما لباس الابدال، فممّا جاء به القدر، ثميناً كان ام زهيداً، ولكن مع شرط حفظ الحدود.(3) اذن، فليس التخشن في الماكل والملبس هو المطلوب في السلوك الصوفي، بل ان المطلوب، هو تخليص كل ما يتعلق به الإنسان او يتناولة، من الاهواء والعلائق والشبهات , فأمّا ان تمكن الخير والصلاح من نفسه , فلابأس عليه بعد ذلك فيما تناول من الطيبات , اذن , فليس هذا من الرهبانية في شيء , وانما هو دعم لأنسانية الإنسان وتوسيع لمساحة حريته , فالشخص الذي لا تأسره الأهواء ولا تستعبده الحاجات هو حتماً اكثر انسانيةً من سواه .

    شروط صحة الورع

    واخيراً، فأن المريد، عند الشيخ عبد القادر، لا يكون ورعاً، الا بعد ان يستوفي عشر خصال فريضة على نفسه : وهي حفظ اللسان من الغيبة والاجتناب عن سوء الظن والثالثة تجنب السخرية، والرابعة غض البصر عن المحارم والخامسة صدق اللسان والسادسة ان يعرف منةّ الله تعالى عليه لكيلا يعجب بنفسه والسابعة ان ينفق ماله في الحق ولا ينفقه في الباطل والثامنة، ان لا يطلب لنفسه العلو والكبر، والتاسعة، المحافظة على الصلوات الخمسة في مواقيتها، بركوعها وسجودها، والعاشرة، الأستقامة على السنّة والجماعة (1) والشيخ عبد القادر، يدعم جميع هذه الخصال، بأيات قرانية، ليؤكد الترابط البالغ بين جناحي الايمان : الشريعة و الحقيقة، علماً أن هذه الخصال التي لابّد للمريد من أن يتحلى بها، هي في حقيقتها, خصال أساسية, لابّد على كل مسلم من أن يسعى إلى نيلها والتحلي بها, فهي من بدائه الايمان التي لا يمكن أن يختلف عليها اثنان .

    ثانياً ـ مقام التوكل :ـ
    التوكل بأيسر و أوضح معانيه, يعني الثقة بما عند الله تعالى, واليأس ممّا في أيدي الناس. (2) والتوكل هو المقام الثاني بعد التوبة, على أن كثيراً من مشايخ الصوفية يرى فيه المقام الأول, لما له من تأثير بالغ في تقويم السلوك الصوفي لدى المريد, فهو بالتوكل, يستطيع التقرّب من مولاه عز و جل, وذلك بأنسلاخه عن حوله وقوته و عن جميع الخلائق, وهو بالتوكل, يستطيع أن يتقوى على ازالة الكثير من الصفات السيئة. الأصل في التوكل, هو قوله تعالى: (( وعلى الله فتوكلوا ان كنتم مؤمنين)) (3) ويبدو الربط واضحاً في هذه الآية, بين التوكل و الأيمان, و كذلك ورد التوكل في قوله تعالى: (( ومن يتوكل على الله فهو حسبه )).(1) وتدل هذه الآية على كفاية المتوكلين بربهم عن كل من سواه. وأمّا في الحديث الشريف, فقد ورد قوله (r): (( لو توكلتم على الله حق توكله, لرزقكم كما يرزق الطير, تغدو خماصاً وتروح بطاناً )). (2) وكذلك قوله (r) من ضمن حديث طويل: (( من سرّه أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله )).(3) وأما تعريف التوكل عند شيوخ التصوف, فقد عرّفه ذو النون لمصري(ت245هـ) بانه: ترك تدبير النفس والانخلاع من الحول والقوة.(4)
    والتوكل عند حمدون القصّار (ت-270هـ) هو الاعتصام بالله عز وجل.(5) وعند سهل بن عبد الله التستري(ت 283هـ) هو: الاسترسال مع الله تعالى على ما يريد.(6) واما عند الجنيد (ت-297هـ) فهو: ان تقبل بالكلية على ربك وتعرض عمن دونه.(7) ويمكننا ان نلاحظ، ان ما جاء به كبار المتصوفة عن التوكل، يتفق تماماً مع ما جاء في الكتاب والسنة، والذي مفاده اجمالاً ان التوكل هو ثقة العبد بما في يد ربه وعدم ثقته بما في يديه او في ايدي الناس، وكذلك فالتوكل هو سرّ قوة العبد المؤمن، الحقيقية، وامّا ما عداه، فوهم وخداع.

    التوكل عند الشيخ عبد القادر

    وأما عند الشيخ عبد القادر، فيمكننا ان نفهم التوكل من خلال التعريفات الأربعة التي عرّفه بها وهي: اولاً- التوكل هو ترك الأسباب والأرباب والخروج من الحول والقوة، من حيث القلب والسرّ وطلب المسبب وحده، مع خروج القلب عن التعلق بالخلائق، على ان كل ذلك، يجب ان يكون مصحوباً بالمعرفة بالله عز وجل والعلم به. وأما ثانياً، فالتوكل يعني: تفويض الأمور إلى الله عز وجل والتنقي عن ظلمات الاختيار والتدبير والترقي إلى ساحات شهود الأحكام والتقدير، بحيث يقطع العبد، ان لا تبديل للقسمة، فما قسم له لا يفوته وما لم يقدّر له لا يناله، فيسكن قلبه إلى ذلك ويطمئن إلى وعد مولاه فياخذ بعدئذٍ من مولاه.(1) وفي التعريف الثالث يعني التوكل: اشتغال السرّ بالله عن غير الله، فينسى ما يتوكل عليه لأجله، ويستغني به عمن سواه، فترفع عنه حشمة الغنى في التوكل. وأخيرا، فالتوكل هو: استشراف السرّ بملاحظة عين المعرفة إلى خفيّ غيب المقدورات، واعتقاده، حقيقة اليقين، بمعاني مذاهب المعرفة، فأنها محتومة لا يقدح فيها مناقص.(2) انتهى. فاذا ما تتبعنا هذه التعريفات، لوجدنا. انها تدور على أربعة محاور هي: الأيمان بحتمية تقسيم الأقوات والأرزاق والحظوظ، مع التيقن بان ما كان للعبد لا يكون لغيره، وما كان لغيره لا يكون له أبداً. ثم تفويض الأمور إلى الله تعالى مع ترك الاختيار والتجرد عن الإرادة، ثم ترك التعلق بالخلق وحصره بالخالق فقط. ثم أخيرا: تعويد السرّ على الاشتغال بالله تعالى والاستغناء به عن سواه. وهذه(المحاور) هي مما يطمح إلى الاعتقاد والعمل به، كل المؤمنين، السالكين منهم أم غير السالكين، والشيخ عبد القادر، وان صاغ هذه التعريفات الأربعة، بلغة صوفية ملحوظة، الا انه في الوقت نفسه، حافظ على ثوابته المنهجية، اذ جعل من كلا المطلبين، الشرعي والصوفي، مطلباً واحداً، وهو ما يمكن ان نسميه بـ (التوحيد) أي التوحيد الحالي الذي يتلبس في قلب وعقل وروح المريد بعد طول مراس نفسي ومعرفي وبعد مكابدات ورياضيات لا يصبر عليها الا الخلصّ من العباد.

    درجات التوكل

    وعند الشيخ عبد القادر فان مقام التوكل، لا يتحقق دفعة واحدة وعلى الوتيرة ذاتها، بل هو يتوزع على ثلاث دفعات وفي وتيرة تصاعدية، تبدأ بالتوكل ثم التسليم ثم أخيرا التفويض. المتوكل يسكن إلى وعد ربه، وصاحب التسليم يكتفي بعلمه تعالى بحاله وصاحب التفويض يرضى بحكمه تعالى فيه وفي غيره، وعليه فان التوكل يُعدُّ صفة للعوام وهو البداية والتسليم هو صفة الخواص وهو الوسط والتفويض هو صفة خواص الخواص وهو نهاية المطاف في هذا المقام.(3)

    وتجدر الاشارة هنا، إلى ان التوكل بكونه صفةً للعوام، لا يعني انه توكلٌ على كمال الحقيقة، لانه لو كان كذلك ، فانه سيغدو تفويضاً، وهذا ليس من فعل العوام، ويضرب الشيخ عبد القادرلنا مثلاً عن التوكل على كمال الحقيقة بقصة نبي الله إبراهيم(u) مع جبريل(u)وذلك حين سأله الأخير أثناء إلقاء إبراهيم(u)في النار: ألك حاجة ؟ قال: أما أليك فلا. وما أجاب الخليل(u)بهذا الجواب لأنه غابت نفسه حتى لم يبق لها اثر، فلم يرَ مع الله تعالى غيره.(1) كذلك فكون التوكل صفة للعوام فهذا لا يعني انه يقع خارج دائرة السلوك الصوفي، بل هو يعدّ المرحلة الأولى فيه، ولكن هذا التوكل ذاته يترقى فيصبح تسليماً ثم تفويضاً ، وإننا لو دققنا النظر في (مراتب) التوكل الثلاثة تلك، أي التوكل والتسليم والتفويض، لوجدنا انها جميعهاً لها علاقة بإرادة الإنسان، فالمتوكل يؤجل العمل بإرادته، وبخاصةً ما يتعلق منها بإعمال الباطن، وأما صاحب التسليم فانه يجمّد العمل بإرادته، معتمداً بدلاً من ذلك على أرادته تعالى، وأما صاحب التفويض فانه يمحق إرادته بالكلية، بحيث لا يبقى له مع إرادته تعالى، قصداً أو فعل أو رغبة، وهو حال الفناء الوجودي الذي سيأتي الكلام عنه فيما بعد.

    التوكل والتواكل

    ولحرص الشيخ عبد القادر، على اظهار معالم نظريته الصوفية، بصورة مقبولة من (الأطراف) كافة، فانه عمل على إزالة اللبس الحاصل في أذهان الناس، بيّن التوكل بكونه سلوكاً صوفياً ايجابياً، والتوكل او(التواكل) بكونه سلوكاً اجتماعياً سلبياً مرفوضاً، ولعل مصدر هذا اللبس الاكثر خطورة، هو التعارض الظاهري القائم بين التوكل كنظرية وبينه كتطبيق، وما يلحق هذا التعارض من تقاطع مع قصد الكسب، الدنيوي والأخروي، وكذلك السعي لطلب الرزق وأداء الأعمال اليومية أو إدامة العمران بوجه عام.
    يرى الشيخ عبد القادر، إن الحركة بالظاهر، التي هي الكسب بالسنة، والتي عمل بها النبي محمد (r)، إذ اشتغل واكل من كسب يديه، وهو على ما كان عليه من مقامٍ رفيع ودرجة قريبة من ربه تعالى، لا تتنافى أبدا مع توكل القلب، الذي هو تحقيق الأيمان، وهو معنى قول النبي(r): (إعقلها وتوكل).(2) فالتوكل الصحيح، يعني التصديق بوعد الله تعالى، الذي وعد به عباده بالرزق والعطاء والحفظ والثواب، وهذا التصديق، يُعدّ شرطاً أساسياً من شروط إيمان العبد، وهو مما لا يتعارض والأخذ بالكسب، لان من أنكر الكسب فقد أنكر السنة، ومن أنكر التوكل فقد أنكر الأيمان.(1) ولأنه لا وجود لأي تعارض بين حقيقة الأيمان ومفردات السنة، بل بالعكس، فالاثنان في توافق مطلق إن لم يكونا في اتحاد.
    إن العبد الذي يشتغل بالدنيا، مع اتكاله على حوله وقوته، تنقطع به الأسباب حتماً، فيتعب ويسخط، وكذلك الامر عند من يشتغل بالآخرة ويجعل منها همهّ المطلق، فأنها ستفوته وتعجزه، فهو في الحقيقة، لم يعطها حقّها، ولم يستوف لها شروطها، فأمّا اذا ما اشتغل بالحق عز وجل، وتوجه له وحده دون سواه، فانه يكون قد استفتح باب المعاش بيد قوته تعالى والتوكل عليه، واستفتح باب الطاعات بيد هديه وتوفيقه، فاذا ما وصل المريد إلى هذا المقام، أي مقام طلبه تعالى, فليطلب منه ما شاء أن يطلب, على أن يكون أخص مطالبه هو: الصدق في طلب قوته ومعونته، لأجل ان تثبت اقدام قلبه وسره بين يدي ربه تعالى، مع فراغ القلب من شغل الدنيا والآخرة.(2)

    على انه لا وجود للخطأ، في نظر الشيخ عبد القادر، فيما لو اعتقد العبد بالتوكل وفي الوقت نفسه اخذ بالأسباب، ثم تعسرَّ عليه الامر بعد ذلك، او تقطّعت به الأسباب، لان ذلك هو من تقدير الله عز وجل، فكما ان بيده تعالى تيسير الأمور وتهيئة الأسباب، فكذلك بيده تعسيرها وتضييقها، على انه لا بدّ من ان يكون المريد، في كلا الحالين، ثابت الجنان، رضيّ النفس، لان وضعه الصحيح هو في ان تكون ظواهره متحركة بالسبب بأمر الله تعالى وباطنه ساكن لوعده تعالى. وعند هذه النقطة يكون المريد، قد بلغ درجة التوكل الصحيح، الذي هو الثقة بما في يد الله عز وجل واليأس ممّا في ايدي الخلق، فيفرغ السرّ بعد هذا الاعتقاد، ويسكن عن التفكّر للتقاضي في طلب الرزق.(3) ويلاحظ هنا، ان الذي يفرغ عن التفكّر هو القلب والسرّ وليس الهمة والعزيمة. ولا بدّ من التذكير هنا، بان الشيخ عبد القادر بأزالته الحواجز الوهمية الفاصلة بين حقلي التوكل على الله تعالى والأخذ بالاسباب الدنيوية، فانه أزال أو حلّ إشكالاً مستعصياً طالما تذرع به خصوم التصوف فنعتوا المتصوفة، بالمتواكلين والكسالى والهروبين، وبأنهم ضد اعمار المجتمعات. ان الصورة التي يقدمها لنا الشيخ عبد القادر عن التصـــوف، تؤكد على ضرورة السعي والعمل والأخذ بأسباب


    العيش والحياة المادية، ولكن شرط ان يتم ذلك تحت مظلة التوكل على الله تعالى، وهنا تتأكد امامنا، مرة آخرى، حقيقة منهج الشيخ عبد القادر، الصوفي، الذي يتبنى فيه الخط الوسط، متجنباً الافراط والتفريط، فلا انغماس في الاسباب والمسببات، مع تغافل قدرة الباري تعالى والتغافل عن محدودية القدرة البشرية، ولا الاغراق في الانسحاب من الحياة الدنيا والتكاسل عن عمل اية وظيفة، تحت ذريعة التوكل على الله تعالى والتفرغ لعبادته.

    الكسب والتكسب

    وغير التعارض بين التوكل والتواكل، فان الشيخ عبد القادر، يضعنا امام تعارض آخر، وهو التعارض القائم بين الكسب والتكسب. الكسب، هو الفعل الايجابي، وهو من السنة ويسميه الشيخ عبد القادر بـ ( الكسب الحلال)، وامّا التكسب، فهو سلبي دنيوي، لأنه إتكال مطلق على الأسباب المادية، من خلق وصنائع، وهو ما يعدّه الشيخ عبد القادر، نوعاً من انواع الشرك الخفي الذي يقطع صاحبه عن الأكل بواسطة الكسب الحلال.
    انه شرك، لان العامل به، يظن انه يرجع اليه ويأكل به ويتوكل عليه، ولذا فهو يحتاج إلى توبة كي يعود بعدها، فيرى ان الله تعالى، هو الرازق وهو المسبب وهو المسهّل وهو المقوي على الكسب والموفق لكل خير. وان الرزق بيده كله، فتارةً يواصل به بطريق بعض خلقه ابتلاءً لهم وعلى وجه المسألة، أو عند الإلحاف عليه بالدعاء، وأخرى بطريق الكسب معاوضةً، وأخرى من فضله مبادأةً ومن غير نظر إلى واسطة أو سبب. فأذا ما بلغ المريد إلى هذا المقام، فيسكون عندها قد رجع إلى ربه ومثل بين يديه، (( فرفع الحجاب بينه وبين فضله، وبادأه وغذّاه بفضله على قدر ما يوافق حاله، كفعل الطبيب الشفيق، حمايةً منه عز وجل وتنزيهاً له عن الميل إلى من هو سواه)).(1) وعلى هذا الأساس، فانه يمكن القول: ان جميع الأعمال التي يؤدّيها الإنسان، سواءً الدنيوية منها ام الآخروية، لا بدَّ ان تقاس بمقياس علاقة العبد برِّبه، لانه حتى العمل الجسدي والكسب لاجل العيش يمكن، فيما لو فُهمت خطأ، ان تودي بصاحبها إلى شرك يخفى عليه. وعليه، فان الاعتقاد الصحيح، يؤدي حتماً إلى التوحيد الحق، وان العبد الذي يستشعر قوة ربّه وقدرته وفعله وتصرفه في جميع ما يؤتيه من أفعال، هو حتماً أكثر الناس توحيداً لربه.


    ان المريد، ما دام يخالط قلبه شيء من الدنيا والخلق، فهو بعيد حتماً عن الاخذ بالتوكل الصحيح لأنه سيكون خاضعاً لتاثير مدح الناس وذمّهم، وسيكون حبيس نفسه وهواه وطبعه، وسوف لا ينال مبتغاه، ولا يتشرب قلبه بالتوكل الحق، إلا إذا قطع عن قلبه كل شكل من أشكال، الارادات والشهوات وانواع المطلوبات، فلا يبقى بعدها في قلبه سوى إرادته عز وجل، وعندها فقط ((سيسوق اليه أقسامه التي لا بدّ من أخذها)).(1) إذن فالتوكل لا يعطلّ الحظوظ ولا يمنع الأقسام وإنما هو فقط يضعها في موضعها الصحيح.

    التوكل والأخلاص

    وكما افضى مقام التوبة، بعد أن استوفى شروطه، إلى الورع، فكذلك مقام التوكل يفضي إلى الأخلاص, و الشيخ عبد القادر يرى، ان حقيقة التوكل ليست ببعيدة أصلا عن حقيقة الأخلاص وتلك مقاربة كان الشيخ عبد القادر رائداً في الفات النظر إليها، اذ لطالما عُدّ الأخلاص مقامــاً مستقلاً قائماً بذاته(2) . ان حقيقة التوكل التي تتمثل بالخروج عن الحول والقوة مع السكون إلى الله تعالى، هي نفسها حقيقة الأخلاص التي تتمثل بارتفاع الهمّة عن طلب الاعواض على الاعمال والتأكيد على اعمال القلوب وتقديمها على اعمال الجوارح، يكون العمل بغير مواطأة القلب، لا يجدي.(3) فاذا ما امتزج التوكل مع الأخلاص، صار تسليماً، وسلم القلب من الاعتراض على مولاه عز وجل، عند نزول البلايا والاقدار، فالاعتراض موت للدين موت للتوحيد موت للتوكل موت للاخلاص، لان الدين هو التوحيد والتوحيد هو التوكل والتوكل هو الأخلاص.

    ان الغاية من سلوك الطريق الصوفي الصعب، ومن تحمل اعبائه ومكابدة مشقاته، تتمثل في طلب القرب من المولى تعالى، وتحقيق اعلى درجات التوحيد، ونيل اعلى مراتب العبودية الحقّة، سواء في العبادات او في الاعتقادات او في الاعمــال. ولذلك كان اتكال الإنــسان على الخلق وعلى

    الاسباب، بشكل مطلق، يمثل في نظر الصوفية، عاملاً أساسياً من عوامل انحجاب العبد عن خالقه ولذلك ايضاً كان التوكل الحق على الله عز وجل، وصدق الالتجاء اليه، يُعدّ بشكل من الاشكال توحيداً صحيحاً. ولطالما ذُكر عن الشيخ عبد القادر، انه كانت له حالة دائمة مع الله عز وجل، تتمثل في ترك الاختيار وسلب الإرادة، وهو لطالما نصح مريديه، بان يتمسكوا بالتوكل ويخرجوا من التعلق المفرط بالاسباب، ويقطعوا عن قلوبهم كل الارباب، وان يسافروا بقلوبهم عن جميع الاشياء وان يغرقوا في بحر العلم الالهي، (( فان من وصل إلى هذا المقام، فلا تضره الاسباب لانها تكون على ظاهره، لا على باطنه، تكون لغيره لا له)).(1) وعليه، يمكن القول، ان الاصل عند الشيخ عبد القادر، هو الباطن، فهو موضع العلم والاعتقاد والايمان، ومن كان باطنه موحِداً لله تعالى متوكلاً عليه، فلا باس عليه، بعد ذلك، اذا ما عمل بالظاهر من الاسباب، وعمل بما يعمل به الناس.

    ثالثاً- مقام الشكر:

    جاء في التعريفات، ان الشكر هو: عبارة عن معروف يقابل النعمه، سواءً اكان باللسان ام بالبدن ام بالقلب، وقيل: هو الثناء على المحسن، بذكر احسانه، فالعبد يشكر الله تعالى، أي يثني عليه، بذكر احسانه الذي هو طاعته. والشكر اللغوي هو الوصف بالجميل على جهة التعظيم والتبجيل على النعمة من اللسان والجنان والاركان، والشكر العرفي، هو صرف العبد جميع ما انعم الله عليه من السمع والبصر وغيرهما، إلى ما خلق لاجله.(2) ومما سبق، يمكننا ان نلخص، إلى ان الشكر هو الثناء على المنعم لنعمه، وهو يكون بالقلب واللسان والجوارح، وان من احسن ما يشكر به العبد مولاه، هو ان لا يستخدم نعمه فيما يغضبه.







    مشروعية الشكر ومعناه

    وامّا الشكر عند الشيخ عبد القادر، فهو، كعادته، يبدأ اولاً من الكتاب والسنةّ، فأمّا في الكتاب فاصل الشكر فيه، قوله تعالى: " ولئن شكرتم لازيدنكم".(1) ، واما في السنة، فحديث الرسول(r)، الذي تسبقه القصة المعروفة والذي جاء فيه قوله ( r ) " افلا اكون عبداً شكورا".(2)
    اما اول معاني الشكر عنده، فهو: الاعتراف بنعمة المنعم على وجه الخضوع ومشاهدة المنّة وحفظ الحرمة، ولا يكون ذلك باللسان فقط، وانما بالقلب والجوارح ايضاً وبالقول والفعل، وبالسرّ والعلن. وكل ذلك، لا بدّ من ان يرافقه العجز عن الشكر، وعلى هذا المعنى، وصف الله تعالى نفسه، بأنه الشكور، توسعاً. الشكر اذن، على وفق هذا التعريف، هو علاقة تربط بين طرفين غير متكافئين احدهما معطٍ. بشكل مطلق, والآخر متلقٍ بشكل مطلق, ولكن الطرف المتلقي, يمتاز بأنه يمكنه من أن يظهر شكره أو يكتمه, ولذلك يسمى الشيخ عبد القادر, الشكر اعترافاً, على أن هذا الأعتراف لابد من أن يكون مصحوباً بالخضوع, فالشكر مع التعالي و الأستغناء لا يأخذ معناه الحقيقي, بل انه قد يأخذ معنىً معاكساً تماماً, ثم مع الخضوع, لابدّ من أن تتحقق مشاهدة النعمة, أي بمعنى أن يشكر الشاكر, والنعمة ماثلة امام ناظريه, كي يكون شكره حياً وحقيقياً, ثم لابدّ ايضاً من حفظ الحرمة, أي أن لا تحمل النعمة العبد, على البطر و الأشر, بل يكون دائماً منضوياً تحت حيّز عبوديته, متذكراً لفقره إلى مولاه, ثم الشعور بالعجز عن اتيان الشكر حقه, أو تقديم الثناء الجدير بالمنعم. وبمجموع هذه الأركان, فأن الشكر, رغم بساطته الظاهرة, فانه يعدّ من اصعب العبادات بحيث ان الله تعالى وحده, يمكن أن ينطبق عليه وصف الشكور على الحقيقة, واما الشاكرون من الخلق, فانهم شاكرون على وجه المجاز. (3)

    ان حقيقة الشكر, أو معناه التعاملي, كما يحدده الشيخ عبد القادر, هو: الثناء على المحسن بذكر إحسانه, فشكر العبد لله تعالى, يعني ثناؤه عليه, بذكر إحسانه إليه, وشكر الحق سبحانه للعبد, يعني ثناؤه عليه بذكر إحسانه له, غير ان إحسان العبد يختلف عن إحسان مولاه عز وجل, اذ ان إحسان

    العبد يتمثل في طاعته لربه, و امّا احسان الحق تعالى, فهو انعامه على العبد. هذا مع ملاحظة: ان شكر العبد على الحقيقة انما يتمثل في نطق اللسان واقرار القلب بانعام الربّ معاً. (1) أي ان الشكر عند الشيخ عبد القادر, لا يتم الا ان يكون صادراً من اللسان و القلب في وقت واحد, وكونه من القلب, فهذا يعني انه صادر من سائر البدن, لان القلب في عرف الصوفية هو المهيمن والمتأمر على سائر البدن.

    اقسام الشكر

    اذن فالشكر يقع على ثلاثة أقسام : شكر باللسان و شكر بالبدن و الأركان وشكر بالقلب, فامّا الشكر باللسان, فهو اعتراف العبد بالنعمة بنعت الأستكانة, أي الأعتراف بالنعمة على انها من عند الله عز و جل, و ترك الأضافة إلى الغير, سواء أكان هذا الغير هو ذات العبد أم حوله و قوته أم كسبه أم سائر الخلق, اذ ان كل هذه الأغيار ما هي في حقيقتها الا أدوات و الآت, و قد جرت بواسطتها النعم, وفي الحقيقة فأن القاسم و المجري و الموجد و الشاغل و المسبب, هو الله تعالى فهو أحقّ بالشكر من سواه, وان (( من نظر إلى الظاهر و السبب, و لم يجاوز علمه و معرفته, فهو الجاهل الناقص,قاصر العقل, و انما سمي العاقل عاقلاً لنظره في العواقب )) (2) و نلاحظ هنا, أن الشيخ عبد القادر, يعطي للعقل معنىً دينياً أخلاقياً, وهو المعنى ذاته الذي نعت لأجله العرب قبل الأسلام ب ( الجاهليين ), فالعقل على وفق هذا المنظور, هو الأداة التي تصل بالإنسان, إلى معرفة ربّه و معرفة سبل الخير و الصلاح .

    أما الشكر بالبدن و الأركان, فهو الأتصاف بالوقار و الخدمة, و يتم ذلك, بان يحرك العبد جوارحه, و يوظفها في طاعة الله تعالى دون غيره من الخلق, وأيضاً, أن لا يجيب أحداً من الخلق, لما فيه اعراض عن الخالق عز و جلّ, و هذا يشمل النفس و الهوى و الإرادة والأماني, و سائر ما وضع الله تعالى في البشر, ان هذا الشكر, بمستواه الثاني, يتحقق, بأن يجعل العبد, طاعة ربه تعالى, أصلاً و متبوعاً و اماماً, و أمّا ما سواها, فيجعله فرعاً و تابعاً و مأموماً. و هنا يلفت الشيخ عبد القادر, النظر إلى ان الشكر على النعم المادية, لا يكون بصيغة واحدة فقط, بل هو يختلف بأختلاف النعم وتنوعها, فشكر نعمة المال, مثلاً, تستوفى بالأعتراف بها للمنعم, و هو الله تعالى, والتحدث بها لنفسه في سائر الأحوال, مع رؤية فضله و منّته وايضاً أن لا يتملك العبد على ماله, ولا يتجاوز حده فيه, و لا يترك حدود الشرع فيه, ثم بعد ذلك, و هو الأهم, يؤدي حقوقه و يراعي واجباته. فامّا شكر نعمة العافية فيكون بالأستعانة بالجوارح على الطاعات و الكف عن أذى الخلق, واجتناب المحارم والسيئآت والمعاصي والآثام. (1) اذن فالجوارح التي وضعها الله تعالى في الإنسان, وصوّرها في احسن صورة ومنحها أكفا القدرات, يمكن للعبد من ان يستعملها فيما يغضب مولاه تعالى, و ذلك بأن يسرق بيده, و يسعى برجله إلى مواطن السوء, و ينظر بعينيه إلى محارم الله, ويمكنه من باب آخر وهو باب الشكر, ان يستعملها فيما يرضي مولاه تعالى, و ذلك بأن يحجم عن كل ما سبق ويقدم بها على أعمال الخير.

    الشكر بالقلب, يعرّفه الشيخ عبدالقادر, تعريفاً, هو أقرب من سابقية, إلى خصوصية اللغة الصوفية و مفرداتها . انّه الأعتكاف على بساط الشهود بأدامة حفظ الحرمة, ثم الترقي, بعد حضور هذه المشاهدة إلى الغيبة في رؤية المنعم عن رؤية النعمة . و يتبين لنا من هذا التعريف, أن شكر القلب, يختلف عن غيره من أنواع الشكر, بأنه لايتم الا مع حال المشاهدة والفناء, فهو إذن يأتي, في مراحل متـأخرة من مراتب السلوك الصوفي. ومن شروط صحّة هذا الشكر, أنه لابد من أن يبقى حاضراً في القلب, و بشكل مستمر و متصاعد, حتى يبلغ إلى حال يمكن أن نسميه بحال الفناء في الشكر, حيث يغيب الشاكر عن رؤية النعمة و يفنى في المنعم, فلا يهمه بعد ذلك, أأعطى أم منع .

    و الشكر بالقلب, قوامه الأعتماد الدائم والعقد الوثيق, بأن جميع ما في العبد من النعم الظاهرة والباطنة, هو من لدن الله تعالى لا من غيره, و في هذه الحالة يكون شكر اللسان معبراً عما في القلب من حقيقة : أن لا منعم سوى الله تعالى (2) . فلا شكر حقيقياً في القلب الا أن يكون مقروناً بأعتقاد صحيح مفاده : أن لا نافع ولا ضار ولا فاعل على الحقيقة, الأ الله تعالى.



    أصناف الشكر

    ويصنّف الشيخ عبد القادر, الشكر, تصنيفاً آخر, وفقاً لمراتب العباد اللذين يصدر عنهم الشكر . وهو يقع أيضاً على ثلاثة أصناف وهي : شكر العالمين و شكر العابدين و شكر العارفين . أما شكر العالمين, و هم سواد المؤمنين, فيكون من جملة أقوالهم, أي أنهم يقصرون شكرهم على اللسان فقط, و هو أولى درجات الشكر . وإمّا شكر العابدين, فهو نوع من أفعالهم, اذ هم تجاوزا مرحلة القول إلى الفعل, فتراهم يحرصون ان يكون شكرهم مصحوباً بذكر الجوارح والسعيّ لأتيان أعمال البرّ و الخير . ثم اخيراً شكر العارفين, و هؤلاء, يتم شكرهم بأستقامتهم لربهم عز وجل في عموم أحوالهم ـ أي في السرّاء و الضرّاء, و في السرّ والعلن ـ واعتقادهم بأن جميع ما هم فيه من الخير والنعمة, و ما يظهر منهم من الطاعة و العبودية والذكر, هو في الحقيقة لله تعالى, اذ هو يحصل بتوفيقه وانعامه وعونه وحوله وقوته, بينما هم معزولون عن جميع ذلك بفنائهم في الله تعالى، مع اعترافهم بالعجز والقصور والاستكانة والفقر اليه في جميع الاحوال.(1) وكما يبدو، بوضوح، فان شكر العارفين، قد اشتمل على مراتب الفعل الصوفي برمتّه، من الاستقامة والطاعة والعبودية الحقة والذكر والعزلة والتوكل والرضا والفناء. ولعل هذه الميزة، هي من اهم الميزات التي يمكن ان نراها في المقامات الصوفية عند الشيخ عبد القادر، اذ ان المقام الواحد، يشتمل على فروع جميع المقامات السابقة وبذور جميع المقامات اللاحقة.

    درجات الشكر والشاكرين

    يرى الشيخ عبد القادر، ان الشكر على الشكر، يمثل اعلى درجات الشكر، لان العبد بهذا الشكر ((يرى ان شكره هو بتوفيقه، ويكون ذلك التوفيق من اجلً النعم عليه، فيشكره على الشكر ثم يشكره على شكر الشكر، إلى ما لا يتناهى)).(2) واذا كان الشكر على الشكر، يمثل اعلى درجات الشكر، فان العبد الشكور، هو افضل الشاكرين، فالشاكر هو الذي يشكر على النفع بينما الشـكور هو من يشكر على النفـع والضر على الموجود والمـفقود، على البذل والمنع

    لانه لا يطلب شيئاً منه ربِّه بهواه وارادته فهو فارغ القلب عن الشهوات غير راغب فيها، انع في امتثال دائم لامر ربِّه حتى في السؤال، وهذا الامتثال جعله لا يطلب ولا يشتهي ولا يتمنى الا القرب من ربه تعالى ومن كان هذا مطلبه الاوحد، فانه حتماً ستهون في عينيه جميع المطلوبات، وسيكون سيان لديه أن عمّه النفع ام مسّه الضر، فكلاهما صادرٌ من منبع واحد الذي هو مطلوبه الاوحد.

    الشكر والحمد

    واخيراً، فأن الشكر يفضي إلى الحمد(1) والشكور يطمع لان يكون حامداً، والحامد هو الذي يشهد المنع عطاً والضر نفعاً، ثم يستوي عنده الوصفان، ورأس الحمد هو الذي يستنفذ المحامد كلها، غائباً عن ذاته، بشهود الكمال وبوصف الجمال وبنعت الجلال و بعين المعرفة وعلى بساط القرب، وصاحب هذه الدرجة من الحمد، هو الذي يحمد الله تعالى، بمحامد لا يعلمها، الا ان يعلّمها ربه تعالى له الهاماً، وهذا مقام خاص لا يكون من بين كل البشر وفي كل الازمان الا للنبي محمد(r)، وذلك حين يحمل لواء الحمد(2) يوم القيامة متقدماً أُمة الحمّادين. وعليه فان الحمد هو اعلى المراتب التي يمكن ان يبلغها الشاكر، ولا يمكن للسالك من ان ينال صفة الحمد الا بعد ان يبلغ خواتيم الطريق الصوفي، فلا حمد قبل الشهود ولا حمد قبل المعرفة ولا حمد قبل القرب.

    رابعاً- مقام الصبر :-

    يرى صاحب( العوارف): ان حقيقة الصبر كائنة في التوبة، كينونة المراقبة في التوبة، والصبر من اعزّ مقامات الموقنين، وهو داخل في حقيقة التوبة.(3) وجاء في (التعريفات ): ان الصبر هو ترك الشكوى من الم البلوى لغير الله لا إلى الله، فالعبد إذا دعا الله تعالى في كشف الضر عنه، لا يقدح ذلك في صبره، ولئلا يكون كالمقاومة مع الله تعالى.(4)
    مشروعية الصبر وتعريفه

    الاصل في الصبر، هو قوله تعالى:"يا ايها الذين امنوا، اصبروا و صابروا ورابطو واتقوا الله لعلّكم تفلحون".(1) وقوله تعالى: " وإصبر وما صبرك الا بالله ".(2) و قوله (r):"ان الله تعالى اذا أحبّ عبداً ابتلاه و اذا ابتلاه صبّره " (3) و سئل ذو النون المصري عن الصبر, فقال: هو التباعد عن المخالفات, و السكون عند تجرع غصص البليه و اظهار الغنى مع حلول الفقر بساحة المعيشة .(4) و قال الجنيد البغدادي : السير من الدنيا إلى الآخرة سهم هيّن على المؤمن, و هجران الخلق في جنب الحق شديد, و السير من النفس إلى الله صعب شديد, و الصبر مع الله اشّد . وسئل أيضاً عن الصبر فقال : تجرع المرارة من غير تعبيس.(5)

    الصبر عند الشيخ عبد القادر

    الصبر في تعريف الشيخ عبد القادر, هو: الوقوف مع البلاء بحسن الأدب, و الثبات مع الله عز وجل, و تلقي مرّ أقضيته بالرحب و السعة, و على أحكام الكتاب و السنة .(6) و هذا التعريف يفترض عدة أركان : أولها أن الصبر لا يكون الا مع حالات البلاء, فلا صبر مع رخاء أو نعمة أو عطاء, ثم, يفترض مع الصبر على البلاء, حسن الأدب, فالجزع مثلاً, يذهب بمعنى الصبر, ثم لابدّ مع الصبر, من الثبات مع الله تعالى و عدم اللجوء إلى غيره وقت الشدّة وأيضاً لابدّ من تلقي مرّ القضاء, بالرحب و السعة,لأن المرء قد يصبر على مضض,وهو ما يذهب بمعنى الصبر أيضاً. و أخيراً, لابدّ من أن يكون فعل الصبر, و ما يلحقه و ما يسبقه, يجري على أحكام الشريعة الأسلامية, أي أن لا يخرج الصبر, صاحبه, عن حدود الله تعالى .
    والصبر أيضاً, يعني: اظهار الغنى مع حلول الفقر من غير تعبيس, بحيث يكون الفقر سراً بين العبد وربّه, وبحيث يكون العبد في أعسر أحواله, وهو يبدو أمام الناس في حالة غنى و رخاء وسعادة عظمى .
    ولأهمية مقام الصبر, و لصعوبة التحقق به, فأن الشيخ عبد القادر يقول: أنه لا يظفر بما عند الله عز وجل ـ و ما عنده واسع و عظيم ـ الا بالصبر, و لهذا أكدّ سبحانه وتعالى عليه في كثير من آيات كتابه الكريم, وأن الفقر و الصبر, لا يجتمعان الا في حق المؤمن.(1) وذلك لشدة وطأة الفقر على النفس, و لصعوبة الأستمرار على الصبر, و ليس شيئاً غير الايمان يجمع بينهما, لأن الأيمان هو الذي يطمئن قلب العبد, بأن كل ما يصيبه و يلقاه, هو من عنده تعالى وبأمره و ارادته, و لذلك فأن المؤمن يتقبله بقبول حسن .

    و لرقي مقام الصبر, و صعوبة التحقق به, عده الشيخ عبد القادر, من ضمن صفات الأنبياء والأولياء و الصالحين, وهو في هذا, يستند إلى قوله (r) : "أشدّ الناس بلاءً الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل" .(2) و ان الذي ينتظر العبد من المكآفآت من جرّاء صبره, لا يحصيه الا قوله تعالى: " انما يوفّى الصابرون أجرهم بغيرحساب "(3) و لذلك, فان على المريد ان يصبر على صبره, و يتم له ذلك, بأن لا يستعجل الفرج, و ان يرضى بالقضاء وان يوطن نفسه على تجرع مرّ البلاء, فأن اعتاد ذلك وتلبس به, فسيناله برد عفو ربه تعالى و لطفه وكرمه ومنّه.(4)

    ان الصبر, هو عماد الدين وأصل الأيمان, و هو كما قال النبي محمد (r) : "الصبر من الأيمان كالرأس من الجسد".(5) و الرأس هو الأهم و هو المقدم و غيره تبع له, وهو معنى ما يذهب اليه الشيخ عبد القادر قوله: ان الصبر هو المرتقى الذي يرتقي منه المؤمن إلى حالة الرضا والموافقة والفناء في افعال الله تعالى.(6) ولعل اقتران مقام الصبر، بالمكابدات والمعاناة هو ما منحه الاهمية والتقدم على بقية المقامات، وايضاًَ، فانه لا يمكن تصور الصبر، الا مقروناً بالفقر والبلاء والشدائد والمصائب، فهي وسطه الأمثل الذي يترعرع فيه.

    درجات الصبر

    ان حال مقام الصبر، هو كحال بقية المقامات عند الشيخ عبد القادر، فهو ايضاً، متعدد الاضرب والاقسام والمستويات. إنه يقع أولاً على ثلاثة اضرب: صبر لله وصبر مع الله وصبر على الله تعالى.
    الصبر لله عز وجل: هو الصبر الذي يتصف به كثير من المؤمنين، طلباً لتحصيل الاجر والثواب، وهذا الصبر يكون على طاعة اوامره تعالى والانتهاء عن نواهيه، فالنفس مجبولة على حبّ الشهوات ونيل اللذات، من أي مصدر صدرت، بينما تشتمل العبادات والطاعات على مخالفةٍ لهوى النفوس وميلها، وهذه المخالفات، يحتاج معها العبد، إلى كثير من الصبر، كي تصبح لنفسه طبعاً جديداً وسلوكاً مستفاداً.
    الضرب الثاني، هو الصبر مع الله عز وجل، وهو اشدّ على النفس وطأةً من سابقه، لتعلقه بالشدائد والبلايا التي يُمتحن بها العبد من اجل تحصيل الدرجات الروحية ونيل المراتب الآخروية. إنه الصبر تحت جريان قضائه وافعاله تعالى، في العبد من سائر البلايا والشدائد وهذا الصبر، حقيقته التقوى التي يعّرفها الشيخ عبد القادر، بأنها: فعل ما أمرك الله عز وجل بفعله وترك ما أمرك بتركه، والصبر على أفعاله ومقدراته وسائر بلاياه وأفاته.(1)
    الضرب الأصعب والأشد على النفس، هو صبر على الله عز وجل، والركون إلى وعده في كل

    شيء.(1) وهذا اللون من الصبر يخص الأولياء المقربين دون سواهم، لأنه صبر على فُرقة المحبوب ومكابدة الشوق إليه، وهو أيضاً صبر على إحتمال وجود الولي مع الخلق وبعده عن خالقه، وهو أيضاً صبر على ما وعد الله تعالى به عباده من اللقاء وحسن المآب. إن المسير من الدنيا إلى الآخرة سهل على المؤمنين، ولكن هجران الخلق في جنب الحق، شديد عليهم، وأما المسير من النفس إلى الله عز وجل فهو أشدّ، لأن فيه خرقاً للمعتاد وتغيراً لطباع النفس، وأمّا الصبر مع الله تعالى فهو الأشدّ من كل ما سبق، لأنه لا منجى منه إلا إليه. فإذا ما إجتمع الفقر مع الصبر، كانا أفضل من إجتماع الغنى مع الشكر، لأن الإجتماع الأول مقرون بالمكابدة والمشقة، والفقر مع الشكر أفضل منهما، لأنه جمع بين الحسنيين, الصبر والشكر والفقير الصابر الشاكر أفضلهم جميعا, لأنه حاز الفضل كله.(2)

    مـــراتب الصــابرين

    وشأن الصابرين مثل شأن الشاكرين، فهم أيضاً يتوزعون على ثلاث مراتب: متصبر وصابر وصبّار. المتصبر منهم هو الذي يسعى لأن يكون صابراً، مع شدة المكابدة والتألم والجهد البالغ في تحمّل عبْ الصبر، فلا يمكن للصبر أن يكون عادةً للصابر، بل هو يجاهد كي يعتاد عليه أما الصابر، فهو الذي تمكن من تحمل الألم وتجاوز الشدائد، فصار في حالة تمكن من الصبر، وهذا الأعتياد لا يقلل من أجره شيئاً، وإنما هو، فقط يُخفف من عذاباته، لأنه يتخذ من الصبر وسيلة للتقرب إلى الله تعالى. وأمّا الصبّار، فهو الذي صبر، حتى صار الصبر له طبعاً وسلوكاً، وهو أعلى مراتب الصبر، و لا يناله إلا الأولياء المقربون، ويشترط في هذا الصبر، أن يكون مقروناً بحسن الأدب ورحابة الصدر، بحيث لا يبدو منه شكوى أو تذمر. وغاية ما يبلغه الصابر في ذلك، هو عدم تفضيله أو حتى تفريقه، بين حالتي النعمة والمحنة، وأن يكون خاطره ساكناً مع كليهما. وهذا ما يميز الصبر من التصبر، الذي هو السكون مع البلاء ولكن (( مع وجـــدان

    أثقال المحنة )).(1) الصبر إذن بهذا المستوى, يقترب كثيرا من مقام الرضا ومقام الفناء, لأن أي أمر يأتي فيه من المحبوب, سواء أكان أبتلاء أم إنعاما, فأنه لا يغيّر من الأمر شئ, وكذلك هو فعل العاشقين.

    إن الصبر, هو مفتاح الخلاص من آفات النفس, وهذا يكون في بداية الطريق فقط, إذ يصّبر المريد نفسه عن أتيان المحرمات والآثام, ويصبّرها كذلك على أداء أمر الله عز وجل والأنتهاء عن نهيه, ويصبّرها أيضا على الموافقة لقدره تعالى, فهو إذن بوظيفته تلك, يعدُّ وسيلة من وسائل مجاهدة النفس ورياضتها وتحويل مجرى أهوائها, نحو أصول الخير والصلاح. أما في نـــهاية الطريق, فأن الصبر هو الذي يبلغ بالعبد إلى درجة القرب من مولاه تعالى, وذلك لقوله تعالى: (إن الله مع الصابرين).(2) إن القوم صبروا مع الله عز وجل, ولم يصبروا عنه, فلا صبر لهم عن الله تعالى, لأنه هو مطلبهم الأوحد ومبتغاهم الذي لا يحيدون عنه, صبروا له وفيه, صبروا ليكونوا معه, طلبوا ليحصلوا القرب منه, وكانوا قبل ذلك قد ((خرجوا من بيوت نفوسهم وأهويتهم وطباعهم وأستصحبوا الشرع معهم, وساروا إلى ربهم عز وجل, فأستقبلتهم الآفات والأهوال والمصائب, فلم يبالوا بها, ولم يرجعوا عن سيرهم, ولا يزالون كذلك حتى يغير خلقهم وحتى يتحقق لهم بقاء القلب والقالب)).(3) وهذا هو ما يسميه الشيخ عبد القادر, بقلب الدولة.
    البلايا والمصائب, إذن, فيما لو فهمت من كلام الشيخ عبد القادر, فأنها لا تمثل إلا معوقات مفتعلة, وضعت في طريق السالكين, لتميز الصادق منهم من عدمه, فهي إذن في حقيقتها أمر طارئ مقصود, لو فهمه المريد فأنه سيقوى على أحتماله, ومن الجهة الآخرى, فأن هذ العقبات, تشكل عوامل مساعدة فعالة على تجاوز الصفات السيئة ونيل أضدادها من أجل بقاء القلب ونقاء القالب.




    الصبر والشكر

    لا فكاك عن الصبر في حياة المريد, فهو يلازمه, منذ باكورة سلوكه الصوفي وحتى منتهاه, في مساوقة مستمرة مع رديفه الشكر، وهما كلاهما، أي الصبر والشكر، يورث المريد، في سجال متصل، كلاً من حالي الخوف والرجاء والقبض والبسط والجلال والجلال والجمال، فإذا ما أقلق الخوف من النار قلب المريد، وقضَّ مضجعه وتمكن منه، بحيث صار له حاجباً يحجبه عن مولاه، انزل الله تعالى عليه السكينة من ماء رحمته ولطفه، فإذا ما سكن وأطمأن، فتح له باب الجلال، فتهيب وتقطع قلبه وكثر خوفه، فإذا تمكن منه ذلك فتح باب الجمال، فسكن وأطمأن ((وهي طبقات شئ بعد شئ))(1) على أن هذا التعاقب بين الخوف والرجاء، لا يكون بلا هدف أو نهاية، بل هو يتوالى على قلب المريد كي يحفزه بأستمرار على المضي قدماً نحو بلوغ مرامه وقربه من مولاه .

    خامساً – مقام الرضا :-

    الرضا: هو سرور القلب بمر القضاء.(2) والراضي بالله تعالى، هو الذي لا يعترض على تقديره، ولا يرضى العبد عن الحق تعالى، إلا أن يرضى عنه الحق عز وجل أولاً.(3) الأصل في الرضا، هو قوله تعالى(رضي الله عنهم ورضوا عنه)) .(4) وقوله تعالى( يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان)).(5) وفي الحديث الشريف، ورد قوله(r) ذاق طعم الإيمان من رضي بالله عز وجل، رباً ).(6)
    وحين سألت رابعة العدوية : متى يكون العبد راضياً بالقضاء ؟ قالت : إذا سرّ بالمصيبة كما يسر بالنعمة . وقال ذو النون المصري: ثلاثة من علامات الرضا: ترك الإختيار قبل القضاء وفقدان المرارة بعد القضاء، وهيجان الحب في حشو البلاء .(1) وسئل الجنيد البغدادي عن الرضا، فقال : الرضا رفع الأختيار .(2)

    تعريف الرضا عند الشيخ عبد القادر

    الشيخ عبد القادر، من جهته، يضع للرضا، أربعة تعريفات، تشكل في مجموعها، المعنى الإجمالي الذي يريد أن يوصله لنا عن هذا المقام، وهذه التعريفات هي: أولاً: الرضا هو ارتفاع التردد والاكتفاء بما سبق في علم الله عز وجل في أزله. والرضا: هو أن لا يصرف القلب إلى نزول قضاء من الاقضية بعينه، فإذا نزل قضاء، فلا يستشرف القلب إلى زواله.(3) والرضا هو إخراج الكراهية من القلب، حتى لا يبقى إلا فرح وسرور. وأخيراً فأن الراضي: هو الذي لا يعترض على تقدير الله عز وجل، حتى انه لو جعلت جهنم عن يمينه ما سأل أن يحولها إلى يساره.(4) إن هذه التعريفات الأربعة تدلنا على أن الرضا، مثله في ذلك مثل الصبر، لا يتخذ معناه الحقيقي، إلا عند نزول البلايا والمحن، ويشترط في الرضا، ثبات القلب، لثقته بسابق علم الله تعالى، فإذا ما وضع العبد في موضع، مهما بلغت درجة دناءته، فلا يتمنى التحول عنه، وما يتميز به الرضا عن عموم الصبر، هو أنه يجب أن يكون مقرناً بطمأنينة القلب وسروره والمعنى النهائي للرضا، هو انه عدم الاعتراض على الله تعالى .

    أما تفصيل قول الشيخ عبد القادر في الرضا، فهو ما يأتي: أن المؤمن الصادق، حقيق عليه أن يرضى بما قسم الله تعالى له، وان يعتقد، مطمئناً، أن قضاءه تعالى، خير له، حتما ًمن قضائه لنفسه، إن صح له القضاء، ولعل قضاءه تعالى للإنسان فيما يكره، خير له مما قضى له فيما يحبّ، وعليه فلا مناص أمام العبد إلا الرضا، لأنه لا يعلم ما فيه صلاح دينه ودنياه، (( لأن الله عز وجل، طوى عن الخلق مصالحهم وكلفهم عبوديته من أداء الأوامر والانتـهاء عن المناهي


    والتسليم في المقدور، والرضا بالقضاء، فيما لهم وعليهم في الجملة، وإستاثر هو، بالعواقب والمصالح، فينبغي للعبد، أن يديم الطاعة لمولاه، ويرضى بما قسم له ولا يتهمه في قسمته )).(1) وإن من الرضا في السلوك الصوفي، أن لا يطلب المريد، حالاً أو مقاماً، غير الذي هو ماثل فيه، سواء أكان أعلى منه أم أدنى، نعم هو يطمع بالترقي، ولكنه لا يترقى اختياراً، ولا يخفى ما يتضمنه هذا الفعل من راحة عظمى وسلام داخلي وفير، ولعل من نافلة القول، وهو في الوقت نفسه، ليس من قبيل الدفاع المتعصب عن النهج الصوفي، أن نشير، إلى أن تبني المريد للرضا لا يتعارض مع سعيه وطموحه, ولا يُسقط عنه الكسب والتكليف, إذ يكفي المريد طموحا, أنه أختار التصوف منهجا في الحياة, ويكفيه تمسكا بالتكليف أنه يتحرى دقائق الذنوب وخفايا الشبهات, كي يتجنبها. إن ما يفعله الرضا للمريد, هو أنه يجنبه الأشتغال بكل ما يقع خارج نطاق قدرته وفعله, من الأقسام والخطوط والأقدار, كي يتفرغ بعدها لما يهمّه حقا من العمل على تأديب نفسه وتجلية مرآة قلبه, وهذه هي وظيفته الحقيقية التي نذر نفسه لها.

    الرضا راحة القلب

    إن الراحة مقرونة بلواء الرضا, غير أن التعب والشقاء, مقرونان بالمنازعة وعدم الرضا, وإن تعب العبد, يكون على قدر منازعته وموافقته لهواه وترك رضاه بالقضاء, وإن كل من رضـي بالقضاء, إستراح, وكل من لم يرضى به, طال شقاؤه, وهو في الوقت نفسه, لا يأخذ من دنياه إلا ما قُسم له. أن العبد ((مادام لهواه متبعا, فهو غير راضٍ بالقضاء لأن الهوى منازع للحق عز وجل, فتعبه متكاتف متزايد, وإن أستجلاب الراحة في مخالفة الهوى, لأن الرضا بالقضاء بـ(لابدَّ ) وإستجلاب التعب والنصب في موافقة الهوى لأن في منازعة الحق عز وجل بـ(لابدّ)، فلا كان الهوى، وإذ كان فلاكناّ)) .(2) وهذا النص، يصف الرضا وصفاً دقيقاً، ويصف الضرر الذي يلحق بالعبد، فيما لو تخلى عنه. إن القدر، هو القدر، ( لابدّ ) منه، ولا يمكن لأي مخلوق أن يدفعه أو ينفكَّ عنه، وأما من يفعل ذلك، فأنه يفعل فعل ناطع الصخر، إن الذي يسير مع تيار القدر، فأنه اضافةً إلى رضا مولاه، يكسب القدرة على مخالفة هوى نفسه التي تميل إلى التمرد والمشاكسة وكما نلاحظ، فأن أي مقام من المقامات الصوفية عند الشيخ عبد القادر، يكون له دور مهم في كبح جماح النفس وترويضها، وهو معنى الوجود الحقيقي لأي إنسان، إن وجود الإنسان، مع مجاراة هوى نفسه، لا يمكن أن يكون إلا وجوداً زائفاً لا معنى حقيقياً له .

    هل الرضا مقام أم حال

    يذكر الشيخ عبد القادر، أن مقام الرضا، من بين كل المقامات، أختلف فيه أهل الطريقة، هل هو من الأحوال أم من المقامات؟ فالذين قالوا إن الرضا كسب للعبد، نسبوه إلى المقامات بينما قال من رأوا فيه موهبة خالصة من الله عز وجل، أنه من الأحوال، وصوفية أهل العراق، هم من قالوا هذا الرأي الأخير، حيث ذهبوا، إلى أن الرضا، لا يمكن عده كسباً للعبد، بل هو نازلة تحلّ بالقلب، كسائر الأحوال، ثم تحول وتزول ويأتي غيرها . أما متصوفة خراسان، فقد رأوا، أن الرضا هو من جملة المقامات، وهو نهاية التوكل أي أن الرضا هو ثمرة ما يتوصل أليه العبد بأكتسابه، وهنا يكمن مصدر تفاوته عند الناس. الشيخ عبد القادر، من جهته، يميل إلى الجمع بين الرأيين، إذ يمكن، في رأيه أن يعدَّ الرضا كسباً للعبد في بداية سلوكه فيكون له مقاماً، ثم بعد ذلك، أي بعد أن يتمكن باطن المريد من الرضا، ويثبته الله تعالى في قلبه، ويرضى عنه يصبح من جملة الأحوال التي هي ليست كسباً للعبد، بل موهبة خالصة من الله تعالى. أي أن المريد، إذا تمسك برضاه، ولم يحد عنه فأن الله تعالى سيثبته في قلبه، فلا يغادره بعد ذلك أبداً .

    أقســام الرضا

    يتخذ مقام الرضا، عند الشيخ عبد القادر, مكانة متميزة, من بين المقامات, فهو يسميه, باب الله الأعظم وجنّة الدنيا, لأنه لا أعظم من رضا الله تعالى, سواء في الدنيا أم في الآخرة, وإن من كسب رضا ربه, فقد فتحت له أبواب عطاياه, وهي عظيمة, والرضا هو جنة الدنيا, لأنه يورث الراحة والطمأنينة والسلام, وهذه من خصائص الجنة. وأن من أكرم بالرضا, فقد قرّب ووصّل, وأن رضا العبد عن ربه, يدل على رضا ربه عنه, وهذه وثيقة أمان أكيدة وفيها أستشراف لمنازل الآخرة. ويقسم الشيخ عبد القادر الرضا على قسمين, رضا به ورضا عنه, فالرضا به يتعلق بكون الله عز وجل, هو المدبر للــكون وأما الرضا عنه, فهو يأتي من أن الله تعالى هو

    الحاكم وهو الفاصل .(1) وبالتأكيد ، فأن الرضا به أيسر على القلب من الرضا عنه، لأن الأول يتعلق بالأقدار العامة التي تخصّ التدبير الكوني، وأما الثاني فانه متعلق بألشخص ذاته، وهو يشمل المحن والبلايا ، التي قد يصبر عليها الإنسان أو لا يصبر.

    ينصح الشيخ عبد القادر، مريديه دائماً، بحفظ الحال والرضا به، وأن يتركوا التلفت إلى ما سواه، فلا يعدم الشئ أم الحال، أن يكون، إما قسم العبد أو قسم غيره، أو هو غير مقسوم لأحدّ أصلاً، بل وجد فتنة للخلق. فإن كان للعبد فيه نصيب، فهو واصل إليه، شاء أم أبى.(2) فلا ينبغي أن يظهر منه سوء الادب والشره في طلبه لأن ذلك ليس من العقل ولا من العلم في شئ وأما إن كان قسم غيره، فهو لن يطاله حتماً مهما فعل، وأما إن كان الأحتمال الثالث، أي لا له ولا لغيره، بل هو فتنة، فما من عاقل يستجلب الفتنة على نفسه، وعليه، ينصح الشيخ عبد القادر، مريده فيقول: (( لاتأخذ بك – أي بأختيارك وإرادتك وهواك – حتى تؤمر، ولا تعطِ بك حتى تؤمر، ولا تتحرك بك ولا تسكن بك فتبتلى بك، وبمن هو شر ُّ منك من الخلق، لأنك بذلك تكون ظالماً )).(3) العقل والعلم, إذن, هما مع الرضا بقضاء الله تعالى, وأما الهوى والجهل فهما مع المخالفة, ويمكن لهذا النص أن يدلنا على أن ترك الإرادة والأختيار, هو المطلب الدائم الذي يرافق المريد, أبتدأ من مقام التوبة, حتى مقام الفناء الوجودي, مرورا بالمقامات الآخرى كافة.

    ولا يقف الرضا, عند حد السكوت على ما فات من الخير وقبول المقسوم منه, بل هو يتعدى ذلك, إلى القبول بمر البلايا لأن من رضيَ بالله تعالى ربا, صار لزاما عليه, أن يرضى بكرمه وبلائه على حد السواء, لا بل أنه يوجد من إذا وقعت عليه الرزية, رآها نعمة وحمد الله تعالى عليها, على أن عدم تفريقه بين النعمة والمحنة, يأتي من أنشغاله بالمنعم عن سواه, وأن الذي يشتغل قلبه بالمنعم دون النعم, يكون حتما في غيبوبة عن البلاء, فلا يشعر به, ومن كان هذا فعله, فهو حتما, الموحد الحقيقي والمحب الحقيقي, والفاني عن هواه, والموجود بربه, فهو إذن الصوفي الحقيقي.


    الرضا بين الطمع والورع

    إن من يتوجه بكل همته إلى المنعم دون سواه, سيكون قلبه خاليا, ضرورةً من الطمع, والشيخ عبد القادر, يحذر مريديه دائما, وينبههم على أن الطمع هو عدو الرضا وخصمه، لابل إنه لا يوجد أمر أضر على المريد وطالب الحق, وعلى التجربة الصوفية عامةً, من الطمع, وما صار الطمع بهذه الدرجة من السوء والتأثير السلبي, إلا لأنه يمثل, في حقيقته, نوعا من أنواع الشرك بالله عز وجل, لأن من طمع في مخلوق مثله, لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا, يكون كأنه قد نقل مُلك الملك إلى مملوكه, وتلك خيانة بادية, وكذلك فأن الطمع لا يغادر كونه نقص في أحوال المريد, لأن الطمع لا يخطر على قلب مريد, إلا ((لأجل كمال البعد من الله عز وجل, حيث طمع في مخلوق مثله، وهو يرى أن مولاه، مطّلع عليه، ثم لم يحجزه الخوف من ذلك))(1) والورع، هو ضد الطمع، وإن من أخص معاني الورع هنا، هو : أن ينسب العبد الأشياء إلى مالكها الحقيقي، فيطلبها منه وليس من غيره . وعليه فيمكن القول : إن من يتصف بالورع سينال الرضا، ومن يرضى عن ربه ، فانه حتماً سيصبر على بلائه، والصابر هو متوكل ضرورةً، ولا يتوكل على الله حق توكله، إلا العبد الصالح المؤمن التائب عن ذنوبه، وهكذا يمكننا أن نرى بوضوح، الترابط العضوي بين المقامات الصوفية عند الشيخ عبد القادر، على الدرجة التي لا يمكن معها الحديث عن مقام واحد دون التطرق إلى بقية المقامات .
    التعديل الأخير تم بواسطة ناظم; الساعة 04-05-2021, 09:35 PM.

  • #2

    سادساً – مقام الصدق :

    الصدق لغةً، هو مطابقة الحكم للواقع، وفي اصطلاح أهل الحقيقة، هو قول الحق في مواطن الهلاك . وقيل: الصدق هو أن تصدق في موضع لا ينجيك منه إلا الكذب، وقيل : الصدق هو : أن لا يكون في أحوالك شوب، ولا في إعتقادك ريب، ولا في اعمالك عيب. والصدّيق، هو الذي لم يدع شيئاً مما أظهره باللسان، إلا حققه بقلبه وعمله .(2) وهو أيضاً المبالغة في الصدق، والذي يكون الصدق هو الغالب عليه .
    وعند القشيري : الصدق هو عماد الأمر كله – أي التصوف – وبه تمامه وفيه نظامه وهو تالي درجة بعد النبوه، لقوله تعالى : (( فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين )) .(1) والصادق: هو الأسم اللازم من الصدق، وأقل الصدق، إستواء السرّ والعلانية، والصادق من صدق في أقواله، والصديق من صدق في جميع أقواله وأفعاله وأحواله . (2) وهذا التعريف الأخير للصدق، هو الذي يتبناه الشيخ عبد القادر، بتمامه، ومن غير إضافة أو حذف .على أن الصوفية عنده، لا بد من أن يكونوا ، إما صادقين أو صديقين ، ولا شيء غير ذلك، وإن الذي يهمه منهما، هم الصديقون وحدهم، لأن مقام الصديقين، هو الذي تتحد فيه الأقوال والأفعال والأحوال على الصفة عينها، وهي صفة الصدق.(3)

    تعريف الصدق عند الشيخ عبد القادر
    يورد الشيخ عبد القادر، في الصدق ،(4) عدة أقوال، منها : إن من أراد أن يكون الله عز وجل
    معه فليزم الصدق، فأن الله عز وجل مع الصادقين . والصدق : هو القول بألحق في مواطن الهلكة، والصدق : هو موافقة السر بالنطق، أي موافقة اللسان للقلب، وهي أحسن الحالات التي يمكن أن يبلغها المريد، والصدق : منع الحرام من الشدق. والصدق الوفاء لله عز وجل بالعمل والصدق : هو صحة التوحيد مع القصد . وقيل : إنك إذا طلبت الله عز وجل بالصدق، أعطاك مرآة تنظر فيها كل شيء من عجائب الدنيا والآخرة .(5) ويمكننا أن نلاحظ، من خلال جميع هذه الأقوال، أن الصدق عند الشيخ عبد القادر، ليس كلاماً نظرياً ينتهي عند حدود اللسان، بل هو موقف عملي، أي فعل وسلوك، يسعى الإنسان، إلى الاتصاف به، من خلال إلتزامه، قولاً وفعلاً، ومن خلال التمسك به في مواطن يعافه فيه الناس. الصدق بهذا المنظور، هو الشجاعة عينها، وهو الورع، وهو التوحيد الحق وهو حب الله عز وجل وطلب القرب منه، والصدق أيضاً، هو الجهاد الذي قد ينال به العبد الشهادة. وكل ذلك يعد توضيحاً لقول الشيخ عبد القادر: إن الصدق هو عماد الأمر ( الصوفي ) وبه تمامه، وإنه هو السبيل الوحيد للوصول إلى الله عز وجل والتقرب اليه، وإلا فكيف يتقرب العبد إلى مولاه بغير الصدق، وكما يقول الشيخ عبد القادر : (( لولا الصدق لم يتقرب بشر إلى الله تعالى )).(1)

    الصدق والأخلاص

    والصدق عند الشيخ عبد القادر, يفضي إلى الأخلاص,(2) والأخلاص يفضي إلى الصدق, وفي الحقيقة, فأن المعنى العرفي, يدقّ, إلى درجة الشفافية, بين مفهومي الصدق والأخلاص, إلى حد أننا, لو أستبدلنا أسم أحدهما, مكان الآخر, فأن ذلك لن يضير المعنى في شئ, ولا تبين هذه الحدود وتنفصل, إلا في المعاملات الصوفية, حيث يعطى لكل مفهوم معناه المحدد.

    إن قلب المريد, يشبهه الشيخ عبد القادر, بالحجر الأصم, الذي أذا ما ترك وشأنه فأنه لا يتحرك ولا يصدر عنه أي فعل, بينما أذا ضُرب, بعصا (موسى)(3) الأخلاص, لتفجرت منه ينابيع العلم والحكم, ((فبجناح الأخلاص, يطير العارف من ظلمة قفص الكون, إلى فسحة نور القدس, وينزل, بعد الطيران, في ظل روض مقعد صدق – وأن الطريق إلى الله عز وجل, لا يسافر فيه بغير زاد الصدق)).(4) ويبدو هذا النص, وكأنه يضع لنا خطة عمل, لرحلة المريد, من الجسد إلى الروح ومن الأرض إلى السماء, فالأخلاص هو الذي يمنح المريد القدرة والعزيمة على مغادرة ظلمة أهوائه وطبائعه الرديئة, ويدفعه قدما نحو فسحة الأستقامة والصفاء الروحي والمعارف والحكم الإلهية المكنونة أصلا في قلبه, ثم أخيرا يملِّكه زمام مقام الصدق, والشيخ عبد القادر, يوقف زاد السالكين, حصرا على الصدق وحده. إذن فلا صدق من غير أخلاص, ولا أخلاص من غير صدق, ولا سلوك ولا وصول, من غير أخلاص وصدق.(1)

    الصدق والتوكل

    ويربط الشيخ عبد القادر, أيضا, بين مقامي الصدق والتوكل, والصدق عنده يعني بأحد معانيه: التوكل الحق على الله عز وجل, إذ لا يخفى على ذي الدراية, ما للتوكل على الله عز وجل من علاقة حتمية بالصدق, وإنه لا توكل حقيقي من دون صدق كافٍ, وأن أي خلل في صدق العبد يعني أن هناك خللا في توكله, وإن من أراد أن يبلغ كمال التوكل, فأن عليه, أن يتقمص الصدق كاملا, أي في قوله وفعله وحاله وأعتقاده, لأن أي أنسان, لا يمكنه أن يعتمد أو يثق, بأي شئ من الأشياء, إلا إذا كان صادقا في أحساسه تجاهه فكيف الحال مع رب الخلق الذي لا يتقبل من
    عباده إلا ما حسن وخلص وصدق.
    إن آفات النفس البشرية, كثيرة جدا, ولا يتمكن من السيطرة أو التغلب عليها, إلا من صدق من السالكين, لأن الصدق, إذا كان يزيد العبد قربا من مولاه ويزيده أبتعادا عمن سواه,فإنه سيورثه حياءً عظيماً وحرجاً لاحد له،لمثوله بين يدي ربِّه تعالى،وهو مليء بألنقائص والآفات والكدورات،وعليه،فأنه سيزيد من المجاهدات والأذكار والعبادات،وهولصدقه،فأنه سيحثّ الخطى ويعجِّل بألقدوم على مولاه، لأن ((من عامل مولاه بألصدق والنصاح،إستوحش ممن سواه))0 (2)
    وعليه،فإن الصدق،يمكن أن يُعدّ،من بين اكثر الوسائل التي تعين المريد على الفلاح في سلوكه الصوفي،وإذا كان الطمع فيما في أيدي الناس،يعد من بين أصعب الآفات المُحبطة في الطريق
    فأن الصادق،لا يسعه، إلا أن يطمع في ربه عز وجل دون سواه،وإذا كان الكسل وحب الدعة والتراخي عن مواصلة الطريق،يعدّ آفة آخرى،فأن الصادق معصوم عن هذه أيضاً،بصدقه،إذ إن صدقه في طلب القرب من ربه تعالى،لا يترك في قلبه،أي شاغل سواه،ثم أن المكافآت والهبات والكرامات الالهيه،التي يلقاها السالكون في الطريق،والتي تشغلهم،أحياناً عن مطلوبهم الحقيقي،فأنها أيضاً لاتؤثر في المريد الصادق الذي لايفرح إلا بلقاء محبوبه الأوحد0 وكذلك الحال مع بقية أنواع الرياء والشرك الخفي وجميع الأهواء والشهوات وآفات النفس الآخرى،لأنه حقاً كما قيل:النجاة في الصدق وفي الصدق النجاة0

    سابعاً- مقام الفناء :-

    ألفناء لغة: هو الزوال والتلاشي،وفي أصطلاح الصوفية يعني:سقوط الاوصاف المذمومة عن العبد،كما أن البقاء،يعني وجود الأوصاف المحمودة فيه،والعبد لايخلو من أحد هذين القسمين،فهو أن لم يكن أحدهما،كان الآخر لامحالة،لأن من فني عن أوصافه المذمومة ظهرت عليه الصفات المحمودة،ومن غلبت عليه الصفات المذمومة،إستترت عنه الصفات المحمودة0 هذا النوع من الفناء,يبلغه السالك، بكثرة الرياضة،أما النوع الآخر من الفناء،الذي هو عدم الأحساس بعالم الملك والملكوت،فهو يأتي بألاستغراق في عظمة الباري ومشاهدة الحق0 (1)ولإجل هذا النوع الثاني،عدَّ الصوفية،الفناء،شكلا من أشكال التوحيد الذوقي في مقابل التوحيد الأعتقادي،الذي هو:إقرار بوحدانية الله تعالى،والتوجه اليه وحده،بأنواع العبادات والقربات0 إن التوحيد الذوقي،هو:شهود وإدراك قلبي للمطلق أو اللامتناهي،ويشترط في هذاالشهود،نفس مروضة ذاتدرجة عالية من الصفاء وإحساس فائق بألمطلق،تذوب معه جميع المتعينات الفردية،بما فيها إنّيةالذات المشاهدة، فاسحة المجال أمام حال المواجهةالشهودية مع تجليات الحضرة الإلهية0 وفي الحقيقة،فإن تقسيم الفناء الصوفي على(فناءين)،أخلاقي وذوقي،فيه فائدةنظرية،يراد منها،تقريب ألمفاهيم الصوفية إلى أذهان الناس،بينما في الواقع،فلا وجود،في التصوف الاسلامي بوجه خاص،إلا إلى شكل واحد للفناء،وهو الفناء الذي يتخلص من خلاله المريد من صفاته الذميمه،فتزال عن نفسه الحجب الظلمانية،وتصبح مهيأة لان تطالع تجليات الأنوار الإلهية.(2)

    إن كون الفناء من المقامات الصوفية،يعني أنه يستحصل بألجهد والرياضات والعبادات،التي من خلالها تتخلص النفس من كثير من صفاتها وطبائعها الرديئه،ولذلك ألحق الصوفية الفناء بألبقاء،فبعد فناء الخلق،لابدّ من أن يبقى الخالق، وبعد فناء الصفات البشرية لابد من أن تبقى الصفات الإلهية0 إذن فالفناء في مفهوم التصوف الإسلامي, ليس محقا, وإنما هو وجود جديد يصيب العبد من خلاله بعض الكمال المرجو. وبهذا المعنى يقول القشيري: إن العبد, إذا واظب على تزكية أعماله, ببذل وسعه, منَّ الله تعالى عليه, بتصفية أحواله, بل بتوفية أحواله, فمن ترك مذموم أفعاله, يقال: فني عن شهواته, فأذا فنى عن شهواته, بقي بنيته وأخلاصه في عبوديته, ومن زهد في دنياه, بقلبه, يقال: فنى عن رغبته, فأذا فني عن رغبته فيها – أي في الدنيا – بصدق أنابته وكذلك الحال لمن يفنى عن توهم الآثار من الأغيار, فأنه يبقى بصفات الحق, ومن أستولى عليه سلطان الحقيقة, حتى لم يشهد من الأغيار, لا أثرا ولا رسما ولا طللا يقال: أنه فني عن الخلق وبقي بالحق. إذن ففناء العبد عن أفعاله الذميمة وأحواله الخسيسة بعدم هذه الآفعال, وفناؤه عن نفسه وعن الخلق, بزوال إحساسه بنفسه وبهم.(1) ولعل أقرب مثال يوضح هذا القول, هو, حالة فناء المريد في شيخه, في الطرق الصوفية, فالمريد لا يمكنه من أن يتخلى عن ذاته تماما فيكون هو الشيخ عينه, ولكن يمكنه أن يتمثل حاله الشـيخ وصفاته مـن أجل تقريب المناسبة, ومن أجل أن يكون قلبه مرتبطا بقلب شيخه, كي يستمد منه بعض تجليات الأنوار الإلهية.

    مفهوم الفناء عند الطوسي

    وقبل أن ننتهي من هذه الملاحظات التمهيدية عن الفناء في التصوف الإسلامي, لابد من أن نعرج على بعض آراء (أبي نصر الطوسي) لأهميتها الفائقة في هذا الموضوع, فهي تزيل كثيرا من اللبس والغموض الذي طالما تلفعت به المفاهيم الصوفية, عبر تاريخنا الفكري, قديما وحديثا. إبتداءً يعرّف (الطوسي) الفناء, تعريفا لا نظير له في بساطته ووضوحه, فالفناء عنده يعني: فناء رؤيا الأعمال والطاعات, ببقاء رؤيا العبد, لقيام الحق للعبد بذلك, أي رؤية نفاذ إرادته وفعله ومشيئته في كل شئ. وكذلك يعني الفناء: فناء الجهل بالعلم وفناء الغفلة بالطاعات.(2) ويرى (الطوسي): أن الفناء لا يعني – كما يفهم منه بعضهم – ترك الصفات البشرية بشكل مطلق, وهو يلفت النظر إلى: ضرورة التفريق بين البشرية والأخلاق البشرية فالبشرية لا تزول عن البشر إلا بزوال وجودهم أصلا, بينما الأخلاق البشرية, يمكن, أن تبدل وتغير بما يرد عليها من سلطان أنوار الحقائق. وهذه هي ثمرة السلوك الصوفي, وصفات البشرية إذن, ليست هي عين البشرية.
    نقطة مهمة آخرى, يشير أليها (الطوسي) وهي: أن فناء العبد عن صفاته لا يعني دخوله في أوصاف الحق, وهو ما يدل على معنى الحلول. بل يعني خروجه من إرادته ودخوله في إرادة الحق, ويعني أيضا إنقطاعه عن رؤية نفسه, وإنقطاعه بكليته إلى الله تعالى. أن الذين غلطوا في هذا المعنى, أنما غلطوا بمسألة خفيت عليهم, حتى ظنوا أن أوصاف الحق هي الحق, وهذا كله كما يرى الطوسي (كفر) , لأن الله تعالى, لا يحل في القلوب, ولكن الذي يحل في القلوب هو: الأيمان به والتوحيد له, والتعظيم لذكره.(1)
    الفناء إذن يمكن أن لا يكون حقل ألغام, يُخشى على الناس من دخوله, وذلك بتقريبه إلى الأذهان, وتوضيح الغاية الحقيقية التي تقف من ورائه, بكونه وسيلة مخصوصة من وسائل توحيد الله عز وجل وحبه وطاعته, وهذا المعنى هو ما سيتبناه الشيخ عبد القادر ويعمل على توضيحه.

    معنى الفناء عند الشيخ عبد القادر

    يرد الفناء, عند الشيخ عبد القادر, بعدة معان, وهو يحاول, من خلالها دائما, أن يربط, بينه وبين جميع المقامات السابقة, بكونه ذروة التغيير النفسي والأخلاقي للمريد, وأن كل المقامات ماهي في حقيقتها, إلا مراتب متسلسلة لهذا التغيير. إن حالة الفناء عنده, هي غاية أحوال الأولياء والأبدال, وإلى بلوغها يطمع السالكون, وبغير الفناء, لا تتم التجربة الصوفية ولا تنضج ثمارها. إن الفناء, بكل معانيه الممكنة, لا يخرج عن حمى الساحة الأخلاقية, التي رسمها الشيخ عبد القادر, لمنهجه الصوفي, والتي لا يتجاوز معنى الفناء فيها, كونه نبذا للصفات الإنسانية السيئة, وأستبدالها بآخرى حسنة.





    مستويات الفناء

    يقسم الشيخ عبد القادر, الفناء, على خمسة مستويات, وهي: فناء عن الخلق, وفناء عن الهوى وفناء عن النفس, وفناء عن الإرادة, وفناء عن الأماني. أما الفناء عن الخلق فأن العبد, لا يبلغه إلا بعد أن يتيقن من استغناءه عن الخلق, بحيث لا يرى لهم نفعا ولا ضرا, وأنه لافاعل على الحقيقة إلا الله عز وجل وحده, وأنه حتى الأفعال التي تصدر من الخلق, ما هي في حقيقتها, إلا فعل خالص له تعالى. إن ما يرمي أليه هذا اللون من الفناء, هو تطهير عقيدة التوحيد لدى المريد, بحيث تتخلص من كثير من أشكال الشرك التي لدقتها, قد تخفى على غير الصوفية. أما الفناء عن الهوى, فأن معناه يمكن أن يفهم من خلال نقيضه, أي من خلال أتباع الهوى, فأتباع الهوى يودي بصاحبه حتما إلى التهلكة, وأن من البدائه عند الصوفية, هي أن الخطوة الأولى في السلوك الصوفي عامة, تبدأ من مخالفة الهوى. وهذا الفناء أيضا لا يمكن الأعتراض عليه من جانب الشرع, لأنه يمثل في حقيقته, سلوكا أخلاقيا يرمي إلى تحسين صفات العبد وأخلاقه بأستبدال المذموم منها بالمحمود. أما الفناء عن النفس, فأنه يتضمن معالجة جميع ما تشتمل النفس عليه, بين جنبيها, من طباع وميول ونوازع ودوافع, سلبية, تعرقل مسار الرقي الروحي للمريد. ويبدو, أن هذا الفناء, يقابل عمل النفس الملهمة, التي يدخل المريد معها, مرحلة التخلص من أهوائه الرديئة كافة. الفناء عن الإرادة, الذي يأتي بالمستوى الرابع, يدفع بصاحبه إلى حسن التوكل على بارئه تعالى وإلى الطاعة والتسليم وعدم الخروج عن إرادته, وهو مما يتوافق تماما وأحكام الشرع.

    الفناء عن الأماني, يعني أن لا يرضى المريد بغير ربّه وخالقه, مطلبا, فلا تلهيه دنيا ولا آخرى ولا جنّة زائلة ولا جنّة خالدة, وإنما يكون مراده الأوحد, هو زيادة القرب منه تعالى, وهذا القرب, لا يتحقق له, إلا بعد خروج كل (السوى) عن قلبه, ولكن هذا السوى, لا يزول عن القلب, إلا بزوال الهوى والإرادة, اللذين بزوالهما, يصبح العبد ماثلا في فعل الله تعالى وإرادته.(1) وهذا هو ما يمكن أن نسميه, بالتوحيد الحق, الذي يخلص به القلب لربه, فلا يعود ينظر لغيره ولا يتطلع إلى سواه, حتى ولو كان هذا السوى هو نعيم الآخرة. ويمكن القول, أننا لو جمعنا هذه (الفناءات) لوجدناها تشكل سيرة صوفية متكاملة, تبدأ من التخلص من الأهواء الرديئة وتنتهي بالأشراف على التوحيد الحق, ويبدو أن الشيخ عبد القادر, لم يترك مجالا للأعتراض على (فناءه) هذا, وخاصة وأنه قد قدمه للناس بلغة هي أقرب إلى لغة الشرع منها إلى اللغة الصوفية الصرف.

    الفناء بين الخلق والخالق


    يذهب الشيخ عبد القادر إلى أنه ما ثم في الوجود إلا خلق و خالق – وهي (إثنينية) حادة لا يمكن الجميع بين طرفيها، في أي مرحلة من مراحل القرب والوصول، ويبدو أنه يشير هنا إلى عدم تبنيه لما يلصق بأصحاب نظريتي الأتحاد والحلول- فأن اختار المريد الخالق، فعليه أن يخلع عن قلبه كل من عداه، فليس للرجل من قلبين في جوفه، وبحيث يتصرف وكأنه لا خلق في الوجود، وأنه لا وجود إلا للخالق عز وجل، عندئذ سيوجد وجوداً آخر، هو ما يسمى بـ(البقاء) أو الوجود الجديد الذي لا يرافقه إلا صفاء النفس وكرم الأخلاق، وإن من أبرز علامات هذا (الوجود) هو الدعوة المستجابة وطاعة الناس لأوامره.
    أما إذا حتّم على المريد أن يكون مع الخلق، مرشداً لهم مثلاً، فعليه أن يكون، معهم، بلا نفس ولا هوى، كي ينجو ويسلم من التبعات، فأما إذا ما إختلى مع ربه تعالى، فعليه أن يترك الكل على باب خلوته، ويدخل وحده، ليرى مؤنسه في خلوته بعين سره ويشاهد ما وراء العيان، فتزول النفس ويأتي مكانها أمر الله تعالى وقربه ((فعندها يكون جهله علم وبعده قرب وصمته ذكر ووحشته أنس))(1) أما علامة فناء العبد عن الخلق، فهي انقطاعه عنهم والأياس مما في أيديهم. وأما كيف يفنى العبد عن نفسه وهواه؟ فأن ذلك يتم عن طريق ترك التعلق بالأسباب في جلب المنافع ودفع الاضرار ويأتي ذلك من يقينه بأن هذه الاسباب لا تتحرك في العبد به ولا تعتمد عليه له، ولا تذب عنه ولا تنتصر له. وإذن فأن عليه أن يكل ذلك كله إلى من تولاه، أولاً، فهو حتماً سيتولاه آخر. إن الشيخ عبد القادر، لا يشير على المريد، بالتخلص بشكل نهائي من نفسه أو من بقية الخلق، فتلك أقداره التي لا مهرب له منها، وإنما هو يشير، فقط، إلى حسن التعامل معها، ويتم ذلك عن طريق الفناء (القادري).





    الفناء والبقاء


    بهذا المستوى من العلاقة، بين العبد وربه، ينال الوجود الجديد، الذي طالما وعد الشيخ عبد القادر مريده به، وسمي هذا الوجود بـ(الوجود الجديد)، لأن طبائع الانفس تكون معه، قد تغيرت تغيراًن يدفع بها، في الوقت نفسه، نحو مزيد من القرب من بارئها تعالى، إن النفس هنا ستترقى وتعمل عمل القلب وتدرك مدركاته، والقلب ينقلب سراً ويرتشف من المعارف الربانية، وكل ذلك يتم، لأن الفناء نفسه يكون قد انقلب وأصبح وجوداً وبقاء(1). وإذن فلا محق ولا تلاشي للوجود الإنساني، في الفناء الصوفي في الاسلام، وإنما هو سعي نحو الوجود الحق والحياة الاسعد التي لا تتخطفها الأوهام ولا تتنازعها النوازع.
    ان سير المريد حثيثاً، نحو التحقق بمقام الفناء، يشير إلى صدق وعظم حبه لله تعالى لا بل إن أصحاب الفناء، هم وحدهم المحبون لله تعالى حقاً، لأنهم أعدموا الخلائق ولم يتعلقوا بهم، فانقلب طبعهم إلى طبع الملائكة، الذين هم حتماً أقرب من البشر إلى السماء وأبعد منهم عن الأرض ولكن مع ذلك، فأصحاب الفناء لا يقفون عند هذا الحد، بل إنهم يسعون نحو مزيد من القرب من مولاهم عز وجل، فتراهم يسعون إلى التحقق بالفناء الثاني، الذي هو الفناء عن طبع الملائكة، واللحوق بالمنهاج الأول، أو الخلق الأول، الذي هو الفطرة السليمة التي فطر عليها أبو البشرية، آدم (ع) فاذا وصل المريد إلى هذا المقام، صار قريباً من ربه، كقرب آدم من ربه وهو في الجنة، يسقيه ما يسقيه ويزرع فيه ما يزرع، فهو كله لربه، وليس لسواه شيء فيه. أما كيف السبيل إلى بلوغ ذلك فان الشيخ عبد القادر، يضع للمريد منهجاً واضحاً، لا لبس فيه ولا غموض، فالذي يريد ذلك، أي اللحوق بالمنهاج الأول، فأن عليه أولاً أن يتحلى بالإسلام(2) وذلك بإقامة شعائره والإئتمار بأوامره والانتهاء عن نواهيه، ثم الاستسلام، الذي يمثل الغاية من الاسلام ومعناه الحقيقي، وهذا لا يتجسد إلا بالإيمان المطلق بقدرته تعالى. ثم العلم بالله تعالى، وهو معرفة شرائعه وأحاكامه، ثم المعرفة به، وهي معرفة الذوق والقلب والبصيرة، بقدرته وخلقه وإرادته وإحاطته بكل شيء، ثم أخيراً الوجود له تعالىأو العبودية المطلقة التي تقابل الالوهية المطلقة وهذا الوجود هو الغاية لأنه : ((إذا كان وجودك له، كان كلك له))(3). ولا يمكن أن نعرف الفناء عند الشيخ عبد القادر بأكثر من تعريف هذه العبارة له.
    على أن هذا الوجود الجديد، أو المعرفة الجديدة، لا يقتصر على مدة زمنية محددة، ثم يعتزل بعدها المريد السلوك الصوفي، إنه عمل يستغرق العمر كله، إنه عمل الأبد، فاذا كان الزهد عمل ساعة والورع عمل ساعتين، فأن المعرفة هي عمل الأبد(1). لأن الاسرار الربانية لا متناهية ولا تحدها حدود، وكذلك القرب من المولى عز وجل، فأنه لا تحصيه القياسات ولا تحده الأبعاد، بل إن العبد لكما زاد خضوعاً لربه تعالى، زاد قرباً منه.

    فناء الذات وفناء الصفات


    إن الشيخ عبد القادر، يريد أن يؤكد لنا، في أكثر من موضع من مؤلفاته، أن الفناء، هو فناء صفات، وليس فناء ذات، فناء الصفات الذميمة المغروسة في النفس، واستبدالها بالصفات الحميدة التي تقرب العبد من ربه. إن فناء الذات، هو ما يرفضه رفضاً قاطعاً، فالعبد مهما فعل ومهما تقرب، فأنه لا يمكنه أن يغادر ساحة عبوديته، ولا يمكن أيضاً، لذات الإنسان، مهما ارتقت في مراقي الروح، أن تذوب في الذات الإلهية، أو تندمج بها، كما يريد أن يفهم ذلك بعض خصوم التصوف، أو بعض الدخيلين عليه، فلا بد إذن من بقاء عين العبد الفاني، ((بل إن العبد كلما تقرب إلى الله عز وجل، بالعبودية، وأظهر العجز والفناء عن جميع الصفات المناقضة للعبودية، وهبه الله تعالى، فضلاً منه، من صفات حميدة عوضاً عما فنى منه من الصفات الذميمة))(2). وهذا هو المستوى الأول من الفناء، الذي يشبهه الشيخ عبد القادر، بالموت ، ليس الموت المعهود، بل انه موت خاص، لا يتحقق إلا للخواص من العباد، إنه موت الاهواء والطباع، الموت الذي يحيى بعده القلب، فتورثه هذه الحياة القرب، ويورثه هذا القرب، الحياة الدائمة، ((فيحال بينه وبين ذكر الموت في باطنه))(3). وهذه العبارة الاخيرة تشير إلى معنى البقاء عند الشيخ عبد القادر، فالبقاء عنده، يعد ثمرة من ثمار السلوك الصوفي، لا بل هو الثمرة الاخيرة، إذ ليس بعد الفناء إلا البقاء، فاذا ما حلت الاوصاف الحميدة في النفس، بعد طول المجاهدات، تم الفناء، ثم حصل البلقاء، أي الوجود الحقيقي الذي يس معه فناء ولا انقطاع، ((لأن من علامة أهل البقاء، أن لا يصحبهم في وصفهم شيء فانٍ لأنهما ضدان …))(4). اذن ، فالفناء عند الشيخ عبد القادر، لا يطلب لذاته، وإنما يطلب للعبور منه نحو المرحلة الجديدة، وهي مرحلة الوجود المحض، التي غادرها الإنسان الأول بنسيانه عهد ربه فصار لزاماً عليه، بعد ذلك، أن يعالج نفسه بالكثير من أنواع المجاهدات والرياضات والعبادات، كي يعود اليها، فلا جديد إذن في هذا الوجود (الجديد) ولا إنسلاخ فيه عن الحقيقة البشرية، ولا هروب من الواقع الإنساني الناقص والمحكوم بالموت، بمحاكاة الوجود الالهي، وإنما هو الوجود الاصلي والحقيقي للبشر، الذي خلط بالكثير من العناصر الارضية والذي حف بالكثير من الشهوات والأهواء.

    الفناء عن الإرادة


    الفناء بمستواه الثاني، هو فناء الإرادة، أي فناء ارادة العبد في ارادة مولاه، وذلك حين لا يكون له مراد قط ولا غرض ولا مرام، لأنه لا يريد مع ارادته سواها. الفناء عن الإرادة يتحقق، حين يفنى المريد عن الخلق لحكم ربه تعالى وعن هواه بأمره تعالى وعن ارادته بفعله تعالى، فحينئذ يصلح الإنسان، ويتهيأ، لأن يكون وعاء لعلم الله تعالى، من حيث إن العلم والإرادة لا ينفصلان، فاذا ما ذابت ارادة العبد في ارادة مولاه، فهذا يعني، في الوقت نفسه، أنه قد استعد لتلقي العلم الالهي. أما علامة فناء العبد عن إرادته، فهي أن لا يريد مع إرادته سواها، بل يجري فعله فيه وهو ساكن الجوارح مطمئن الجنان، مشروح الصدر عامر الباطن، غني عن الاشياء بخالقها، ((تقلبه يد القدرة، ويدعوه لسان الأزل ويعلمه رب الملك ويكسوه من نوره حللاً وينزله منازل من سلف من ألي العلم الأول، فيكون أبداً منكسراً لا تثبت فيه إرادة غير إرادة الله عز وجل))(1) ولنا أن نسمـي
    هذا الفناء ما شئنا من المسميات المقبولة عقلاً وعرفاً، فهو التوكل على الله تعالى وهو تمام العبودية له وهو الرضا به وهو التقرب إليه تعالى.

    أما ثمرة هذا الفناء، أي الفناء عن الإرادة، فهي أن يضاف إلى قدرات العبد، التكوين وخرق العادات، أو بلغة آخرى (الكرامات) لأن من ذابت إرادته في إرادة مولاه، فهو حتماً ستخرق له العادات، ويرى ذلك منه في ا لحكم والعلم، أي في علاقته مع الناس والاشياء وفي علاقته بالمعارف والعلوم الربانية، وهذه الحالة (الجديدة) يعدها الشيخ عبد القادر، نشأة آخرى، مجردة عن كل أشكال الإرادات، وكلما وجدت إرادة كسرت وأزيلت حتى يتم اللقاء ويبلغ الكتاب أجله. إذن فحد الفناء هو: أن يبقى الله تعالى وحده، كما كان قبل أن يخلق الخلق، وحد البقاء هو: أن يموت العبد عن الخلق وعن الهوى وعن الإرادة والمنى وعندها فقط، ((يحيى حياة لا موت بعدها ويغنى غنى لا فقر بعده، ويعطى عطاء لا منع بعده، ويعلم علماً لا جهل بعده، ويأمن أمناً لا خوف بعده، ويسعد فلا يشقى، ويعز فلا يذل ويقرب فلا يبعد، ويعظم فلا يحقر، ويطهر فلا يدنس))(1). وتلك من أعظم النعم التي يمكن أن يرجوها العبد من بارئه، فهي تكاد تقترب من صفات أهل جنة الخلد، وأما ما يتعلق منها بخرق العادات، فقد أيد ذلك الشيخ عبد القادر، وفصل كثيراً في شرحه، ولكنه اشترط ظهورها فيمن تمكن من نفسه، فهي تظهر عليه، بكونها علامة من علامات القبول ونهاية الطريق، وأما قبل ذلك، أي في حالة وجود الكرامات مع الهوى والنفس، فليس من الكرامة في شيء، وإنما هو استدراج ومكر إلهي.

    الفناء وعلم اليقين


    ان فناء الإرادة يدل على اكتمال يقين العبد بربه، واليقين، هو أعلى درجات علم العبد، فباليقين يقطع المريد جازماً، ومن دونما شك أو تلفت: أن لا فاعل على الحقيقة إلا الله عز وجل، فلا خير ولا شر ولا نفع ولا ضر ولا موت ولا حياة ولا غنى ولا فقر إلا بيده عز وجل، وهذا هو ما تعارف الصوفية أن يسموه بالتسليم، و يشبهوا صاحبه بالطفل الرضيع في يد مرضعته، أو كالميت بين يدي الغاسل، إذ لا حراك في نفسه، ((لأنه غائب عن نفسه في فعل مولاه، فلا يدري غير مولاه وفعله ولا يسمع إلا منه ولا يعقل إلا منه))(2). على أن هذه العبارة، لا تدل على دعوة الشيخ عبد القادر، إلى تعطيل الحواس والتخلص من حكم العقل، وإنما هي تدل على دعوته إلى حسن استخدام الإنسان لحواسه وقدراته العقلية عن طريق توجهه صوب مولاه وتخلصه من جميع الشواغل والعوائق.

    الفناء والخلود


    هذا الفناء، إذا تمكن من نفس المريد وإرادته، فسيكون وجوده الحقيقي، أو معناه، كما يقول الشيخ عبد القادر، في الآخرة، أما في هذه الحياة الدنيا، فليس له فيها إلا الصورة. إنه الخلود بمعناه الحقيقي لا المجازي، لأن من فني عن نفسه وعن جميع مراحل النفس التي مر بذكرها، صار وجوده حتماً في علم الله عز وجل، الأزلي الابدي، وفي قبضته، سابحاً في بحر قدرته(1). ومعنى هذا القول، أن حال الفناء الذي بلغه العبد السالك ألغى فيه كل مناسبة تربطه مع وقائع الحياة الدنيا فأصبح لا طمع له في ملذاتها أو أشيائها، وأصبح ضرورة مرتبطاً بشكل أوثق، بالآخرة، لأن باطنه صار أكثر مجانسة لنسق الآخرة.

    الفناء والشهود


    الفناء في مستواه الثالث، يمكن أن نسميه، بفناء التجلي، أو فناء الشهود، أو فناء المحو. وبهذا الفناء تتحقق معرفة العبد لربه عز وجل، فيصير بهذه المعرفة حراً عن السوى غريباً ي الدنيا والآخرة لعدم مجانسته لهما معاً، والمجانسة هي في حقيقتها، وليدة الرغبة. إن المريد هنا يكون في حالة غيبة عن الكل ومحو عن الكل، وهذه الحالة يسميها الشيخ عبد القادر بحالة حق الحق، وهي أرقى من حالة أهل الحقيقة. إنها حالة المحو والفناء، التي لا ينالها إلا العارفون الموحدون، أو خاصة الخاصة الذين جعلهم ربهم تعالى، أمناء على خلقه وقد ينحصر هؤلاء في شخص واحد، هو الوريث المحمدي، الذي لا يكون له مطلب إلا رضا ربه عز وجل، لأنه آخرج الكل عن قلبه حتى وصل إلى الحق، فاصطفاه واجتباه وأحبه وحببه إلى خلقه، وهو يشاء بمشيئة ربه ويختار باختياره ويرضى برضاه ويتمثل أمره دون غيره لأنه لا يرى لغيره عز وجل وجوداً ولا فعلاً(2). إذن ففي هذه المرحلة تلغى حتى المجانسة مع الآخرة، ويزول الطمع في جوائزها، بحيث لا يكون للعبد في هذا الفناء، إلا مطمع واحد، وهدف واحد، وهو قربه من مولاه تعالى، وهذا الحال لا يناله إلا أوحد عصره وفريد دهره، وهنالك الكثير من الاشارات التي وردت على لسان الشيخ عبد القادر، والتي يشير فيها إلى بلوغه هذا المقام(3) .
    يرى الشيخ عبد القادر، أن ابتداء هذا الفناء يكون بفضل من الله تعالى، فهو موهبة منه دون إرادة أو قصد من العبد، أما أساس ذلك، فهو أن يطلع سر وليه بقبس خفيف من التجلي، فيتلاشى الكون في قلبه، ويفنى تحت تلك الاشارة، على أن البقاء الذي يعقب هذا الفناء، هو فناؤه تحت إشارة ربه تعالى، فيتقلب في الحق، بين فناء وبقاء، إشارة تفنيه وتجلية تبقيه، بينما هو يكون قد باين طبائعه، واضمحلت فيه الرسوم وفنيت فيه الانانية، انه غارق بشكل دائم في حضرة القرب والتجلي بالحقائق الصمدانية، إنه في حالة شهود دائم للوحدانية، حيث لا حيث ولا أين ولا كيف(1) ولكن الشيخ عبد القادر لا يترك لهذه الافكار أن تتدرج إلى نهايتها المحضورة، فيظن سامعه أنه قد تجاوز الخط الأحمر، أو أنه قد تعدى أمر الشرع ونهيه، وهو ما لا يرضى به لغيره، يرى الشيخ عبد القادر، أن من وصل إلى هذه المرتبة من القرب والفضل من ربه عز وجل، فهو حتماً قد وهب الحفظ والسلامة و موافقة فعل ربه في كل ما يفعل، بحيث إنه لا يخرق أي قاعدة في الشرع، فينزلق إلى مهاوي الزندقة وإباحة المحارم(2) . إن هذا لا يكون حتماً في حق من إختصه ربه عز وجل، بالاسرار والعلوم اللدنية، والدخول في بحار الانوار، حيث لا تضره ظلمة الطبائع.

    إن هذا الرأي الأخير، يؤكد إعتقاد الشيخ عبد القادر، بعدم زوال الطبائع الآدمية من البشر، حتى إن نالوا، اعلى درجات القرب من بارئهم عز وجل، فالطبع باقٍ إلى أن تفارق الروح الجسد، ولوزال الطبع، لألتحق الآدمي بالملائكة ولبطلت الحكمة.
    الفناء بصورته النهائية، الواضحة والبسيطة، التي -كما عودنا الشيخ عبد القادر في تقديمه للمفاهيم الصوفية- لا يمكن الاعتراض عليها، مهما كانت خلفية المعترض الفكرية ومهما كان إنتماؤه المعرفي، إنه المرحلة الأخيرة في تصوف الشيخ عبد القادر، وهو الاستعداد الامثل للقاء المولى تعالى، بعد استكمال مقومات الصلاح واماتة النفوس والأهوية وتصحيح الطباع والاقبال على (الموت الخاص)، إنه الصياغة النهائية لانسانية الإنسان، ومن دون تجاوز (لارض) هذه الإنسانية، بل وانطلاقاً منها نحو آفاق الحضرة الإلهية اللامتناهية.
    إن الحب وحده، هو الوازع الذي دفع بالإنسان الاعتيادي، إلى سلوك طريق التصوف والحب هو نفسه الذي دفع به، إلى طلب المزيد من القرب من محبوبه، فكان الفناء وكان السعي لمحو الصفات السلبية التي تحملها النفس الإنسانية بين جنبيها، والتي عدها الصوفية من أصعب الحواجز التي تحول بين المحب وبلوغ مراده، وهذا هو ما حدا بالشيخ عبد القادر، إلى أن يحث مريديه باستمرار، على طلب الفناء والسعي له، لكونه ((هو الراحة الكبرى والجنة العالية المنفردة في الدنيا، وهو باب الله الأكبر وعلة محبة الله لعبده))(3) . ولأنه أخيراً هو حقيقة الإنسان ومعناه المدفون تحت ركام الغرائز والشهوات والأهواء، فلا جديد ولا تجاوز لحدود البشرية، بل هو عود على بدء.

    (1) الشطنوفي – بهجة الأسرار ومعدن الأنوار – ص75.

    (1) د. ناجي التكريتي – الفلسفة الأخلاقية الأفلاطونية عند مفكري الإسلام – ص44 فما بعدها. وللمزيد من التفصيل حول آراء أفلاطون في النفس وطبيعتها وخلودها, فأنه يمكن الرجوع إلى محاوراته الآتية: الجمهورية وطيماوس وفيدون وفيدروس والمأدبة. ويمكن الأشارة هنا إلى أن متصوفة الإسلام كانوا أكثر أئتلافا مع آراء هذا المذهب في النفس, ولعل مردّ ذلك يعود إلى عدم تقاطع هذه الآراء مع ثوابت الدين الإسلامي.

    (1) حول آراء أرسطو في النفس – يراجع كتاب النفس لأرسطو – ترجمة أحمد فؤاد الأهواني ص35 فما بعدها. هذه رسالة توراه, أنظر كتاب أرسطو في النفس فقط.

    (2) جميل صليبا – من أفلاطون إلى إبن سينا – محاضرات في الفلسفة العربية – ص102 فما بعدها.

    (1) إبن سينا – ديوان إبن سينا – تحقيق حسين محفوظ – طهران 1957 – ص54

    (2) القشيري – الرسالة القشيرية – ص75.

    (1) يؤيد الشيخ عبد القادر هذا الرأي, فالطبع الإنساني عنده لا يمكن إزالته, لأنه لو أزيل عن النفس لألتحق الإنسان بالملائكة ولبطل التكليف وعطلت الشرائع ولكن الذي يحصل من جراء السلوك الصوفي هو فقط تحسين الأخلاق الرديئة والصفات الذميمة وتسوية الناشز منها.

    (2) القشيري – الرسالة القشيرية – ص75 فما بعدها.

    (1) د. علي عيسى عثمان – الإنسان عند الغزالي – ترجمة خيري حماد – ص124. وكون النفس هنا من أدوات المعرفة, فأنها تدلّ على عقيدة الغزالي بحياة الروح السابقة على حياتها الأرضية وأن المعارف التي تستخلص منها هي في الحقيقة ماحفظته من تلك الحياة السابقة.

    (2) الغزالي – مختصر أحياء علوم الدين – ص140. وسنرى فيما بعد أن الشيخ عبد القادر لا يكتفي بهذا التقسيم الثلاثي للنفس بل يتوسع فيه حيث يقسم النفس على سبع أنفس وفي حقيقة الأمر فأنه لا فرق بين هذين التقسيمين, فالغزالي يجمع صفات عدة أنفس تحت مسمى واحد, بينما الشيخ عبد القادر يتوسع في الجزئيات ويفصل بينها كي يوازن بين مراتب النفس والمقامات الصوفية السبعة عنده.

    (3 ) د. علي عيسى عثمان- المصدر نفسه- ص113.

    (1) الجيلاني- جلاء الخاطر من كلام الشيخ عبد القادر الجيلاني- ص41.

    (2) على الضدّ من الفلاسفة ، يرى الصوفية ان الإنسان يتكون من وحدات متعددة، يعمل احدها بشكل مستقل عن الآخر، وانه يمكن التحكم ببعضها دون الآخر، وايضاً تسليط بعضها على بعضها الآخر وكأن الصورة تبدو امامنا كعملية فصل للسلطات ، اذ يفصل الإنسان بين كل من نفسه وعقله وقلبه مما يتيح له مجالاً اوسع للتعامل مع ذاته فالإنسان لا يؤخذ كله ولا يترك كله، اذ ان فيه اجزاء بيضاء واجزاء سوداء، وانه يمكن الاستعانة بتلك على تلك.

    (1) الجيلاني- رسالة في التصوف- مخطوطة- دار صدام للمخطوطات- تحت رقم- (11042).

    (1) الجيلاني- جلاء الخاطر من كلام الشيخ عبد القادر الجيلاني- ص39.

    (2) الجيلاني- الفتح الرباني والفيض الرحماني- ص230.

    (1) الجيلاني- سير السلوك إلى ملك الملوك- مخطوطة- دار صدام للمخطوطات تحت الرقم (9166).

    (2) الشطنوفي- بهجة الأسرار ومعدن الأنوار-ص44.

    (1) التونسي- رياض البساتين في اخبار الشيخ عبد القادر الجيلي- ص88.

    (2) مباينة العلم والعقل ، لا تعني دعوة الشيخ عبد القادر إلى تعطيلهما او الغائهما، لان ذلك لو فهم من العبارة فانه يعني ايضاً الغاء السمع والبصر وتعطيل جميع الحواس. ان ما يعنيه الشيخ عبد القادر من هذه العبارة هو: ان لا يشكل العلم والعقل حجاباً يحول بين المريد السالك و نيل مبتغاه، ولذا فانه يعمد إلى توجيههما الوجه الصحيحة بان يجعل منهما تبعاً للقلب، لا ان يكون القلب تبعاً لهما فيحجباه ويؤخراه. ان القلب هو اداة المعرفة الأولى عند الصوفية، واما المعرفة اللدنية فهي المعرفة التي يسعى الصوفي اولاً إلى تحصيلها، معتمداً على حدسه ودرجة صفاء نفسه، ولذا فلا دور للعلم ولاعقل في هذه المرحلة، وانما ياتي دورهما في مرحلة آخرى أي في مرحلة تحصيل العلوم الشرعية والفقهية، وهي مرحلة سابقة على السلوك الصوفي.

    (3) عبارة الشيخ عبد القادر هذه، لا تعني اعتقاده بوجود حياة سابقة على هذه الحياة الارضية كتلك التي تؤمن بها بعض الطوائف البوذية، وانما هي تدّل على نفخ الروح التي تاتي بديلاً عن النفس، بحيث ان الإنسان، في معية نفسه الأولى، يبدو كانه ميتاً، فيحييه الله تعالى بهذه الروح النبيلة.

    (1) التونسي- رياض البساتين في اخبار الشيخ عبد القادر- ص87.

    (2) التونسي- المصدر نفسه- ص88.

    (1) استناداً لقوله تعالى: " واذ قال ربك للملائكة اني جاعل في الارض خليفة " البقرة- ص 30.

    (1) الجيلاني- رسالة في التصوف- مخطوطة- دار صدام للمخطوطات تحت رقم (11042).

    (2) يُعدّ بشر الحافي(ت-227هـ) اول من قال بهذا التعريف، فالصوفي عنده هو: من صفا قلبه لله تعالى- انظر- الكلاباذي-التعرف لمذاهب اهل التصوف-ص5. على ان هذا التعريف ينسجم تماماً ونظرية الشيخ عبد القادر الصوفية التي ان الفعل الصوفي ما هو في حقيقته الا فعل تصفية وتطهير وتخلص من مذمومات الاخلاق والصفات وتحلٍ بالمحمودات منها.

    (3) الفجر /27.

    (4) الشطنوفي- بهجة الأسرار ومعدن الأنوار- ص78.

    (1) الجيلاني- الفتح الرباني والفيض الرحماني- ص245.

    (2)الجيلاني- الفتح الرباني والفيض الرحماني-ص223. ويمكننا ان نلاحظ هنا، عدم تأكيد الشيخ عبد القادر على ذكر العقل من بين مصادر المعرفة او مصادر (القرار) وذلك لاعتقاده، بان العقل ما هو في حقيقته، الا أداة محايدة، تميل إلى الخير أو الشر، حسب الآمر الذي يتأمر عليه، سواء أكان هذا الأمر نفساً طائشة او روحاً← →قدسية، فالعقل، وفق هذا التصور يعّد مطية للخير والشر على حدّ السواء، ولتأكيد هذا الرأي انظر: الشطنوفي - بهجة الأسرار ومعدن الأنوار- ص67.

    (1)الشطنوفي- المصدر نفسه- ص77.

    (2)التادفي- قلائد الجواهر في مناقب الشيخ عبد القادر-ص51. ويمكن القول ان عبارة الشيخ عبد القادرهذه تصلح ان تكون أساساً لبحث مستقل يتناول نظرية المعرفةعنده.

    (1)الشظنوفي ـ بهجة السرار ومعدن الأنوار ـ ص72

    (2) الجيلاني ـ الفتح الرباني والفيض الرحماني ـ ص54

    (1) الحضرة : وهي الحقيقة الكلية الجامعة للحضرات الخمس الإلهية : حضرة الغيب المطلق وعالمها عالم الأعيان الثابتة في الحضرة العلمية وفي مقابلها حضرة الشهادة المطلقة وعالمها عالم الملك وحضرة الغيب المضاف وهي تنقسم على ما يكون اقرب من الغيب المطلق وعالمه عالم الأرواح الجبروتية والملكوتية، أي العقول والنفوس المجردة، وعلى ما يكون اقرب من الشهادة المطلقة، وعالمه عالم المثال، ويسمى بعالم الملكوت، والخامسة الحضرة الجامعة للحضرات الأربع المذكورة، وعالمها الإنسان الجامع بجميع العوالم- انظر- الجرجاني- كتاب التعريفات-ص93. وتجدر الاشارة هنا، إلى هذا التعريف ينهل من القاموس الاصطلاحي لابن عربي، الشيء الكثير، إضافة إلى انه يحتاج إلى تعريفات كثيرة أخرى كي يصل مضمونه إلى أذهان الناس، فهو مليء بوفرة من المصطلحات التي لا تقل غموضاً عن المصطلح الأم (الحضرة). ولعل كل ذلك لم يكن حاضراً في قصد الشيخ عبد القادر، الذي تعودنا منه دائماً، البساطة والوضوح.

    (1) الجيلاني- الغنية لطالبي طريق الحق عز وجل-ج/3- ص1326. وهذا الركن هو واحد من بين أربعة أركان يشترط توافرها في المريد السالك، فيما لو عقد العزم على انتهاج سبيل القوم وهي: أولا معرفة الله تعالى وثانياً معرفة عدو الله إبليس وثالثا معرفة النفس الأمّارة بالسوء، ورابعاً معرفة العمل لله تعالى أو تحري سبل الخلاص. هذه الأركان كما يرى الشيخ عبد القادر، هي الطريق الصحيح وان كل ما عداها جهل وتخبط.

    (1) الجيلاني- الغنية لطالبي طريق الحق عز وجل –ج/3-ص1330

    (1) الجيلاني- المصدر نفسه- ج/3-ص1330

    (2) يشير الشيخ عبد القادر هنا، إلى قوله تعالى: " وما أبريء نفسي إن النفس لأمّارة بالسوء" سورة يوسف - آية/53.

    (3) الجيلاني- الغنية لطالبي طريق الحق عز وجل- ج/3-ص1330.

    (4) الجيلاني- الفتح الرباني والفيض الرحماني-ص174.

    (1) الجيلاني –الفتح الرباني والفضل الرحماني –ص174

    (1) الجيلاني - الفتح الرباني والفيض الرحماني –ص174

    (2) الجيلاني – المصدر نفسه – ص174

    (3) الجيلاني – المصدر نفسه – ص174

    (1) الجيلاني – المصدر نفسه – ص176. وفي هذه الصفحة يذكر الشيخ عبد القادر قصته مع الموت فيقول : أنني مت ثم احياني الله عزوجل ، ثم أماتني فغبت، ثم أوجدني من غيبتي . هلكت معه، ملكت معه، جاهدت نفسي في ترك الاختيار والإرادة ، حتى حصل لي ذلك ، فصار القدر يقودني والمنة تنصرني والفعل يحركني والغيرة تعصمني والإرادة تطيعني والسابقة تقدمني والله عز وجل يرفعني . أي أنه بعد إماتته لنفسه، صار مطلق التسليم لله تعالى فصار لايفعل ولا يتحرك ولا يقدر الا بالله تعالى .

    (2) الجيلاني – الفتح الرباني والفيض الرحماني – ص177

    (1) فقه القلب عند الشيخ عبد القادر، يعني العلم بمراتب النفس وخواطرها وهواجسها وخصالها وأمراضها وكيفية التعامل معها. وهو هنا لا يفاضل بين هذا الفقه والفقه الظاهري أو الشرعي، فللأخير أهميته التي لا غنى عنها لأي سالك، وهذا الموضوع قد تمّ البتّ فيه في الفصل السابق، ولكنه يؤكد، على أن حاجة المريد المرحلية – أي وهو في طور المجاهدة – تكون إلى الفقه القلبي أكثر منه إلى أي علم آخر، لأنه لو ضلع في فقه الظاهر قبل أن يعامل نفسه بالمجاهدات، فأنه سيقع حتماً فيما يقع فيه الكثير من الفقهاء، وهو أنه سيكون حبيس رأي أهل الدنيا فيه.

    (2) الجيلاني – المصدر نفسه – ص 177

    (1) الجيلاني – سير السلوك إلى ملك الملوك – مخطوطة – دار صدام للمخطوطات تحت رقم – 9166 -.

    (1) الجيلاني-سير السلوك إلى ملك الملوك-مخطوطة

    (2) الخلافة في أصطلاح الصوفية تعني ألامامة،وهي على قسمين:خلافة صغرى وهي ألامامة أو الرئاسة الضاهرية،وخلافة كبرى وهي ألامامة والرئاسة الباطنية0 أنظر معجم مصطلحات ألصوفية-د0 عبد المنعم الحفني- ص91.

    (3) لقد عسر علينا إيجاد تفسير صوفي للأسباب التي حدت بالشيخ عبد القادر إلى أن يعطي لمراتب النفس الإنسانية ألواناً مختلفة، خاصةً وأن أحداً لم يسبقه إلى ذلك ، ولعل في الأمر تعلقاً ببعض اسرار المتصوفة التي يرون حجبها عن سواهم. فأما إذا عولنا على الخصائص الفيزيائية للألوان، فسنرى أن أول ثلاث أنفس، أي الأمّارة بالسوء واللوامة والملهمة، أعطيت الألوان الأساسية الثلاثة وهي: الازرق والاصفر والاحمر، مما قد يشير إلى صفات النفس وطباعها التي لابد أن تعالج بالمجاهدة، ولعل هذا الكلام يؤكده اللون الابيض الذي ظهر على النفس الرابعة (المطمئنة) ولا يخفى انه لون يدل على التجرد والحياد، وهي البداية الجديدة التي يبدؤها الصوفي مع نفسه الرابعة التي تسلكه في طريق الولاية، ثم يحين دور النفس الخامسة التي تتزيا بالون الاخضر، وهو[ Yحاصل مزج لونين الازرق والاصفر، ثم النفس السادسة ذات اللون الاسود، الذي هو حاصل مزج كل الالوان ولعل هذا المزج، وهذا الظهور الجديد لألوان جديدة، يدلّ على التخلص من صفات النفس وطباعها السيئة، وثم إكتساب طباع وصفات جديدة، هي أفضل من سابقتها ولكنها ناتجة عنها، وهو معنى قول الشيخ عبد القادر، أن الإنسان لا يمكنه أن يتخطى حدود إنسانيته. ثم أخيراً تأتي النفس السابعة (الكاملة) وهذه ليس لها لون، لأنها تسمو على جميع المراتب والصفات وتسمو على جميع ما تدركه الحواس.

    (1) الجيلاني – الفيوضات الربانية – ص15

    (2) الرياضة في إصلاح الصوفية تعني: تهذيب الأخلاق النفسية وتخليصها من خلطات الطبع ونزعاته. إنظر – الجرجاني – كتاب التعريفات – ص119

    (1) الجيلاني – سير السلوك إلى ملك الملوك - مخطوطة

    (2) الجيلاني – المصدر نفسه – مخطوطة.

    (1) البرزخ في اللغة هو الحاجز والفاصل وهو في إصطلاح الصوفية يعني: ستر القطب عن الأفراد الواصلين فأنهم خارجون عن دائرة تصرفه، لأنه في الأصل واحد منهم متحقق بما تحققوا به في القرب والبسط، غير أنه أختير من بينهم للتصرف والتدبير. أنظر – د. عبد المنعم الحنفي – معجم المصطلحات الصوفية – ص240

    (2) الجيلاني – الفيوضات الربانية – ص22-23

    (3) الجيلاني – سير السلوك إلى ملك الملوك - مخطوطة

    (1) الجيلاني – سير السلوك إلى ملك الملوك - مخطوطة.

    (1) الجيلاني – سير السلوك إلى ملك الملوك - مخطوطة

    (2) الجيلاني – المصدر نفسه - مخطوطة

    (1) الجيلاني – الفيوضات الربانية – ص24.

    (1) القبض والبسط: هما حالتان تغشيان العبد بعد ترقيه عن حالة الخوف والرجاء, والقبض للعارف بمنزلة الخوف للمستأنف والبسط للعارف بمنزلة الرجاء للمستأنف والقبض والبسط متعلقان باللحظة الآتية أما الخوف والرجاء فمتعلقان بالآجل من الزمان – للتفصيل حول ذلك – أنظر – الرسالة القشيرية – ص55.

    (2) سورة الشمس – الآيات – 10,9,8,7.

    (3) الجيلاني – سير السلوك إلى ملك الملوك – مخطوطة.

    (1) الجيلاني – سير السلوك إلى ملك الملوك – مخطوطة.

    (1) الجيلاني – الفيوضات الربانية – ص25.

    (2) الجيلاني – المصدر نفسه – ص17.

    (3) الجيلاني – سير السلوك إلى ملك الملوك – مخطوطة.

    (1) يشير الشيخ عبد القادر, من خلال هذه العبارة إلى أمرين: الأول هو أن المعارف الصوفية هي معارف لدنية ربانية تنال بالمجاهدات والرياضات وليس من خلال القيل والقال, والثاني هو أن العبد إذا صفت نفسه وأطمأنت جاءت أفعاله موافقة لما أمر به الشرع.

    (2) الجيلاني-سير السلوك إلى ملك الملوك - مخطوطة

    (3) سورة الرحمن – آية / 26.

    (1) الجيلاني – سير السلوك إلى ملك الملوك – مخطوطة.

    (2) الجيلاني – الفيوضات الربانية – ص17.

    (1) الجيلاني – سير السلوك إلى ملك الملوك – مخطوطة.

    (2) سورة يوسف – آية / 54.

    (3) يشير الشيخ عبد القادر هنا, إلى أنه في هذه المرحلة يبدأ ظهور الكرامات وخوارق العادات على يدي الصوفي وهي تتمثل في طاعة الأشياء له وخضوعها لأمره, حتى لو كان في هذا الخضوع تغييرا لطبائع الأشياء وقلب لقوانينها الداخلية, كما حدث مع نار إبراهيم (u) مثلا.

    (4) الجيلاني – المصدر نفسه – مخطوطة.

    (5) الجيلاني – الفيوضات الربانية – ص17.

    (1) الجيلاني – الفيوضات الربانية – ص18.

    (1) الجيلاني – سير السلوك إلى ملك الملوك – مخطوطة.

    (2) العلم الألهي الحالي, أي نسبة إلى الحال الصوفي, والحال هو ما يحل بالقلوب أو تحل به القلوب من صفاء الأذكار, وإن من صفته عدم الدوام, وقد قيل أن الحال هو الذكر الخفي – أنظر - الطوسي – كتاب اللمع في التصوف الإسلامي – ص40.

    (3) يستند الشيخ عبد القادر هنا إلى الحديث القدسي الشريف: لا يزال عبدي المؤمن يتقرب ألي بالنوافل حتى أحبه, فأذا أحببته, كنت سمعه وبصره ولسانه ويده ورجله وفؤاده فبي يسمع وبي يبصر وبي ينطق وبي يعقل وبي يبطش. أنتهى. وهو حديث متفق عليه رواه البخاري عن أبي هريرة. أنظر – المغني عن حمل الأسفار ج / 1 – ص77 – وكذلك نيل الأوطار – ج / 2 – ص62.

    (4) يؤكد الشيخ عبد القادر هنا موافقته على مقوله الحلاّج (أنا الحق), وهو يلقي باللائمة على سوء فهم بعض (الملاحدة) لمثل هذه الأحوال.

    (1) حق اليقين: هو عبارة عن فناء العبد في الحق والبقاء به علما وشهودا وحالا, لا علما فقط – أنظر – الجرجاني – كتاب التعريفات – ص95. وحق اليقين يطلق أيضا على ما كان بنعت العيان, فعلم اليقين لأرباب العقول وعين اليقين لأصحاب العلوم وحق اليقين لأصحاب المعارف – أنظر – الرسالة القشيرية ص74.

    (2) الجيلاني – الفيوضات الربانية – ص27.

    (1) الجيلاني – سير السلوك إلى ملك الملوك – مخطوطة.

    (2) الجيلاني – نفس المصدر - وتجدر الأشارة إلى أن الشيخ عبد القادر, يضع في مقابل الأنفس الست الأولى ستة خواطر للقلب, وهي: خاطر النفس وخاطر الشيطان وخاطر الروح وخاطر الملك وخاطر العقل وخاطر اليقين. الخاطر الأول والثاني مذمومان لأنهما لا يأمران إلا بالتمرد وترك الطاعات وإقتراف الآثام, وهما لعموم المؤمنين, وأما خاطر الروح والملك, فهما محمودان ةلا يأمران إلا بالحق وهما لخواص الناس, وأما خاطر العقل فأنه يميل تارة إلى جهة الخير وأخرى الى جهة الشر, وإن في ذلك لحكمة من الله تعالى, لكي يكون فعل العبد مقرونا بحضور عقله وموزونا بميزانه, وهذا هو موضع التكليف. وأما خاطر اليقين, وهو منبع روح الأيمان فأنه لخواص الأولياء من أصحاب اليقين. – أنظر – الجيلاني – بهجة الأسرار ومعدن الأنوار – ص67.


    (1) حول تفصيل هذه الآراء, يراجع كتاب – يوسف شلحد – بنى المقدس عند العرب قبل الإسلام – تعريب د. خليل أحمد خليل – دار الطليعة بيروت. أما عن الجذر اللغوي لكلمة (نفس) – فأنظر – لسان العرب لأبن منظور – ج/8 – ص119 وما بعدها وكذلك – تاج العروس للزبيدي – ج/4 – ص260 فما بعدها.

    (1) الجيلاني – الفتح الرباني والفيض الرحماني – ص147.

    (2) الجيلاني – الغنية لطالبي طريق الحق عز وجل – ج/3 – ص1275.

    (3) يلاحظ هنا, إن كافة مراتب النفس الإنسانية, والغاية من المقامات الصوفية بأصنافها كافة تؤدي عند الشيخ عبد القادر, إلى نتيجة واحدة, وهي بلوغ مرتبة الخلافة العظمى, ومن ثم هداية الخلق وأرشادهم.

    (4) الجيلاني – االمصدر نفسه – ج/3 – ص1276.

    (1) الجيلاني – سير السلوك إلى ملك الملوك – مخطوطة.

    (2) سورة الأنعام – آية / 18.

    (1) الشطنوفي – بهجة الأسرار ومعدن الأنوار – ص46.

    (2) إبن منظور – لسان العرب – ج/12 – ص497 فما بعدها.

    (1) وردت في القرآن الكريم تصريفات كثيرة لكلمة (مقام) تفيد في أغلبها معاني: المكان والثبات والأستعداد والمباشرة بالفعل.

    (2) الطوسي – اللمع – ص65. ولابد من الأشارة هنا إلى أن الباحث لم يجد كتب الشيخ عبد القادر أو الكتب التي نقلت عنه, تعريفا محددا للمقام أو الحال سوى قوله: إن المؤمن صاحب حال والحال يحول والعارف صاحب مقام والمقام ثابت, المؤمن خائف من أنتقال حاله وزوال أيمانه, فحزنه دائم في قلبه وبشره دائم في وجهه – أنظر الفتح الرباني والفيض الرحماني – ص229. ومن هذا (التعريف) يمكن أن نفهم أن المقام عند الشيخ عبد القادر, أرفع منزلة من الحال وأدوم وأثبت في القلب وهو كذلك في نظر أغلب الصوفية.

    (3) القشيري – الرسالة القشيرية – ص54.

    (4) أبن منظور – لسان العرب – ج/11 – ص190.

    (1) الجرجاني – التعريفات – ص85.

    (2) اللوائح والبواده: تعني هنا الأشارات والأرهاصات, وأما دوام الحال فيعني به التكرار وليس الثبات, لأنه لو ثبت لأصبح مقاما.

    (3) القشيري – أربع رسائل في التصوف – تحقيق. د. قاسم السامرائي–مطبعة المجمع العلمي العراقي – 1969 – ص45.

    (4) عمر السهردوري – عوارف المعارف – ص469.

    (5) طه – آية/82.

    (1) سورة الفرقان – آية/71.

    (2) سورة المائدة – آية/39.

    (3) الجيلاني – الفتح الرباني والفيض الرحماني – ص28.

    (4) الجيلاني – الغنية لطالبي الحق عز وجل – ص537 – ج/3.

    (5) الجيلاني – المصدر نفسه – ج/2 – ص538.

    (1) يعرف القشيري الورع بأنه: ترك ما يريبك ونفي ما يعيبك والأخذ بالأوثق وحمل النفس على الأشق – الرسالة القشيرية – ص61.

    (1) يذهب الشيخ عبد القادر، إلى انه حتى الانبياء لا غنى لهم عن التوبة، وهويستند في ذلك إلى الحديث النبوي الشريف: انه ليغان على قلبي واني لاستغفر الله عز وجل في اليوم الواحد والليلة سبعين مرّةص. انتهى. ومعنى يغان أي يغشى ويغطى. وهو حديث صحيح رواه الامام احمد ومسلم وابو داود والنسائي. وحول سند الحديث- انظر- المغني عن حمل الاسفار- ج/4-ص10. وقد ذكر الشيخ عبد القادر هذا الحديث في كتابه : الغنية لطلبي طريق الحق عز وجل- ج/2-ص545.

    (2) الجيلاني- المصدر نفسه- ج/2-ص544-545.

    (3) الندم في اصطلاح الشيخ عبد القادر هو: توجع القلب عند علمه بفوات محبوبه، فتطول حسراته واحزانه وبكاؤه ونحيبه وانسكاب عبراته، فيعزم على ان لا يعود إلى مثل ذلك لما تحقق عنده من العلم بشؤم ذلك. انظر- المصدر نفسه- ج2 - ص558.

    (1) الجيلاني- الغنية لطلبي طريق الحق عز وجل- ج/2-ص558.

    (2)الشطنوفي- بهجة الأسرار ومعدن الأنوار-ص122. ونلاحظ هنا، ان الأمر الالهي الذي مادته الايمان والمغيبات، يكون القلب هو محله الأول، ثم بعد ذلك تتبعه الروح، التي تقف بين الغيب والشهادة، ثم العقل اداة الشهادة، فاما اذا كان للامر تعلق بالاوامر والنواهي، فان العقل هو اول من يستجيب، لانه ما خلق الا لاجل ذلك، ثم بعد ذلك يتبعه الروح ثم القلب، وعلى أساس هذا التقسيم للواجبات، فاننا يمكن ان نضع العقل في مقام الاسلام والروح في مقام الايمان واما القلب فهو في مقام الاحسان بدلالة كونه موطن الفعل الصوفي.

    (1) الجيلاني- فتوح الغيب- هامش كتاب بهجة الأسرار ومعدن الأنوار-ص80.

    (2) يعد الشيخ عبد القادر ، من بين أكثر مشايخ الصوفية اهتماماً بموضوع الورع، فهو كثيراً ما يتطرق اليه وفي أغلب كتبه، ولعل مردّ ذلك يعود إلى اعتقاده بان الورع هو عماد الدين والحافظ للقلب من التردي في مهاوي الغفلات، لان الورع عنده يعني الخوف من اتيان الذنوب وتجنب الخوض في الشبهات.

    (3) هكذا ورد تعريف الورع عند القشيري- انظر- الرسالة القشيرية- ص90.

    (4) الجيلاني- الغنية لطلبي طريق الحق عز وجل- ج/2-ص583. وكذلك ورد التعريف في بهجة الأسرار ومعدن الأنوار للشطنوفي-ص66. وقلائد الجواهر للتادفي-ص81.

    (1) الشطنوفي- بهجة الأسرار ومعدن الأنوار-ص66.

    (2) الجيلاني- فتوح الغيب- هامش بهجة الأسرار ومعدن الأنوار-ص82.

    (1) التقوى عند الشيخ عبد القادر تتوزع على ثلاثة اوجه : تقوى العامة في ترك الشرك بالحق و تقوى الخاصة في ترك الهوى و المعاصي و مخالفة النفس في سائر الاحوال و تقوى خاصة الخاصة من الأولياء في ترك الأرادات في الأشياء والتخير في النوافل من العبادات والتعلق بالاسباب و الركون إلى ما سوى المولى , بل لزوم الحال و المقام و امتثال الأمر في جميع ذلك مع أحكام الفرائض وتقوى الأنبياء (ع) أن لا يتجاوزهم غيب في شىء فهم من الله وإلى الله , يأمرهم وينهاهم ويوفقهم . ويستدل على التقوى بثلاث : بحسن التوكل فيما لم ينل وحسن الرضا فيما قد نال وحسن الصبر على ما قد فات . وان من لم يحكم بينه وبين الله تعالى التقوى والمراقبة لم يصل إلى الكشف و المشاهدة .ـ بهجة الأسرار و معن الأنوار ـ ص65ـ66

    (2) الجيلاني ـ الغنية لطالبي طريق الحق عز وجل ـ ج/2 ـ ص596

    (3) الشطنوفي ـ بهجة الأسرار و معن الأنوار ـ ص66

    (1) الجيلاني- الغنية لطالبي طريق الحق عز وجل- ج/2-ص600.

    (2) الجرجاني- التعريفات-ص74.

    (3) سورة المائدة- اية/23.

    (1) سورة الطلاق- اية/3.

    (2) رواه احمد في مسنده- المغني عن حمل الاسفار-ج/4- ص239.

    (3) حديث ابن عباس- رواه الحاكم والبيهقي- المغني عن حمل الاسفار- ج/4-ص239.

    (4) الطوسي- اللمع- ص49.

    (5) الجيلاني- الغنية لطالبي طريق الحق عز وجل-ج/3-ص1339.

    (6) الطوسي- اللمع- ص49.

    (7) الجيلاني- المصدر نفسه- ج/3-ص1340.

    (1) الجيلاني- المصدر نفسه-ج/3-ص1337.

    (2) الشطنوفي- بهجة الأسرار ومعدن الأنوار-ص122.

    (3) الجيلاني- الغنية لطالبي طريق الحق عز وجل-ج/3-ص1338.


    (1)الجيلاني- المصدر نفسه-ج/3-ص1338.

    (2) روي عن انس بن مالك(رض): انه جاء رجل على ناقة له فقال: يا رسول الله ادعها واتوكل ؟ فقال(ص): إعقلها وتوكل. رواه الترمذي. انظر المغني عن حمل الاسفار-ج/4-ص272.

    (1) يلاحظ هنا، ان الشيخ عبد القادر، يلّوح بعصا المروق لكلا الفريقين، للصوفي المتواكل الذي يرفض الكسب والعمل بالاسباب جملةً وتفصيلاً، وللفقيه المتشنج الذي يرفض التوكل متذرعاً بأساءة فهمه.

    (2) الجيلاني- جلاء الخاطر من كلام الشيخ عبد القادر- ص44

    (3) الجيلاني- الغنية لطالبي طريق الحق عز وجل-ج/3-ص1345.


    (1) الشطنوفي- بهجة الأسرار ومعدن الأنوار-ص38.

    (1) الشطنوفي- المصدر نفسه- ص38.

    (2) جاء في الرسالة القشيرية، ان الأخلاص هو: إفراد الحقّ تعالى في الطاعة بالقصد، وهو ان يريد بطاعته التقرب إلى الله تعالى، دون شيء آخر من تصنع مخلوق او اكتساب محمدة عند الناس والأخلاص ايضاً هو: تصفية الفعل عن ملاحظة المخلوقين، وايضاً، الأخلاص هو التوقي عن ملاحظة الاشخاص. انظر- القشيري- ص162.

    (3) الجيلاني- الفتح الرباني والفيض الرحماني- ص81.

    (1) الجيلاني- الفتح الرباني والفيض الرحماني- ص41.


    (2) الجرجاني- التعريفات- ص133.

    (1)سورة ابراهيم- اية/7.

    (2)رواه ابن حيان- المغني عن حمل الاسفار- ج/4- ص79.

    (3) في هذا المعنى, يذكر الشيخ عبد القادر, دعاء نبي الله داود (ع):الهي كيف اشكرك و شكري لك نعمة من نعمك ؟فاوحى الله تعالى اليه : الان قد شكرتني ـ انظر ـ الغنية لطالبي طريق الحق عز وجل ـ ج/3ـص1351.

    (1)الجيلاني ـالمصدر نفسه ـ ج/3 ـ ص1349

    (2) الجيلاني ـ فتوح الغيب ـ هامش كتاب ـ بهجة الأسرار و معدن الأنوار ـص59

    (1) االجيلاني ـ - فتوح الغيب ـ هامش بهجة الأسرار ومعدن الأنوار - ص113

    (2)الجيلاني – المصدر نفسه - ص130.

    (1)الجيلاني- الغنية لطلبي طريق الحق عز وجل-ج/3-ص1350.

    (2) الجيلاني- المصدر نفسه- ج/3 - ص1350.

    (1)الحمد: هو الثناء على الجميل من جهة التعظيم من نعمة وغيرها، والحمد الحالي هو الذي يكون بحسب الروح والقلب، كالاتصاف بالكمالات، العلمية والعملية والتخلّق بالاخلاق الالهية والحمد العرفي، هو فعل يشعر بتعظيم المنعم بسسب كونه منعماً.-الجرجاني-التعريفات- ص1351.

    (2) الجيلاني- الغنية لطلبي طريق الحق عز وجل-ج/3-33.ص1351.

    (3)السهرودي – عوارف المعارف- ص480.

    (4) الجرجاني- التعريفات- ص136.

    (1) سورة ال عمران-اية/200.

    (2)سورة النحل- اية/127. علماً انه وردت لفظة الصبر واحد مفرداتها في مائة وثلاث ايات من القران الكريم.

    (3) روي عن علي ابن أبي طالب(ع) ـ في المغني عن حمل الأسفار ـج/4ـص280.

    (4) الجيلاني ـ الغنية لطالبي طريق الحق عز وجل ـ ج/3ـص1356.

    (5) الجيلاني ـ المصدر نفسه ـ ج/3 ـص1355.

    (6) الشطنوفي ـ بهجة الأسرار معدن الأنوار ـ ص123.

    (1) الجيلاني ـ الفتح الرباني و الفيض الرحماني ـ ص17.

    (2) المغني عن حمل الأسفار ـج/4ـص281.

    (3) سورة الزمر ـ آية/10 .

    (4) الجيلاني ـ فتوح الغيب ـ ص170.

    (5) عن علي ابن طالب (ع) –الجامع الصغير- ج/2- ص80.

    (6) التادفي- قلائد الجواهر في مناقب الشيخ عبد القادر- ص72.

    (1) الجيلاني – الفتح الرباني والفيض الرحماني – ص240. علماً أن للشيخ عبد القادر تقسيماً آخر للصبر، يحاكي به (الضربين) الأول والثاني مع تغيير في إستخدام المسميات، فهو يقسم الصبر إلى: صبر على ما هو كسب للعبد، وهو الصبر على ما أمر الله به عز وجل والإنتهاء عما نهى عنه، وهو مما يلتحق بالضرب الأول. والقسم الثاني هو الصبر على ما ليس بكسب للعبد، وهو صبره على مقاساة ما يتصل به من حكم الله تعالى وقضائه، فيما له فيه مشقة وألم في القلب والجسد، وهذا الصبر يلتحق بالضرب الثاني، أي الصبر مع الله عز وجل – أنظر الغنية لطالبي طريق الحق عز وجل – ج/ 3 - ص1355.

    (1) وفي هذا المعنى، يذكر الشيخ عبد القادر، قصة الرجل الذي وقف على الشبلي ( ت – 334هـ) وسأله: أي الصبر أشدّ على الصابرين؟ قال الشبلي ألصبر في الله، فقال: لا فقال: الصبر لله، قال: لا قال : الصبر مع الله، قال: لا، قال: فما هو؟ قال: الصبر على الله. فصرخ الشبلي صرخة كادت تتلف معها روحه. الجيلاني – الفتح الرباني والفيض الرحماني - ج/3 – ص1355.

    (2) الشطنوفي – بهجة الأسرار ومعدن الأنوار – ص123.

    (1) الجيلاني – الغنية لطالبي طريق الحق عز وجل – ج/3 – ص1357.

    (2) سورة البقرة – آية / 153.

    (3) الجيلاني – الفتح الرباني والفيض الرحماني – ص107.

    (1) الجيلاني – الفتح الرباني والفيض الرحماني – ص15

    (2) الجرجاني – التعريفات – ص116. علماً أن هذا التعريف ينسب لذنون المصري.

    (3) القشيري – الرسالة القشيرية – ص151

    (4) سورة المائدة – أية /119

    (5) سورة التوبة – أية /21

    (6) رواه أحمد ومسلم والترمذي – الحامع الصغير – ج / 2 – ص29

    (1) الجيلاني – الغنية لطالبي طريق الحق عز وجل – ج / 3 – ص 1360

    (2) الطوسي – اللمع – ص50

    (3) الشطنوفي – بهجة الأسرار ومعدن الأنوار – ص124

    (4) الجيلاني – المصدر نفسه – ج/3 – ص1360

    (1) الجيلاني – الغنية لطالبي طريق الحق عز وجل – ج/ 3 – ص1358

    (2) الجيلاني – المصدر نفسه – ج / 3 – ص1358

    (1) الجيلاني – الغنية لطالبي طريق الحق عز وجل – ج / 3 – ص1358

    (2) نود التنبيه هنا، إلى أن الشيخ عبد القادر، يخص بكلامه هذا، أمور الطريقة، دون بقية الأمور الدنوية الآخرى التي تخضع لغير تلك الأحكام والتي يكون لإرادة العبد وأختياره فيها يد طويلة.

    (3) الجيلاني – فتوح الغيب – على هامش بهجة الأسرار ومعدن الأنوار – ص52.

    (1) الجيلاني – الغنية لطالبي الحق عز وجل – ج/3 – ص1364

    (2) الجرجاني – التعريفات – ص138

    (1) سورة النساء – أية / 69

    (2) القشيري – الرسالة القشيرية – ص164

    (3) للنظر في تعريف الشيخ عبد القادر، للصدق، ومقارنة هذا التعريف بما ورد في الرسالة القشيرية – أنظر – الغنية لطالبي طريق الحق عز وجل – ج/3 – ص1366

    (4) يرجع الشيخ عبد القادر، في تاصيله للصدق، إلى قوله تعالى​​(يا أيها الذين أمنوا، أتقوا الله وكونوا مع الصادقبن)). التوبة/ 119 . وأما من الحديث الشريف، فيذكر قوله (r) : (( لا يزال العبد يصدق، ويتحرى الصدق، حتى يكتب عند الله صدّيقاً، ولا يزال يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً )) عن المغني عن حمل الاسفار – ج/3 – ص131 .

    (5) الجيلاني- الغنية لطالبي طريق الحق عز وجل – ج / 3 – ص1366

    (1) التادفي – قلائد الجواهر في مناقب الشيخ عبد القادر – ص34.

    (2) الأخلاص في اللغة: ترك الرياء في الطاعات, وفي الأصطلاح: تخليص القلب عن شائبة الشوب المكدر لصفائه, والأخلاص هو أن لا تطلب لعملك شاهدا غير الله تعالى, وقيل: الأخلاص تصفية الأعمال من الكدورات, وقيل: الأخلاص ستر بين العبد وربه, لا يعلمه ملك فيكتبه ولا شيطان فيفسده ولا هوى فيميله. والفرق بين الأخلاص والصدق, أن الصدق أصل وهو الأول والأخلاص فرع وهو تابع, وفرق آخر: الأخلاص لا يكون إلا بعد الدخول في العمل – أنظر الجرجاني – التعريفات – ص112.

    (3) الأشارة هنا إلى قوله تعالى: (وأوحينا إلى موسى إذا أستسقه قومه, إن إضرب بعصاك الحجر, فأنبجست منه أثنتا عشر عينا, قد علم كل أناس مشربهم) الأعراف / 160.

    (4) الشطنوفي – بهجة الأسرار ومعدن الأنوار – ص76.

    (1) يروي الشيخ عبد القادر, أنه في باكورة حياته, كانت خطوته الأولى في التصوف, مع الصدق وذلك في معرض أجابته على من سأله: علام بنيت أمرك؟ فقال: على الصدق, ما كذبت قط, ولا عندما كنت في المكتب, ثم يسرد بعد ذلك, قصة نجاته ونجاة القافلة التي ألتحق في ركابها من اللصوص, بصدقه الذي عاهد أمه عليه قبل أن يودعها, ثم توبة اللصوص على يديه بهذا الصدق. – حول تفصيل القصة – أنظر – الشطنوفي – بهجة الأسرار ومعدن الأنوار – ص87.


    (2) الشطنوفي- بهجة الأسرار ومعدن الأنوار- ص76

    (1) الجرجاني- التعريفات- ص176

    (2) يعِّرف، د0 أبو العلا عفيفي الفناء بانه:حال تتوارى فيه آثار الإرادة والشخصية والشعور بالذات وكل ما سوى الحق،فيصبح الصوفي،وهو لايرى في الوجود غير الحق،ولايشعر بشيء في الوجود سوى الحق وفعله وارادته-أنظر- التصوف،الثورة الروحية في الاسلام0ص167 ويمكن القول،أن هذا التعريف ينطبق على حال وحدة الشهود،أكثر من أنطباقه على الفناء،الذي سيتبين لنا تعريفه الأكثر دقةً،من خلال مجريات البحث0

    (1) القشيري – الرسالة القشيرية – ص62.

    (2) الطوسي – اللمع – ص378.

    (1) الطوسي – المصدر نفسه – ص379.

    (1) الجيلاني – فتوح الغيب – ص129.

    (1) الجيلاني – فتوح الغيب – ص170.

    (1) الجيلاني – فتوح الغيب – ص170.

    (2) الابتداء بالاسلام هنا، تأتي لتأكيد المنطلق الشرعي في السلوك الصوفي.

    (3) الجيلاني – المصدر نفسه – ص171.

    (1) الجيلاني – المصدر نفسه – ص172.

    (2) الجيلاني – سير السلوك إلى ملك الملك – مخطوطة.

    (3) الجيلاني – الفتح الرباني والفيض الرحماني – ص361.

    (4) التادفي – قلائد الجواهر – ص91.

    (1) الشطنوفي – بهجة الأسرار ومعدن الأنوار – ص77.

    (1) الشطنوفي – بهجة الأسرار ومعدن الأنوار – ص77.

    (2) التونسي – رياض البساتين- ص54 – ونود أن نشير هنا، إلى أن من بعض تعريفات الفناء عند الشيخ عبد القادر هو أنه: فعل القدر المحض الجاري على الولي، من غير أن يكون له حظ من إرادة- انظر- فتوح الغيب- ص135.

    (1) الجيلاني – جلاء الخاطر – ص66.

    (2) الجيلاني – فتوح الغيب – ص129.

    (3) حول ما افصح به عن مقامه- انظر على سبيل المثال- الشطنوفي – بهجة الأسرار ومعدن الأنوار- ص19 فما بعدها.

    (1) الجيلاني – الصلوات الكبرى – مخطوطة – دار صدام للمخطوطات – رقم 14855.

    (2) الجيلاني – المصدر نفسه – ص139.

    (3) الجيلاني – فتوح الغيب – ص116.

    تعليق

    يعمل...
    X