إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

التصوّف عند الشيخ عبد القادر الجيلاني 1

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • التصوّف عند الشيخ عبد القادر الجيلاني 1


    بسم الله الرحمن الرحيم
    السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته

    في إطار مجهودات الإدارة لاسترجاع المواضيع السابقة التي سبق أن نشرت في منتدانا السابق (منتدى الأنوار الشاذلية)،

    هذا موضوع كتب من طرف الأخ



    فقير الي الله 14/09/2015
    "التصوّف عند الشيخ
    عبد القادر الجيلاني




    اطروحة تقدم بها
    جعفر عليوي موسى

    إلى مجلس كلية الاداب – جامعة بغداد
    وهي جزء من متطلبات نيل درجة الدكتوراه في الفلسفة
    باشراف الاستاذ الدكتور
    ناجي التكريتي

    1423هـ 2002 م

    =)=)=)=)=)=)=)=)=)=


    المقدمة

    لقد حظي الشيخ عبد القادر, قديما وحديثا, بكثير من الكتب والدراسات التي أرخت لحياته أو تناولت أفكاره الصوفية العامة مقرونة بآرائه الفقهية والكلامية. ولكن ذلك لم يقدمه إلى الساحة الفكرية إلا بكونه, رائدا ومؤسسا للطرق الصوفية فقط, أو ما يسمى بالتصوف العملي, وهذا جانب لا تنكر مكانته إذ إن له أهميته الخاصة في إتمام هيكلية البناء الصوفي, ولكننا نشير إلى أن هذا الإهتمام, الأحادي الجانب, ترك حيزا كبيرا في فكره النظري لم يأخذ حقه من الإهتمام والدراسة وهو ما سيحاول هذا البحث أن يفعله أو في الأقل ينبّه عليه.

    لقد كان للشيخ عبد القادر دورٌ كبيرٌ في ترسيخ دعائم الفكر الصوفي في الإسلام فأنتاجه النظري يعد حلقة مميزة من بين حلقات السلسلة الثرية لتراث هذا الفكر, وكذلك منهجه الصوفي, الذي يعد بحق إمتدادا إستثنائيا لمدرسة إصلاحية في التصوف ظهرت بوادرها مع السلمي صاحب الكتاب الشهير (طبقات الصوفية) ثم من بعده تلميذه أبو القاسم القشيري ثم من بعده الغزالي الذي أفل نجمه مع بداية سطوع نجم الشيخ عبد القادر والغزالي هو أبرز من عمل على منح التصوف فرصة ثانية كي يؤدي دورا أيجابيا في إعادة تفعيل مبادئ الإسلام وتعاليمه بين

    فئات المجتمع الإسلامي القائم آنذاك, ولعل خير دليل لنا على أن دور الشيخ عبد القادر كان أستثنائيا قياسيا بسابقيه هو: أن أفكاره ومبادئه ظلت حيّة منذ ذلك التاريخ وحتى الوقت الحاضر متمثلة في طريقته الصوفية المسماة بـ (الطريقة القادرية) وبجميع تفرعاتها الكثيرة جدا وبكل مسمياتها التي تختلف من بلد لآخر والتي كان لها في حينها تأثير ملموس في شحذ همم الناس لصد الهجمات الصليبية وفي نشر تعاليم الإسلام في كثير من أصقاع آسيا وأفريقيا, وأيضا وهو الأهم, في المحافظة على روح تلك التعاليم في مراحل الجمود التي تعاقبت على الأمة, وكادت أن تحصر دور الإسلام فيها في نقل وتلقين مجموعة ضيقة من المواعظ والمعاملات الفقهية الجامدة.

    إن الشيخ عبد القادر, لم يكن ليستطيع أن ينقل رسالته الأصلاحية للآخرين بكل هذا النجاح الملموس, لولا أنه أرتكز أصلا على أسس فكرية متينة وازنت بين عمق النظرة الصوفية وسعة الساحة الشرعية, ولولا أنه أنطلق من تفهم عميق لمعطيات الفكر الصوفي الذي يمكن, من وجهة نظره, أن يشكل, بدلا من تكريس الجمود والخمول, دافعا ومحركا لبواعث التحضر والتحرر والأزدهار, وهذا هو فحوى التصوف الأيجابي وهدفه عنده, وهو التصوف الذي يعنى بالإنسان أولا وآخرا بكل أبعاده المتعددة, بدنياه وبآخرته, بجسده وبروحه, وبكل أمكاناته الباطنية

    والكامنة, والذي يحاول, ومن خلال أدواته وأساليبه الخاصة التي لا تخرج قط عن مظلة المندوبات الشرعية, أن يحرر تلك الأمكانات كي يعيد تأهيل الإنسان ويمنحه روحا أكثر ثراءً ونفسا أكثر تحصنا, فلا يعود بعدها تستبعده الحاجات والغرائز والشهوات.

    يتوزع موضوع هذه الرسالة الموسومة بـ (التصوف عند الشيخ عبد القادر الجيلاني) على أربعة فصول يسبقها التمهيد الذي حاول الباحث فيه أن يمسح المدة الزمنية التي عاش فيها الشيخ عبد القادر بكل ظروفها ومداخلاتها وإشكالاتها مع تقديم خلاصة مكثفة عن حياته وسيرته العلمية والصوفية. أول هذه الفصول إشتمل على ثلاثة مباحث شكلت بمجموعها هيكل المشروع الأصلاحي الذي أجتهد الشيخ عبد القادر كي يبثه بين تلامذته ومريديه، فقد تناول المبحث الأول منهجه الصوفي أي أسلوبه في التعامل مع المفاهيم والأفكار الصوفية، وهو أسلوب، كما سنرى إمتاز ببساطة ووضوح منقطعي النظير. والمبحث الثاني تناول طريقته الصوفية، أي رسالته الفكرية التي ضمنها كل أفكاره ومواعظه وأهدافه الإصلاحية، وأما المبحث الثالث فقد تناول تصوفه عامة، أي من حيث الأدوات المفاهيم والنظم الهيكلية، أو إن صحّ التعبير من حيث البنى التحتية. الفصل الثاني أختص بالتأسيسات المعرفية في تصوف الشيخ عبد القادر، وهو ينقسم على مبحثين. الأول منهما أختص بموضوع النفس الإنسانية، من حيث طبيعتها وأقسامها وطرق التعامل معها والوسائل الكفيلة بعلاجها وترقيتها، والمبحث الثاني تناول موضوع المقامات الصوفية من حيث عددها وترتيبها وعلاقتها بمراتب النفس وعلاقتها الواحد بالأخر .


    والفصل الثالث أختص بالإطار النظري البحث، فقد تناول النظريات الصوفية الكبرى المعروفة في عموم الفكر الصوفي الإسلامي والتي هي في أغلبها موضع شبهة فقهية أو إشكال معرفي . وكان مسار هذا ( الفصل ) يتجه نحو التطرف إلى كيفية تفهم الشيخ عبد القادر، وهو الفقيه الصوفي لهذه النظريات وكيفية تعامله معها مع محاولته أعادة صياغة عبارتها وإعادة بعثها بحلة جديدة تتلاءم ومعطيات ظروفه البالغة الحرج . هذا الفصل يتضمن ثلاثة مباحث يتناول الأول منها موضوع الحبّ الألهي من حيث مشروعيته ومنطلقاته المعرفية . وأما الثاني فيتناول موضوع وحدة الشهود بكونه مرحلة متقدمة من مراحل العبادة والقرب من الله تعالى. ثم المبحث الثالث وهو يتناول النظرية الأكثر إثارة للتساؤلات وهي نظرية الإنسان الكامل.


    الفصل الرابع وهو الأخير تطرق للنواحي العلمية من تصوف الشيخ عبد القادر والمقصود به ( العملية ) هنا : مجموعة التعاليم والضوابط التي يؤمر المريد بالالتزام بها كي يفلح في سلوكه ويستحق بعدها لقلب ( الصوفي ) وهذا الفصل يتوزع على أربعة مباحث يتناول الأول منها موضوع الزهد من حيث كونه وسيلة من وسائل التطهير والتحصيل المعرفي . ثم المجاهدة وهو موضوع أهتمام المبحث الثاني فمن خلالها يتم تنظيم علاقة المريد مع نفسه بكل أطوارها ومراتبها وتناول المبحث الثالث موضوع الذكر والأذكار من حيث مشروعيتها وصيغها وأوقاتها وآدابها . ثم أخيراً المبحث الرابع الذي يتناول موضوع آداب الصحبة أي صحبة المريد مع شيخه ومع أقرانه ثم صحبته مع بقية الناس . ثم تلتحق بهذه الفصول خاتمة مكثفة توثق أهم النتائج التي تم التوصل اليها في هذا البحث .



    =-=-=-=-=-=--=









    سيرته:
    هو محي الدين أبو محمد عبد القادر الحسني بن أبي صالح موسى بن أبي عبد الله بن يحيى الزاهد بن محمد بن داود بن موسى بن عبد الله بن موسى الجون بن عبد الله المحض بن الحسن المثنى بن الحسن بن علي بن أبي طالب القرشي الهاشمي العلوي.(1) ولد في مدينة (نيف) من أعمال جيلان,(2) سنة سبعين أو أحدى وسبعين وأربعمائة للهجرة, في بيت كريم من بيوتات الأشراف اشتهر أهله بالتقوى والورع والصلاح, وكان والده ووالدته يعدان من الزهاد في بلدهم, أٌمه, أم الخير, أمة الجبار, فاطمة بنت أبي عبد الله الصومعي الزاهد, كان لها حظ وافر من الخير والصلاح. توفي أبوه بعد ولادته بقليل , فكفله جده لأمه, وهو السيد عبد الله الصومعي, وكان الصغير عبد القادر ينسب أليه عندما كان بجيلان, إذ يقال: سبط عبد الله الصومعي.(3) ويبدو أن الشيخ عبد القادر إستقى كثيرا من خصال هذه العائلة وصفاتها وهي التي اشتهر أكثر أفرادها بالورع والتقوى والصلاح, وكان لذلك كله فيما بعد, الأثر الواضح في توجهه الصوفي الذي لم يلجمه لا دراسته الفقهية الصارمة, ولا مذهبه الحنبلي المتشدد.(1)
    شب الفتى عبد القادر, على حب العلم وتحصيله, فما إن بلغ الثامنة عشرة من عمره, حتى استأذن أهله في الذهاب إلى بغداد,(2) قبلة العلماء آنذاك ومقصد الطلاب بكل أصنافهم, فدخلها في سنة ثمان وثمانين وأربعمائة للهجرة, زمن الخليفة العباسي المستظهر بالله, وهي السنة نفسها التي ترك فيها أبو حامد الغزالي (450 – 505 هـ ), التدريس في المدرسة النظامية في بغداد, مسافرا إلى الشام طلبا للعزلة, وكأن دخول الشيخ عبد القادر إلى بغداد, جاء ليسد الثغرة التي كاد يخليها الإمام الغزالي, وسنرى فيما يأتي من الصفحات, كيف أن الشيخ عبد القادر, تبنى وبتوسع ملحوظ, الدور الإصلاحي نفسه الذي تبناه الغزالي من قبل.

    كان الفقه هو أول العلوم التي سعى إليها الشيخ عبد القادر إلى تحصيلها, يقينا منه بأن الفقه هو الأساس المتين الذي تشيد عليه بقية العلوم قلاعها, ولكنه وجد أن الحالة المتردية التي وصل إليها الناس, والتدهور الاجتماعي الذي عمهم, صار لا ينفع معه, حلا وعلاجا, الاعتماد على الفقه وحده, لذلك فأنه حاول أن يدمج, في إتحاد عضوي, بين الفقه والتصوف, ويثبت في الوقت نفسه إن هذا الدمج, هو في حقيقته, الحالة الطبيعية للدين الإسلامي في باكورة أمره, وإن الفصل الذي حدث بعد ذلك, كان سببا في حدوث الكثير من الإنحرافات والأخطاء التي شملت الفقهاء والصوفية والناس عامة, وهذا الدمج, هو بالتحديد, ما سيتخذه الشيخ عبد القادر, منهجا فكريا وعمليا لنفسه ولطريقته الصوفية, وثم يعلمه لتلامذته ومريديه, وهؤلاء بدورهم, سينقلونه عن طريق الوعظ والإرشاد, ونشر الطريقة عبر الآفاق, جيلا بعد جيل, إلى يومنا الحاضر.
    إضافة إلى الفقه، فقد تبحر الشيخ عبد القادر بعلم الأصول والفروع والخلاف والأدب, وسمع الحديث ورواه, حتى عد من رجاله, وإشتغل بالوعظ إلى أن برز فيه,(1) ثم لازم بعد ذلك الخلوة والإنقطاع عن الناس والرياضة والسياحة والمجاهدات الصعبة وتحمل الأحوال الشاقة والدخول في الأمور العسيرة من مخالفة النفس وملازمة السهر والجوع.(2)

    وأما اشهر شيوخه, فكان منهم: في المذاهب والخلاف والفروع والأصول, أبو الوفا علي بن عقيل الحنبلي وأبو الخطاب محفوظ الكلوذاني وأبو الحسن محمد بن القاضي أبو يعلى محمد بن الحسن بن محمد الفراء والقاضي أبو سعيد المبارك بن علي ألمخرمي وأما في الأدب فقد تتلمذ على يدي أبي زكريا يحيى بن علي التبريزي وفي الحديث سمع من أبي غالب محمد بن الحسن الباقلاني وأبي سعيد محمد بن عبد الكريم خُشيشا وأبي الغنائم محمد بن محمد أبن علي بن ميمون ألفرسي وأبي بكر أحمد بن المظفر وأبي جعفر بن أحمد بن الحسين القارئ السراج وأبي القاسم علي بن أحمد بن بنان الكرخي وأبي طالب عبد القادر بن يوسف وأبي البركات هبة الله بن المبارك وأبي الغر محمد بن المختار.

    دام تحصيل الشيخ عبد القادر للعلوم والتمرس بالمجاهدات والانقطاع إلى الله تعالى, مدة من الزمن, جاوزت الثلاثين عاما, إتصل خلالها, بأكابر شيوخ عصره ومشاهير علمائه.(3) ومن أبرز هؤلاء الشيوخ, شيخين كبيرين, كان لهما تأثير كبير في شخصيته سواءً على الصعيد الفكري النظري أم السلوك الصوفي, وهما: الشيخ العارف حماد بن مسلم الدباس (ت-525 هـ )(4) والشيخ أبو سعيد ألمخرمي (446 – 513 هـ ).(5) أما الأول فقد صحبه الشيخ عبد القادر مدة طويلة, وأخذ عنه علوم الطريقة وتأدب وسلك على يديه, وقد ظل الشيخ عبد القادر يذكره ويذكر علمه وفضله حتى بعد إشتهار أمره بين الناس. وأما الثاني فهو الذي عنه أخذ الشيخ عبد القادر الخرقة (المرقعة)(1) وهو الشيخ الصوفي الذي جمع بين العلم والعمل والفقيه الحنبلي الذي أفتى ودرس ووعظ سنين طويلة, أبو سعيد ألمخرمي, الذي شكلت صحبته إنعطافة واضحة في حياة الشيخ عبد القادر بجميع أبعادها. والذي كان لمدرسته, وهي مدرسة علمية تقع في باب الأُزج في بغداد، أثرها الواضح أيضا في الشيخ عبد القادر، إذ دخلها تلميذا في بادئ الأمر, ثم شيخا معلما بعد ذلك، ثم آل أمرها إليه بعد وفاة الشيخ (ألمخرمي)، فتصدر فيها للتدريس والإفتاء، وذلك بعد أن ناهز الخمسين من عمره، وقد ضاقت هذه المدرسة بالناس(2) في حياة الشيخ عبد القادر ومن كثرة إقبالهم عليها تضاعفت أعداد طلاب العلم والوعظ والمقيمين من الفقراء.(3) فعمل الشيخ عبد القادر على توسيع بنائها فتم له ذلك على نفقة الأهالي وجهودهم، وقد أنتهى العمل بها في سنة(528هـ) فكانت من أعظم الصروح العلمية في بغداد, يدخلها التلاميذ ويتلقون فيها العلوم كافة, وأما من يريد منهم الإقامة والمرابطة فيمكنه أن ينام ويأكل فيها. ولقد كانت هذه المدرسة سببا مباشرا في إنتشار دعوة الشيخ ومبادئه ومواعظه في أقطار عديدة من العالم الإسلامي.(1)سميت هذه المدرسة فيما بعد بمدرسة الشيخ عبد القادر، وفيها تم دفنه بعد ذلك، وهي تقع الآن ضمن الحضرة الكيلانية الكائنة في بغداد. أما بعد وفاته فأن أولاده لم يتخلوا عن هذه المدرسة بل ظلوا يدرسون فيها بالتعاقب فقد درس أبنه الشيخ عبد الجبار حتى توفي سنة (575 هـ ) وأبنه الشيخ إبراهيم حتى توفي سنة(590 هـ ) وكذلك أبنه الشيخ عبد الوهاب حتى توفي سنة (593 هـ ) وأخيرا أبنه الشيخ عبد الرزاق حتى توفي سنة (603 هـ ) ثم جاء بعد ذلك دور الأحفاد، إذ درس فيها الشيخ عبد السلام بن الشيخ عبد الوهاب والشيخ نصر قاضي القضاة بن الشيخ عبد الرزاق. وقد شيد في هذه المدرسة جامعا للصلاة كان مشهورا بأسم (الجامع ذي القباب السبع) وعندما أجتاح جيش هولاكو بغداد سنة(656 هـ ) قتلوا كثيرا من أفراد العائلة الكيلانية وهدموا المدرسة والجامع، ثم أعيد بناؤهما بعد ذلك.(2)
    لقد أقام الشيخ عبد القادر في مدرسته، متصدرا للتدريس والفتوى والوعظ والأرشاد، حتى فاق أهل عصره في علوم الدين، ووقع له القبول التام مع القدم الراسخ في المجاهدة وقطع دواعي الهوى والنفس, ويذكر المؤرخون أن الله تعالى نفع به كثيرا من الخلق، فقد تاب على يديه العديد من أهل الضلالة وأسلم على يديه الكثير من اليهود والنصارى.(3) ومما يذكر عنه أنه كان صاحب حال ومقال،(4) وكان عالما عاملا، إماما لأهل الطريقة وقدوة للمشايخ في زمانه دون مدافع ومناقبه وكراماته وشهرته أشهر من أن تذكر. وكان أيضا قطبا في الإرشاد والتذكير وله في ذلك مصنفات وأمالي، وأوثر عنه إنه كان محققا – أي عالما بعلم الحقيقة – صاحب لسان في التحقيق وبيان في الطريق، وله كذلك نظم فائق وأشعار رائقة يغلب عليها طابع الوجد الصوفي.(1) وهو أحد المشايخ الذين عم ذكرهم في مشرق العالم الإسلامي ومغربه.
    دام عمر الشيخ عبد القادر إحدى وتسعين سنة، قضى منها ثلاث وسبعون سنة في بغداد وعاصر خلالها خمسة من الخلفاء العباسيين.(2) أما مدة وعظه وأرشاده فقد ناهزت الأربعين عاما، كان أولها سنة أحدى وعشرين وخمسمائة وآخرها سنة أحدى وستين وخمسمائة. وأما مدة تصدره التدريس والفتوى فقد بلغت ثلاثا وثلاثين سنة.
    توفي الشيخ عبد القادر سنة أحدى وستين وخمسمائة،(3) ودفن في بغداد في رواق مدرسته ليلا تجنبا لازدحام الناس، ولما أنتشر الخبر في اليوم التالي، أحتشد معظم أهل بغداد في باب الأزج لتوديعه ومازال قبره إلى الآن ظاهرا يقصده الناس من مختلف أرجاء المعمورة للزيارة والتبرك.(4)
    رزق الشيخ عبد القادر، خلال عمره الطويل بعدد غير قليل من الأولاد، وقد تربى معظمهم تربية علمية ودينية، حتى أن كثيرا منهم كانوا يعدون أئمة في الفقه والحديث والتصوف، أما بعد وفاة أبيهم فأن كثيرا منهم ساحوا في البلاد الإسلامية وسكنوها، حاملين معهم رسالة أبيهم الإصلاحية وقد كان لهذه السياحة الفضل في انتشار ذرية الشيخ عبد القادر، هذا الانتشار الملحوظ في الكثير من بلدان العالم الإسلامي حتى الوقت الحاضر.(5)
    قضى الشيخ عبد القادر عمره داعيا إلى منهج الحق مرشدا وهاديا آمرا بالمعروف وناهيا عن المنكر, مناديا إلى الخير، وتلك رسالة حمل أعباءها وأحس وطأتها على كاهله منذ باكورة حياته لذلك نراه يتحمل المشاق الصعبة في إعداد نفسه, ذلك الإعداد الفطري الذي أستلهمه أكثر الدعاة المصلحين من أعماق أنفسهم، ((لقد عمل الشيخ عبد القادر على أن يميت نفسه الأمارة بالسوء وبالمقابل يحيي في داخله الروح الصافية)).(1) تلك الروح التي نذرها لله عز وجل مترددا ومتحيرا ومخاطبا ربه: ((يارب كيف أهدي لك الروح وقد صح بالبرهان أن الكل لك)).(2) لقد كان جل ما يتمناه على ربه ويطلبه هو أن يموت موتا لا حياة فيه ويحيى حياة لا موت فيها، فأما الموت الذي لا حياة فيه فهو موت النفس عن الرغبة في أستجلاب النفع ودفع الضر من الخلق وكذلك عدم رؤيتهم في القدرة والفعل وهو أيضا الموت عن الهوى والإرادة والمنى والدنيا والأخرى، وأما الحياة التي لا موت فيها، فهي حياة الروح بربها تعالى وحياة الإرادة بلا حظ للنفس وحياة الوجود الخالص لله تعالى وهذه الحياة عنده هي الحياة الحقيقية التي لا يتطرق أليها الفناء لأن ما يوجد بالله فهو باق بالله.(3)

    تذكر الكتب التي أرخت لسيرة الشيخ عبد القادر، أنه كان قبل إشتهار أمره بين الناس في بغداد كثير المجاهدات، كثير الإقبال على الرياضات الصوفية مهما بلغت درجة قسوتها. فقد أجاع نفسه وأظمأها وسهرها كثيرا وكان لا يجد طريقا من طرق التأديب الذاتي إلا ولازمه وأعتنقه، ويذكر عنه أنه مرت عليه ليال طوال لم يذق فيها طعما لنوم أو طعام فأن أضطرته الحاجة إلى الأقتيات فأنه يقتات من حواشي الأنهار. أما سكنه فكان في البراري والخرب، حتى عرف بين الناس بالمجنون، وربما كانت تحدثه نفسه بعد أن يأخذ منها التعب مأخذا، أن يترك ما بدأ به، ولكنه ما يلبث أن يعود عن عزمه من أجل إكمال الطريق وجني ثمراته.(4)
    لقد ناهزت مدة سياحة الشيخ عبد القادر وتجرده, خمسا وعشرين سنة لم يكن يختلط فيها بأحد من الناس ولم يعرفه فيها أحد. وقد أفادته هذه المدة القلقة من حياته كثيرا, في ترسيخ إعتقاده: بأن علوم الفقه والشريعة وحدها, لا تنفع في تخليص الروح وتصفيتها بل لابد أن يصاحبها علم السلوك والصحبة والمجاهدات, فيدمج الاثنان معا في نسيج واحد متكامل من غير إفراط ولا تفريط (1)وقد أفادته هذه المدة أيضا في أنها وجهته في تقطيع (المصائد والأشراك) التي كانت تحيط بنفسه, وهي مصائد الدنيا وأشراك الخلق وكذلك وجهته نحو علائق قلبه الكثيرة كي يقطعها وكذلك هواه وشيطانه وكما يروي الشيخ عبد القادر عن نفسه, فأنه بعد أن تخلص من كل ذلك صار كأنه وحده والوجود كله من ورائه, ولكن ذلك لم يكن كافيا في وصوله إلى مطلوبه, فابتدأ بالمرحلة الثانية وهي مرحلة المقامات, فأجتاز كل أبوابها وهي باب التوكل وباب الغنى وباب الشكر وباب القرب وباب المشاهدة, وكان على جميع هذه الأبواب زحمة من الرجال إلا الباب الأخير وهو باب الفقر,فقد كان خاليا إلا من قلة, بينها هو قد أشتمل على الكنز الأكبر والعز الأعظم والغنى السرمد والحرية الخالصة. وعند هذا المقام الأخير نسخت الصفات وجاء الوجود الثاني.(2) أي الوجود الحر الذي لا تخترقه النقائص. إن هذه (الرواية) تعد بحق سيرة ذاتية لسالك صوفي, جسد فيها المراحل الروحية التي مر بها, والتي كان أولها, وهو الأهم, إرادة الإنسان تغيير ذاته ورفضه للخضوع لأي نوع من أنواع الضغوطات, سواء أكانت هذه الضغوطات نابعة من داخله أم من خارجه.

    إما عن صفات الشيخ عبد القادر, فيروى أنه كان بادي الوضاءة, دائم البشر كثير البهاء, شديد الحياء, يكرم الجليس ويباسطه, ومارأت العين أنزه لسانا ولا أظهر لفظا منه. وكان سخي الكف يجالس الضعفاء ويعود المرضى ويصبر على طلبة العلم، ولا يظن جليسه أن أحدا أكرم عليه منه، وكان شديد الخشية لله تعالى تقيا سريع الدمعة كثير الهيبة مجاب الدعوة, كريم الأخلاق طيب الأعراق أبعد الناس عن الفحش, أقرب الناس إلى الحق, شديد البأس إذا ما انتهكت محارم الله عز وجل لا يغضب لنفسه ولا ينتصر لغير ربه, ولا يرد سائله ولو بأحد ثوبيه. وكان يتخذ من العلم مهذبا ومن القرب مؤدبا, وكانت المحاضرة كنزه والعلم حرزه والخطاب مشيره والصدق رايته والفتح بضاعته والحلم صناعته والذكر وزيره والفكر سميره والمكاشفة غذاءه والمشاهدة شفاءه وآداب الشريعة ظاهره وأوصاف الحقيقة سرائره.(3) ويذكر الإمام زين الدين السائح نقلا عن الشيخ أبي المظفر الواسطي, وهو من معاصري الشيخ عبد القادر, أنه مع شدة تواضعه للفقير تودده للصغير ما تضعضع لأحد من العظماء والأعيان ولا ألمَّ بباب وزير قط ولا سلطان.(1) وكان يلبس لباس العلماء ويتطيلس ويركب البغلة وإذا مر إلى الجامع يوم الجمعة وقف الناس في الأسواق, يسألون الله تعالى به حوائجهم, وكان ذا هيبة ظاهرة ووقار ملحوظ, وكان من عباداته التي ظل ملازما لها حتى نهاية حياته, أنه يصلي الصبح بوضوء العشاء, فإذا صلى العشاء دخل خلوته, فلا يدخلها أحد معه ولايخرج منها إلا عند طلوع الفجر, وكان كثير الصلاة في الليل كثير تلاوة القرآن.(2)

    لقد تمتع الشيخ عبد القادر, في حياته, بمكانة اجتماعية ودينية فائقة, إذ عُد القطب الأوحد وفرد العصر, بأعتراف وإجماع علماء زمانه, وقد فاق أهل وقته في علوم الديانة ووقع له القبول التام من الناس وأعتقدوا بصلاحه وإنتفعوا به وبكلامه ووعظه وأشتهرت أحواله وأقواله ومكاشفاته حتى عرف بين تلامذته ومريديه أنه كان يتكلم على الخواطر. وكان يهابه كل من يراه, حتى الملوك ومن هم دونهم, وقد تلمذ له أكثر الفقهاء في زمانه, ولبس منه الخرقة كبار المشايخ, وكان من الشيوخ من يأتي مدرسته ليقوم بكنس بابها ورشها بالماء, تعظيما لصاحبها وإجلالا لرفعة قدره وكان الشيوخ لا يدخلون عليه إلا بأذن منه.(3) وكان من بين أشهر هؤلاء – المعاصرين له أو ممن تتلمذوا على يديه أو صاحبوه أو كانوا من مقربيه, والذين كانوا جميعهم آخذين بالمنهج الصوفي نفسه الذي وضعه الشيخ عبد القادر, وهو الدمج التكافلي والتكاملي بين جناحي الشريعة والحقيقة وهو ما شكل حاجة ماسة لذلك العصر الذي أعتورته الانقسامات والفتن الطائفية – الشيخ أبو يعقوب يوسف بن أيوب الهمداني (ت 535 هـ ) الذي ألتقى به الشيخ عبد القادر, قبل أن يشتهر أمره، والشيخ عدي بن مسافر الأموي (ت 508 هـ ) والشيخ علي بن الهيتي (ت 564 هـ ) والشيخ بقا بن بطو (ت 553 هـ ) والشيخ أبو سعيد القيلوي (ت 557 هـ ) والشيخ مطر الباذراني (ت 550 هـ ) والشيخ ماجد الكردي (ت 561 هـ ) والشيخ حياة بن قيس الحراني (ت 581 هـ ) والشيخ قضيب البان الموصلي (ت 570 هـ ).
    ومما يذكر عن الشيخ عبد القادر, أنه كان يكفي طالب العلم عن قصد غيره, من كثرة ما أجتمع فيه من العلوم والصبر على المشتغلين وسعة الصدر, وكان ملء العين, وقد جمع الله تعالى فيه أوصافا جميلة وأحوالا غزيرة, وكما يقول صاحب البهجة: (( وما رأيت بعده مثله وكل الصيد في جوف الفرا ))(1) أما عن كرامات الشيخ عبد القادر, والتي كتب عنها الكثير, فأنها - كما قيل – تخرج عن الحد وتفوق الحصر والعد,(2 ) بحيث أنه لم ينقل عن شيخ صوفي أو يروى هذا القدر من الأخبار, ولاندري هل يكمن السبب في طبيعة العصر الذي عاش فيه الشيخ عبد القادر, أم في طبيعة الناس المعاصرين له أو الذين جاءوا من بعده وطبيعة وضعهم الأجتماعي, أم يكمن السبب في شخصيته المتميزة. على أن محاولة فهم السبب الذي يقف وراء هذا (الأندفاع) لا يعني التقليل من شان تلك الكرامات أو إلغاء وجودها، فألكرامات ( لديها ) ما يكفي من الأدلة والبراهين الشرعية والتاريخية لا بل حتى العينية، هذا إضافةً إلى أنها متصلة بالتصوف إتصال الصنو بالصنو، وإنما السؤال يكمن فقط في السبب الذي من اجله يتم التركيز أحيانا على كرامات الصوفي وأحياناً اخرى على دعوته الإصلاحية ومنهجه الصوفي، وفي الخلاصة يمكن القول: إن موضوع كرامات الشيخ عبد القادر، هو من الأهمية، بحيث أن يمكن إن يدرس في بحث مستقل، هو ضرورةُ يقع خارج نطاق حقلنا المعرفي. وهو موضوع ثري بحيث يمكن القول إن أسم الشيخ عبد القادر، قد إقترن، في أكثر المصادر القديمة، بذكر كراماته، هذا إضافة إلى انه قد أقر بظهور الكرامات على يديه، أكثر الفقهاء تزمتاً، أما قدماء المؤرخين، فأنهم أجمعوا على أن كراماته دون غيره، قد وردت اليهم بالتواتر.


    عصره :

    إذا صح القول ، إن كل مفكر أو اديب أو فنان ، يمثل بوجه من الوجوه، انعكاساً لعصره وثمرة طبيعية من ثماره ، فأن ذلك ينطبق تماماً على علاقة الشيخ عبد القادر بعصره . فلقد كانت رسالته الاصلاحية ومنهجه التوفيقي ، يمثلان طروحاته تجاه مشكلات عصره المتفاقمة وتجاه طموحات معاصريه الراغبين في الاصلاح.

    يتوزع عصر الشيخ عبد القادر، على قرنين من الزمان، وهما القرنان الخامس والسادس الهجريان، وان ما يميز هذا العصر ، هو كونه عمله ذات وجهين : اولهما وجه مشرق اسهم في اشراقة ازدهار العلوم والاداب ورواج بضاعتيهما، وقد نبغ فيه علماء كبار ومؤلفون بارعون .(1) وكانت بغداد هي قطب الرحى في هذا الامر، اذ إمتازت، من غيرها من المدن ، بكثرة مدارسها العلمية الجامعة، وكثرة حلقاتها الدراسية ومجالس وعظها . وقد تبارى اكثر خلفاء بغداد ووزرائها في حبهم للعلم واجلالهم للعلماء ، وانفاقهم ووقفهم للاوقاف عليهم،هذا إضافة إلى حضور مجالسهم(2) وكان لذلك كله الاثر الكبير في تعزيز مكانة العلماء بين الناس، بحيث إن هؤلاء كانوا يدفعون ببنيهم نحو العلم والتعليم ، من اجل أن ينالوا من وراء ذلك شرفاً أو جاهاً او حتى مالاً.
    اما الوجه الاخر ، فلقد ساءه ضعف الواعز الديني بين الناس ، وغياب العدالة الاجتماعية واقبال الناس وتكالبهم على الشهوات وسيادة منطق الغلبة والانانية ، وإدبار الناس عن الاخرة، وما يرافق ذلك من فساد في الاخلاق وانحطاطٍ في القيم (3) وهذه كلها يمكن عدهّا نتائج عرضية أفرزتها الأحوال السياسية المضطربة التي سادت أنظمة الدويلات آنذاك ، ففي بغداد على سبيل المثال، كان الطابع العام هو ضعف الخلافة العباسية الذي يصل إلى حدّ العجز والتقوقع، وتسلط سلاطين بني سلجوق ، وكان الصراع قائماً ومستمراً بين الخلفاء من جهة والسلاطين الذين كانوا يحرصون على بسط نفوذهم وسيطرتهم على الدولة وعلى نيابة الخليفة ، برضا منه وموافقة مرة واباء وكراهية منه في اخرى ، وربما كانت تقع معركة بين جيش الخليفة وجيش السلطان ، فيتقاتل المسلمون ويلحق ذلك ما يلحقه من تعرض اهل بغداد للاذى ونهب الجنود واستغلال العيـّارين(1)
    الفرصة في نهب المحلات التجارية والبيوت، كما حدث مثلاً في المعركة التي جرت بين السلطان السلجوقي مسعود ، سلطان الموصل، والخليفة العباسي المسترشد بالله، إذ دارت الدائرة على الخليفة ، وانكسرت جيوشه امام جيوش السلطان وذلك في رمضان سنة (529هـ) ، فأسره السلطان مسعود، ووضعه في خيمة في معسكره ، فضجت العامة في بغداد والولايات لأسر الخليفة، حتى خضع السلطان ، ولكن أحد الاسماعيلية أستغل وجود الخليفة في الخيمة دون حراسة فدخل عليه وقتله ، ثم تجددت الحرب بين مسعود والراشد بالله ثم بينه وبين المقتضي لآمر الله.(2)

    ولم يقف الامر عند الاختلافات والنزاعات بين امراء المسلمين فقط ، بل ان هموم الامة الاسلامية كانت في تلك المدة ، متوزعة بين مخاطر داخلية وخارجية جمة ، فاما في الداخل ، فان تفشي وباء الطوائف والفرق الباطنية وبخاصة ، اصحاب ( قلعة الموت ) ، كانت قد شكلت سمة بارزة من سمات تلك المدة ، فقد تغلغل نفوذ هذه الفرق ونشطت مؤامراتها السرية ، بحيث استطاعت ان تقضي على عدد كبير من امراء المسلمين وقادتهم ، ممن كانوا يقفون في طريقهم ، او من الذين سعوا الى الاصلاح والى تغير الوضع القائم . والى جانب هذا الوباء يوجد وباء اخر لا يقل عنه خطورة ، واعني به وباء الخلافات والتعصبات والخصومات المذهبية ، التي كانت تصل في بعض الاحيان ، الى حد القتل والسلب والنهب ونبش القبور ، كما كان يحدث مثلاً بين الحنابلة والحنفية من اجل تفسير اية من القران الكريم ، وكذلك بين الحنابلة والشافعية من اجل الجهر او الاخفاء بالبسملة في الصلاة الجهرية .(3) ولا يخفى ما يقف وراء ذلك ويذكيه ، من انحراف بعض رجال الدين وتعصبهم الاعمى ، واهتمامهم بمصالحهم الذاتية ، التي تنتعش حتماً وسط تلك الاجواء . وسنرى فيما بعد كيف ان الشيخ عبد القادر ، سيعمل على جعل هذه السلبيات هدفاً لسهام نقده وموضوعاً رئيسياً من موضوعات وعظه وارشاده .
    أما المخاطر الخارجية ، فكان من اشرسها وأشدها وطاة على الامة الاسلامية ، هو الاحتلال الصليبي للاراضي الاسلامية المقدسة فقد اطاح الصليبيون اولاً بملك السلاجقة في اسيا الصغرى واستولوا على عاصمتهم ( نيقية ) ، ثم انحدروا بعد ذلك الى بلاد الشام ، فهددوا مدينتي حلب ودمشق، تهديداً بالغاً ، حتى اضطر اهلها الى الدخول في طاعة الصليبين واداء الجزية لهم ، ثم تزايدت هجمات الصليبين بعد ذلك ، حتى سيطروا على اراضي واسعة من بلاد المسلمين واستولوا عام ( 491 هـ) على انطاكية وفي عام ( 492 هـ ) على بيت المقدس . وكانوا كلما دخلوا مدينة او قرية ، اقترفوا المذابح الوحشية واعملوا السيف في السكان ، وخاضت خيولهم بدماء الضحايا من الرجال والنساء والأطفال (1) وكل هذه المخاطر والاهوال ،كانت تحدث ، تحت أنظار ومسامع أمراء المسلمين وخلفائهم الذين تفشى فيهم العجز والوهن وتشتت القلوب وسوء ظن بعضهم ببعض .(2)

    في وسط هذا ( الوسط ) المحتقن بالاوبئة الاجتماعية والحوادث الجسيمة ، عاش الشيخ عبد القادر مكابداً من ذلك الامرين ، ولكنه وبدافع من رسالته الاصلاحية ووازعه التربوي، أجتهد من اجل تشخيص تلك الامراض وتحديد اسبابها ، ومن ثم العمل على اجتثاثها وتخليص المجتمع الاسلامي منها ، كي يعود إلى بعض نضارته الاولى وعافيته التي صارت جزءً من ذاكرة الماضي ، وهذه على وجه التحديد ، هي الرسالة التي نذر نفسه للعمل من اجلها ، مبتدئاً بأيقاظ آهل زمانه وتنبيههم على أن زمانهم الذي هم فيه ,ما هو في حقيقته ، الا زمان رياء ونفاق وأخذ الاموال بغير حق وهو زمان كثر فيه المصلون والصائمون والحاجون بيت الله الحرام والمزكون والفاعلون افعال الخير كلها ، ولكن لاجل الخلق وليس لاجل الخالق لقد صار معظم الناس يتصرفون وكانهم بلا خالق . انهم موتى القلوب ، ولكنهم احياء النفوس والاهوية ، طالبون للدنيا والدينار ، متطلعون الى عطايا الملوك وهباتهم ومناصبهم ، ومعتقدون فيهم القدرة الحقيقية على النفع والضر من دون الله تعالى .(3)

    لقد صوب الشيخ عبد القادر ، سهام نقده ومطارق وعظه ، على شريحتين مهمتين من شرائح المجتمع الاسلامي وهما : رجال الدين ورجال الدولة ، ولا يحتاج المرء الى كثير من الجهد الذهني كي يتبين ما لهاتين الشريحتين من تاثير بالغ في تغير المجتمعات ، سواء نحو الصلاح او نحو نقيضه . اما علماء الدين فقد انتقد المنافقين منهم وفضح اعمالهم وحذرهم من الانصياع للحكام بما يخالف الشريعة ، وحذرهم ان لا يعظموا جبابرة الدنيا وفراعينها وملوكها ، وان لا يداهنوا اغنيائها، لان في ذلك شركاً بالله وحكمه حكم عبادة الاصنام(1) ان هؤلاء العلماء المتزلفين ، هم في الحقيقة خونة في العلم وخونة في العمل وخونة في الدين . وهم اعداء الله ورسوله ، وهم في الحقيقة أيضاً لصوص وقاطعو طريق يمنعون وصول العباد الى مولاهم . اما اقبح ما في هؤلاء العلماء في رأي الشيخ عبد القادر، فهو ان ظلمهم ونفاقهم ظاهران للعباد، ولكن ليس لهم حياء يدفعهم إلى ستره. ان هؤلاء العلماء في صحبتهم سلاطين السوء، هم شركائهم حتماً، لان من يساير سلطاناً جائراً، فانه سيسايره حتماً ويوافقه على كل ما يرضيه ولو كان فيه ظلم للعباد او مخالفة لاحكام الشرع ونصوصه ، لا بل ان هؤلاء الحكام قد يتطاولون على الناس بهؤلاء العلماء بما يوفرونه لهم من غطاء شرعي(2) . ولا ينســى الشيخ عبد القادر ، ان يقارن بين هؤلاء (العلماء) و علماء الاخرة الذين لم يبيعوا دينهم بدنياهم والذين لم ينــسوا حقيقة كونهم خدم وعون لعباد الله تعالى، وهم لا يرجون من وراء علمهم إلا إصلاح أنفسهم وإصــلاح الاخرين ونيل رضا ربهم عز وجل.

    واضــافة الى نقد علماء الشريعــة فان الشيخ عبد القادر لم يحــجم عن توسيع دائرة نقــده لكــي تشمل الحقل الصوفي ورجــاله، وما شــاب هذا الحــقل من انحــراف
    ((عن نهجه النبوي ومقصده الاسنى)) (3) . لقد نقد الشيخ عبد القادر نوازع التطرف والتحريف واللبس التي داخلت التصوف وحاولت ان تحيد به عن جادته الصحيحة. ان التصوف الحق علمٌ وعمل مقرونان بصدق النيات واخلاص الهمم، وهذا العلم حقله البواطن والسرائر دون العروض والمظاهر، ولذلك فانه لا ينال ((بتغيير الخرق وتصفير الوجوه وجمع الاكتاف ولقلقة اللسان بحكايات الصالحين وتحريك الاصابع بالتسبيح والتهليل، وانما يجيء بالصدق في طلب الحق عز وجل والزهد في الدنيا واخراج الخلق من القلب وتجرده عمّا سوى مولاه عز وجل ))(4) . التصوف اذن ، وهو الحقل الاثير لدى الشيخ عبد القادر ، لا يمكن للمرء ، ان يتزيا به على وفق هواه الشخصي لانه لا يعدّ كما يظن البعض، فسحة متروكة تقع خارج حمى الشريعة، إن نزعة الإصلاح التي جرأت الشيخ عبد القادر على مقارعة رجال الشريعة هي نفسها التي تحمله الان على تنقية ساحة التصوف وتطهيرها مما طرأ عليها من شبهات ، وسنرى فيما بعد ، كيف ان الشيخ عبد القادر سيتعامل مع الدين الاسلامي بكونه وحدة واحدة لا يمكن تشظيتها الى شريعة وحقيقة او ظاهر وباطن.(1)

    اما عن الخلفاء والوزراء والسلاطين والقضاة، فان الشيخ عبد القادر كان لا يتوانى عن صدعهم بالحق على رؤوس الاشهاد ومن المنابر وفي المحافل، وكان ينكر على الخلفاء توليتهم الظالمين في الوظائف العامة التي تخص قضايا الناس وحاجاتهم من دون ان تاخذهم في الله لومة لائم. فعلى سبيل المثال يذكر التادفي انه: (( لما ولي الخليفة المقتفي لامر الله ، القاضي ابا الوفاء، المشهور بأبن المزحِّم ، ديوان المظالم، وكان مشهوراً بظلمة الرعية، صعد الشيخ عبد القادر المنبر وكان الخليفة حاضراً خطبته، فخاطبه قائلاً : ولّيت على المسلمين أظلم الظالمين ، ما جوابك غداً عند ربِّ العالمين ارحم الراحمين . فأرتعد الخليفة وبكى وعزل القاضي المذكور لوقته))(2) . وقد تكررت هذه المواقف مع الوزراء والسلاطين والحجّاب ، وكان الجميع يصدعون بامره، لاعتقادهم الجازم بصلاحه وبعده عن مواطن الشبهات، وتذكر كتب التاريخ انه كان من بين القليلين من اهل عصره ممن لم يؤثر عنهم انهم ألمّوا بباب حاكم قط ، وتذكر أيضاً انه (( كان يرفض هداياهم ويوزع تبرعاتهم على الفقراء قبل أن تتناولها يده))(3).

    لقد شمرَّ الشيخ عبد القادر ساعد الجهد لتحذير اهل زمانه وتذكيرهم، سواء الملوك منهم او المماليك، الظالمون منهم او المظلومون ، المنافقون ام المخلصون، بان ((الدنيا الى امد والاخرة الى ابد))(4) وان عليهم ان لا ينغمسوا كل الانغماس في شهواتها ولذاتها وينسوا الاخرة فيظلموا انفسهم ويهلكوها. لقد إنشغل حكّام المسلمين بادارة املاكهم وجباية الاموال واخضاع رقاب الناس ونسوا الوظيفة الحقيقية التي انيطت بهم وهي : قيادة الناس نحو الخير والصلاح وحماية دينهم واوطانهم .

    ان الشعار الاساس الذي تبناه الشيخ عبد القادر هو :الامر بالمعروف والنهي عن المنكر والعمل على تقويم النفوس وتغيير مجاري أهوائها، لان تغيير ما بالنفوس، لا بد منه اولاً من اجل أي تغيير لاحق، فبعد ان تتقوم النفوس وتنصلح، فانه يمكن النظر عندها الى امراض المجتمع وخلافات اهله ومفاسدهم ومطامع علمائه وحبهم للدنيا والتصاقهم بها. فاذا ما صلح الناس وصلح علماؤهم، اضطر الملوك بعد ذلك الى الانصياع للحق وتحري الصواب في حكمهم وسياستهم للناس، فان اكتملت دائرة المجتمع وصحت وراق شكلها، صارت بعد ذلك قادرة على مواجهة أي خطر يهدد كيانها، سواء من خارج او داخل المجتمع، وتلك هي على وجه التحديد ، خلاصة الرسالة التي اضطلع الشيخ عبد القادر بحمل اعبائها، وبثها بين الناس، والتي كان من قبله الامام الغزالي (ت 505 هـ) قد دقَّ اوتادها وعمل على تثبيت اسسها من اجل التغيير والاصلاح والتجديد في التصوف بخاصة وفي الاسلام بعامة ، ولكن دعوة الغزالي لم يتح لها الزمن ان تجد الصدى الكافي والاثر المطلوب، وذلك لاعتزاله الناس في وقت مبكر من حياته القصيرة وايضاً لان دعوته الصوفية جاءت متاخرة نسبياً اذ انها شملت فقط الجزء الاخير من حياته.

    لقد كان العالم الأسلامي في حاجة ماسة الى ((داعٍ شعبي وشخصية روحية رفيعة أكثرأتصالاً بالناس)).(1) وهذا ماكان يتوفر تماماً في شخصية الشيخ عبد القادر الذي نقل عنه قوله المشهور: ((كل الطيور تقول ولا تفعل والباز يفعل ولا يقول))(2) ولا يخفى ما في هذا القول من تأكيد الشيخ عبد القادر وإهتمامه بالجانب العملي أكثر من الجانب النظري ،وهذه ميزة أخرى يمكن التفريق بها بين منهجي الغزالي والجيلاني .
    إن المكانة الرفيعة التي بلغها الشيخ عبد القادر ، والصوت المسموع الذي طالما أطاعه الناس ، لم يمتلكها الا بعد لأي وجهد بالغين رافقاه منذ باكورة حياته حتى منتهاها. فلقد عمل على تطويع نفسه أولاً، وقطع علائقها بالاخرين وبالاهواء وبالنوازع الرديئة، وكل ذلك من اجل ان يضرب للاخرين بنفسه مثلاً ، ويكون لهم قدوة حسنة في التجرد والزهد الصحيح الذي يساوي معه المرء بين الحجر والمدر، بين المماليك والملوك. لقد اصبح الشيخ عبد القادر، مع زهده ، لا يرجو نفعاً ولا يخشى ضراً إلا من الله تعالى، ولا يخاف من أحدٍ غيره، حتى أنه زهد فيما بأيدي الناس فهابه الناس، وزهد في ما في الدنيا فأطاعه الخلق. لقد ألقى الله عز وجل في قلبه نصح الخلق وجعله اكبر همِّه ، وكان ينصح من غير ان يريد منهم جزاءاً ولسان حاله يقول : (( ما أنا بطالب دنيا وما أنا عبد الدنيا ولا الآخرة ولا سوى الحق عزّ وجلّ ، فرحي بفلاحكم وغمِّي لهلاككم، إذا رأيت وجه مريد صادق قد افلح على يدي ! شبعت وارتويت واكتسيت وفرحت كيف خرج من تحت يدي !))(1) اذن فهو كان يعي تماماً، دوره الإصلاحي والتربوي ، فلقد عمل على تغيير نفسه اولاً كي يصدق كلامه مع الناس ويقوى تأثيره فيهم، وهذا هو أحد أهم أسرار قوة تاثير الشيخ الصوفي في مريديه. فالشيخ الذي قطع مفاوز الطريق وكابد أهواله ، هو حتماً أقدر على تاديب مريديه من الشيخ المتحدث بمقولة غيره او الناقل لتجاربهم.

    من بين جميع العلوم التي أتتقنها الشيخ عبد القادر، فأنه آثر التصوف ومنهجه، وسيلة إصلاح وتقويم للمجتمع الاسلامي، لما لهذا المنهج من اثر فعّال في معالجة الأمراض النفسية والاجتماعية ومحاربة الأفكار الضالة التي أثقلت كاهل الأمة. فكان لذلك ما كان من اثر في توحيد المجتمع وإصلاح الناس حكاماً ومحكومين، وهو ما تجلى بوضوح في وحدة صف المسلمين لصدّ هجمات الصليبيين وعزمهم على إفشال حملتهم. وتذكر كتب التاريخ ان الصلة التي توثقت بين الشيخ عبد القادر والقائد نور الدين زنكي، حدت بهذا الاخير الى ان يرسل الى بغداد مجاميع كثيرة من الشباب الفارين من الغزو الصليبي من اهل بلاد الشام، لاجل ان يلتحقوا بمدرسة الشيخ عبد القادر، إذ يتم تدريسهم واعدادهم قبل إعادتهم الى بلادهم، لاجل ان يكونوا دعاة ومرشدين ومقاتلين في المواجهة الدائرة تحت القيادة الزنكية، وقد اشتهر من بين هؤلاء الكثير من المصلحين والساسة، من امثال: ابن نجا الواعظ الذي أصبح مستشاراً للقائد صلاح الدين الايوبي، والحافظ الرهاوي وموفق الدين بن قدامة صاحب كتاب (المغني) وقريبه الحافظ عبد الغني.(2)
    اضافة الى هذا (الصنف) من التلاميذ ، فان مدرسة الشيخ عبد القادر قد اشتملت على تلامذة آخرين جاءوها من بقاع مختلفة من البلاد الإسلامية، ثم عادوا بعد ذلك الى اوطانهم دعاة ومرشدين، وقد ساعد هؤلاء الدعاة كثيبراً على نشر الاسلام من خلال الطريقة القادرية، في بقاع مختلفة وقصية من العالم، كانت الجيوش قد عجزت عن الوصول اليها ، كبعض أطراف الصين والهند وبلاد القوقاز واواسط افريقيا. إضافة الى انه قد اسلم على ايدي هؤلاء الدعاة الكثير من الزنوج والبوذيين وغيرهم.

    لقد نجم من اثر دعوة الشيخ عبد القادر ورسالته الاصلاحية، ومن ثم ، دعوة تلامذته ومرديه في الامصار البعيدة، ان ظهر على مرّ التاريخ الاسلامي ، دعاة مخلصون ، ساروا على نهج معلمهم (الاول ) وسيرته في تهذيب النفوس ومجاهدتها وكبح الشهوات والاخلاص للدعوة لدين الاسلام الصحيح وايقاظ الناس من غفلاتهم وكان لهؤلاء الدعاة الاثر الكبير ، خصوصاً في القرن السابع الهجري ، ابان غزو التتار لبلاد المسلمين وتخريبهم لها ، وياس المسلمين من الخلاص منهم ، فقد عمد هؤلاء ( الدعاة ) من اتباع الطريقة القادرية، على التغلغل بين صفوف التتار ، واخذوا يحببونهم بالاسلام واهله ، حتى استجابوا لهم واصاروا يدخلون في دين الاسلام شيئاً فشيئاً ، ثم صاروا بعد ذلك من المدافعين عن الاسلام ،وكان منهم الفقهاء والزهاد والمجاهدون .(1)


    لقد استطاع الشيخ عبد القادر، ومن خلال دوره الاصلاحي الذي اضطلع به ، ان يعيد الى المجتمع الاسلامي ، انذاك ، بعض تماسكه المفقود ووحدته المهلهلة، واستطاع ايضاً أن يوقظ في نفوس معاصريه، ما كان قد خمد فيها من تطلع نوراني ورقي روحي وتصعيد خلقي، بعد ان كانت قد ركدت واستانست بحياة الدعة والرخاء والتنعم والاستغراق المفرط في الشهوات واللذائذ. وكان من اهم ثمار هذا الاصلاح، هو الجهد البالغ الذي اعاد التصوف الاسلامي الى سيرته الأُلى، بعد ان كادت تعصف به رياح الانحراف والتضليل ، فتجعله مثلبةً في الدين وهدفاً سهلاً لسهام الفقهاء وانتقاداتهم.(2)
    لقد اعاد الشيخ عبد القادر الى التصوف الاسلامي هيبته الاولى ، بان نبه الناس على الدور الحقيقي الذي يمكن ان يؤديه في حياتهم ، بكونه المقصد الاسنى من الشريعة، والفهم الصحيح لكتاب الله عز وجل وسنة نبيه (r) . لقد صار التصوف ، في كنف الشيخ عبد القادر ، طموحاً دينياً ، يتبارى في نيله، حتى الفقهاء انفسهم، وهو من قبلهم، لقد جعل نفسه قدوة في هذا الشأن فهو الفقيه الصوفي والعالم الزاهد والمعلم الرباني، وطبيب النفوس الذي ظلَّ مخلصاً ، طوال مدة دعوته، في التمسك بالشرع وعدم المروق عنه ، والالتزام بسنّة من تقدم من الصالحين لانهم ((هم الادلاّء والمفاتيح التي تفتح ابواب الوصول الى الله تعالى))(1). وهو وصول القلوب والاسرار والمعاني، كما يحب ان يؤكد ذلك دائماً لمؤيديه حتى لا يساء فهمهم . لذلك فاننا نرى ان اول خطوة تربوية في منهج الشيخ عبد القادر الصوفي، كانت هي التفقه في الدين. التفقه اولاً ثم يأتي بعد ذلك كل خير وصلاح وعلم وحكمة وادب.
    ان احساس الشيخ عبد القادر المبكر، بدوره كداعية ومصلح اجتماعي ، جعله يتوجه توجهاً منهجياً في طريقة تناوله للعلوم التي درسها ومن ثمَّ درّسها لتلامذته وكذلك في اسلوب خطابه مع الناس وفي طبيعة تعاملة مع مشكلات عصره المستعصية والاشكالات الفكرية التي كانت تشغل الناس عن الاحساس بالخطر الحقيقي المحدق بهم، فبلادهم التي يتربص بها الصليبيون ويعشعشون في مقدساتها من جهة ، والتي تنخر الفتن والشقاقات المذهبية في عظامها من جهة اخرى يكون احرى بهم ان ينتبهوا على العلاج الحقيقي الكفيل بانتشالهم مما هم فيه ، والذي يكمن كمى يرى الشيخ عبد القادر، في اصلاح النفوس والمعتقدات مما علق بها من الشوائب ، عن طريق الاقبال ، كخطوة اولى ، على العلوم الاساسية والضرورية التي تضبط التعامل بين افراد المجتمع الاسلامي فيما بينهم اولاً وفيما بينهم وبين خالقهم ثانياً * . أن الشيخ عبد القادر, لا يخفي أنتقائيته ولا توفيقيته, لأنه يرى أن العلوم والمذاهب والأفكار بوجه عام, ليست غاية في حدّ ذاتها, وإنما هي وسيلة من وسائل إسعاد البشر وتحسين حالهم.


    1. المنهج الصوفي عند الشيخ عبد القادر الجيلاني:
    الضرورة التاريخية للمنهج الصوفي

    إن الظرف الخاص, بشقيه, الزماني والمكاني, الذي عاش في كنفه الشيخ عبد القادر, هو الذي أملى عليه, أن يتبنى منهجا واضحا وبسيطا ومباشرا في التصوف, لم يكن من سبقه من الصوفية مدفوعين بتلك الدرجة نفسها من الشدة إلى تبنيه, وطبعا باستثناء الإمام الغزالي الذي خضع لمنطوق هذا الظرف نفسه تقريبا, وبالتالي فأنه تبنى المنهج نفسه من قبل.
    لقد وصل الحال في تلك المدة إلى الحد الذي كادت تحدث معه قطيعة بين الفقه من جهة والتصوف من جهة أخرى, مع رجحان ملحوظ في كفة الفقه, ليس على حساب كفة التصوف وحده, وإنما أيضا على حساب كفتي علم الكلام والفلسفة ومع هذه الحالة كان لابد للشيخ عبد القادر من أن يتخذ موقفاً توفيقياً حذراً يحاول من خلاله أن يقرب وجهات النظر ويسلط الضوء, على أوجه الشبه واللقاء, بين هذين الحقلين المعرفيين, الفقه والتصوف, وليس من قبيل الصدفة هنا, أن يكون الشيخ عبد القادر, في الوقت نفسه, هو المتصدر على أقرانه للفتوى في مجال الفقه, وهو المتصدر في زمانه لتربية المريدين وتزكية نفوس العارفين, وهذا ما يمكن أن نلمسه واضحا من خلال كلام أشهر معاصري الشيخ عبد القادر,من أصحاب الطرق الصوفية, وهو الشيخ أحمد الرفاعي(1) الذي أجاب حين سئل عن حال الشيخ عبد القادر بقوله: ((الشيخ عبد القادر من يستطيع وصف مناقبه ومن يبلغ مبلغه؟ ذاك رجل بحر الشريعة عن يمينه وبحر الحقيقة عن يساره, من أيهما شاء إغترف, لاثاني له في وقتنا الحاضر)).

    حقيقة المنهج الصوفي عند الشيخ عبد القادر

    إن ما سبق من قول الشيخ أحمد الرفاعي, يمكن أن يعد الصفوة في بيان حقيقة المنهج, بشقيه العملي والنظري, الذي أختطه الشيخ عبد القادر لنفسه ولطريقته الصوفية, فلقد عمل جاهدا, سواء من خلال سيرته الذاتية أو من خلال خطبه ومواعظه وكذلك من خلال مؤلفاته, على المزج والربط والتوفيق بين جناحي الدين الإسلامي, وأعني بهما الشريعة والحقيقة.


    أما الشريعة لوحدها, فهي علاج شاف كاف, ولكن هذا العلاج لايعد ناجعاً في معالجة صدأ القلوب وموت النفوس والهمم, في حالة إتساع الشقة وإبتعاد الناس عن عصر صدر الرسالة وأقبالهم المفرط على الدنيا وملذاتها. وأما التصوف لوحده, فأنه, وبالرغم من إقبال الناس عليه لشفاء نفوسهم وتطمين قلوبهم, لم ينج من عبث العابثين وإفساد المفسدين, حتى أنه كاد أن يصبح مطية يركبها كثير من أهل البطالة والكسل, ممن يبحثون عن مخارج وأعذار يبطلون بها التكاليف ويعطلون الحدود.(1)

    خطوات المنهج الصوفي

    إن أول خطوة واثقة, أراد أن يخطوها الشيخ عبد القادر، بحيث يحفظها من غلواء المعترضين, تكمن في عده الشريعة والحقيقة،بوجه من الوجوه، كلاهما فقه.الشريعة هي فقه الظاهر, وأما الحقيقة فهي فقه الباطن, وإن رحلة التصوف والتزكية وطلب الاعتزال, لا تكون إلا إذا أبتدئ بفقه الظاهر أولا. إن فقه الظاهر هو الذي يوصل الإنسان إلى علم لم يكن يعلمه وهذا العلم الظاهر, يرى فيه الشيخ عبد القادر, ضياءً يعم الظاهر والباطن, أما الأول فأن الفقه ينفع صاحبه في توخي الصدق والصواب وطلب الأستقامة وأما الثاني, أي الباطن, فأن الفقه هو وحده الذي ينير الدرب الذي يقرب العبد إلى مولاه, ومن غير الفقه لايمكن للسالك أن ينجو من مخاطر الطريق ومهاويه, فهو وحده الذي يزيل حجب الظلمات التي تثقل الروح وتعيق إنطلاقها.
    الخطوة الثانية التي يرى الشيخ عبد القادر أنها تقرب الشريعة من الحقيقة تكمن في نظرته للشريعة, ليس بكونها لوائح تشتمل على الأوامر والنواهي فقط, وإنما بكونها علما يتبعه عمل, والعبد كلما عمل بهذا العلم فأنه ((يقرب طريقه إلى الحق عز وجل, فيتسع الباب بينه وبين ربه تعالى ويرفع مصراع الباب الذي يخصه)).(2) الشرع إذا ليس كما يحسبه بعضهم, رسوم وحركات ظاهرة وتطبيق آلي, وإنما هو نور يخالط نور العقل ويمازجه, من غير أن يلغيه أو يعطله, لا بل يقدح أحدهما الآخر ويذكيه. إنهما, أي الشرع والعقل, نوران يدخلان, بأشراقهما منافذ قلب المؤمن ويمتزجا فيه ((إمتزاج الماء بالراح واللطافة بالرياح)).(3) ولا يظن المرء, إن موقف الشيخ عبد القادر من الفقه هنا لايتضمن أية مبالغة أو تعظيم, بل إن الأمر كله يكمن في هدفه الإصلاحي الذي حاول من خلاله أن يجعل من الفقه قاعدة فكرية تجمع المجتمع الإسلامي بشرائحه الفكرية كافة فالفقه ضروري لأهل الظاهر وأهل الباطن, كما هو ضروري لأهل العقل, أولئك الذين توهموا كثيرا في أبتعادهم عن حقول الشريعة بحثا عن غذاء لعقولهم. إن الشريعة هي وحدها التي أضاءت بنورها ظلمة الكون, وإن أتباع الشريعة هو وحده الذي يعطي سعادة الدارين, وإن الله عزوجل أودع في قلب صاحب الشرع الأعظم ودائع بدائع الحكمة, وجعل قبول أمره طريقا سالكا إليه. وأخيرا فأنه في مجال الشريعة, يمكن أن يتجلى الفعل الإنساني أكثر من غيره, فإذا كان الأيمان يسبق الشريعة, فهو في حقيقته نور يقذف في القلب, فأما الشريعة فأنها تحتاج إلى سعي وقصد, كي ينال العبد منها ما خبئ فيها من درجات ومراتب.(1)
    التفقه إذن, هو الخطوة الأولى التي يجب على السالك أن يخطوها قبل الأعتزال وقبل الترقي في معراج الأنوار الرحمانية, لأنه في حقيقته علم, وإن من سلك وإعتزل وتصوف بغير علم, كان ما يفسده أكثر مما يصلحه. والشيخ عبد القادر بدعوته تلك, يتابع الدعوة نفسها التي دعا أليها كبار مشايخ الصوفية والتي مفادها: أن الصوفي هو من تمسك بظاهر الكتاب والسنة, وهو الذي لا تحمله كرامته على هتك محارم الله وهو الذي لا يدعوه, متابعة باطن وإن عظم إلى مخالفة ظاهر وإن قل.(2)

    الجمع بين الحقيقة والشريعة

    يذهب الشيخ عبد القادر, إلى إنه لا دخول إلى مدينة العجائب الروحية إلا من خلال بوابة الشريعة وبلغة فقهية مباشرة يقول: إن كل حقيقة لا تشهد لها الشريعة فهي زندقة. وإن أي مريد ينخرط في السلوك الصوفي, طالبا التحليق نحو سماء المعارف اللدنية, فأن عليه أن يستعين بجناحي الكتاب والسنة وأن يحرص على حسن أتباعه للنبي محمد ((r), ((فيجعله وزيره ومعلمه, لأن كل من لم يتبع النبي محمد(r) ويأخذ شريعته بيده, ولايصل في طريقه إلى الله عز وجل يهلك ويُهلك, يضل ويضلل)).(3) وغير ذلك فأن التمسك بالشريعة وحسن الأتباع, ينفع العبد كثيرا في أنارة طريقه المحفوف بظلمات القدر إذ أن مجرد كون المريد قائما مع الناس, فهو قدر محتوم عليه, والقدر ظلمة, لذلك فهو يحتاج إلى مصباح يبين له خفايا هذه الظلمة, ولا أفضل من مصباح شرع الله عزوجل ولا أفضل من علمه الذي إن عمل به العبد فإنه تعالى سيورثه علم مالم يعلم.(1)

    إن المريد الصادق في طلبه النجاة هو حتما في حالة تقوى مستمرة, ومن كانت هذه حالته, فأنه يكون شديد الحساسية تجاه الأخطاء التي تخالف الشريعة, لذا فأن عليه أن يكون دقيقا في ألتزام جادة الصواب الشرعي. وهذه الحالة ليس لها إستثناء في جميع مراحل التطور الروحي التي يمكن أن يبلغها المريد، ففي حالة (الخواص) وهم أهل الولاية الذين يغمرهم الهدى ويتمكن من قلوبهم والتي يكونون فيها متبعين, في أغلب الأحيان, للأمر الصادر من داخلهم, يرى الشيخ عبد القادر, أن ليس في هذا الفعل أمر مخالف للشرع, لأن أفعال المريد هنا ستكون مطابقة تماما لنصوص الشرع, وكذلك الأمر في الحالة الفائقة (حالة خواص الخواص) وهي حالة الوصول أو كما يسميها الشيخ عبد القادر, حالة البدلية(2) أو الصديقية, فأنه يكون على المريد فيها, أن يرضى بالفعل, أي بفعل الله تعالى وقضائه وقدره, ويوافقه ويفنى فيه, وهذا هو أخص مقاصد الشرع.(3)

    هدف المنهج

    لقد كان الشيخ عبد القادر, يدرك تماما, أن وحدة المسلمين الفكرية والاجتماعية تكمن في تمسكهم بالكتاب والسنة(4), وأن هذه الوحدة تعد مطلبا أساسيا إذا ما توفرت النية الصادقة في إصلاح المجتمع الإسلامي وتجاوز أخطائه لأن ما أصاب هذا المجتمع من تشتت فكري ومذهبي وعقدي, ومن تعصبات ضيقة وتحزبات لا أساس لها في الدين, كانت قد طرأت عليه من جراء الأبتعاد عن هذين الأساسين, سواء عن طريق التنطعات الكلامية(1) أو الأخذ بالتأويلات الفلسفية وإقحامها في قضايا الدين, أو عن طريق التكالب على تركات الحضارات القديمة والديانات السابقة على الإسلام من غير تمحيص أو تمييز. ولكي لا يفهم من هذا الكلام أنه دعوة إلى معاداة الفلسفة والتيارات العقلية بوجه عام, ولأجل توضيح إلتباس القصد, فأنه يمكن القول: إن الخطأ الذي حصل ,والذي ولد هذا الأرتباك الفكري الهائل, لا يكمن في استخدام العقل وأدواته أو في أفشاء الفكر الفلسفي أو الترحيب بالتيارات العقلية, وإنما يكمن في التداخل الذي حصل بين حقول المعرفة المتعددة وكذلك في المحاولات العديدة التي حاولت أن تفهم الحقيقة الدينية فهما عقليا أو في المحاولات التي عملت على المقارنة والتفضيل, وفي أحسن الحالات التفضيل بين حكمة الحكماء ونبوة الأنبياء.
    إن توجه الشيخ عبد القادر الصوفي من جهة, وتبنيه للأصلاح الأجتماعي, هدفا, من جهة أخرى, هما اللذان حديا به إلى توخي الحذر والتوجس في تعامله مع علوم عصره الفكرية, لذلك نراه دائما, يحاول أن يدير الدفة نحو العلوم الشرعية وأن يذكر بأهل السنة والجماعة ويكثف من إستشهاداته بآيات القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة, ويؤكد أيضا على أتخاذ العبادات والنوافل والفروض منهجا وحيدا للترقي الروحي والكمال الأخلاقي, مع نصيحته المستمرة لمريديه, بعدم مخالطة تاركي التكاليف الشرعية, وبضرورة تمسكهم بآداب الإسلام, ((لأنه لا يكون في الطريقة ولا في علم الحقيقة شئ يخالف آداب الشريعة))(1) ولأنه من غير هذه الآداب لا يمكن للعبد أن يترقى في مدارج الروح إلى حالة الولاية أو البدلية أو الغوثية (2)

    توفيقية المنهج

    إن جميع أعمال بني آدم, سواء الجسمانية منها, كالحركات والسكنات أو الروحية كالخواطر والألهامات, يجب أن تضرب بالشريعة وأحكامها, لابل حتى الأفعال الخارقة أو الكرامات التي يأتيها الصوفية أو تظهر عليهم من جراء مجاهداتهم او شطحاتهم, فأنها يجب أن لاتغادر حمى الشريعة وحدودها التي تتمثل بالأوامر والنواهي. فأذا ما حدث وأنخرم عند الصوفي شئ من هذه الحدود, وكان حائزا على أسنى الأحوال وأرفع المقامات, فليعلم أنه مفتون متلاعبة به الشياطين, وليرجع إلى حكم الشرع ويترك رأي الهوى ((لأن كل حقيقة لم تشهد لها الشريعة فهي زندقة)).(3) نعم أن السير هو سير القلوب, والقرب هو قرب السرائر والعمل هو عمل المعاني, ولكن ذلك كله لايثمر ولايؤتي أكله إلا إذا روي بماء الشرع ومع كل هذا التأكيد على التزام الجانب الفقهي, الذي يكاد أن يكون مطلقا, فأن الشيخ عبد القادر يعود فيستثني, كي لا يظن الفقهاء أنهم مطلقوا الأيدي في الميراث الصوفي, فيقول إن الفقه إذا لم يتوش بطراز القلوب, أي الأذواق والمعارف الصوفية فأنه سيكون علما أجوف لايخطي العبد إلى الحق عزوجل خطوة واحدة.(4) ويمكننا أن نلمس هنا معالم الموازنة الحذرة التي يحاول الشيخ عبد القادر أن يقيمها بين سلطتي الفقه والتصوف, فهو تارة يعطي زمام المبادرة بيد الفقهاء فيجعل الفقه مقياسا لصحة النهج الصوفي, وأحيانا أخرى يرى أن الفقه لامعنى له ولا تأثير في القلوب إذا لم يمتزج بأنفاس التصوف. ولعل هذه الموازنة أو بالأحرى هذا النفس التوفيقي الذي نلمسه واضحا عنده، يُظهر مدى صعوبة الموقف الذي وجد نفسه فيه, بحيث كان لزاما عليه أن يغازل أصحاب جميع العلوم الدينية كي يجنب نفسه المواجهة أو التقاطع معهم, وكل ذلك من أجل غاية: إعادة صهرهم في بوتقة واحدة وهي بوتقة (العلم / العمل).

    حقيقة الإنسان

    لقد أحكم الشيخ عبد القادر, قبضته وأتقن خطته ولم يترك منفذا لأي متسلل من والى قلاع (القوم) فالطريق واحد وإن تعددت أشكاله وتفاوتت مساراته وهو الطريق الموصل إلى حضرة القرب والملكوت, أي إنه السبيل الذي يقرب الإنسان إلى الله عزوجل, ولايمكن, يقينا, لطريق هذه غايته إلا أن يكون محكوما بأحكام الله عزوجل, هكذا بكل بساطة ومن غير زيادة في التوضيح, وإن هذه الأحكام تنطبق على الإنسان بمجموعه, فلا فرق في ذلك بين جارحة أو قلب, ظاهر أو باطن, لأن الإنسان في حقيقته قلب وقالب, جسد وروح, ولا يختلف في ذلك أثنان حتى إن كانا, فقيها ومتصوفا, ولكن يختل التوازن ويحدث الإختلاف والتفاوت في حالة الفصل بينهما أو ترجيح أحدهما على الآخر, بينما الحس والفطرة السليمان, يؤكدان أن الإنسان وحدة واحدة يتحرى اللبيب فيها التوازن, وإن أي ميل نحو أحدهما سيكون, بالتأكيد على حساب الآخر. القالب له عمله الذي لابد منه والقلب كذلك, له عمله الذي لابد منه, وإن أعمال القلوب لاتكتمل وتؤتي أُكلها إلا بعد طهارة الجوارح بأعمال الشرع.(1) وأما القلوب نفسها فأن صحتها تكمن في مدى تمسكها بالكتاب والسنة, فأذا ما صحت القلوب فأنها ستكون ((اقرب الأشياء إلى الله عزوجل وتصبح عالمة وتبصر مالها وماعليها ومالله عزوجل ومالغيره وماللحق وماللباطل))(2) لقد أدرك الشيخ عبد القادر أن أكثر التيارات الفكرية (والملل والنحل) غير المشروعة التي كان يعج بها عصره والتني تدعي إمتلاك علم الباطن, كانت ترتكز في الأساس على هذا الفصل المتعمد بين ظاهر الإنسان وباطنه, فتترك للظاهر, الذي هو من درجة أدنى بالتأكيد, علوم الشريعة وفرائضها, وتنتج للباطن علوما خاصة لاتربطها بالدين الإسلامي أية رابطة.

    العلم والعمل

    في موضع آخر يشبه الشيخ عبد القادر الشريعة بالعلم والحقيقة بالعمل الذي يمكن أن ويعمل به على وفق ذلك العلم.(1) وهذا العلم هو كالسيف أما العمل فهو كاليد ((والسيف بلا يد لا يقطع واليد بلا سيف لا تقطع)).(2) إنهما – أي العلم والعمل – وحدة واحدة وإن الفصل بينهما يؤدي حتما إلى التهلكة, إذ إن تعلمك العلم من غير عمل يردك إلى الخلق لأنه يدل على سعيك لأرضائهم وطلب الفائدة منهم, وهذا هو خلاف المطلوب الصوفي, بينما العمل بالعلم – أي السلوك الصوفي على وفق الشرع – يرد العبد إلى الحق عزوجل ويزهده في الدنيا ويسلط نور بصيرته على ما بطن من أفعاله, فيكون له بذلك شاغل يشغله عن تزيين ظاهره ويلهمه بتزيين باطنه,((فأذا ما أخلص في ذلك فأن مولاه عزوجل سوف يتولاه لأنه يكون قد صلح له)).(3) ويلاحظ هنا تأكيد الشيخ عبد القادر على توحيد جمع ما عمل الآخرون على فصله وتجزئته خدمة لأغراضهم الدنيوية والسياسية.
    علم الشريعة إذن, هو علم الظاهر, وهو علم يبحث في العبادات والمعاملات وتنظيم العلاقات الظاهرية بين العبد وربه من جهة وبين العبد وغيره من العباد من جهة أخرى, ولذلك فأن هذا العلم يتبع العقل ويلتزم قوانينه, لأنه علم مبني على البحث والتدقيق, أما الحقيقة, أو كما يسميها الشيخ عبد القادر في بعض الأحيان بعلم الباطن, فأنها تخص سر العبد مع الله تعالى وسر الله معه. إنها عبادات ومعاملات أيضا, ولكنها من صنف مغاير يتحرى فيها العبد الورع والكتمان والأخلاص ويلتزم فيها بالصبر ويبني نفسه على وفق قوانين التسليم والصدق والتصديق. وهكذا تكتمل الدائرة وتنضج الثمرة ((فبحث وتدقيق من جهة الظاهر وتسليم وتصديق من جهة الباطن والكل محكوم بالأخلاص في العمل))(1) ولكن هل نلمس من كلام الشيخ عبد القادر هذا, دعوة إلى الجمود والتقليد؟ إن هذا هو ما يبدو في ظاهر قوله ولكن مع قليل من التمعن يمكننا أن نلاحظ أنه في واقع الحال يدعو اصحابه إلى أن يطيعوا ويتبعوا في مجال الشرع والعبادات, وتلك دعوة مشروعة ولها ما يسوغها في الأديان كافة لأن من صلب قوام الدين, أي دين, أن يعتمد على نصوص محددة ومقدسة وعلى تعاليم وأحكام سماوية عليا تفترض الطاعة والخضوع, وهذا لا يجترح من خصوصية الإنسان ولامن حرية تفكيره, لأن المجالات التي يأخذ فيها الفكر مساحة حريته وإنطلاقه كثيرة جدا وهي ليست حكرا على الجانب الديني الذي هو في حقيقته حاجة ونزوع أكثر مما هو بحث وتدقيق.
    إذن فالشيخ عبد القادر, كان يحث مريديه, في مجال الشرع, على الأتباع وترك الأبتداع, إتّباع الكتاب والسنة, لأن في ذلك يتحقق جمع القلوب ووحدة العقول وهمة النفوس وأما الأبتداع فأنه على العكس من ذلك, إذ فيه شتات للأمر وضعف للعزائم وتثبيط للهمم. ولما كان الظرف الأجتماعي الذي عاش فيه كان يتطلب لم الشمل وجمع الشتات, فأن نداءه ظل قائما يتكرر ومن دون تورية أن: ((أتبعوا ولاتبتدعوا وأطيعوا ولاتمرقوا ووحدوا ولاتشركوا ونزهوا الحق ولاتتهموا)).(2) لقد عمل الشيخ عبد القادر, جاهدا على أن يعيد التصوف إلى أرض الواقع وأن يعيد له كذلك مشروعيته التي كاد أن يفقدها, بعد أن تبين إرتباطه المصيري بالشريعة المحمدية, وأنه طريق آمن ومضمون, يوصل العبد, فيما لو صدق, إلى الكمال الأخلاقي والرقي الروحي, وأنه يمكن لكل الناس أن يفيدوا منه, خاصهم وعامهم.(3)

    الطريقة الصوفية عند الشيخ عبد القادر الجيلاني


    مشروعية الطريقة وتعريفها

    وردت كلمة طريق وطريقة في عدة مواضع من القرآن الكريم, وكانت في عمومها تدل على النهج
    السليم وسبيل الهداية, كقوله تعالى: (وألو أستقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماءً غدقا).(1) وقوله تعالىإذ يقول أمثلهم طريقة إن لبثتم إلا يوما أو بعض يوم).(2) وقوله تعالىإن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهدهم طريقا).(3) وقوله تعالى على لسان الجنوإنا منا الصالحون ومنا دون ذلك كنا طرائق قددا).(4) وجمع طريقة طرائق, ويعرفها الجرجاني بأنها: هي السيرة المختصة بالسالكين إلى الله تعالى من قطع المنازل والترقي في المقامات.(5)

    معنى الطريقة

    إن الطريقة هي سفر ورحيل إلى الله تعالى, وهذا السفر يتم على طريق معلوم أجتازه قوم سابقون وأورثوا علمه للاحقين, وهذا الطريق فيه مراحل ومحطات لابد أن يجتازها المريد واحدة بعد أخرى أو أن تختصر له بأذن من الله تعالى. على أن أيا من هذه المراحل أو المحطات لاتخرج أبدا عن سراط التكاليف الشرعية ولاتشتمل أبدا على رخص أو تكاسل. وأما التقدم في الطريق فهو تقدم معنوي, روحي, قلبي, ينجم عن زيادة صفاء نفس العبد الذي يعمل على زيادة قربه من الله تعالى فتزال عنه كثيرٌ من الحجب التي كانت تكتنفه, فأذا مازالت تلك الحجب فأن هذه النفس سترق وترى مالم تكن تراه من قبل وتبصر ما كانت تعشو عنه وتنتبه إلى ما كانت غافلة عنه, وتذكر ما كانت ناسية له, وهذا هو معنى قول الغزالي: إن طريق الصوفية عبارة عن تقديم المجاهدة ومحو الصفات المذمومة وقطع العلائق كلها والأقبال بكنه الهمة على الله تعالى, ومهما يحصل بعد ذلك أن الله تعالى هو الذي يتولى قلب عبده ويتكفله وينوره بأنوار العلم, وأما أساس هذا الطريق فهو: تطهير محض من جانب السالك وتصفية وجلاء ثم إستعداد وأنتظار.(1)

    تعدد طرق الصوفية

    والطريقة ليست واحدة عند جميع الناس وفي جميع الأوقات, بل هي متعددة ومختلفة بتعدد
    وأختلاف المريدين والشيوخ والأزمنة والأمكنة, ولكن هذا التعدد والأختلاف لايشبه تعدد المذاهب والفرق والطوائف التي تنتمي إلى دين واحد, أنه أختلاف في المشارب والأذواق فقط, وأما في الجوهر, فأن الطرق جميعها تسعى إلى بلوغ هدف واحد, وهو تزكية النفس الإنسانية وتصفيتها من أجل الوصول بها إلى رضا المولى سبحانه وتعالى, ولكن سعيها هذا يتباين لينا وشدة كثرة وقلة, في الأذكار والرياضات وأنواع العبادات, تبعا لتباين الناس وتباين أزمانهم. إن الطريقة هي التي تجعل العبد يمعن أكثر في تحصيل الفوائد المرجوة من الفعاليات الشرعية, فالصلاة ليست قياما وركوعا وسجودا فقط وإنما الغاية الحقيقية منها هي بلوغ حالة الخشوع والمراقبة والأحساس بالرهبة والخوف, كي تظهر مفعولها حقا وتنهي صاحبها عن الفحشاء والمنكر وكذلك الحال مع الصوم, فأن المطلوب الحقيقي منه هو صوم العبد عن الصفات الذميمة والأخلاق الرديئة, والأمر نفسه ينطبق على بقية الفرائض الأخرى.

    تطور مصطلح الطريقة

    لقد أتخذ مصطلح (الطريقة) معنيين مختلفين في مدتين مختلفتين من عمر التصوف الإسلامي, فهو إلى غاية القرن الرابع الهجري كان يعني مجموعة القواعد والآداب والعبادات والمجاهدات التي ينبغي على الصوفي أن يلتزم بها من أجل أن يستحق معها هذه التسمية, فهي إذن تأتي بديلا عن لفظة السلوك الصوفي بوجه عام. أما بعد ذلك, أي منذ بداية القرن الخامس الهجري, فقد أخذ مصطلح (الطريقة) ينحو منحى آخر أكثر تحديدا وأكثر تخصصا من سابقه, إذ أصبح يعني التتلمذ على يدي شيخ مرشد عارف مشهود له بالاستقامة والصلاح, وهذا التتلمذ يبدأ أولا بأخذ العهد من يد الشيخ مع التعهد بالألتزام بأوراده ونصائحه. والعهد هو بأحد معانيه, يعني توبة المريد على يد شيخه عن أرتكاب المعاصي, وأن يعمل جاهدا على أن يكون طاهر الجسد نقي الروح, وأن يلتزم بحدود الله تعالى وفروضه, وأن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ماأستطاع إلى ذلك سبيلا, وأن يذكر الله تعالى ذكرا كثيرا في الجهر والخفاء والليل والنهار وفي الشباب والكبر. الطريقة إذن أصبحت ترتكز على دعامتين أثنتين, المريدين من جهة والشيخ المرشد من الجهة الأخرى, على أنه لايمكن لأي مريد, مهما بلغ من علو في علم أو كثرة في عبادة, أن يستغني في سلوكه عن شيخ الطريقة فهو له ضروري كضرورة الغارس للشجرة, فالشجرة إذا نبتت بنفسها من غير غارس, فأنها ((تورق ولكن لاتثمر, كذلك المريد إذا لم يكن له أستاذ يأخذ منه طريقته, فهو عابد هواه لايجد فلاحا أبدا)).(1) وأضافة إلى ذلك, فأن أصحاب الطرق الصوفية, في المرحلة الثانية, صاروا يظهرون أمام الناس على شكل مجاميع متجانسة, لها أماكنها الخاصة التي تمارس فيها شعائرها والتي تسمى بالتكايا أو الزوايا أو الرُبط, ولها أيضا أوقاتها الخاصة التي تمارس فيها أذكارها الجماعية, وأن السمة السائدة على أكثر هؤلاء المريدين, هي التمسك بمظاهر الفقر, بكونه الشعار الأول للجماعة.

    معنى الطريقة عند الشيخ عبد القادر

    في وصف لطريقة الشيخ عبد القادر, يقول صاحب كتاب (بهجة الأسرار ومعدن الأنوار): لو رأيت الشيخ محي الدين عبد القادر (رضي الله عنه) لرأيت رجلا فاقت قوته في طريقه إلى ربه عزوجل, قوى أهل الطرائق شدة ولزوما. كانت طريقته التوحيد وصفا وحكما وحالا, وتحقيقه الشرع ظاهرا وباطنا, ووصفه قلب فارغ عن السوى وكون غائب عن الأغيار ومشاهدة رب حاضر بسريرة لاتتجاذبها الشكوك وسر لا تتنازعه الأغيار وقلب لايفرقه إلتفات.(2) ومن هذا الوصف, يمكن للمرء أن يتلمس طريقه نحو فهم فحوى الطريقة عند الشيخ عبد القادر, وهي الطريقة المسماة بأسمه, والتي تعد, بحق, المعين الأول للطرق الصوفية الأخرى كافة.(3) والتي يمكن القول عنها أنها طريقة تعتمد الألتزام الأخلاقي منهجا وتسعى إلى بلوغ أسمى درجاته, كما أنها تعتمد التوحيد الحق هدفا, وهو توحيد العلم والعمل واللسان والقلب, وهي تتخذ ساحة الشرع موطنا, مع العمل على تفريغ القلب مما سوى الله تعالى وعدم الأعتماد على الخلق في جميع الأمور. وكل ذلك يكون في الطريقة القادرية مصحوبا باعتقاد جازم لايقبل الشك مفاده: إن الله تعالى, حاضر ناظر شاهد على ظاهر العبد وباطنه, وأنه بكل شئ محيط.

    هدف الطريقة القادرية

    لقد أجمع أهل الأيمان على أنه لاتصح نجاة العبد في شئ مثلما تصح في حسن التوكل على ربه تعالى, ففي التوكل يفوض العبد أمره إلى من يكفيه شر النفس والهوى والشيطان, وهذا هو تماماً ما تهدف الطريقة القادرية إلى أن تهبه إلى سالكيها. إنها تعلم المريد أن لايرى غير مولاه ولايسمع ولايعقل من غيره وأن يرجو نعمته فقط ولايسعده أو يفرحه إلا قربه من مولاه, وأن لايتزين ولايتشرف إلا بهذا القرب, لأنه غاية ما يتمناه ويرجوه. وأن لايطيب ولايسكن ولايطمئن إلا بوعد مولاه, وان لايأنس إلا بحديثه ويستوحش وينفر من غيره. وأما ما يعمله في مقابل ذلك فهو أن يلجأ إلى ذكر ربه ويركن اليه ويثق به وعليه يتوكل وبنور معرفته يهتدي ويتقمص ويتسربل.(1) ويمكننا أن نلاحظ هنا, أن الشيخ عبد القادر كان يعمل جاهدا من أجل أن يطمئن المعترضين على الطريقة الصوفية, بأنها لاتشتمل إلا على ماهو من صلب المطلب الديني وإنها لاتشتمل على أي نوع من أنواع المروق أو الأبتداع, إنها في حقيقتها عامل يساعد المريد على بلوغ مرامه, فهي السبيل الذي يقربه إلى مولاه, وهي المعراج الروحي الذي يتحقق بعده اللقاء ((فكل معراج فألى باب أسمه إنتهاؤه, وهي سلم للصعود وكل سلم للصعود فبإسمه تعالى عروجه)).(2) إذن فهي تبدأ بالله وتنتهي بالله وتوصل إلى الله, إنها سنة المقربين من الأولين وجادة من تقدم من الأنبياء والمرسلين والأولياء والصديقين, وهي جادة الصفاء الذي لايشوبه كدر, جادة التوحيد الذي لايخالطه شرك, جادة الأستسلام بلا منازعة, جادة الصدق بلا كذب جادة الحق بلا خلق جادة المسبب بلاسبب, وهي جادة أصفياء الحق عزوجل ونجبائه الناصرين لدينه المعادين فيه والمحبين فيه.(3) وهذه الجادة يسلكها المريد من أجل إستخراج وتنقية حقيقته البشرية الأصلية, لأن الشيخ عبد القادر يؤمن إن وراء هذا الجسد الترابي يقبع إنسان نوراني قوامه روح خالصة, وسيأتينا فيما يأتي من الفصول كيف أن الشيخ عبد القادر يأخذ بنظرية وجود الروح قبل الجسد, وإنها إذا إتحدت مع الجسد, فستتكبل ويصيبها كثير من الأثقال والأدران, وأن السلوك الصوفي هو خير وسيلة لتنقية الروح وتخليصها مما علق بها من علائق. إن الإنسان, كما يراه الشيخ عبد القادر, مخلوق عجيب دفن فيه الباري أغرب وأعجب الحكم, إنه ملك بعقله لولا إتباع هواه, لطيف المعنى لولا كثافة طبعه وهو كنز إستودع غرائب أسرار الغيب وجوامع أصناف العلم.(1) وتبدو هذه اللهجة المتفائلة غريبة عن لغة الصوفية المعهودة, التي تميل في أكثر الأحيان إلى النظر إلى الإنسان نظرة سوداوية متشائمة, ولعل النهج الأصلاحي الذي تبناه الشيخ عبد القادر, هو الذي أملى عليه تلك اللهجة, كي يبث في نفوس معاصريه التي ملئت يأسا وعتمة, بارقة من أمل وقبسا من نور .

    وصف الشيخ عبد القادر لطريقته

    ومن أجل تأكيد مشروعية الطريقة وملازمتها جانب الشرع, فأن الشيخ عبد القادر, يصفها بأنها جادة معبدة بسيرة من تقدم من الأنبياء والمرسلين, وعليها تظهر آثارهم وهي في حقيقتها تمثل دعوة لمحاكاتهم في بلوغ ما بلغوه من الأحوال السنية والمقامات الرفيعة. ولكن هذه الجادة ليست لقاصدها سهلة ولايسيرة بل أنها تحتاج إلى متاع ومؤونة وإستعداد, فهي لاتسلك مع النفس والهوى وقلة العلم والعمل, بل مع الحكم والعمل به ومع ترك الحول والقوة, والأخذ بالجلادة وتحمل الصبر والمعاناة والمجاهدة . وهي ايضاً تحتاج الى دليل ومرشد ، فالطريق الصوفي لخطورته ، يحتاج الى ان تصحب فيه بعض ملوك المعرفة ، أي الشيخ العارف ، من اجل ان يدل المريد ويعرفه خفايا نفسه ومكامن هواه وكذلك من اجل ان يحمل عنه ثقله (2)
    هذه هي الطريقة عند الشيخ عبد القادر ، وهو يرى انها تمثل اللبة من التصوف ، لانها حائزة على جميع اشراطه ، فهي تشتمل على المجاهدة والرياضة والتوكل وحسن الخلق والشكر والصبر والرضا والصدق ، وهي المقامات التي يعدها الشيخ عبد القادر اساساً لكل تصوف وهي في الوقت نفسه اساساً لكل خير ، فالطريقة هي الطريق السالكة والمضمونة التي تقرب المريد من ربه تعالى ولاجل ذلك بعث الانبياء والرسل ونزلت الكتب السماوية وهذه الطريق لها بداية معلومة ونهاية محدودة ، فاما البداية فانها تنطلق من الورع الذي منبته الشريعة المحمدية ، وهذا الورع الذي يبدأ مع نقطة الشروع، يظل ملازماً للمريد حتى نهاية حياته ، اذ لا غنى عنه في السلوك الصوفي أبداً واما نهاية الطريق فانها تشتمل على الرضا والتسليم وحسن التوكل ، وهي مقامات لا يمكن بلوغها عند الشيخ عبد القادر من دون سلم شرعي ان التصوف والطريقة والشريعة وجميع الرسالات السماوية هي ، كما يريد أن يصورها لنا الشيخ عبد القادر ، مترادفات او وجوه لحقيقة واحدة فهي تشترك في الغايات والوسائل والاهداف نفسها ، ولاياتي التمييز بينها الامن حيث قربها من الحقيقة واختصارها للطريق ، وهذا ما تجسده الطريقة خاصةً وهو مصدر ضرورتها واهميتها.

    أركان الطريقة


    ونسجاً على المنوال نفسه فان الشيخ عبد القادر يحدد للطريقة ثلاثة اركان ، وهي الاركان الخالدة نفسها التي لا يقوم للبنى الاخلاقية اوالدينية بناء الا بها وهي : الحق والصدق والعدل والتي تتوزع على (حقول ) الانسان الثلاثة: الجوارح ( الجسد ) والعقل والقلب ، فاما العدل فانه يقوم على الجوارح لضبط التوازن بينها وامساكها على الافراط في اتيان الشهوات وتوجيهها الوجهة الصحيحة التي خلقت لاجلها . فاما الحق فانه مسلط على العقل ، فيلزمه بان لا يخضع لاهواء النفوس بل يكون عليها رقيباً . والعقل عند اشيخ عبد القادر يعد اداة محايدة لا نزوع لها من ذاتها بل هي وسيلة لغيرها ، فأما الشر واما الى الخير0واما الصدق فانه يطلب لأجل القلوب ، والصدق هنا لايعني الصدق المنطقي الذي هو من اختصاص العقول ، بل هو صدق النيات والهمم ، وهو ضروري للمريد كي يتطابق علمه مع عمله ونيته مع أفعاله.(1)

    مراحل السلوك في الطريقة

    كيف السبيل ، إذن، إلى اجتياز مراتب الطريقة وبلوغ غاياتها ، وكيف السبيل الى كسب جولة الحرب الازلية التي تتجدد في صدر كل إنسان يولد على هذة الأرض , الحرب بين العقل والهوى وبين الروح والنفس.أول خطوة في سلم الطريقة تتمثل في أخذ العهد, والعهد هو الموثق والرباط الذي يربط المريد، إبتداءً ، بشيخ الطريقة وحقيقة العهد عند الصوفية هي معاهدة الله تعالى على طاعته وتجنب معصيته ويسمى العهد أيضا بالبيعة ، إذ يبايع المريد شيخه بان يتخذه مرشداً ومعلماً ومؤدباً ودليلاً ، وان يحسن الظن به ويحكّمه في نفسه ، من اجل إن يعرّفه بطريق القوم ويبصره بآفات النفس وفساد الأعمال ومن اجل إن يدلّه على اسلم الطرق وأقربها إلى الله تعالى. هذا العهد يجب إن يكون مصحوباً بعزم المريد على التخلص من الذنوب التي تثقله وتثبط همته، ويتجسد هذا الفعل في عملية التوبة، ويشبه الشيخ عبد القادر التوبة، لأهميتها في حياة السالك الروحية بـ (قلب دولة) أي ((إن تقلب دولة نفسك وهواك وشيطانك وأقران السوء، فانك إذا ما تبت قلبت سمعك وبصرك ولسانك وقلبك وجميع جوارحك، وتصفّي طعامك وشرابك من كدر الحرام والشبهة، وتتورع في معيشتك وبيعك وشرائك وتجعل كل همك مولاك عز وجل ، وان تزيل العادة وتجعل مكانها العبادة))(1) التوبة إذا تعني تخلي المريد ، نادماً ، عن حياته التي سلفت وعزمه على استبدالها بما يعينه على قطع مفازات الطريق وتقريب البعيد وبلوغ المرام ، وهذه العزيمة تتمثل في سعيه الدائب إلى معرفة ربه تعالى وسعيه إلى نيل رضاه والقيام بحقوق العبودية وإعطاء الربوبية حقها، ويلتحق بها أيضا العمل بالكتاب والسنة وان يؤدي الفرائض ويلتزم بالأوراد والأذكار ، وان يتخذ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر منهجاً دائماً في حياته بين الناس ، مبتدئاً بنفسه، كي يكون للآخرين قدوة ومثالاً وعليه أيضا إن لا يعتاش على ما تجلبه عليه الطريقة ، بل يتخذ له مهنة تقيه من مهاوي الطمع والارتزاق والتطفل. فأما بعد ذلك، فانه يمكن إن يحين وقت التحقق في عوالم الروح والغيب والملكوت، ولكن لا بد من التأكد مع كل خطوة، من تصديق الشريعة وتأييدها، (( لان كل حقيقة لا تشهد لها الشريعة فهي زندقة، فإذا تحقق للعبد ذلك، جاءه الفناء عن الأخلاق المذمومة وعن رؤية سائر الخلق، وحينئذ فقط يكون ظاهره محفوظاً وباطنه بربه عز وجل مشغولاً )).(2) وفي هذه العبارة يختصر الشيخ عبد القادر، طريقته ومنهجه الصوفي بعبارة بجملة بسيطة واحدة تتجسد في أن إكمال الأعمال الشرعية وممارستها بحضور قلب، يشكل المنبت الوحيد الذي يمكن إن تخرج منه الثمرات الروحية كافة.(3)
    في موضع أخر من كتاب (الفتح الرباني والفيض الرحماني) يذكر الشيخ عبد القادر وصفاً آخر للطريقة فيقول: إن من يريد الوصول إلى منازل القوم فان عليه تحقيق الإسلام أولا.(1) ثم بعد ذلك يعمل على ترك الذنوب ما ظهر منها وما بطن وهو تحقيق الأيمان ثم يلتزم بالورع الشافي وهو التحقق بالإحسان ، ثم بعد ذلك يكون السلوك الصوفي مبتدئاً بأولى مراتبه وهو الزهد في مباح الدنيا وحلالها ثم الاستغناء بفضل الله عز وجل عن خلقه وهو ما يثمر التوكل ثم الزهد في فضله والاستغناء بقربه وهو ما يثمر الإخلاص ، فإذا صحَّ للعبد الاستغناء بقربه، صبَّ عليه مولاه فضله(2) ، أي أعاد إليه أقسامه وأرزاقه التي قسمها له أولا ، فهي له نصيب ولا يمكن إن تكون لغيره، والشيخ عبد القادر يريد إن يلفت النظر بعبارته تلك إلى إن التصوف الإسلامي لا يعمل على إلغاء حظوظ الدنيا أو ينهى عن التمتع بملذاتها وإنما هو فقط ، يهذب طريقة العبد في تناولها والتعامل معها، وذلك عن طريق تعطيلها أولا ثم الإقبال عليها بعد التمكن من نوازع النفس وضبط رعوناتها.
    وبمعنى أخر لا يختلف كثيراً عن سابقه، وإن اختلف عنه في الأسلوب، يبين الشيخ عبد القادر، إن الطريقة هي أولا الأيمان، بكون الإسلام أمرا مفروضاً على جميع الناس والايمان إذا تمكن من قلب المؤمن فأنه يورثه علوماً وعقائد تصل به إلى المرحلة الثانية وهي الإيقان، والإيقان هو الذي يتبين للعبد من خلاله، زيف حوله وقوته وزيف حول وقوة جميع الخلق، وانه لا فعل في هذا الكون على الحقيقة، إلا الله تعالى، فيصل بذلك إلى الفناء عن كل شيء، وبما إن الفناء لا يشكل غاية نهائية في تصوف المريد، فانه بعد ذلك يصل إلى المرحلة الأخيرة وهي مرحلة الوجود بالله عز وجل (( لا بك ولا بغيرك))(3) وبعد ذلك تأتي لازمة الشيخ عبد القادر التي لا يتنازل أبدا عن ترديدها وهي قوله: مع حفظ الحدود ومع إرضاء الرسول(e) ولا كرامة لمن يقول غير هذا.(4)
    يتبين لنا مما سبق، أسلوب الشيخ عبد القادر، واضحاً، من خلال المنهج الصوفي الذي رسمه لطريقته، والذي يتمثل في السعي إلى بلوغ التوحيد الحق المتحقق في العلم والعمل مع التمسك بالشرع ظاهراً وباطناً.(5) إن الشيخ عبد القادر، يتعمد ومن خلال جميع مفاصل نظريته الصوفية إن لا يغرق في استخدام النظريات والمفاهيم الصوفية المجردة، فيجعل بذلك، التصوف، صعب الفهم صعب المنال، قليل الأصدقاء كثير الأعداء، من جهة، ولا يدع مجالاً للمفردات والتحفظات الفقهية إن تهيمن على الساحة الفكرية والعملية، فيكون الجمود، من جهة أخرى.(1) وهو يعكس بذلك صورة واضحة عن الواقع الفكري والديني الذي كان سائداً في عصره والذي كان يحكمه التطرف والتقاطع بين اتجاهات كثيرة، يمثل الفقه والتصوف احد خطوطها الأبرز والأكثر تأثيرا في تحديد ملامح العصر ومميزاته.

    الطريقة والمعرفة

    إن الانخراط في سلك الطريقة الصوفية، يعَّد، إضافة إلى كونه وسيلة من وسائل تطهير النفس وترقية الأخلاق، وسيلة من وسائل تحصيل المعرفة البشرية، وهذه المعرفة يحسبها أهل الحقيقة من أسمى المعارف المتاحة، لأنها تختصّ بأشرف الموضوعات وهي موضوعات الروح والقرب والمحبة الإلهية- الخ من جهة، ولأنها في نماء واتساع ورقيّ لا حدّ له من جهة أخرى، إذ إنها تتسع باتساع أفق الروح وتسمو بسمو مقامها.
    إن الإنسان يُعدّ جاهلاً قبل إن يتفقه في الدين، فما إن يتفقه حتى يعلم، ولكن هذا العلم يحتاج إلى عمل كي يُنمي غرسه ويؤتي أُكله، وهذا العمل أيضا يمكن إن يصبح أمرا شاقاً وعسيراً ولا يمكن الاستمرار به ما لم يخالطه الإخلاص الذي هو اصل العبادة الصادقة ووقودها الذي لا ينفذ فإذا ما تمَّ الأمر على هذه الشاكلة فانه سيتولد عنه علم ثانٍ ينبع من المعرفة أللدنية أو الربانية التي يورثها الله تعالى لعباده المخلصين. هذه المعرفة أو هذا العلم، يحتاج كي يدوم ويثبت وينمو، إلى عمل ثانٍ آخر، وهو عمل أهل الحقيقة والتمكين (( أولئك الذين حقروا الدنيا فهابتهم وهربوا منها فتبعتهم))(2) فإذا عمل هؤلاء بهذا العمل الذي هو التوحد والاستغراق والذهول والفناء ومن ثم الشهود، أصابهم الذهول فسكتوا فان طال سكوتهم أُمروا بالنطق من اجل إن ينتفع بهم الخلق،(( فهم في سكوتهم كانوا فانين عن أنفسهم وفي نطقهم وجدوا بربهم))(1) كما نلاحظ ، فان الشيخ عبد القادر، وهو في خضمِّ حديثه عن العلوم والمعارف أللدنية، لا ينسى شعاره الإصلاحي الذي يدعوا إلى طلب التصوف من اجل منفعة الناس وإصلاح المجتمعات أولا.

    الإنسان هدف الطريقة

    إذن فمنهج الطريقة لا يسير قدماً دون هدف أو غاية، وإنما هو يتخذ مساراً دائرياً يبدأ بالإنسان ثم يعود إليه، يبدأ به بوجوده الأول، الضعيف والدنئ والمحفوف بالمخاطر، ثم يعود إليه بوجوده الثاني القوي والنقي والمتمكن من أهوائه، أي يعود إليه بعد إن يكون هذا الإنسان قد عمل على تغيير نفسه، فإذا كانت بداية هذا الطريق تنطلق من ترك الشهوات والتسامي على الغرائز الفظّة والهروب من الدنيا وملذاتها، فانه في النهاية يعود إلى هذه (النقطة) ولكن بأسلوب مغاير،إذ لا يبقى له مجال لان تستعبده شهوة أو تتملكه لذة أو تستنفذه متعه. انه في هذه (المرحلة) لا يخدم الدنيا بان يعدو وراءها وينفّذ لها جميع أوامرها، بل إنها هي التي تخدمه طائعة صاغرة ((تقف على بابه حاملة له أقسامه التي لا ينالها احد غيره))(2) ، وفي هذا القول ما فيه من ردٍ على الذين يخلطون بين التصوف الإسلامي وبين الانطواء على ألذات والعزوف عن الدنيا أو ما يسمى بالرهبانية. إن التصوف من جهته يعد سلوكاً ايجابياً ينسحب فيه المرء من الدنيا ضعيفاً من اجل إن يعود إليها قوياً، ينسحب منها عبداً من اجل إن يعود إليها سيداً لا تثقله أوزارها ولا تستعبده اوطارها، إن الإنسان هو القطب الذي تدور حوله رحى التصوف الإسلامي، فالتصوف ما كان وما يكون إلا لأجل إن يعيد الإنسان إلى سيرته الأولى، قبل إن يتعكر صفوه وتنطفئ جذوته.

    مراحل الطريقة

    إن بداية السلوك في الطريقة القادرية تبدأ في الخروج –أي خروج السالك – من المعهود، كالمأكول والمشروب والمسكون وكذلك الطبع والعادة، إلى المشروع، أي الأوامر والنواهي وما يتبعها من مراقبة للكتاب والسنّة، ثم يأتي بعد ذلك عالم المقدور الذي تصبغه حالة التسليم التام لله عز وجل والفناء عن الهوى والنفس ورعوناتها في الظاهر والباطن. ثم أخيرا يتم الرجوع إلى المعهود الأول ولكن بشرط حفظ الحدود وصفاء النفس وتوحيد القلب، بحيث (( لا يكون في الباطن غير توحيد الله تعالى وفي الظاهر غير طاعته وعبادته فيما أمر ونهى)).(1) تنهي المرحلة الأولى، إذن، بتمام السيطرة على نوازع النفس واعتياد المجاهدات والسكون إلى العبادات وفي هذه المرحلة، تكون إرادة العبد وقصده لا زالا فاعلين بحيث يقفان وراء جميع حركاته وسكناته، وأما في المرحلة الثانية، فان يد العناية والمشيئة الإلهية هي التي تتدخل فتحمل العبد إلى (( وادي القدر فيتصرف فيه القدر، فيفنى عن جدّه واجتهاده وحوله وقوته ))(2) ولكن هذا الإلغاء للاجتهاد والحول والقوة، لا يدوم إلى الأبد ، إذ انه يتوقف بعد حين، فيردّ على العبد جميع ما اخذ منه وزيادة معه وإما الزيادة فهي الحفظ والسلامة في أمور الدين والدنيا، حيث يمنح العبد الذي صبر على المجاهدات، القدرة على حفظ الحدود وموافقة فعل المولى عز وجل، في جميع ما يفعله أو يأخذه أو يعطيه. إن الأقسام والحظوظ لم تكن قبل ذلك إلا (( إثقال أحمال أُزيحت عن العبد لئلا تثقله وتضعفه إلى حين الوصول إلى عتبة الفناء)).(3) والفناء هو بداية المرحلة الثالثة التي هي ثمرة شرعية للمرحلتين السابقتين، فبينما كانت تمثل الأولى الدخول في عالم المجاهدات والإخلال بما هو معتاد في الحياة الطبيعية، والثانية تمثل التمكن من نوازع النفس والسيطرة عليها وتوجيهها الوجهة الصحيحة ، تأتي المرحلة الثالثة لتجسد الغاية الحقيقية لجميع ما سبق وهي الوصول إلى قرب الحق عز وجل (( والمعرفة به والاختصاص بالأسرار والعلوم الدينية والدخول في بحار الأنوار، حيث لا تضر ظلمة الطبائع ، الأنوار)) (4 ) ويؤكد الشيخ عبد القادر هنا ، إن الإنسان مهما بلغ من درجات التجاوز والسمو والتهذيب النفسي فان طبعه باق حتى تفارق الروح الجسد ، لان الطبع لو زال لالتحق الآدمي بالملائكة وبطلت الحكمة ويمكننا أن نلمس هنا الواقعية الصريحة للشيخ عبد القادر في مطالبته الإنسان بتغير ذاته ، وواقعيته تلك مستمدة من واقعية الأوامر والنواهي الشرعية اذ أن الذي يرجى من سلوك الإنسان الصوفي وسعيه إلى بلوغ الكمال الاخلاقي والروحي ليس هو محق طبائعه البشرية ، وإنما هو فقط ، توجيه نوازعه وميوله ورغباته توجيهاً صحيحاً يحفظ لبشريته ملامحها وفي الوقت نفسه ، يستخرج منها كل كل ما امكنه استخراجه من الكنوز الروحية والمواهب الربانية .



    الطريقة توصل إلى الله تعالى

    الفناء إذن، هو سمة المرحلة الثالثة، والفناء في (برنامج) الشيخ عبد القادر الصوفي، لا يطلب لذاته بل إن العبد يطلبه ويسعى إليه كي يثبت مع الله تعالى وهذا لا يأتي دفعة واحدة أو بمستوى واحد وإنما يتم على دفعات ومستويات عدة، تبدأ بالفناء عن رؤية بقاء ألذات وتنتهي بالفناء عن الفناء حتى لا يشهد العبد معه فناءً ولا بقاءً.(1) اما بعد هذا الفناء (المركّب) فان المحطة التالية تبدأ مع الوجود الجديد وهو الوجود الذي يغيب فيه المريد عن ذاته ويوجد بالله تعالى ، إنه الوجود الذي يمكن ان يتحقق فيه وصول العبد الى مولاه، ولكي يجبَّ الشيخ عبد القادر الغيبة عن نفسه ولكي لا يثير حفيظة المعترضين على التصوف، فانه يحرص دائماً على اعطاء مفاهيمه الصوفية سمتين بارزتين، الاولى هي الوضوح البالغ والثانية هي الصبغة الشرعية. (فالوصول) مثلاً ، يؤكد الشيخ عبد القادر انه لا يعني اكثر من خروج العبد عن الخلق والهوى والارادة والمنى ثم الثبوت مع فعله تعالى من غير ان يكون للعبد حركة في ذاته ولا في الخلق به، بل بحكمة وامره وفعله تعالى، انها حالة فناء يعبر عنها بالوصول، وعليه فان الشيخ عبد القادر يؤكد ان (( الوصول الى الله عز وجل ليس كالوصول الى احدٍ من خلقه )) (2) اذن فليس الوصول اكثر من الفناء وليس الفناء اكثر من التخلص من الاخلاق الذميمة والصفات السيئة، وعليه فليس عند الصوفي اكثر مما يطلبه منه الشرع.
    هذا الوصول (الخاص)، يحتاج عند الشيخ عبد القادر الى مَركَب خاص ومتاع خاص ايضاً . فالذي يبغي مثل هذا الوصول، فانه يحتاج اولاً الى نكران لذاته عظيم وتجرد عن كثير من نوازعه وميوله النفسية، ان طريقه يوصل الى الله تعالى، وهذا الطريق ليس فيه انا او معي او لي ، انه طريق محو وفناء وسالكه يحتاج الى التقوى (3)والصدق في جميع خطواته،فأما التقوى فأنها من خيرة انواع الزاد ،كما وصفها الله تعالى بقوله: (( وتزودوا فأن خير الزاد التقوى ))(1) واما الصدق فانه يتجسد بصدق اللجوء إليه تعالى والأنقطاع اليه وطاعته بأمتثال أوامره وإجتناب نواهيه والتسليم لقدره وحفظ الحال معه وصيانة حدوده أبداً، لأنه (( ما نجا من نجا إلا بمراعات الوفاء وتحقيق الحياء وتخليص الرضا وصدق الأعراض عن الدنيا وهي الحجاب العظيم، وبذلك يتبين الخالص من المبهرج))(2) ولا يسعنا ان نلمس في هذا الكلام إلا الدعوة الملحة الى التمسك بالاخلاق الحميدة والالتزام بحدود الله تعالى وهو غاية ما كان يتمنى الشيخ عبد القادر، ان يلمسه في اهل زمانه.

    الطريقة من أعمال القلوب

    يؤكد الشيخ عبد القادر، ومن باب رده على الصوفية المعاصرين له : أن الصوفي الحقيقي والمخلص، هو الذي يعلم يقيناً بأن التصوف ما هو الا تصوف القلوب والارواح وليس تصوف الألسن والثياب، إن السّر موطنه داخل الانسان وكذلك الصدق والأخلاص، والقلب إذا ما أخلص وأختار الزهد منهجاً، صار لا يهمه ما يلبس أو ما يأكل، إذ ليس الشأن في خشونة الثياب والمأكل وإنما الشأن في زهد القلب وسلامته.
    إن أول ما يفعله الصوفي الصادق هو أن يلبس الصوف على باطنه، وهو كناية عن مجاهداته ورياضاته، ثم يتعدى بعد ذلك الى ظاهره، فالسّر هو أول من يتصوف ثم القلب ثم النفس ثم تأتي أخيراً الجوارح، فإذا ما صار المريد كله متخشناً، جاءته يد الرأفة والمنّة وغيرت حاله وخففت عنه أثقاله، وصار مُراداً بعد أن كان مريداً. إن الصورة لا إعتبار لها في هذا المقام، وإنما (( العبرة في القلوب))(3) ، وخشونة العيش، سواء كانت في الملبس أو المأكل، لا تحسب عند الشيخ عبد القادر غاية في ذاتها، وإنما هي وسيلة يبغي من ورائها المريد إلى أن يحصِّن نفسه درءاً لسهام الدنيا وحماية من شراكها. فإن تحصَّن وأمن وتجاوز مرحلة الخطر، صار سيّان عنده أ تنعَّم أم تخشّن. إذن فالصوفي الصادق يعلم يقياً بسريرته النقية إن المطلوب الحقيقي من سلوكه الصوفي هو: تنقية السرائر والقلوب، وإن أكثر ما يساعده على هذه التنقية هو الزهد في الدنيا والتخشن في العيش فإذا ما إكتسب المريد ميزة الصفاء وصار صوفياً فسيكون عندها مخيراً فيما يأكل أو يلبس، وكل ذلك يوضع في مجال الصدق، فأما ما عدا ذلك، فإن الرياء وحب الظهور هو الذي يملي على بعض الدخلاء على التصوف، التمسك بالمرقَّع من الثياب والتظاهر بالخشن من الطعام.

    الطريقة ومعرفة النفس

    إن السلوك في الطريقة، يعدّ عند الشيخ عبد القادر، بوجه من الوجوه منهجاً معرفياً يراد من خلاله التوصل الى معرفة النفس الإنسانية ومعرفة ما خبأه الله تعالى فيها من الاستعدادات والأسرار والآيات، فإذا ما عرفها الإنسان، فإنه يكون بذلك قد إقترب كثيراً من معرفة ربه، إذ إن معرفة الرب تبدأ أولاً من معرفة النفس، ولكن هذه الغاية- أي معرفة النفس – ليست يسيرة أو سهلة المنال، إذ إنها تتلفع بالكثير من الموانع والحجب، سواء من داخل النفس أو من خارجها، والتخلص من هذه العقبات يسبق حتماً إستحصال تلك المعرفة وهذا ما تحققه الطريقة الصوفية عند الشيخ عبد القادر.
    السلوك في الطريقة، إذن، ما هو إلا محاولة لتخطي تلك الحواجز من أجل بلوغ موارد السلسبيل التي خبأت في أعماق النفس الإنسانية، وكما ينبَّه الشيخ عبد القادر مريديه، فإن هذا الأمر جِدّ بحت ليس فيه لعب أو لهو ولا يمكن أن يزجّى بالكلمات أو الأماني(1) إنه حرب حقيقة، تحرز النصر فيها أو الاندحار. و لا حجة للمريد الذي يبغي الوصول على مولاه فيما لو علم بأن الله تعالى ليس بغائب عن عباده وأنه لا تحجبه الحجب فهو القاهر الذي لا يقهر وإنما الحجب هي حجب النفس وحجب الهوية، وأما العقول التي هي وسائل الوصول فإنها لا تتقيد وتتعثر إلا بقيود هوى النفوس وكذلك الأفهام والبصائر التي هي وسائل السفر الى المحبوب فإنها تخبو وتنطفئ بالشهوات. ومع كل هذا الوضوح الذي يضعه الشيخ عبد القادر بين يدي مريديه، فإنه يلزمهم، فيما لو صدقوا العزم والنية في السلوك، بالاستعانة بشيخ وليّ لله عارف بطريق الله ملتزم بأمره منته عن نهيه وذلك لصعوبة الوصول وكثرة المخاطر، (( فيا طلاب الله مكنوني منكم، حتى أطهركم بشربات أسقيكم إياها. أسقيكم الورع والزهد والتقوى والإيمان والإيقان والعلم ونسيان الكل والفناء عن الكل فحينئذ يجيئكم الوجود بربكم عز وجل والقرب منه والذكر له. ومن صحَّ له هذا صار شمساً للخلق وقمراً لهم ودليلاً لهم، آخذاً بأيديهم من شطّ الدنيا إلى ساحل الآخرة )).(2) و نلاحظ هنا أن الشيخ عبد القادر يؤكد كثيراً على دور المرشد أو الدليل (الشيخ) في السلوك الصوفي، وإن إحدى اهم الغايات من السلوك الصوفي عنده، هو أن يكون المريد السالك نفسه، بعد أن يجتاز جميع العقبات، دليلاً ومرشداً للآخرين، وهذا التأكيد، يسلط الضوء على الجانب الاصلاحي في نظريته الصوفية.

    الطريقة حرب على النفس

    إن السلوك في الطريقة، يُعُدُّ رهاناً صعباً وخطراً، ولكن الذي يواسي النفوس فيه، أن الرابح فيه
    سينال جائزة عظيمة، وأما الخاسر فإنه لا يفقد شيئاً لأن الخسارة متأصلة في اقدار البشر.(1) وكأن الشيخ عبد القادر أراد أن يخفف على الناس بعضاً من أثقال الواجب الذي يلقى على عاتقهم فيما لو أصبحوا من السالكين. إن الذي يفلح في سلوكه في الطريقة، فهو من السعداء، وأما إن مات أو هلك دون بلوغ مبتغاه، فهو من الشهداء ولا تثريب عليه، ولكن ما الذي يترتب على السالك في مقابل هذا ( الإغراء )؟ إن على الذي يبايع في الطريقة، وهنا يكمن العناء، (( أن يطرح نفسه في مقام الإفلاس ويغرقها في بحر الأياس وينزل عليه بعساكر الصفاء ويقاتلها برجال الوفاء- أي الشيوخ العارفين – ويضرب عليها سرادقات التسليم والرضا وينشر عليها اعلام المراقبة والحياء، ويركب خيول التوكل ويفرغ قرب اليقين ويلبس الصبر ويشهر أسياف الخوف وينكب بمتاريس الرجاء ويعقلها برماح الخشوع ويجول عليه في ميادين الشوق ويقيم عليها منجنيقات الصدق ورايات الاخلاص، ويزحف بخفيات الذكر وجزيئات الفكر ويقدم لها معارج العلم وسلالم الحلم. فإذا فعل المريد ذلك فإن عليه أن يستعمل قسيّ القناعة ويركّب عليها أوتار المجاهدة ويطرح فيها سهام المشاهدة ويجذبها بأيدي المعرفة ويرمي لها من نبال القرب لعله يحظى بحبل الوصال، فإذا فعل هذا فليقطع مطامعه ويترك إختياره ويقاتل هواه ويراقب مولاه، ثم يخطو بعد ذلك، قدمين فقط فيقال له ها أنت وربك كقاب قوسين)).(2) وهذا النص أوردناه كما هو كي يفصح عن نفسه، فهو يبين لنا أشياء عدة ويغنينا عن كثير من الشرح، إذ يتضح من خلاله اسلوب الشيخ عبد القادر وبلاغته ولغته الصوفية، وكذلك، وهو الاهم، فانه يمثل خلاصة مركزة جداً يتبين من خلالها سلّم الطريقة القادرية الروحي ومراتبها ومجاهدتها والمراحل التي يمرّ بها المريد ابتداءً من مبايعته حتى بلوغه مقام القرب الذي هو كقاب قوسين.
    ان بين الخطوة الاولى والمقام الاخير الذي حدده الشيخ عبد القادر في وصفه مراتب طريقته تتربص بالمريد السالك ، معاناة كبيرة ومكابدات واثقال تنوء تحتها الجبال ولا يدعّي الشيخ عبد القادر خلاف ذلك، اذ ليس الامر عنده بهّين ولا يمكن دفعه بالصوم والسهر او غير ذلك من الاعمال التي يمكن ان يفعلها اكثر الناس .ان الصوفية الصادقين ، الذين عقدوا العزم على قطع مفاوز المجاهدات حتى نهايتها، عليهم ان يصوموا حتى عن الصوم نفسه، أي ان لا يروا في انفسهم الفضل في ذلك او يرجوا من وراءه اجراً، ويناموا عن النوم ويفنوا عن الفناء ويخرجوا حتى عن وصف بشريتهم ويغيّبوا نفوسهم عن نعت الذاتية ، فاذا ما فعلوا ذلك واتموا ما عليهم واثبتوا صدقهم مع مطلوبهم، بحيث إنهم عافوا جميع ما عرض عليهم في طريق صعودهم, جاءتهم يد الرحمة فحملتهم ((فطارت قلوبهم في العوالم الملكوتية بأجنحة عناية المشيئة وألبسوا حلل العلوم اللدنية حتى وأذا خرقوا حجب الحدث وأنتهوا الى مقام الأزل, وقفوا على بساط الأنس فأخذتهم الغيرة وأنتهى بهم مقام الحيرة, فقربوا وكوشفوا ثم غابوا عن ذاتهم حتى بلغوا مقعد صدق عند مليك مقتدر فناداهم الجليل جل جلاله: يا عبادي لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون)).(1)

    الزهد في الدنيا والآخرة


    إضافةً إلى هداية الخلق وأرشادهم إلى سبيل الآخرة, فأن القرب من المولى عز وجل, يشكل أحد أهم الأهداف المرجوة من السلوك الصوفي, ولأجل هذا الهدف الأخير فأن على المريد أن يتجرد عن مطلوباته ويتخلى عن مرغوباته, سواء ما كان منها في الدنيا أو ما يأمل نواله في الآخرة. إن الدنيا إذا كانت عند المؤمنين تشكل حجابا يحول بينهم وبين السعي إلى آخرتهم, فأن الآخرة, فيما لو إستغرق العبد تماما في سعيه لها, ستشكل حجابا يحول بين قلب العبد وسعيه لمحبة رب الآخرة. إن على المريد الصادق, الذي لا يرضى بغير القرب من مولاه تعالى, أن يقرن بين الدنيا والآخرة ويضعهما في موضع واحد, ثم ينفرد بمولاه عريانا من حيث قلبه بلا دنيا ولا آخرة, بحيث لا يُقبل على ربه إلا مجردا مما سواه وغير متقيد بالخلق عن الخالق وأن يقطع هذه الأسباب ويخلع هذه الأرباب ولا يكون مع نفسه ولا مع هواه ولا مع دنياه ولا مع آخرته وأن لا يتابع سوى الحق عز وجل.(2) ولكن علينا أن لا نفهم من هذا الكلام أن الشيخ عبد القادر يدعو إلى الزهد في عطاء الله تعالى وثوابه الذي أعده لعباده في الدنيا والآخرة, فلا غناء لأي مخلوق عن ذلك, وأنما هو فقط يؤكد: أن القرب منه تعالى هو الجنّة الحقيقية, وأن كل ماعدا ذلك هو هبة ومنّة من الله تعالى ولا يجب أن يكون غاية بحد ذاته.

    الطريقة والرضا

    إن القرب من المولى عز وجل هو الجنّة الحقيقية التي لا يبغي السالكون غيرها, وهو اللذة الأسمى التي لا تبلغها لذة لا في الدنيا ولا في الآخرة. أنها كما يسميها الشيخ عبد القادر: الجنّة المنقودة في الدنيا والتي يقابلها الجنّة الموعودة في الآخرة, وهي منقودة لأنها تعطى في هذه الدنيا نقدا ومن غير تأجيل بعد الموت, وهي جنّة لأن القرب من الله تعالى يمثل الحياة الأبقى واللذة الأسمى والسعادة الأبدية, فأما وسائل نوال هذه الجنة, فأنها تتجسد بالرضا بقضائه في كل حال, ((فأن زال الأعتراض وتم الرضا, قرب القلب من المولى وصار مناجيا له ورفع الحجاب بينه وبين ربه فيصير صاحب هذا القلب في خلوته مع الحق عز وجل في جميع أحواله من غير تكييف ولا تشبيه)).(1) أن أتخاذ الشيخ عبد القادر الرضا, وسيلة وحيدة للوصول والقرب من الله تعالى, لا تتناقض مع ما سبق من أقواله, إذ إن الرضا والتسليم لله تعالى يعدّ الغاية الحقيقية التي ترتجى من وراء جميع المجاهدات والرياضات والمقامات الصوفية, فالعبد إذا ما رضي بقضاء ربه وسلم له فأنه حتما سيكون شاكرا له ومحبا وصادقا معه لابل حتى فانيا فيه, وهذه المقامات هي حتما جماع المراتب الصوفية. وأما عن العبارة التي تتناول (التكييف والتشبيه) فأنها تشير إلى عقيدة الشيخ عبد القادر التي يمكن أن نراها مبثوثة في كثير فصول كتبه, التي تتفق جميعها على توخي الدقة في تنزيه الذات الإلهية من غير تعطيل وعلى أثبات الصفات الإلهية من غير تجسيم, وهو رأي بادي الأشعرية.(2)
    لقد أعطى الشيخ عبد القادر, للرضا بقضاء الله تعالى, كل هذه الأهمية, لعلمه بأن الرضا هو أساس التسليم, وأن التسليم هو فحوى الإسلام الصحيح وأن الإسلام الصحيح هو المقام الأول الذي يفضي بالمريد إلى بقية المقامات. ولابد من الأشارة إلى أن الرضا بالقضاء والتسليم لرب العالمين لايعنيان عند الشيخ عبد القادر, القعود عن جلب المنافع والأحجام عن درء المضار. إن الرضا عنده يعني تكوين علاقة من نوع جديد قائمة بين العبد وربه, وخصوصا في المراحل المتأخرة من الطريق الصوفي. إن الرضا بقضاء الله تعالى والتسليم له, يعني موافقته في جميع الطوارق التي تطرق العبد أثناء حياته, سواء النافع منها أو الضار, وسواء ماكان منها متعلق بأمور الجسد والحياة المادية أو ما هو متعلق بأمور الطريقة والحياة الروحية أو ما يلزم عنها, من غير إعتراض أو تذمر, وهذا الفعل لا يمكن أن يأتيه ضعيف الأيمان, بل هو من أختصاص الخواص من عباد الله الصالحين, لأن الله تعالى هو يتولى الصالحين والعبد الصالح كما يعرفه الشيخ عبد القادر هو: ((الذي كفت يده عن جلب مصالحه ومنافعه وعن ردّ مضاره ومفاسده, كالطفل الرضيع والميت مع الغاسل, فتتولى يد القدرة تربيته من غير أن يكون له أختيار وتدبير, فانٍ عن جميع ذلك لا حالا ولا مقاما ولا إرادة بل القيام مع القدرة تارة يبسط وتارة يقبض وتارة يغني وتارة يفقر ولا يختار ولا يتمنى زوال ذلك وتغييره, بل الرضا الدائم والموافقة الأبدية, فهو آخر ما تنتهي إليه أحوال الأولياء والأبدال* قدست أسرارهم)).(1)

    الطريقة ليست إبتلاءً

    إن تأكيد الشيخ عبد القادر على الرضا والتسليم في جميع مراحل الطريقة, يأتي من علمه بأن الطريقة يمكن أن ينظر إليها البعض بكونها محنة وإبتلاء. فأذا كان السلوك الصوفي, هو من بعض الوجوه أصطفاءً وتوفيقا من المولى عز وجل, فأنه يتبعه من الجهة الأخرى, تحمل معاناة وأحمال ومكابدات تلزم عن أزالة الكثير من النوازع والأهواء غير المرغوب فيها والخصال المشينة والصفات الذميمة التي تشكل حجابا كثيفا يمنع استرسال المريد في مواصلة معراجه الروحي. الطريقة إذن هي أمتحان وأبتلاء, ولكن ليس المطلوب من وراء ذلك هو الأتلاف والعقوبة, وإنما الغرض منه هو التصفية والأرتقاء الروحي ورفع الدرجات ليلتحق المريد بعدها بأُلي العلم من ذوي الأحوال والمقامات ممن سبقت لهم من ربهم الرحمة والعناية إذ إختبرهم كي يصطفيهم ويجتبيهم ويستخرج من نفوسهم معدن الأيمان ويصفيهم ويميزهم من الشرك والدعاوى, ثم يبدلهم بما يخالف ذلك من أنواع العلوم والأسرار والأنوار, ثم يجعلهم من خُلَّص عباده وخواصهم. فأن بلغوا ذلك, إئتمنهم على أسراره وإرتضائهم لمجالسته دنيا وأخرى, وفي الدنيا بقلوبهم وفي الآخرة بأجسادهم, فالبلايا إذن ما كانت ألا لتطهير القلوب والأنفس, لذلك فأن هذا الأبتلاء الإيجابي لا يقابل من جهة العبد الصالح إلا بالرضا والموافقة وطمأنينة النفس والسكون لفعل أله الأرض والسماوات والفناء فيها إلى حين الأنكشاف(1) إن الشيخ عبد القادر, برأيه هذا, يتبنى وجهة النظر الإيجابية تجاه العالم والتي لاترى ضيرا في كل ما يحيق بحياة البشر من الرزايا والبلايا والشرور, إذ إن كل هذه الصروف – من وجهة النظر تلك – لها مسوغاتها وأسباب وجودها, فهي ضرورية لأجل تحسين حال البشر الصالحين عن طريق تنقية وعزل الطيب منهم عن الخبيث وهذه هي الأداء نفسها التي سبق إليها الغزالي والتي ذهب فيها إلى إنه ليس في الأمكان أبدع لما كان وأن العباد لو أعملوا البصر ما رأوا في العالم من تفاوت ولافطور, وإن كل ماقسم الله تعالى بين عباده من أرزاق وآجال ومسرات وأحزان وعجز وقدرة وأيمان وكفر وطاعة ومعصية, فكله عدل محض لاجور فيه وحق صرف لاظلم فيه. وهذا الأعتقاد يعده الغزالي ضروريا لكل مريد لأنه أصل التوكل وقوامه.(2)

    الطريقة والإرادة الإنسانية


    يبقى هنالك مفهوم مهم آخر من بين مفاهيم الطريقة (القادرية): أنه مفهوم الإرادة وهذا المفهوم يشكل الأصل اللغوي والمعنوي الذي أشتق منه الأسم المريد الذي يعد العماد الأساسي للطرق الصوفية كافة. أن الشيخ عبد القادر, يعول كثيرا على الإرادة الإنسانية ويضع لها مكانا متميزا ضمن محيط نظرياته الصوفية, لأنه يرى أن السلوك الصوفي ماهو إلا سلوك إرادي وفعل قصدي يدفع بصاحبه إلى طلب ما يطلب وإرادة ما يريد. فهي إذن – أي الإرادة – مقدمة على كل أمر في الطريقة.
    يعرف الشيخ عبد القادر الإرادة, على وفق منظار أخلاقي عملي ملحوظ بأنها ((ترك ما عليه العادة))(1) وهذا التعريف يحتاج إلى بعض التوقف, فالإنسان الذي تضطره الحياة إلى أدمان الكثير من العادات والأفعال الرتيبة, لا يفتأ يجد نفسه حبيسا لها بحيث تتلاشى فيه حرية الإرادة والقصد والأختيار, وهو لكي يتجاوز تلك الحالة فأن عليه أن يترك عاداته, بحيث لايأتي أي فعل أو سلوك من دون قصد أو إرادة, وفي المجال الصوفي البحت, فأن العادة تعني عبودية الإنسان لغرائزه وميوله التي طالما ظل خاضعا لها من دون تمحيص أو تفكر, فأذا ما عقد العزم على إمتلاك إرادته من جديد, فأن عليه أن يتجاوز تلك الغرائز والشهوات أو في الأقل يمتلك ناصيتها.

    أما تحقيق هذه الإرادة أو اظهارها إلى الوجود, فيتم عن طريق نهوض القلب في طلب الحق تعالى وترك ما سواه, فإذا ما ترك العبد العادة التي هي حظوظ الدنيا والآخرة تجردت حينئذ إرادته, ثم بعد ذلك يعقبها القصد ثم الفعل. فهي إذن – أي الإرادة – بدء طريق كل سالك وأسم أول منزلة كل قاصد.(2) وعلى وفق هذا المعنى, تبدو الإرادة الإنسانية عند الشيخ عبد القادر, وكأنها قوة كامنة أو حبيسة داخل قفص العادات اليومية والرغبات الجسدية الضيقة, والمطلوب من من الإنسان هو تحرير تلك القوة, من أجل أن تأخذ معناها الحقيقي وتكون إرادة حرة, ولكن هذه القوة غير كافية لوحدها بل هي محتاجة إلى توجيه (قصد) وهو مايمنحها الهدف والمعنى, ثم بعد ذلك يأتي دور الفعل الذي يعني الزهد والمجاهدة والسلوك الصوفي بوجه عام.

    إن حقيقة الإرادة ومعناها الأصلي, عند الشيخ عبد القادر, ينحصر فقط في إرادة وجهه تعالى دون غيره, لأن إرادة من سواه لاتعني إرادة وإنما تعني إستلابا ونفيا لحقيقة الإنسان, فالإرادة ما وضعت في الإنسان إلا لكي تدفعه نحو طلب ربه, وهذه الحقيقة هي التي تمنح المريد القدرة على أحتمال أعباء الطريق الصوفي بأن تلهمه الصبر على تحمل المشاق وإتيان الطاعات. إن إرادة المريد للمطلوب الحقيقي هي ما يهون عليه ترك بقية مطلوبات النفس سواء الدنيوية منها أم الأخروية.

    وبناءً على معنى الإرادة هذا, يمكننا أن نفهم معنى المريد وصفته عند الشيخ عبد القادر فالمريد هو من كانت فيه هذه الجملة وأتصف بهذه الصفة, فهو أبدا مقبل على الله تعالى وطاعته, مولٍ عن غيره وعن إجابته, يسمع من ربه فيعمل بما يأمره به ويصم عما سوى ذلك, ويبصر بنور ربه فلايرى فاعلا على الحقيقة غيره, بل يرى نفسه آلة وسببا محركا مدبرا مرادا مسخرا. فحبه لله تعالى وإرادته له قد أعمياه وأصماه عن غير محبوبه لأنه متوجه اليه ومشتغل به, وهو ما أحب حتى أراد وما أراد حتى تجردت إرادته, أي خلصت لمولاها, وما تجردت إرادته حتى قذفت في قلبه جمرة الخشية فأحرقت كل ما هنالك.(1) إذن فالفعل الأول يصدر من العبد, ويتمثل في الإرادة التي يتبعها الحب بالضرورة, ثم بعد ذلك تدركه يد المعونة الإلهية, فتقذف الخشية في قلبه, وهذه وحدها كفيلة بأزالة جميع العلائق والروابط الدنيوية. و الشيخ عبد القادر في وصفه هذا للمريد لاينسى بأن يذكر, كي يحكم الحدود أمام أي دخيل على حمى القوم, بأن المريد هو في حقيقته المريد لله تعالى المطيع له المنقطع عن غيره الملتزم بكتاب الله تعالى وسنة نبيه ( e) والذي لايرى لنفسه أي فعل أو معنى خارج الفعل أو المعنى الذي رسمه له مولاه.

    المريد لاتصح عليه هذه التسمية ولاينال شرفها, حتى يحوز على شروط وتظهر عليه صفات, فأما الشروط فهي أن يصدق في إرادته, والصدق لاينال بالقول, وإنما باعداد العدة والبحث عن أسباب الطاعة, ثم لابد له من المعرفة بحال نفسه كي يكتشف آفاتها ويعالجها, ولابد له أيضا من مصاحبة عالم بالله شرط أن يؤثره على نفسه, فأما صفات هذا المريد فهي أولا: أنه أراد القرب من مولاه عزوجل, فأورثته تلك الإرادة داء الحب وهو اللوعة (التي تهون عليه كل روعة), وهو كناية عن الزهد في الدنيا, فنومه غلبه, وأكله فاقه وكلامه ضرورة, ينصح نفسه أبدا ولايجيبها إلى محبوباتها ومرغوباتها, وينصح عباد الله تعالى. يانس بالخلوة مع الله تعالى ويصبر عن معاصيه ويرضى بقضائه ويختار أمره ويستحي من نظره ويبذل مجهوده في أرضائه ويتعرض أبدا لكل سبب يوصله إليه, ويقنع بالخمول والأختفاء فلا يختار حمد عباد الله تعالى ويتحبب إلى ربه بكثرة النوافل, مخلصا له حتى يصل إليه ويكون في زمرة أحبابه ومراديه.(1)

    أننا لو تدبرنا وصف الشيخ عبد القادر للمريد, لوجدناه يمثل في الوقت نفسه, وصفا لسلسلة مراتب الطريقة القادرية, فهو يتضمن التوبة والطاعة والتسليم والحب والفناء والشهود, ومما يلفت النظر في هذا الوصف, أيضا, أنه يجمع الإرادة والحب وكأنهما فعل واحد, فالمريد هو المحب والذي يحب الله تعالى فهو حتما يريده والعكس يصح أيضا.


    لقد تضمنت سيرة المريد, من ضمن ما تضمنته, رد الشيخ عبد القادر على كل من يفهم من السلوك الصوفي إسقاط التكاليف الشرعية وتعطيل حدود الله تعالى والأبتعاد عن سنة نبيه ( r) وكذلك تضمنت ردا على كل من يرى في الزهد والمجاهدات الصوفية تكديرا لصفو العيش وتحريما لما أحل الله تعالى لعباده من الطيبات وكذلك ظلم النفس وإيذائها بتحميلها ما لا طاقة لها به. وردا على هذا الرأي الأخير, يرى الشيخ عبد القادر أن مشقات الطريق الصوفي, لا تظل محاذية له حتى نهايته, بل هي تنتهي بعد حين متحولة إلى صيغة أخرى مغايرة تماما لسابقاتها, وهي الصورة التي يسمى فيها المريد مرادا, ((فتحط عنه أثقال سالكي طريق الله عز وجل, ويغسل بماء رحمته ورأفته ولطفه, فيبنى له بيت في جوار ربه وتخلع عليه أنواع الخلع – الروحية – وهي المعرفة بالله والأنس به والسكون والطمأنينة إليه, وينطق بحكمة الله تعالى وأسراره بعد الأذن الصريح, ويلقب بألقاب يتميز بها بين أحباب الله عز وجل, فيدخل في خواص الله ويسمى بأسماء لا يعلمها إلا الله تعالى.(2) ويطلع على أسرار تخصه, فلا يبوح بها عند غير الله, فيسمع من الله ويبصر بالله وينطق بالله ويبطش بقوة الله)).(3) والمراد مثله مثل المريد فيما يخص الشرع, فهو أيضا, ورغم كل صفاته وخصاله الفائقة, ملزم بعدم تجاوز حدود الشرع, لا بل هو ملزم بزيادة في الإقبال على ظاهر الشرع لكونه قدوة ومثالا يُحتذى.

    نفهم مما سبق, إن المريد هو غير المراد, وإن موقعهما في سلم الارتقاء الصوفي في الطريقة القادرية, يتفاوت تفاوتا ملحوظا. إن المريد هو المبتدئ وأما المراد فهو المنتهى, المريد نُصب بعين التعب وأُلقي في مقاسات المشاق, أما المراد فهو الذي لقي الأمر من غير مشقة المريد متعب والمراد مرفوق به ومرفه. المريد طالب والمراد مطلوب(1) عبادة المريد مجاهدة وعبادة المراد موهبة, المريد موجود والمراد فان, المريد يعمل للعوض والمراد لا يرى العمل بل يرى التوفيق والمِنن المريد يعمل في سلوك السبيل والمراد قائم على مجمع كل سبيل, المريد ينظر بنور الله والمراد ينظر بالله, المــريد يخالف هواه والمراد يتبرأ من إرادته ومناه, المريد يتقرب والمراد يُقرب به, المريد في الترقي والمراد قد أوصل وبلغ إلى المولى عز وجل الذي هو المرقي فجاز على كل طائع عابد متقرب تقي.(2) ولكن مع كل هذا الأختلاف والتفاوت بين مرتبتي المريد والمراد في الطريقة القادرية, فأن علينا أن لا نفهم من ذلك أن الشيخ عبد القادر يقسم البشر من حيث الطبائع والحظوظ إلى مريدين ومرادين, وإنما المريد نفسه, يصبح في مرحلة ما من مراحل الطريق الصوفي, مرادا وذلك بعد أن يتجاوز الكثير من عقبات النفس والطريق.

    آراء في الطريقة القادرية

    ومن أجل أن تكتمل أمامنا الصورة عن مفهوم الطريقة عند الشيخ عبد القادر نذكر في خاتمة هذا المبحث بعض الآراء التي قيلت فيها والتي صدرت عن شيوخ التصوف من الذين عايشوها وتأثروا بها وأستمدوا من تعاليمها وممن كان الشيخ عبد القادر, قد إستطاع بقوة شخصيته وصحة مبادئه التي لم يخالطها غلو أو شطط أو تنطع, وبصدق نواياه التي قامت على أصول صحيحة, أن يجمع شملهم ويؤلف بينهم ويوحد هدفهم, من أجل إنجاح حركة إصلاح المجتمع الإسلامي, ذلك الإصلاح الذي أثمر من ضمن ما أثمره, إفشال الحملات الصليبية وجلاء قواتهم عن بلاد المسلمين.(1)

    الشيخ عدي بن مسافر*: (ت – 557 هـ ) قال: إن طريق الشيخ محي الدين عبد القادر رضي الله عنه, الذبول تحت مجاري الأقدار بموافقة القلب والروح وأتحاد الباطن والظاهر, وإنسلاخه من صفات النفس مع الغيب عن رؤية النفع والضر والقرب والبعد.(2) وهذا الوصف المقتضب يلخص بدقة متناهية, مراحل الطريقة الصوفية عند الشيخ عبد القادر, فهو يرصد فيها التوكل والتسليم وصدق النية والجمع بين الشريعة والحقيقة ومجاهدة النفس والفناء عن النقص في الخصــال والصــفات والأخلاق والوجود بالكمال فيها, ولاشئ أكثر من ذلك ولاشئ غير ذلك.

    أما الشيخ أبو الحسن علي أبن الهيتي*: * (ت – 564 هـ ) فقال: كان طريق الشيخ عبد القادر التفويض والموافقة مع التبري من الحول والقوة وتجريد التوحيد وتوحيد التفريد مع الحضور في موقف العبودية بسرّ قائم في مقام العبودية لابشئ ولالشئ, وكانت عبوديته صحيحة مستمدة من لحظ كمال الربوبية, فهو – أي الشيخ عبد القادر – عبد سما عن مصاحبة التفرقة إلى مطالعة الجمع مع لزوم أحكام الشريعة.(1) أن الملفت للنظر في وصف الشيخ (الهيتي) هو أنه يدل على مصاحبة طويلة وفهم عميق لجميع دقائق الطريقة القادرية, فهو يرصد فيه أكثر الثوابت الأيمانية التي حاول الشيخ عبد القادر أن يعلمها لتلامذته ومريديه, مثل عدّ التوحيد الحق لله تعالى طموحا معرفيا وعباديا لايستحصل إلا بالمجاهدات والرياضات, وعدّ عبودية العبد لله تعالى مقاما رفيعا لايناله إلا الخواص من البشر, وأن العبد مهما بلغ من درجات القرب والوصول فأن عليه أن لاينسى حدود عبوديته وأن القرب الذي يزيل عن قلب العبد كثيرا من المسافات والحجب ويوصله إلى مرحلة وحدة الشهود والفناء الشهودي, لايمكنه أن يزحزحه عن حمى أحكام الشريعة وفرائضها.

    الشيخ بقاء بن بطو*: * طريق الشيخ محي الدين عبد القادر هو: إتحاد القول والفعل وإتحاد القلب والنفس ومعانقة الإخلاص والتسليم وتحكيم الكتاب والسنة في كل لحظة وخطرة ونَفَس ووارد وحال, والثبوت مع الله عز وجل على ما قرّ عند الأجلاء المتثبتين.(1) وفي هذا الوصف حاول الشيخ (بقاء) أن يسلط الضوء على النواحي العملية في الطريقة القادرية وعلى وشائج إرتباطها بالكتاب والسنة ومتابعتها لأثر الصالحين من شيوخ التصوف.
    الشيخ أبو سعيد القيلوي *: (ت – 557 هـ ): قوة الشيخ عبد القادر, مع الله وفي الله وبالله ضعفت عندها قوة الصناديد, ولقد سبق كثيرا من المتقدمين بتمسكه بعروة من طريقة لا إنفصام لها, ولقد رفعه الله تعالى إلى مقام عزيز بتدقيقه في الحقيقة.(2) إن أهم ما في هذا الوصف هو تأكيده على ناحية تدقيق الشيخ عبد القادر, في الحقيقة وتوضيحه كثيرا من جوانب الغموض فيها مع محاولة إزالة نقاط اللبس وسوء الفهم التي طالما تعلق بها المبطلون وإستغلها المفسدون.
    إن الملاحظ هنا إن جميع هذه الآراء تتفق على عدّ طريقة الشيخ عبد القادر, طريقة عبادية تعتمد في منهجها الزهد وكبح جماح الرغبات والإقبال على الله تعالى بصدق نية وهمة عالية مع التمسك بعروة الدين وهدى الشريعة المحمدية وإن جميع هذه المبادئ, إستطاع الشيخ عبد القادر, وبنجاح فائق, أن يبثها بين متصوفة زمانه, من أجل أن يكونوا مستعدين لمواجهة مخاطر العصر الذي عاشوا فيه, ذلك العصر الذي كاد التصوف أن يصبح فيه بناءً هاريا, تعمل معاول الخصوم على تقويضه.
    إن الطريقة التي وضع أسسها الشيخ عبد القادر, والتي أعانه على أقامة بنائها أكثر الشيوخ المعاصرين له, كانت في وقتها, هي الحل المثالي والعلاج الفعال لأكثر أمراض وأخطاء ذلك الزمان, والدليل على هذا الكلام هو: الأقبال المنقطع النظير الذي لاقته الطريقة القادرية, سواء في حياة الشيخ عبد القادر, أو بعد وفاته, وسواء من الناس العاديين أو حتى الفقهاء أنفسهم.

    المفهوم النهائي للطريقة القادرية


    مما سبق, يمكننا أن نخلص إلى مفهوم مبسط للطريقة عند الشيخ عبد القادر, فهي تعني: التطبيق العملي للمبادئ والنظريات الصوفية والأخلاقية التي يضعها شيخ الطريقة لمريديه, ويتم ممارسة ذلك, بشكل جماعي أو فردي, وتحت إشراف مباشر من لدن شيخ مرشد, سلك الطريق الصوفي فأصبح عارفا بخفاياه خبيرا بمخاطره, ضليعا برياضاته ومجاهداته وخلواته وأذكاره, مفوها بالنصح والأرشاد وكل ذلك لايجدي فتيلا إذا لم يقرن برابطة روحية تربط شيخ الطريقة بمريديه وهذه الرابطة تنمو إبتداءً من أخذ البيعة أو العهد(1) أو إعلان التوبة على يدي الشيخ أو على يدي من ينوب عنه, حتى بلوغ أعلى المراتب.
    لقد دخل التصوف الإسلامي مع الطريقة القادرية, وبقية الطرق الأخرى(2) , إلى مرحلة جديدة, يمكن تسميتها بالمرحلة العملية, وهي التي أستمرت حتى الوقت الحاضر وقد أتسمت بتغليب الأخلاق العملية وبثها بين الناس, على حساب الأهتمام بالنظريات الصوفية والبناءات الفكرية البحتة. على أن هذه المرحلة لاتقل في أهميتها عن المراحل السابقة, إذ أستحال التصوف فيها إلى فلسفة حياة يتبناها قطاع كبير من الناس في المجتمع الإسلامي, ((وأصبح له نظم وقواعد ورسوم خاصة بعد ان كان حظ أفراد يظهرون بين حين وآخر))(1) واصبح له كذلك أهداف إجتماعية تسعى إلى تذكير الناس بالمثل العليا والقيم السامية (قيم الفتوة) كأنكار الذات والصدق في القول والعمل والصبر على تحمل المشاق ومحبة الغير والتوكل الحق على الله تعالى, وغير ذلك من الفضائل التي دعا الإسلام إلى التحلي بها.
























    التصوف عند الشيخ عبد القادر

    مقدمة لابدّ منها

    في مقدمة هذا المبحث, سنحاول ان نقدم ملاحظات عامة عن التصوف الإسلامي لها علقة ماسة بالتصوف عند الشيخ عبد القادر, وهذه الملاحظات أُريد لها أن تشكل قفزا على بعض ما عهدته الدراسات المختصة التي تناولت هذا الموضوع والتي أغرقت نفسها في سرد مكرر لنظريات جاهزة لباحثين, سواء من القدماء أو المحدثين, من العرب أو المستشرقين, مع كثير من التلفت لما يسمى بمنابع وأصول التصوف الإسلامي وكثير من الإجترار لآراء المدارس الأستشراقية التي حاولت أن تنسب التصوف الإسلامي إلى أية أمة أو دين أو حضارة سوى الأمة أو الدين أو الحضارة الإسلامية.

    أولى هذه الملاحظات هي, ضرورة التمييز بين التصوف الإسلامي المعروف وغيره من أنواع (التصوفات)(1) التي لاتخلو منها أمة من الأمم, والتي هي في حقيقتها لاتمثل إلا نزعات تنسكية تكون مصحوبة في أكثر الأحيان بأنواع من العبادات والفعاليات الزهدية ومقرونة بتقشف وعزوف عن مباهج الحياة وملذاتها ويكون الغرض منها في أكثر الأحيان هو, تقوية الإنسان داخليا عن طريق إذكاء قدراته الخاصة وتوسيع إمكاناته الجسدية من أجل زيادة القدرة على تحمل أعباء الحياة المادية وتجاوز الكثير من مصاعبها, هي إذن, في حقيقتها, تعدّ خطا, من بين خطوط الدفاع عن النفس وشكل من اشكال تطوير القدرات الذاتية للإنسان. إذن التصوف بهذا المعنى, يمكن أن يعدّ ظاهرة إنسانية عامة لا تنفرد بها أمة دون بقية الأمم, وهو معروف عند أكثر الشعوب إنه ثمرة من ثمار النضج الفكري والديني وعلامة من علامات تكريم وأحترام المرء لنفسه وصدقه في بحثه عن الحقيقة العظمى واليقين الروحي. أن شعور الإنسان الغريزي, بأن وجوده هو في الحقيقة, أكبر من هذا الحيز المادي الذي يشغله, وإحساسه الفطري بوجود حقيقة سامية تقف وراء هذا الوهم الذي يعيشه, هو ما يدفعه لأن يسلك طريقة في العيش, أقل ما يقال عنها, هو انها كسر للأعتياد وخرق للمعتاد, وفي ذلك ما فيه من إرضاء لهواجس دفينة مغروسة في أصل فطرة الإنسان. التصوف الإسلامي من جهته, لايتخذ لنفسه هذا الدور, بل هو يطمح إلى أعمق وأبعد من ذلك, إذ أنه يسعى إلى تغيير حياة الإنسان العادي تغييرا جذريا من حيث طريقة عيشه وطريقة عبادته وطريقة تعامله مع الآخرين, وهو يرمي إلى أكثر من ذلك, إذ يسعى إلى تغيير طبيعة نفس الإنسان, من حيث ميولها وأهواؤها, من أجل توجيهها نحو أهداف سامية, يقف في مقدمتها, حب الله تعالى وإقامة أسباب الأتصال به. على إن كل ذلك لا يكتسب مشروعيته أو يتخذ مساره الصحيح مالم يلتزم بحدود الشرع وأوامره ونواهيه.

    مشروعية التصوف الإسلامي

    هذا من حيث التأصيل والمرجعية الفكرية, أما من حيث المشروعية أو من حيث علاقة التصوف الإسلامي بالشريعة, فيمكن القول إن أي باحث منصف يستطيع وبيسر بالغ أن يجد في القرآن الكريم الذي أشتمل على الكثير من الآيات(1) التي تحث على الذكر والتفكر والتذكر وعلى مخاطبة التائبين والمستغفرين والعابدين والموقنين والمتبتلين والسائحين والمخلصين وأولي الألباب, وكذلك الآيات التي تحدثت عن الخوف والرجاء والمعرفة والصبر والرضا والتوكل والحب والأخلاص وغير ذلك من الآيات مما يمكن عدّه دعوة صريحة إلى ضرورة تبني المنهج الصوفي من الناس كافة. وأما في السنة النبوية, فأن سيرة النبي محمد ( r), قد إشتملت, سواء قبل البعثة أو بعدها ومضافا إليها الكثير من سير الصحابة الكرام, على الكثير من أرهاصات الرؤية الصوفية والتمهيد لها, سواء على مستوى الممارسة أو على مستوى الأصطلاح, فلا يخلو الأمر من تبتل وأعتزال وتفكر في الآفاق وفي النفس, وحث على نبذ التعلق بأسباب الحياة الدنيا وضرورة الأستعداد للحياة الأخرى, وأمر على مجاهدة النفس, وتسمية هذا الجهاد بالجهاد الأكبر, تفضيلا له على مجالدة الأعداء بالسلاح الذي سمي بالجهاد الأصغر.(2)
    إن المتتبع لسيرة النبي محمد (r), سيجد أنها مفعمة بروح المحبة والأخلاص والتوجه إلى الله تعالى بالقلب والروح والجوارح كافة, وكان ( r) وهو في مقامه الرفيع ذاك, يسعى جاهدا إلى الإستزادة من رضا ربه عن طريق القيام والصيام والأكثار من النوافل, ويسعى أيضا إلى إكمال نفسه كي يقترب أكثر من ربه تعالى. ولا يخفى على المطلع, إن التصوف الإسلامي قد اشتمل على هذه المفردات وهذه الفعاليات وغيرها الكثير. وأن النبي محمد ( r) ومن بعده رجال الصدر الأول, إذا لم يكونوا قد طرحوا نظريات في الزهد والتصوف كالتي قال بها مشايخ التصوف الإسلامي فيما بعد, فأنهم أيضا لم يضعوا أصولا وقواعد للفقه كالتي وضعها أئمة الفقه الإسلامي فيما بعد, والأمر كله, فيما لو نظر أليه من منظار صحيح, متعلق بحالة النضج الفكري والحضاري الذي لابد من أن يصل إليه أي مجتمع من المجتمعات, وكذلك له علاقة بالظروف والمداخلات السياسية والإجتماعية والحضارية التي واجهت مسيرة الإسلام إثراءً أو إعاقة.


    تعريفات متعددة للتصوف


    إن التصوف الإسلامي بوصفه فهما دقيقا لفحوى الرسالة المحمدية وتطبيقا حرفيا لمبادئها, نراه متجسدا بوضوح من خلال نظريات وآراء كبار رجالاته المتوزعين على طبقات متفاوتة. فالفضيل بن عياض وهو من رجال الطبقة الأولى (ت 187 هـ ) يرى أن التصوف هو من أفضل ما يتزين به الناس, وهو لا يعني أكثر من الصدق وطلب الحلال.(1) وأما ذو النون المصري (ت 245 هـ ) فقال حين سئل عن التصوف: هو أن تحب ما أحب الله وتبغض ما أبغض الله وتفعل الخير لله وترفض كل ما يشغل عن الله, وأن لا تخاف في الله لومة لائم مع العطف على المؤمنين والغلظة على الكافرين وإتباع رسول الله (r ) في الدين(2) السري السقطي (ت 251 هـ ) قال: إن من علامة المعرفة بالله – أي التصوف – القيام بحقوق الله وإيثاره على النفس فيما أمكنت فيه القدرة.(3) الحارث المحاسبي (ت 243 هـ ) وهو من أوائل من قالوا بضرورة الربط بين أعمال الظاهر وأعمال الباطن قال : من صحّ باطنه بالمراقبة والأخلاص, زين الله ظاهره بالمجاهدة وإتباع السنة.(4) أبو يزيد البسطامي (ت 261 هـ ) سئل ما علامة العارف فقال: ألا يفتر من ذكره ولا يملّ من حقه ولا يستأنس بغيره. وقوله أيضا الذي يربط فيه, ربطا عضويا بين الشريعة والتصوف. السنة ترك الدنيا والفريضة الصحبة مع المولى لأن السنة كلها تدل على ترك الدنيا والكتاب كله يدل على صحبة المولى فمن تعلّم السنة والفريضة فقد كمل.(5) أما الجنيد البغدادي (ت 297 هـ ) فيقول: ما أخذ التصوف عن القيل والقال, ولكن عن الجوع وترك الدنيا وقطع المألوفات والمستحسنات, لأن التصوف هو صفاء المعاملة مع الله تعالى وأصله التعزف عن الدنيا.(1) وقوله أيضا: الطرق كلها مسدودة على الخلق, إلا من أقتفى أثر الرسول ( r) وأتبع سنته ولزم طريقته, فأن طريق الخيرات كلها مفتوحة عليه.(2) أما سهل بن عبد الله التستري (ت 293 هـ ), فيحدد منهجا للتصوف يقصر الأمر فيه تماما على الشريعة الإسلامية إذ يقول: لا معين إلا الله ولا دليل إلا رسول الله ولا زاد إلا التقوى ولا عمل إلا الصبر.(3)

    حقيقة التصوف الإسلامي

    من كل ما سبق, يمكن القول: إن التصوف الإسلامي قد ظلّ, عبر سلسلة شيوخه المتصلة, وفيا لمنهجه النقي الذي وضعه أوائل الصوفية, وإنه ظل ملازما لأساسه الشرعي خطوة بخطوة, وإن أي أنحراف أو غلق أو مروق أو إسقاط للتكاليف لم يكن قد دخل إلى المنهج الصوفي عن طريق شيوخ هذه السلسلة, وإنما عن طريق بعض المتسللين على قلاع القوم ممن حاولوا أستغلال لون الرداء الصوفي المقبول إجتماعيا, لتمرير أغراضهم السياسية, كما حاولوا ذلك بوجه عام مع بقية مفاصل الدين الإسلامي. إضافة إلى ذلك, فأنه يمكن القول: أن هذا التصوف الإسلامي (بخطه) الشرعي, هو غير المذاهب أو النحل السرية أو الأتجاهات الغنوصية أو الباطنية.(4) أن التصوف الإسلامي يعدّ منهجا في السلوك والتربية يستمده مبادئه من الدين المحمدي, ويراد من خلاله الترقي بالإنسان من مستوى أدنى إلى مستوى أعلى, مع الحفاظ على الصفات البشرية التي يظن بعضهم أنها قد تتلاشى مع السلوك الصوفي.
    إن التصوف الإسلامي, يسعى إلى إختصار الطريق الذي يوصل العبد إلى مولاه عن طريق النزاهة والأستقامة والألتزام بالذكر الدائم والعبادات الصحيحة وعن طريق الإلتزام بمبادئ أخلاقية سامية تحث على أفعال الخير وعلى التحلي بجميع الخصال الحميدة, وتنهى عن خلاف ذلك, وهو يعدّ أيضا, عملية ترقٍ, وسمو روحي وليس عملية إمحاء أو تماهٍ, كما يريد أن يرى فيه بعضهم فمقام الفناء في التصوف الإسلامي, ليس له علاقة بالفناء (النرفانا) في الفلسفة الهندية, فالأول إيجابي يبغي تجاوز الوجود الوهمي إلى الوجود الحقيقي عن طريق إمحاء الصفات الذميمة وإحلال الصفات الحميدة محلها, أما الثاني, فأنه بلا هدف إجتماعي أو أخروي وذلك لأن محطته الأخيرة هي التلاشي والأندثار أو الذوبان في المطلق, وعليه فأن أقوال المتقولين بخروج الصوفية عن جادة الإسلام وتبديعهم وتكفيرهم لايمكن أن يعزى إلا إلى ((الجهل بمنطق الصوفية وأحوالهم أو الحقد على أصحاب المقامات الروحية، ممن حظوا دوماً بالكشف الالهي)).(1) او الى محاولة طمس وإطفاء صفحة مضيئة من صفحات الفكر والابداع الاسلامي، هذه الصفحة التي يرى بعض القدماء والمحدثين ، انها تشكل ثلث الاسلام، لان التصوف ما هو في حقيقته الا مقام الاحسان، والاحسان هو ثالث ثلاثة بعد الاسلام والايمان.(2) ولا يبحث في حقيقة الاحسان ولا يسعى الى حيازته الا العلماء العاملون وهم الصوفية الذين إعتنوا، اضافة الى العبادات، بتحسين الاخلاق وتصفية النفوس، وبمتابعة ما دقَّ من انواع الشرك الخفي، الى جانب الصدق والاخلاص والخشوع وحضور القلب في الاذكار.

    مفهوم الشيخ عبد القادر للتصوف

    الشيخ عبد القادر، من جهته- وهو الذي يمكن عدّه، امتداداً طبيعياً لسلسلة مشايخ التصوف الاسلامي، من الذين شيدوا نظرياتهم الصوفية على اساس شرعي متين- يرى في السلوك الصوفي محاولة لاعادة الروح الى سيرتها الاولى قبل طوفان الحياة والغرق في اغوار الجسد.(3) وهذه (الرؤية) تحتمل الكثير من الشرح والتوضيح مما سياتي ذكره لاحقاً.
    يبتدئ الشيخ عبد القادر- من اجل تكوين نظرة متكاملة- بتعريف محاور نظريته الصوفية الثلاثة وهي: المتصوف والصوفي والتصوف. فاما المتصوف . فاما المتصوف : فهو الذي يتكلف ان يكون صوفياً، ويتوصل بجهده الى ان يكون صوفياً، فاذا تكلف وتقمّص بطريق القوم، واخذ به يسمى متصوفاً، كما يقال لمن لبس القميص تقمّص وكذلك يقال لمن دخل في الزهد متزهداً (4). ان الشيخ عبد القادر في هذا التعريف، يتبع الخطوات نفسها ألتي اتبعها في تعريفه للمريد والمراد، مع تأكيده أن الفعل الصوفي،هو في حقيقته،فعل قصدي يمارسه الأنسان عن أدراك ودراية وعن أرادة ووعي،فهو ليس-كما يظنّ بعض المحدثين من المستشرقين أو ممن تبعهم- نتيجة أنحسارفي الوعي أو أنكسار في النفس أو ردّ فعل مباشر ضد أنواع القهر الأجتماعي0 أنه هاجس فطري مغروس في أصل النفس البشرية، وهذا ألهاجس يتفاوت شدةً وضعفاً ، بين إنسان وآخر0

    المتزهد من جهته،إذا أنتهى في زهده وبلغ،وبغِّضت الأشياء أليه وفني عنها،فترك كل واحدٌ منهما صاحبه،سمي حينئذٍ زاهداً، ثم تأتيه الاشياء وهو لا يريدها ولا يبغضها، بل يتمثل امر الله فيها وينتظر فعل الله فيها، فيقال لهذا المتصوف (صوفي) لانه اتصف بهذا المعنى ، فهو في الاصل صوفي على وزن فوعل، مأخوذ من المصافاة، وهو يعني عبداً صافاه الحق عز وجل ولهذا قيل : الصوفي من كان صافياً من افات النفس ، خالياً من مذموماتها، سالكاً لحميد مذاهبه، ملازماً للحقائق، غير ساكن بقلبه الى احدٍ من الخلائق، اذن فالمتصوف هو المبتدئ والصوفي هو المنتهي المتصوف هو الذي شرع في طريق الوصول والصوفي هو من قطع الطريق ووصل الى من اليه القطع والوصل.(1) أي الى الله عز وجل وهذه هي المكافأة الكبرى التي ينتظرها كل سالك . ان مثل المتصوف كمثل المريد، مُحمّل ومثل الصوفي كمثل المراد محمول، حُمّل المتصوف كل ثقيل وخفيف، فحمل حتى ذابت نفسه وزال هواه وتلاشت ارادته وامانيه، فصار صافياً فسمي صوفياً فحمل فصار محمول القدر مربى النفس منبع العلوم والحكم ، بيت الامن والنور، كهف الاولياء والابدال ومؤلهم ومرجعهم ومتنفسهم ومستراحهم وسرتهم ، اذ هو عين القلادة ودرة التاج ومنظر الرب.(2) ويمكننا ان نلاحظ هنا، ان الشيخ عبد القادر، في حديثة عن المتصوف، يستعمل كلماته المعهودة نفسها، البسيطة والواضحة والقريبة من اللغة الشرعية، اما اذا ما تحدث عن صاحب المقام الثاني، أي الصوفي، فان كلماته تمتزج بلهجة جديدة فيها الكثير من التغريب والادهاش اشارة منه الى المقام الرفيع، البعيد عن الوصف، الذي يمكن ان يطاله الانسان، فيما لو اخلص لربه، وهو المقام الذي سيتوسع في وصفه فيما بعد فيسميه بمقام الوريث المحمدي ، وهو ما لا يمكن ان يناله الا اوحد زمانه وفريد عصره.
    ان تاكيد الشيخ عبد القادر على تعريف التصوف بالصفاء والصوفي بالمصافاة ، هو في الحقيقة تاكيد اجرائي يخدم الهدف الاصلاحي الذي تقمصه، فالمجتمع المثقل بالكثير من الاوزار الاعتقادية والاجتماعية والسياسية الذي عاش في كنفه، هو بحاجة ماسة وملحة الى الكثير من عوامل الصفاء كي يعيد التوازن المفقود الى كيانه. اما تاكيده على مراتبية الفعل الصوفي، وتقسيمة عمر طالب السلوك على ثلاثة مراحل وهي : الزاهد والمتصوف الصوفي، وانه لا يمكن الانتقال من مرحلة الى اخرى الا بجهد بالغ ومجاهدة مضنية، فهو تاكيد يدل على اذكاءٍ مقصود للارادة الانسانية وتاجيح للهمم الخاملة ، فمن المعروف ان الانسان في حالات الانتكاس الاجتماعي، يتشبث بالمعتقدات التي تروج للحظ والبخت والصدف الحسنة والايمان بالمعونات الخرافية والتوكل على قوى غيبية ليس لها علاقة بالواقع المعاش.

    ان الشيخ عبد القادر لا يفتأ يعلم مريديه ، بإن من اراد منهم ان ينال حياة روحية صافية، فان عليه ان يسعى لها سعيها وهو لاجل ذلك يضع خطة عمل لا بد من ان يعمل بها كل متصوف يسعى لان يكون صوفياً.

    مراحل الطريق الصوفي

    يقسم الشيخ عبد القادر في ( خطته ) طريق الوصول الى الله تعالى، الى مرحلتين الاولى منهما هي مرحلة المكابدة، ولا يخفى ما تحمله هذه الكلمة للمتلقي من دلالات الضيق والعناء وتحمّل الاعباء على كره ومن دون تقبل نفسي، وهذه المكابدة تكون مصحوبة بالتعبد لله تعالى، والتعبد هو غير الاقبال على الله تعالى ، لان التعبد قد يقبل عليه القلب او يدبر عنه، اما مصدر هذه المكابدة فهو حكم الله تعالى والحكم سابق على الامر، وهو لا يمتلك درجة حتميته، والعبد يكون فيه مخيراً بين المكابدة او العيش الطبيعي المعتاد وكل ينطلق من دوافعة الذاتية، وفي الوقت نفسه فكون الفعل يقع في حكم الله تعالى فان فيه دفعاً لشبهة الابتداع والمروق والمخالفة ، وهذا ما كان يرمي الشيخ عبد القادر الى الاشارة اليه، اما الى ماذا تفضي هذه المكابدة وهذا الحكم ؟ فانه يفضي الى ترك الدنيا والاقبال على الاخرة، وهي اشارة الى محدودية مرحلة الزهد التي تشكل المرتبة الاولى في سلم الرقي الروحي.

    ان الذي يكابده السالك المبتدئ هو : نفسه وهواه وشيطانه وكل مايمكن أن يتوقع منه نفعاً أو ضراً من ألخلائق وكل ما في الدنيا،وهو الى جنب هذه المكابدة يعمل على أن يعبد ربّه العبادة الحقّة،وهذه العبادة، هي أضافة إلى عبادة ألخلق المعتادة،عبادة تدفع بألعبد ألى مفارقة كل ما في عالم(السوى)،كي يتهيأ لبلوغ التوحيد الحق0 ويتم ذلك بمفارقة ألجهات ألست0(1) ومفارقة الأشياء وترك العمل لها وموافقتها والقبول منها،وتصفية باطنه من الميل اليها والأشتغال بها ((فيخالف شيطانه ويترك دنياه ويفارق أقرانه وسائر الخلق بحكمه عز وجل لطلب آخراه))0 (1) إلى هنا تنتهي المرحلة الأولى،وتبدأ بعدها مرحلة المجاهدة،أي مجاهدة النفس والهوى،وهذه تكون بأمر الله عز وجل،ويفارق فيها العبد،أضافة الى ألدنيا،الآخرة وما أعدّ عز وجل لأوليائه فيها من جنة ونعيم يفارقها لرغبته في مولاه0 وفيها تدرك العبد، رحمة من ربه، ((فَيخرج من ألأكوان و’يصفّى من الأحداث ويتجوهر لربّ الأنام،فتنقطع منه العلائق والأسباب والأهل والأولاد،فتنسَّد عنه الجهات،وتنفتح في وجهه جهة الجهات وباب الابواب،وهو الرضا بقضائه تعالى))0 (2) وهنا تنتهي مرحلة المجاهدة التي توصل صاحبها ألى مقام ألرضا،وفي هذا المقام فقط،يمكن أن يسمى المتصوف أو السالك،صوفياً،أي بمعنى أنه يُصفّى من كل كدرٍ قد يلحقه من أعراض ألدنيا،فما الذي يمكن أن يتحلى به هذا الصوفي أو يناله من بعد هذا العناء ؟ إن أول مرتبة ينالها الصوفي هي القرب من ألمليك الديّان، ولكن هذا القرب قد يهلك صاحبه من فرط الخشية والمهابة، فيحتاج معه ألى أن يُرفع إلى مجلس الأُنس كي يهدأ روعه ويزول عنه الفَرق،فأذا ما سكن وأطمأن أُجلس على كرسي التوحيد ، حيث ترفع عنه الحجب الظلمانية ويدخل دار الفردانية ويُكشف له عن الجلال والعظمة فإذا ماوقع بصره على الجلال والعظمة، وصل الى مقام الفناء، حيث يفنى عن نفسه وصفاته وحوله وقوته وحركته وارادته ومناه ودنياه واخراه، فأذا ما تمّ له ذلك صار كأنه (( أناء بلّور مملوء بالماء الصافي، فحينئذٍ يسمى – بحق – صوفياً على معنى انه يصفّى من التكدر))(3) وهذا الصوفي يمكن ان تتعدد اسماؤه، فهو البدل وهو عين الاعيان وهو القطب وهو العارف بالله الذي عرف نفسه فعرف ربه بصفته (( محيي الاموات ومخرج الاولياء من ظلمات النفوس والطباع والاهوية والضلالات، الى ساحة الذكر والمعارف والعلوم والاسرار ونور القرب، ثم أخيراً، الى نوره عز وجل)).(4) وهكذا فالوصول الى الله تعالى، لا يتم عند الشيخ عبد القادر ، دفعة واحدة، وانما يتم على مراحل متعاقبة ومتدرجة صعوداً، والبداية دائماً تكون من معرفة النفس التي هي الاساس لمعرفة الربّ، ولكن معرفة الرب لا تعني معرفة ذاته تعالى، فتلك غاية لا تدرك ابداً وانما تتم هذه المعرفة بواسطة صفاته وافعاله والطافه، ثم بعد ذلك، وعن طريق هذه المعرفة تنفتح للصوفي ابواب العلوم والاسرار التي هي وليدة نور القرب، ثم اخيراً يصل الصوفي الى نوره تعالى بشكل مباشر، وهي مرحلة اخيرة من مراحل الوصول الذي لا يعني في حقيقته الا شدة نقاء وصفاء قلب وروح العبد.

    تعريفه للتصوف

    بقي تعريف الشيخ عبد القادر للتصوف، وهو عنده: نور في قلب وصفاء السرّ والنطق بالحكمة.(1) وهذا التعريف يتميز من التعريفات السابقة بجزئه الاخير أي (النطق بالحكمة) وهذا الجزء، يخص علاقة الصوفي ببقية البشر، وهو يجسد دور الصوفي الاصلاحي بين الناس. التصوف مثل الصوفي، مشتق من الصفاء، صفاء القلب عن كل ما هو سوى الله عز وجل. هذا التصوف لا يمكن تنضيده بالكلمات والنظريات الخيالية، بل هو بناء عملي غير مأخوذ عن القيل والقال ، بل مأخوذ من ترك الدنيا واهلها وقطع المألوفات ومخالفة النفس والهوى وترك الاختيارات والارادات والشهوات وملازمة الخلوة والعزلة . أنه أمرٌ لا يجئ بالدعاوى الكاذبة والتمني المبني على الخمول وحمل الاسماء والالقاب التي لا يفرح بها الا العوام، وكذلك لا ياتي بتغيير الخرق دون القلوب ولا بتصفير الوجوه دون البواطن ولا ياتي بلقلقة اللسان وانما يجئ بالصدق والاخلاص(2) والذكر وترك الرياء ومعاداة النفس والهوى والشيطان.(3) وهكذا فان الشيخ عبد القادر ، سدَّ جميع المنافذ غير الشرعية واحاط التصوف بسورٍ منيعٍ لا يمكن اختراقه الا من منفذٍ واحد ، وهو منفذ الشرع والعبادة والعمل المضني.

    ان تعريف الشيخ عبد القادر، للمتصوف والصوفي والتصوف، يشكل خلاصة مركزّة لجماع النظرية الصوفية عنده، فهي تشتمل على بيان سلوك القوم ومدارج رقيهم الروحي، وفيها التاكيد المعهود على ربط التصوف بالشريعة المحمدية، كما انها تتضمن الردّ الصريح والواضح على جميع الدعاوى الصوفية المغالية، التي جلبت على التصوف الاسلامي ما جلبته من المثالب والشبهات . ان المريد لا يمكن ان يصبح صوفياً صادقاً ، الا إذا جعل ضالته مراد الحق منه وماذا يريد الحق أكثر من اداء الفرائض مع الاخلاص وحسن الخلق مع الاخرين ، والا اذا رفض الدنيا وجعلها وراء ظهره بحيث تكون هي التي تسعى وراءه وليس هو(1)

    علاقته بمن سبقوه من الصوفية

    ان الشيخ عبد القادر ، وعلى الرغم من حذره وحساسية موقف التصوف في زمانه، يؤمن ويؤيد صراحةً ، جميع ما قاله شيوخ التصوف الاسلامي الذين سبقوه، فهو لم ينكر او يصحح ، اية مفردة من مفردات نظرياتهم الصوفية، ولكن الفرق بينه وبين من سبقه، يتمثل في كونه، قد قال ما قاله واملى ما املاه، فيما يخص التصوف، باسلوب واضح بسيط، بعيد- قدر المستطاع- عن لغة الرمز والاشارة ، تلك اللغة التي تجتذب اليها الكثير من المتأولين والمتقولين، مما يجعلها ، في نظر الخصوم مشحونة بالكثير من الهفوات والشبهات. ودعماً لهذا الهدف، فقد عمل الشيخ عبد القادر في اكثر ما طرحه من نظريات صوفية، على ربط كلامه بالكتاب والسنة كي يبين للاخرين ان التصوف الاسلامي لم يبتدع إبتداعاً او يؤتى به من خارج حمى الدين وان كل ما تطلع اليه شيوخ التصوف ، هو انهم ارادوا ان يبينوا للناس ، القصد الحقيقي الذي اراده صاحب الشريعة، وذلك من منظار ان التصوف هو لب الشريعة وفحواها.

    في فصل لاحق ، سنتبين بوضوح، علاقة الشيخ عبد القادر بالنظريات الصوفية المعروفة، التي قال بها من سبقه من شيوخ التصوف المشهورين، كالحلاّج والبسطامي وغيرهما ممن أحرجوا موقف الصوفية في زمانهم، فقد تناول اراءهم بقبول تام وتفهم منقطع النظير، ثم قدمّها بعد ذلك لتلامذته ومعاصريه باسلوبه المعهود الذي كان يحذر فيه اشد الحذر ، في ان لا يغادر ، من يجهر باسرار القوم، ساحة الشرع وان لا يتخلى عن ثقل العبودية، إن الملفت للنظر، في البناء الفكري للشيخ عبد القادر ، والذي حظى بالتاييد المطلق والقبول التام من قبل جميع معاصريه، انه اشتمل على اكثر النظريات الصوفية التي استهجنها الفقهاء ولم يستطيعوا مضغها او ابتلاعها، كنظرية وحدة الشهود والتجلي والاتحاد والشوق والعشق الالهي وغيرها، وما رأي الشيخ عبد القادر في (اخيه) الحلاّج، وهو اكثر الصوفية مشاكسةً، الا دليل واضح لما نذهب اليه، إذ اقال عثرته وقال في حقه (( لم يكن في زمانه من ياخذ بيده ، ولو كنت في زمانه لاخذت بيده )).(2) والشيخ عبد القادر لا يتنازل ابداً عن تصنيف الحلاّج عارفاً بين العارفين، غير ان هذا العارف جلب على نفسه ما جلب، لانه طار الى افق الدعوى باجنحة (انا الحق) وترنمَّ بلحنٍ غير معهود ، والحلاج هو صنيعة القدر، لانه أُجلس على بساط الامتحان ، بارادة منه او دون ارادة، ثم اخيراً. وهو المهم فان الحلاج يعدّ مقتولاً في سبيل الله.(1) ان موقف الشيخ عبد القادر هذا ، يعدُّ اكثر تسامحاً من موقف الغزالي ، مع الاخذ بنظر الاعتبار ان الاول حنبلي والثاني شافعي وهذا يفترض العكس، ان الامام الغزالي وعلى الرغم من تقبله جميع المقامات الصوفية التي قال بها الحلاّج، لم يستطع ان يغفر له بوحه بالاسرار الالهية كما لم يستطيع ان يغفر للقائلين بنظريات الاتحاد والحلول .(2)

    من هو المتصوف الحقيقي

    بناءً على ما سبق ، يمكننا ان نستدل،على أن المتصوف الحقيقي ، في عقيدة الشيخ عبد القادر، هو في جانب الحق والحق في جانبه، وانه مهما قال او فعل ، فانه على صواب، ولكن مع الشرط الثابت الذي لا يمكن التنازل عنه، وهو: الصدق في السلوك والسير على خطى الشريعة المحمدية اما ما حدث في تاريخ التصوف، من تشهير وتنكير وتقتيل، فانه ما كان ليحصل الا لسوء فهم الاخرين او اساءة متعمدة من لدن دخيل متطفل على التصوف.

    ان المتصوفة الحقيقيين عند الشيخ عبد القادر، هم اولياء الله حقاً. لانهم عملوا جاهدين على ان يكونوا عبيداً للمولى، وذلك بكثرة العبادات والذكر والمجاهدات واما بقية الناس فقد ظلوا عبيداً لاهوائهم، الصوفية من جهتهم راغبون في العقبى واما الناس فراغبون في الدنيا مقبلون عليها، وما دام الصوفية هذه صفتهم فهم اذن لا يبتغون الا وجه الحق ولا يصدر منهم الا ما هو حق، فلقد حصل لهم النجاة بذلك، فقلوبهم لا تلتفت لغير الله تعالى ونفوسهم خامدة مطمئنة، وهم لا يرون غير رب الارض والسماء ، ولا يانسون بغيره، ولا ترنوا قلوبهم الا اليه ، لانهم فنوا عن الخلق والهوى والارادة والمنى، ووصلوا الى الملك الاعلى (( فأَرفقهم على غاية ما رام منهم من الطاعة والحمد والثناء- وهو معنى قوله تعالى : وما خلقت الجنَّ والانس الا ليعبدون .(3) ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، فهم خير من خلق ربي وبثَّ في الارض وذرأ فعليهم سلام الله وتحياته ما دامت الارض والسماء)).(4) ويمكننا ان نلاحظ هنا ان الشيخ عبد القادر، يعقد مقارنته التفصيلية بين الصوفية من جهة وعامة االناس من جهة اخرى لانه يفترض ان الناس ينقسمون فقط، بين صوفية وعوام والصوفي الحقيقي هو في الوقت نفسه فقيه وطالب علم، واما المتكلمون والفلاسفة ، فلا مكان لهم في ( مدينته الفاضلة ).

    صفة الصوفية

    ان الصوفية هم اولياء الله تعالى (1) حقاً، لانك اذا اضفتهم الى الخلق كانوا صماً بكماً عمياً، اما اذا قرّبت قلوبهم من الحق عز وجل ، فلا يسمعون من غيره، يبيحهم القرب فلا يبقي لهم خصوصية وتغشاهم الهيبة فتخرسهم، وتفيدهم المحبة عند محبوبهم فيزدادون بها قرباً اليه، فهم بين الجلال والجمال، بين القبض والبسط، لا يميلون يميناً ولا شمالاً، لهم أَمام بلا وراء، فلا يخشى منهم انتكاس او تقهقر، يخدمهم الحكم والعلم، سعياً بين ايديهم وانارة لطريقهم ، يغذيهم الفضل ويرويهم الانس، من طعام فضله ياكلون ومن شراب أُنسه يشربون.(2)

    الصوفية أحبّاء الله تعالى واولياءه

    هؤلاء القوم ، احبوا الله عز وجل بقلوبهم ، حباً لذاته، لان حبّ القلب الصادق لا يتعلق بشيء وانما هو حبّ خالص غير مشوب برغبة او رهبة، واما معانيهم وارواحهم فبين يدي الحق عز وجل، يد القدرة ويد المحبة تقلب قلوبهم وتنقلها من حال الى حال، لاخلاصهم في تسليمهم وصدقهم في رضاهم، لذا فهم لا يطلبون دنيا ولا اخرى، بل يتركون جميع الاشياء لطلاّبها، لعلمهم علم اليقين ، ان كل ما سوى الحق عز وجل ما هو الا قشر زائل وان الاصل والثبات هوفقط في القرب منه.(3) وتجدر الاشارة هنا، الى اننا لو تتبعنا ، كلام الشيخ عبد القادر السابق، في وصفه الصوفية وولايتهم ووصولهم وقربهم من ربهم ، لوجدنا انه تعمد ان يقول ما قاله بلغة قريبة من العقول والافهام وغير متعارضة مع ظاهر الشرع او لغته المعتادة ولا حتى مخالفة لذوق الفقهاء، وهذا يوضّح عدم وجود معترضين او خصوم له، سواء من الفقهاء أم من غيرهم.
    لقد صار، هؤلاء الصوفية الاولياء، جلساء الله عز وجل، أما في الدنيا فبقلوبهم واما غداً فبأجسادهم.(1) وان السرّ كل السر يكمن في اختيارهم لفقرهم على غناهم وصبرهم عليه، فأذا ما تمَّ لهم هذا، خطبتهم الاخرة وعرضت نفسها عليهم، فاداروا ظهور قلوبهم اليها وهربوا منها حياءً من الحق عز وجل، كيف وقفوا مع غيره وسكنوا الى المحدث واستأنسوا به، وإن موقفهم هذا يعني أنهم قد تجاوزوا كونهم زهّاداً ومتصوفة وأصبحوا صوفية خالصين لانهم لو لم يكونوا كذلك لرضوا بالآخرة دون ربّ الآخرة ولسكنوا إلى العطايا ونسوا مقصدهم الحقيقي ، انهم لا يطلبون سوى الرفيق الاعلى ، الذي هو الاول والاخر والظاهر والباطن(2).
    هؤلاء الصوفية الاولياء، لمّا صدقوا في طلبهم وصدقوا في نيتهم وفي زهدهم، تمكن الزهد من انفسهم فصار معرفة، فلما تمكنت المعرفة من قلوبهم، جاءهم العلم بالله عز وجل فصار تاجاً على رؤوسهم ، فميزهم من الاخرين بكونهم اصبحوا من العارفين.(3) اذن فالزهد في الدنيا يُعدّ عند الشيخ عبد القادر، احدى اهم وسائل المعرفة البشرية، وبالذات معرفتهم بربهم تعالى، وهو هنا يعتمد على قوله تعالى واتقوا الله ويعلمكم الله ) .(4) اما مصدر هذه المعرفة الربانية ، فهي النفس البشرية ذاتها، التي أودع الله تعالى فيها من العلوم والمعارف والاسرار، وهذه المعارف لا يمكن استخراجها واظهارها الا بجلاء القلوب وتصفية النفوس.



    الصوفية اصحاب دعوة

    ان هؤلاء الصوفية(الحقيقيين) يتقلبون في رحمة الله عز وجل، فلقد قطعوا نصف الطريق بالمجاهدة والعناء، وحين بلغوا النصف الاخر، حُملت عنهم اثقالهم وصار نصيبهم القرب والفضل، لانهم هنا فقط اصبحوا صوفية. وهؤلاء ( القوم ) لا يمكن قياسهم ببقية الخلق لانهم (( في وادٍ والخلق في وادٍ ))(1) انهم المصطفون على اهل زمانهم، تتميز معانيهم وتتنور قلوبهم واجسادهم ، ولهذا السبب بالذات فارقوا الخلق وزهدوا في المألوفات واستأنسوا بالوحدة.(2) التمييز اذن يكون بالمعاني والمثل ودرجات الصفاء، ومن كان هذا سبب تميزه ، فهو حتماً سيعتزل بقية الخلق، لا اعتزال تكبر واستعلاء وانما اعتزال عدم مجانسة وصعوبة في الاندماج، ولكن مع ذلك فان الشيخ عبد القادر ، يحتمِّ على هؤلاء الصوفية، وخصوصاً من كان منهم في مراحل سلوكه الاخيره، الاختلاط بالناس والعيش معهم من اجل ان يستفيد منهم الناس ويقتبسوا من انوارهم ، فالصوفية اذن لم يخلقوا او يوجدوا ليعتزلوا او ليعيشوا في ابراجهم العاجية، بل هم ، كما ينعتهم الشيخ عبد القادر اهل صنعه، وان صنعتهم هي التصوف ، واذا كان من الافضل للناس ان يستعينوا على كل صنعة بصالحي اهلها، فان صالحي هذه الصنعة (( هم المخلصون في الاعمال العالمون بالحكم العاملون به، الهاربون من انفسهم ومن جميع ما سوى ربهم ، لا يزالون كذلك حتى تتربى قلوبهم وتقوى اجنحتهم وتطير الى السماء))(3) . وعندها يصبحون احراراً طلقاء لا يثقلهم ما كان يثقل غيرهم من بني جنسهم.
    المتصوفة اذن، هم اضافةً الى كونهم قد نجوا بانفسهم وصفوّا ارواحهم، حملة رسالة ودعاة خير يذكّرون وينذرون، يامرون الخلق بالاوامر الالهية وينهونهم بنواهيها، نيابة عن النبي(r )لانه مصدر الشريعة، ولانهم ورثته على الحقيقة إذ أنهم لم يفرقوا بين ظاهر أمرٍ أو باطنه ولا بين حقيقة او شريعة ولا بين علم أو عمل ولاجل ذلك فان كلامهم مع الناس كان له تاثير أشدّ ووقع اكبر من كلام غيرهم ولاجل ذلك ايضاً، فانهم كانوا اجدر من غيرهم في ردِّ الخلق الى باب الحق عز وجل. إنهم يوقعون الحجة على انفسهم اولاً، يوقعون الاشياء في مواقعها، يحبون في الله ويبغضون في الله ، كلهم له وليس لغيره فيهم نصيب.(4)

    علاقة الصوفي بالدنيا

    ومن اجل ان تكتمل صورة الصوفي امامنا، لا بد من ان نتبين علاقته بدنياه، علماً بان الدنيا في التصور الصوفي، تعدّ اساساً لكل المصائب والويلات، ومرتعاً للاهواء والمطامع والاثام، والصوفية يفرّون منها ، فرارهم من الاسد الضواري. فكيف اذن يستوفون منها اقسامهم وكيف ياخذون منها حظوظهم وياكلون ارزاقهم، مع علمهم اليقين، بان هذه الارزاق والاقسام، هي من علم اللوح المحفوظ الذي جفَّ به القلم وطويت عليه الصحف ؟ يرى الشيخ عبد القادر، ان الدنيا هي الدنيا، واما الذي يتغير فهو الانسان وحده، الدنيا حمّالة لاقسام الخلق جميعاً، سواء الطالب لها ام الهارب منها، فاما الذي يسعى وراءها ويجعلها كل همَّه فانها تهرب منه وتتعبه، ويكون هو في المقابل قد افنى عمره في تحصيل ما هو مقسوم له أصلاً، ولكن الذي يفعل العكس ويُيمم وجهه شطر مراد الله تعالى، ويشيح بوجهه عن الدنيا ويهرب منها، فانها ستكون مضطرة لان تلاحقه خادمة له وموفيةً له اقسامه ويكون هو بذلك قد حصل على مرامه من الدنيا قبل الاخرة.(1) فما الذي يمكن ان نفهمه من ذلك، وهل ان الشيخ عبد القادر يدعو الى الهرب من الدنيا ام الى الاقبال عليها ؟ ان الصوفية بوجه عام ، وبما فيهم الشيخ عبد القادر، يحرصون اشد الحرص على اقامة مجتمعات سليمة تحكم أفرادها علاقات صحيحة ، وهم لاجل ذلك يؤكدون على ضرورة ان يعمرَّ الانسان باطنه قبل ان يعمرَّ ظاهره ودنياه، فأذا ما تمكّن من ذلك ، فلا بأس بعدها في ان يفعل ما يفعل ، والصوفية يستشهدون لهذا الرأي بسلوك رجال الصدر الاول من الاسلام.
    لقد خبر هؤلاء (القوم) حقيقة الدنيا وصفاتها وعلموا انها لا تعطيهم اكثر مما هو لهم، وعلموا ايضاً ان الاخرة ليست هي مطلبهم على الحقيقة ، بل انها قد تكون حجاباً آخر، يقطع عليهم سبيل القرب من ربِّ الدنيا والاخرة. ان الصوفية ، كما يصورهم الشيخ عبد القادر : مسافرون على الدوام، فهم لا يطلبون حِلاً ولا استراحةً، لانهم شدّوا الرحال الى نوره عز وجل واقسموا ان لا يأكلوا الا عنده، فهو مطلبهم وهو مرامهم وهو مرادهم، وان كل ما عداه ، يعدّ بعضاً من هباته وعطاياه، التي لا يمكن ان تغني عنه قط. لقد رضي الزاهدون ان لا ياكلوا في الدنيا من اجل أن يأكلوا في الجنّة، فهم طلاّب اجر وعوض، واما العارفون فانهم ياكلون عنده وهم في الدنيا، أي انهم ينعمون بنعيمه قبل ان يحظوا بلقائه، واما المحبون ، فهؤلاء لا ياكلون ، لا في الدنيا ولا في الاخرة ، لانهم بصدقهم في محبته باعوا الدنيا والاخرة، باعوها بوجهه تعالى وارادوه دون غيره ((فلما تم البيع والشراء غلب الكرم، فردَّ عليهم الدنيا والاخرة موهبةً فتناولوها بمجرد الامر)) (2) اذ لا مناص لهم عن ذلك. وعلى هذا الاساس فالصوفية عند الشيخ عبد القادر، ينقسمون على ثلاث طبقات ، وبتفاوت ملحوظ من حيث المقامات والتطلعات والمطالب، واما الطبقة الارفع فهم اهل المحبة الذين لا يفكرون في غير اللقاء الحقيقي ولا يرضون بغير القرب ، والذي يلاحظ هنا ان الشيخ عبد القادر في تقسيمه هذا للصوفية، لا يرى لقوانين السلوك الصوفي الزاماً على السالكين كافة وبالدرجة، بل هي مقسمة كل حسب مقامه وسعيه بحيث ان الذي يعدّ منها ميزةً عند اصحاب الطبقة (الاولى) يعدّ منقصةًُ بالنسبة لا صحاب الطبقة الثانية وهكذا.

    الصوفي قلب محض

    ولنا ان نتساءل ثانيةً: من هو الصوفي في نظر الشيخ عبد القادر ؟ انه باختصار شديد وتركيز اشد وبكلمة واحدة ( القلب )، فالصوفي الكامل هو القلب المطلق الذي ليس له جوارح، انه سرّ بلا مظاهر اخلاص بلا رياء ، والانسان لا يكون مؤمناً حتى يكون قلبه هو المؤمن، هو الموحّد، هو
    المخلص هو المتقي هو الورع هو الزاهد هو الموقن هو العارف هو العامل، فالقلب في حقيقته هو الامير وكل ماسواه جنوده واتباعه ومساعدوه.(1)
    الاعتبار، إذن ، يكون في القلب وعمل القلب ونية القلب، لا في البدن والجوارح، وإن الصلاح الحقيقي هو صلاح القلب ، اما مقومات هذا الصلاح ، فهي بعد صدق النية والعزم تكمن في التقوى والتوكل على الله تعالى وتوحيده توحيداً حقيقياً ، ثم الاخلاص في الاعمال وحسن الخلق مع الناس،(2) وتلك هي مفردات التصوف الحق التي بخلافها يكون فساد القلوب وخرابها ، وتلك هي في الوقت نفسه مفردات الشرع التي تأنس بها افهام العامة ولا تنفر منها اسماع الفقهاء.
    ان تاكيد الشيخ عبد القادر على القلوب والسرائر، وربطه المتكرر للتصوف بالقلوب اولاً ثم بالجوارح بعد ذلك ، ليدل دلالة واضحة على طبيعة العصر الذي عاش فيه، وهو العصر الذي عرف بكثرة الفتن والقلاقل وبظهور ملحوظ للمرائين والنفعيين وبائعي الدين بالدنيا، ومن هنا ايضاً جاء تاكيد الشيخ عبد القادر على ربط التصوف بالصفاء وتاكيده على ان جوهر التصوف لا ينُال بلبس الصوف على ظاهر البدن فقط ، بل لابد للسرّ(1) . من ان يرتدي الصوف ثم من بعده القلب ثم النفس ولا ياتي البدن الا في المرحلة الاخيرة، ان بداية الزهد تبدأ من القلب او الباطن ، ثم تمتد بعد ذلك إلى الظاهر وليس العكس، والسرّ إذا صفا فأنه سيكون كالمصباح، وسيتعدى ضياء صفائه إلى القلب ثم إلى النفس ثم إلى الجوارح ثم بعد ذلك يصفو المأكل والملبس وجميع الأحوال.(2) فلا سبيل إذن إلى الصلاح عند الشيخ عبد القادر، إلا عبر هذا (الجدل الصاعد) الذي يبدأ من القلب صعوداً نحو خرقة الصوف. إن تصوف الظاهر، فيما لو إبتدأ به السالك طريقه، غير كفيل بوقايته من مهاوي الرياء وممالاة الناس وحبِّ مدحهم، فأما تصوف القلب أو الباطن، فأنه كفيل بكل ذلك لسبب بسيط، وهو أنه يحفظ سرّ العبد مع ربه من دون إطّلاع الناس عليه.

    القلب إذن، كلّما إزداد صفاؤه، خرج من بحر وجوده الأرضي وترك إرادته وإختياره ومشيئته، فإذا ما بلغ ذلك، فأنه سيحظى بطبيعة جديدة وسيرتدي حلة جديدة إذ سيصير سرّاً بلا جهر صفاءً بلا كدر، يتنحّى عنه قشر ظاهره جانباً ويبقى لبّاً بلا قشر، وكأن يد القدرة الإلهية تدركه فتبدل خلقه خلقاً آخر، إذ سيصير عندها كياناً ربّانياً روحانياً، سيضيق عندها القلب عن رؤية الخلق وينسدُّ باب السرّ عما سوى الحق عز وجل، أما الدنيا والآخرة والجنة والنار وجميع المخلوقات والأكوان فإنها ستتصور وكأنها أمام الصوفي شيئاً واحداً لا يزيد عن كونه عائقاً يعوق مراد القلب وهو قربه تعالى، ويعجب الشيخ عبد القادر: كيف يحب المرء الدنيا والآخرة وله قلب واحد؟ (( كيف يكون فيه الحق والخلق وكيف يحصل هذا في حالة واحدة في قلب واحد))(3) . نعم قد يجمع الإنسان بين ملكي الظاهر والباطن ولكن لا يحصل ذلك في القلب الواحد، لأنه ضرب من المستحيل.




    وسائل تصفية القلب

    كيف إذن يُستخلص ذهب القلب من بين رغام الكدورات، وكيف يمتلئ بالحق خالصاً من دون الخلق، والإنسان، صاحب القلب، مجبول بطبيعته، على التعلق بأسباب الدنيا والميل إلى المطلوبات والشهوات النفسية، وهو حتماً عاجز تمتماً فيما لو إعتمد على إرادته وقدرته الذاتية عن إحداث هذا (الانقلاب)، كما يسميه الشيخ عبد القادر؟ نعم إن الأمر كله- في الإعتقاد الصوفي بوجه عام متعلق بإرادة ربانية وقدرة خارقة وإعجاز إلهي، ولكن شرط أن يكون مصحوباً بفعل إبداعي من لدن العبد، وهذا الفعل هو الذي يحدد صدق نيته وإخلاصه في سلوكه، والشيخ عبد القادر يعزي هذا الفعل إلى ((حسن التوكل وإستطراح القلب بين يدي مقلبه))(1) ، ويلاحظ هنا مقاربة الشيخ عبد القادر مع نظرية الكسب الأشعرية التي حاولت أن توفق بين طرفي الجبر وحرية الاختيار.

    التصوف وفعلي الرضا والتسليم

    إن هذا الفعل الصادر من العبد، يرتكز في نظرية الشيخ عبد القادر، على سَنَدَيْ: الرضا وحسن التسليم، علماً أن التسليم أو ترك الإرادة - كما يؤكد ذلك مراراً-لايعني التوكل أو التكاسل او التخلي عن الفعل والسعي، وإنما يعني ترك حظوظ النفس وتذويب العنصر الأناني الذي يقف وراء أكثر الأفعال الإنسانية الشائنة، فترك الإرادة يعني إذن تنقيتها وتوجيهها الوجهة الصحيحة ولا يعني غير ذلك. إن إستطراح القلب بين يدي مقلبه، وهو معنى الرضا وحسن التسليم، يشتمل على جماع الفعل الصوفي، فهو الذي يحدو بالمريد إلى تحمل أهوال ومشاق الطريق، صابراً على البلايا راضياً بالأقدار متحملاً لأذى الخلق، صادقاً في طلبه لربه غير متلفت إلى أحدٍ سواه، لأن لفتة عين القالب إلى سوى الحق، تعدّ ذنباً لا يغتفر في عرف الصوفية وهي علامة من علامات البعد والفشل وأما التشكي والتظلم من فعله تعالى في العبد، فهو علامة من علامات النفاق، وأما النطق بغير ذكره فهو علامة من علامات صدأ القلوب، لأنه (( ما ذاق حلاوة وصله من إشتغل بغيره وما قرب من جناب رحمته من مال إلى سواه طرفة عين))(2) . المطلوب إذن، لكي ينجو العبد ويفلح في مسعاه، تسليم ورضا وتوحيد صحيح، ولا يمكن للعبد أن يحوز هذا الثلاثي الذهبي، إلا بعد جهد وعناء ومكابدة، وإن ما يدفعه إلى تحمل ذلك هو : صدقه في طلب مولاه وإرضائه.

    التصوف والصدق

    الصدق في السلوك، إذن، يقف جنباً إلى جنب، في الأهمية، مع الرضا والتسليم، ويمتاز الصدق بأنه فعل خالص للعبد، وأنه يرافقه منذ خطواته الأولى حتى آخر مرتبة يمكن له أن يبلغها والصدق هو صدق القلب وصدق النية وصدق في طلبه تعالى و (( إن من طلب ربه بحقيقة صدق قلبه صار صدقه في قلبه مرآة تريه عجائب الدنيا والآخرة )).(1) والصدق في القلب يمكن أن يكون شجرة تنمو وتكبر فتثمر العدل على الجوارح والحق على العقول، وهذا الثلاثي، يشكل أركان الحكمة الخالدة التي تسري على كل العصور والتي يمكن تطبيقها على الأفراد وعلى الجماعات وهذا الثلاثي، يرتبط فيما بينه بعلاقة عضوية، بحيث يتبع أحده الآخر، غير أن مقام الصدق فيه هو البداية والأصل. فإذا كنّا قد عرفنا معنى الصدق في القلوب، فأن العدل على الجوارح يعني أن لا إفراط ولا تفريط في تناول الأقسام والحظوظ، وإنما المطلوب هو تحقيق الحدّ الكافي للحفاظ على الحياة ولإكمال (الطريق)، فأما الحق الذي هو على العقول، فأنه من البدائه ، وذلك لأن الحق ونقيضه، هما ما يتعامل معهما العقل، فلا بد أن يلهم التميز بينهما، من أجل أن يأخذ بالحق ويترك نقيضه، فإذا ما نال العبد هذه (الأركان) وأتمّ حيازتها، فذلك يعني عند الشيخ عبد القادر، أنه قد بلغ تمام العبودية وحقيقتها، وهذا مقام رفيع جداً، إذ أن أقرب الطرق للوصول إلى الله تعالى هو: لزوم قانون العبودية مع الاستقامة على جادة التقوى، لأن من يبلغ حقيقة العبودية، يكون قد أخذ الكفاية في جميع أموره وأحواله، وتكون ثقته بالله تعالى على قدر معرفته به(2) أي على قدر عبوديته له. ويمكننا أن نلاحظ مما سبق، أن كل مفصل من مفاصل (النظرية الصوفية) عند الشيخ عبد القادر، يبدو لنا- كما يصفه الشيخ عبد القادر – في أهميته، وكأنه المحور أو القطب الذي تدور حوله بقية المفاصل، وينطبق هذا القول على التسليم والرضا والصدق والعبودية وغيرها من المقامات الصوفية، وهذا يؤكد لنا أن البناء النظري للسلوك الصوفي عند الشيخ عبد القادر، يعدّ كتلة واحدة لا يمكن تجاوز بعض أجزائها على حساب بعضها الآخر، لأن جميع هذه الأجزاء متساوية في الأهمية والمفعول فلا توبة بلا صدق، ولا صدق بلا تسليم ولا تسليم بلا رضا000الخ.




    التصوف والاختلاء

    تبقى أيضاً، مسألة مهمة أخرى من مسائل السلوك الصوفي عند الشيخ عبد القادر وهي: مسألة التوحَّد ولإنفراد أو الاختلاء مع الله تعالى، وهذه المسألة تكون أهميتها ملحّة أكثر، خصوصاً مع بداية السلوك. أما تسويغ هذا (التخفي) عند الشيخ عبد القادر فهو: أن الصوفي المخلص يكون ملكه في قلبه وسلطانه في سره، فلا إعتبار له إذن بالظاهر، إنه أبداً مخفيّ بحاله، يحفظ سره مع ربه ويكتمه، ولا يزال كذلك حتى يكتمل ويصل إلى ربه عز وجل(1). الهدف من الخلوة، إبتداءً، يكمن في مجانبة المريد للرياء وتعوده على الإخلاص في جميع أعماله سواء ما ظهر منها أو ما بطن ولكن لا يقف الأمر عند هذا الحدّ فقط، إذ أن للخلوة فوائد عديدة أخرى، فهي تشكل إمارة من إمارات صحة محبة المريد ربَّه عز وجل، وهي أيضاً باب من أبواب التفكر الذي يُعدّ اصل العبادة ومُخّها، هذا وإن كثرة التفكر والاعتياد عليه، يعلم القلب على الحضور مع الله عز وجل ويذهب عنه الغفلات. ثم أيضاً، وهذا في غاية الأهمية عند الصوفية، فأن العزلة والتفرد، تعدّ إحدى سنن المصطفى(e) التي يحرصون كثيراً على إتّباعها. إن العلاقة بين العزلة والسلوك الصوفي عند الشيخ عبد القادر، تأتي من تعريفه الوصول بأنه: عزل الخلق والهوى والإرادة والمنى، وهذا مما لا يتمكن منه المريد إلا بالخلوة والاعتزال عن الآخرين، ثم بعد ذلك تأتي مرحلة الثبوت على إرادته وفعله تعالى، وهذا لا يتم إلا بالتفرّد الذي من شروطه: أن لا يكون من العبد حركة في نفسه ولا في بقية الخلق، بل يكون بأكمله، متحركاً بحكمه وأمره وفعله تعالى، وهي حالة الغنى، كما يسميها الشيخ عبد القادر، لأن فيها يتم الاستغناء عن جميع الخلائق والافتقار له وحده تعالى، والغنى هو الوصول إلى الله تعالى (( الذي هو ليس كالوصول إلى أحدٍ من خلقه))(2) لأنه ليس له ندٌّ أو مثيل،ولأن الوصول إليه تعالى،هو وصول قلبي ومعنوي لايتم إلا بعد التنوّر والصفاء،فالله عز وجل ليس بعيداً عن عباده،بل هو قريب منهم وبهم محيط ،ولكنَّ البعيد هو قلب العبد ونفسه فيما لو حجبته الحجب ولفعته ظلمات الأهواء .




    التصوف والخلود

    إن الوصول إلى الله تعالى، لا يتم عند الشيخ عبد القادر، إلا بشرط سلوك سبيله، نعم إن جميع الخلائق لا بدّ من أن تصل إلى الله عز وجل، وهو الوصول العام – كما يسميه الشيخ عبد القادر الذي يتحقق بعد الموت، ولكن المقصود بالوصول هنا هو الوصول (الخاص) الذي يمكن أن يحصل قبل الموت، ولو لأفراد قليلين من البشر، أولئك أهل اليقظة، الذين جاهدوا أنفسهم بالمخالفات وخرجوا عن الخلق فيما يرجع إلى الضرّ والنفع. فإذا ما وصلوا إليه تعالى ورأوه بعيون قلوبهم، اجتمع شتاتها واندمجت فصارت شيئاً واحداً، ثم تساقطت الحجب بينهم وبينه تعالى وصحّ لهم التوحيد الحق الذي هو توحيد الشهود. فمن صحَّ له هذا التوحيد وهذا الوصول، جاءه التمكن والبسط والمحادثة والمؤانسة، أي أنه أصبح مُراداً بعد أن كان مريدأ وأصبح صوفياً بعد أن كان متصوفاً، وحينئذ يقال عنه: هذا الواصل الذي شرب من كأس الخلود، فقلبه لايموت أبداً وحياته دائمة باقية لأنه وصل إلى المعين الذي لا ينضب أبداً والباب الذي لا يغلق أبداً والظل الذي لا يزول والثمرة التي لا تنقص.(1) وهذا تأكيد من الشيخ عبد القادر، وهو ما يتفق عليه أكثر شيوخ التصوف، على أن العارفين خالدون رغم موتهم الجسدي، وذلك لأن قلوبهم وأرواحهم أحييت بذكر الله تعالى، فليس الموت عندهم سوى لحظة انتقال من حياة إلى حياة أخرى أرقى منها وأكثر دواماً.

    فإذا تمَّ هذا للقوم، أي الوصول والخلود، فأنه لا يلغي عندهم لا دنيا ولا آخرة، إذ سيغنيهم الله تعالى عن غيره ويوجدهم به، فإذا كان لهم أقسام وأرزاق في الدنيا، ردّهم إلى آدميتهم وبشريتهم، لأجل إستيفائهم، ولكن بشرط حفظ الأحكام الظاهرة في جميع الأحوال(2)، وذلك كي يكونوا قريبين من الناس، ولكي يتحقق الاقتداء بأحسن وجوهه. وفي هذا الكلام ما فيه من ردٍ على من يتهم التصوف بأنه رهبانية وعزوف وهدم للمجتمعات.






    التصوف والشريعة

    ثم ياتي أخيراً ذكر (المبدأ) الثابت الذي يحرص الشيخ عبد القادر على أن يجعله ملازماً له خطوة خطوة، في بناء نظريته الصوفية، إنه مبدأ الربط بين الحقيقة والشريعة. إن السلوك الصوفي إذا كان مجاله القلب أو الباطن، فأن الصوفي الحقيقي عند الشيخ عبد القادر هو من صفا باطنه وظاهره بمتابعة الشريعة، علماً وعملاً واعتقاداً، فالقلب فيما لو طلب الصفاء ورام الوصول، فلا بد له من أن يخلو من أي شكل من أشكال الشرك، الخفي منه والظاهر، وفي المقابل، لا بد من أن يمتلئ بالتوحيد والتقوى والورع. إن إشراك الخلق بالخالق يشكل في قلب الصوفي ظلمة، وهذه الظلمة لا تعني أكثر من الطرد والابعاد,(1) وهو عكس المطلب الصوفي، فأما نور الورع والتقوى والتوحيد، فأنه دعوة للوصال والقرب ولا يوصل العبد ويقربه من مولاه، مثل التزام حدود الشرع والإهتداء بهدي صاحبه.

    إن من الوهم الشائع بين الناس، هو أن أمور الشريعة تخص ظاهر الإنسان وجوارحه دون باطنه وقلبه، بينما تثبت التجارب المنقولة عن شيوخ التصوف خلاف ذلك، فإذا كانت مسائل الشريعة تتوزع بين عبادات ومعاملات، وإذا كانت العبادات تنظم العلاقة بين العبد وربه، بينما المعاملات تنظم علاقته مع الآخرين من بني جنسه، فأن أي تقصير أو شرخ في الشطر الأول، لا يمكن إلا أن يؤثر سلباً في قلب المريد، وأما ما يتعلق بالشطر الثاني، فلنا أن نتخيل تأثيره فيما لو تصورنا مريداً سالكاً يظلم الناس ويأكل أموالهم ولا يؤتي كل ذي حق حقه وهو في الوقت نفسه، يبغي الصفاء ويطمع في القرب والوصال. إن النتيجة التي نخلص إليها من جميع آراء الشيخ عبد القادر الصوفية، هي: أنه لا يوجد هناك حقيقة صوفية بلا متابعة شرعية، لأن ذلك وهم وخداع، ولا ممارسات شرعية بغير دافع صوفي واستعداد قلبي، لأنها ستكون قوالب جاهزة لا روح فيها وأشجار كبيرة لا ثمار لها، بل لا بدَّ من الدمج والربط بين المعنيين من أجل نيل الحقيقة ومن أجل سلامة الوصول.




    قواعد السلوك

    ولا يفوت الشيخ عبد القادر، أن يضع للمريد السالك، شروط وقواعد لا بدَّ أن يتبناها ويواجه بها الناس، وهي في أغلبها قواعد نابعة من معايير شرعية صرفة، وتأتي أهمية هذه القواعد في أنها تحدد معنى الصوفي الحقيقي، وتعرَّف به، وهذا يعني أنه دونها لا يمكن للمريد أن يكون صوفياً أبداً ولو إدّعى هو ذلك.

    أولى هذه القواعد هي: أن لا يحلف المريد بالله صادقاً ولا كاذباً، وأن يجتنب الكذب هازلاً أو جاداً وأن لا يخلف موعداً، وأن لا يكون لاعناً لأحدٍ من الخلق، وأن لا يدعو على أحدٍ من الخلق وإن ظلمه، وأن لا يقطع الشهادة على أحدٍ من أهل القبلة بالشرك ولا ينظر إلى شيء من المعاصي ظاهراً وباطناً، وأن لا يجعل مؤونته على أحدٍ من الخلق و لا يطمع في أحدٍ من الآدميين، وأن يتواضع للآخرين(1). إن هذه (الوصايا) يمكن أن تكون قواعد أخلاقية عامة، تصلح للناس كافة وللمجتمعات كافة والأمكنة والأزمنة والأديان، فهي مما تدعو إليه الشرائع السماوية والذوق العام والعرف الاجتماعي وقوانين الأخلاق الوضعية كافة. وهذه الميزة التي يمكن أن نسميها بـ (العالمية) هي إحدى السمات التي يسعى الصوفية إلى أن يتحلوا بها من أجل أن تتسع مساحة حريتهم وحركتهم بين الناس.

    ومما لابدَّ أن يتحلى به المريد أيضاً، هو: أن لا يكون بخيلاً – وهذا في غاية الأهمية لأنه يمس ألجانب الروحي بشكل مباشر – إذ أنه ترك الكل وإختار الفقر بنفسه وإنما يبخل من له مال، وأن لا يكون له عدو ولا صديق إلا بالله، وأن لا يكون له إلتفات إلى سماع الحمد أو الذم، وأن لا يرى العطاء أو المنع ولا النفع أو الضر إلا من الله تعالى وأن لا يفرح بالحياة ولا يغتمّ بالموت، لأن حياته الحقيقة هي رضا مولاه تعالى عنه وأما موته الحقيقي فهو سخط ربه عليه، فأما وحشته فتكون مع الناس وأما أنسه فيكون في خلوته مع الله تعالى، وأما طعامه فذكر ربه وأما شرابه فمن شراب الأُنس به والسرور بلقائه.(2) إن هذه الخصال تختلف عن سابقاتها، في أنها أقرب إلى إختصاص الصوفية منها إلى عامة الناس، فهي من مقومات السلوك الصوفي ومرتكزاته ، وسبب التخصيص فيها هو انها صعبة المنال اذ هي مما يعاكس هوى النفوس ويخالف طباعها ويكبح رغباتها، ولذلك فأنها لا بدّ من ان تستحصل بالكدّ والمجاهدات والرياضات.
    وغير هذه الخصال، فانه ينبغي للمريد ان لا يكون خاملاً معطل الفكر، بل ان يكون جوّال الفكر، سعياً وراء مزيد من المعرفة بربه، وان يكون جوهري الذكر، بحيث يكون ذكره نابعاً من قلبه، وان يكون جميل المنازعة في الحق وضدّ الباطل حتى لا ينفرِّ منه الناس ويكون بذلك سبباً في اخذهم بالباطل وتركهم للحق، قريب المراجعة لنفسه فلا يؤجل حسابها ولا يوافقها على هواها. وان لا يطلب من الحق لا الحق ولا يتمذهب الا للصدق، اوسع الناس صدراً وأذلَّ الناس نفساً، ضحكه تبسم واستفهامه تعلمّ، مذكراً للغافل معلماً للجاهل، لا يؤذي من يؤذيه ولا يخوض فيما لا يعنيه،كثير العطاء قليل الاذى ورعاً عن المحرمات متوقفاً عن الشبهات، مغيثاً للغريب أباً لليتيم بشره في وجهه وحزنه في قلبه، مشغولاً بفكره مسروراً بفقره لا يكشف سراً ولا يهتك ستراً. لطيف الحركة كثير البركة، سخياً بالفائدة، طويل الصمت جميل النعت حليماً إذا جُهل عليه،صبوراً على من اساء اليه، لا بنموم ولا حسود ولا عجول ولا حقود. يبجّل الكبير ويرحم الصغير، اميناً على الامانة بعيداً عن الخيانة أُلفه التقوى وخلقه الحياء. كثير الحذر مداوم السهر قليل التذلل كثير التحّمل قليلاً بنفسه كثيراً بأخوانه، حركاته أدب وكلامه عجب وقوراً صبوراً رضياً شكوراً قليل الكلام كثير الصلاة والصيام، صدوق اللسان ثابت الجنان.(1)

    ان تلك الخصال الحسنة، لو ان عشر بني البشر كانوا قد تحلوا بعشرها، فستكون لدينا ( مدينة فاضلة) ، واقعية وليست طوباوية، لان جميع ما ذكر من تلك الخصال، هي مما دعت اليه الشرائع السماوية، فهي اذت تقع ضمن طاقة بني البشر وليست ضرباً من الخيال، كما انها في اغلبها مستوحاة من سيرة النبي محمد ( r )، وفي هذا ما فيه من التاكيد على ان الشيخ عبد القادر ، كان يحرص أشد الحرص على ان يقدم صورة للصوفي الحقيقي قريبة جداً من الشريعة الاسلامية وان (الحقيقة) في حقيقتها ما هي الا فضل من النور المحمدي.

    التصوف والإصلاح الاجتماعي

    لقد تبين لنا، مما سبق ، ان الشيخ عبد القادر ، كان يسعى جاهداً، سواء من خلال منهجه الصوفي أو طريقته او تصوفه بوجه عام، الى ان يعيد هيكلة بناء التصوف الاسلامي بما يتلاءم ومتطلبات عصره، الذي عرفنا بعض ظروفه وملابساته، وتلك سمة من سمات المصلحين الكبار ومجددي الفكر الانساني بصورة كافةً.
    ان التصوف الاسلامي ، مثله في ذلك مثل أي مجال معرفي آخر، لا يرتكز على ثوابت وانماط عقائدية جاهزة، الا وهو في حالة انحسار وجمود فكري، فأما إذا كان وضعه طبيعياً فانه لا يمكن ان يكون الا كياناً عضوياً ، تؤثر فيه الظروف المحيطة به، كما يؤثر هو فيها، واذا لا حظنا من خلال ما سبق، ان الشيخ عبد القادر، قد ركزَّ جهده على ان يقدم التصوف الى معاصريه بجبة فقهية، فأنه كان يسعى من وراء ذلك الى حلّ الاشكال القائم آنذاك بين نهجي الفقه والتصوف، وهو إشكال يمكن القول عنه إنه إشكال مفتعل، إذ إن الاثنين معاً- الفهة والتصوف- ينتميان الى حقل معرفي واحد ياخذ بمسلمات واحدة وينطلق من المقدمات نفسها، كما أن الاثنين يبغيان النتائج نفسها.
    لقد أدرك الشيخ عبد القادر ، بحسه الفائق، اسباب الشقاق والتناحر والضعف القائمة في المجتمع الاسلامي آنذاك، وفي مسعى منه، إتسم بدوافع اصلاحية واضحة، فانه عمل على ايجاد قاعدة نفسية موحدة، تجمع كل ذلك الشتات من اجل ان تكون منطلقاًُ لتوحيد المجتمع فكرياً وعقائدياً وذلك كان هدفاً ملحاً اوجبته الظروف السائدة. اما هذه القاعدة المَوحّدة ، فكانت عند الشيخ عبد القادر تتجسد في التصوف الذي يمكن ان نقول عنه، إنه نجح الى حدٍّ ما في توحيد صفوف المسلمين في مواجهة الحملة الصليبية ، فاما نجاحه الاكثر سطوعاً، فقد تحقق خارج المجتمع الاسلامي إذ أستطاع رجال التصوف من الذين أستقوا من معين الطريقة القادرية ، أن يوصلوا مشاعل الاسلام الى اصقاع نائية من الارض.


    التعديل الأخير تم بواسطة ناظم; الساعة 04-05-2021, 08:59 PM.

  • #2








    (1) للمزيد من التفصيل حول نسب الشيخ عبد القادر الجيلاني وسيرته وبقية تفاصيل حياته, يمكن الرجوع إلى الكتب الآتية, انتقاء لاحصرا, فلقد كتب عنه وعن عصره الكثير جدا. وهذه الكتب هي بهجة الأسرار ومعدن الأنوار للشطنوفي وقلائد الجواهر في مناقب الشيخ عبد القادر للتادفي وتفريج الخاطر في مناقب عبد القادر للأربلي والدر الفاخر في مناقب الشيخ عبد القادر الجيلاني للإمام زين الدين عبد الرحمن. وكذلك يمكن الرجوع الى طبقات الصوفية للشعراني وفوات الوفيات والذيل عليها لأبن شاكر الكتبي وشذرات الذهب في أخبار من ذهب لأبن العماد الحنبلي ووفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان لأبن خلكان والمنتظم في تاريخ الملوك والأمم لأبن الجوزي والبداية والنهاية لأبن كثير والعبر في خبر من غبر للذهبي.

    (2) نيف هي مدينة صغيرة تقع في أقليم جيلان الذي يقع في القسم الشمالي من ايران جنوبي بحر قزوين. وجيلان هي معرب كيلان وهي كورة فارسية تقع جنوب( بحر الخزر) وشمال جبال البرس. – انظر – دائرة المعارف الإسلامية للبستاني – مجلد 1 – ص 222 ويقول عبد الرحمن السائح صاحب مخطوطة – مناقب عبد القادر الجيلي – أن ليس في جيلان مدينة كبيرة وإنما هي قرى في مروج بين الجبال, ينسب اليها الجيلاني وجيلي والعجم يقولون كيلان والنسبة اليها كيلاني. وكيل وجيل ايضا قرية من قرى بغداد ومن ثم يقال كيل العجم وكيل العراق. وأما الشيخ عبد القادر فأنه ينسب إلى جيل بكسر الجيم وسكون الياء . وهي بلاد متفرقة وراء طبرستان وبها ولد ويقال فيها أنها جيلان وكيلان – أنظر المخطوطة – مكتبة الأوقاف العامة – بغداد – تحت رقم – أو – 24.

    (3) يذكر الشطنوفي, إن عبد الله الصومعي , كان مجاب الدعوة, إذا غضب إنتقم الله تعالى سريعا لغضبه, وكان مع ضعف قوته وكبر سنه, كثير النوافل دائم الذكر ظاهر الخشوع, وكان يخبر بالأمر قبل وقوعه. أنظر بهجة الأسرار ومعدن الأنوار – ص89. وإن ما يهمنا من هذه الروايات, هو الاستدلال على طبيعة الأجواء التي عاش في كنفها الشيخ عبد القادر, أبان طفولته, والتي وسمت بميسمها, شخصيته ومسار حياته فيما بعد.

    (1) تفقه الشيخ عبد القادر على المذهب الشافعي إضافة إلى مذهبه الحنبلي, وقد بلغ في كلا المذهبين درجة الإفتاء, حتى إنه كان يذكر ضمن رجال طبقاتهما, ولو علمنا ما كان بين هذين المذهبين من تصادم ونزاع, يصل أحيانا إلى حد القتل والسلب والنهب ونبش القبور, في بغداد خاصة, لعلمنا الغاية التي يقف وراءها الشيخ عبد القادر والتي تتجسد في إذابة الكثير من مسائل الخلاف الفرعية وتهوينها بين المذهبين, وفي الوقت نفسه تسليط الضوء على نقاط الإتفاق والجمع بينهما.

    (2) لقد كانت بغداد في تلك المدة, مليئة بالتناقضات الأجتماعية والعلمية والدينية والأخلاقية, إذ إجتمعت فيها خلاصات جميع التيارات والملل والنوازع لأنها كانت من أكبر حواضر ذلك الزمان, بحيث إن جميع الطلاب, ومن صنوفهم كافة كانوا يجدون فيها ضالتهم, سواء أكانوا طلاب دين أم طلاب دنيا, طلاب علم أم طلاب لهو. وإذا كانت بغداد وهي بتلك الصفات, قد أثرت في نفس الشيخ عبد القادر, ومنحته هذه الأنعطافة الهائلة في حياته فأن الشيخ عبد القادر في الوقت نفسه, أثر كثيرا فيها, بحيث إنه ترك بصمته على جبينها قرونا عديدة لازالت متصلة إلى الآن.

    (1) ذكر الشعراني في طبقاته: إن الشيخ عبد القادر, أتقن ثلاثة عشر علما من علوم اللغة والشرع والتفسير والحديث والمذاهب والخلاف والأصول وكان يفتي على مذهبي, إبن حنبل والشافعي, وكانت فتواه تعرض على علماء العراق فتعجبهم أشد الإعجاب. – أنظر طبقات الصوفية – ص 126 .

    (2) التادفي – قلائد الجواهر ص 9.

    (3) للتفصيل حول أسماء هؤلاء المشايخ والعلماء – أنظر – قلائد الجواهر – ص 4 , فما بعدها.

    (4) هو حماد بن مسلم بن داود الرحبي الدباس, أصله من بلاد الشام, وقد سكن بغداد إلى أن توفي فيها – أنظر – المنتظم – إبن الجوزي – ج / 12 – ص 202.

    (5) هو المبارك بن علي بن الحسين، ولد في بغداد وتوفي فيها، والمخرمي نسبةً إلى مخرم وهي محلة في شمالي بغداد-أنظر المنتظم لأبن الجوزي-ج/9 – ص215 وكذلك إبن كثير – البداية والنهاية – ج/12 –ص185.

    (1) يعد لبس الخرقة, علامة مميزة من علامات أصحاب الطرق الصوفية في ذلك الوقت وهي غير موجودة في الوقت الحاضر. وهم يعدونها تقليدا قديما متوارثا عن الإمام علي بن أبي طالب (u). أما غايتهم منها, فهي أن تكون لهم شعاراً بين الناس, فيكونوا مراقبين منهم وبذلك يتجنبون الكثير من الهفوات والزلات ويبتعدون في الوقت نفسه عن مواطن الشبهات وأيضا فأن الخرقة هي شعار الزاهدين وعلامة المنقطعين إلى الله تعالى وهي سمة التواضع ونبذ الكبر. وأما الخرقة التي لبسها الشيخ عبد القادر, فلقد تلقاها عن الشيخ أبي سعيد المبارك بن علي المخرمي البغدادي, وهو قد تلقاها عن شيخ الإسلام علي بن محمد الهكاري عن الشيخ أبي الفرج الطرطوسي عن الشيخ أبي الفضل التميمي عن الشيخ أبي بكر الشبلي عن الشيخ أبي القاسم الجنيد عن الشيخ السري السقطي عن الشيخ معروف الكرخي عن الشيخ داود الطائي عن الشيخ حبيب العجمي عن الشيخ حسن البصري عن الإمام علي بن أبي طالب (u) عن النبي محمد(r). وللمزيد من التفصيل حول لبس الخرقة وتاريخها – أنظر كتاب عوارف المعارف لشهاب الدين عمر السهروردي – ط / 1 – بيروت – ص 95 فما بعدها.

    (2) يذكر عبد الرحمن السائح إنه: كان يجتمع في مدرسة الشيخ عبد القادر في بادئ الأمر, أفراد قلائل من الناس, ثم بعد ذلك طارت شهرته في أرجاء بغداد, فقصده الناس من أماكن بعيدة. وكان الشيخ عبد القادر يتكلم في أول مجلسه بأنواع العلوم, وكان إذا صعد الكرسي لايتحرك أحد من الحاضرين ولايتكلم ولايقوم هيبة له, فأذا ما أنهى كلامه في العلوم قال: مضى القال – أي الحديث بالعلوم الظاهرية. ووعظنا بالحال – أي الكلام الباطني الذي لايصدر إلا عن تجليات الأنوار الإلهية, فيضطرب الناس إضطرابا شديدا ويتداخلهم الوجد. ويذكر إن من كراماته المشهورة إن أقصى من في المسجد كان يسمع صوته كما يسمعه أدناهم منه, على كثرتهم, وكان يتكلم عن خواطر أهل المجلس ويواجههم بالكشف, وكان إذا قام فوق الكرسي, يقوم الناس لجلالته وإذا قال لهم أسكتوا, سكتوا حتى لم يسمع منهم سوى أنفاسهم – أنظر مناقب الشيخ عبد القادر – مخطوطة.

    (3) الفقراء: وهي التسمية الدارجة للصوفية آنذاك, وكثيرا ما يستخدمها الشيخ عبد القادر في مؤلفاته.

    (1) يذكر الشطنوفي أن هذه المدرسة قصدت بالزيارات والنذور والأوقاف الكثيرة وإجتمع عنده بها من العلماء والصلحاء والفقهاء جماعات كثيرة، ينتفعون بكلامه وصحبته، وقد قصد إليه طلبة العلم من الآفاق، فحملوا عنه وسمعوا منه وإنتهت إليه تربية المريدين بالعاق –أنظر – بهجة الأسرار ومعدن الأنوار –س106.

    (2) تعرضت المدرسة القادرية للهدم والتخريب ثلاث مرات في التاريخ, فإضافة إلى المرة الأولى التي تمت على يد التتار, هدمت ايضا على يد الشاه إسماعيل الصفوي عام (914 هـ ) وقد أعاد بناءها السلطان العثماني سليمان القانوني عام (941 هـ ) ثم خربت بأحتلال الصفويين بغداد مرة أخرى تحت قيادة الشاه عباس الأول وذلك في عام (1033 هـ ) وقد أعاد بناءها السلطان العثماني مراد الرابع في عام (1048 هـ ) وللمزيد من التفصيل حول تاريخ هذه المدرسة والأحداث التي مرت عليها يراجع كتاب – تاريخ جامع الشيخ عبد القادر الكيلاني – تأليف عبد الرحمن المحض الكيلاني – ط /1 بغداد – 1994.

    (3) للتفصيل أنظر – أبن العماد الحنبلي – شذرات الذهب – مجلد /2 ص 199 – وكذلك الشطنوفي – بهجة الأسرار ومعدن الأنوار – ص 96.

    (4) صاحب حال ومقال, أي كناية عن كونه متمرس بعلوم الطريقة قولاً وعملا .

    (1) هنالك مخطوطة في دار صدام للمخطوطات – تحت رقم (999) تضم مجموعة من القصائد تنسب إلى الشيخ عبد القادر.

    (2) الخلفاء العباسيين هم: الخليفة المستظهر بأمر الله الذي حكم من سنة (487 هـ ) وحتى سنة (512 هـ ) ثم المسترشد (512 – 529 هـ ) ثم الراشد (529 – 530 هـ ) ثم المقتفي لأمر الله (530 – 555 هـ ) ثم المستنجد بالله (555 – 566هـ )- أنظر الشيخ عبد القادر الكيلاني قطب الإسلام وحجة الأيمان – أبو الحسن الندوي وآخرون – ص 7.

    (3) – جاء في طبقات الشعراني أن تأريخ وفاة الشيخ عبد القادر كانت سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة وهو تأريخ بادي اخطأ ينفرد بإيراده هذا المؤلف.

    (4) لقد جمع تاريخ ولادة الشيخ عبد القادر ووفاته ومدة عمره في بيت من الشعر هو:
    أن باز الله سلطان الرجال جاء في عشق ومات في كمال
    حيث أن كلمة (العشق) بِعَدِّ حساب الحروف تعادل رقم (470) وهو تاريخ الولادة وأما كلمة (كمال) فهي تعادل (91) وهو مدة عمره, فأذا جمعنا الكلمتين فسيكون الحاصل هو الرقم (561) وهو تاريخ وفاته. أنظر فتوح الغيب هامش كتاب بهجة الأسرار ومعدن الأنوار – ص 171.

    (5) عبد الرزاق الجيلاني – من أعلام المسلمين – الشيخ عبد القادر الجيلاني – ص 266 كذلك جميل أبراهيم حبيب – وصايا الشيخ عبد القادر الجيلاني – ص 8.

    (1) جعفر صادق سهيل – عبد القادر الجيلاني ومذهبه الصوفي – رسالة ماجستير – القاهرة 1975 – ص 274.

    (2) التادفي – قلائد الجواهر – ص 75.

    (3) الشطنوفي – بهجة الأسرار ومعدن النوار – ص 88.

    (4) يروي الشيخ عبد القادر أنه مر عليه يوما الشيخ أبو سعيد المخرمي, فسمع صراخا من داخله من أثر الجوع فقال له: ما هذا يا عبد القادر؟ فقال: هذا قلق النفس وأما الروح فساكنة إلى مولاها عزوجل – أنظر – مناقب الشيخ عبد القادر الجيلي – زين الدين السائح – مخطوطة.

    (1) يروي الشيخ عبد القادر، وهي رواية تنمّ عن حرص شديد على التمسك بعروة الشرع أنه في إحدى سياحاته، تراءى له نور عظيم ملأ عليه الأفق، ثم تلألأت منه صورة تنادي يا عبد القادر، أنا ربك وقد حللت لك -المحرمات، فقال الشيخ عبد القادر: اخسأ يا لعين. فإذا ذلك النور ظلام وتلك الصورة دخان.وحين سئل كيف علم أنه الشيطان؟ قال: لقوله قد حللت لك المحرمات0 أنظر تفصيل الرواية طبقات الشعراني-ج/1 – ص109

    (2) عبد الرحمن السايح – مناقب الشيخ عبد القادر الجيلي –مخطوطة.

    (3) الشطنوفي - بهجة الأسرار ومعدن الأنوار – ص 104- 105 .

    (1) الإمام زين الدين السائح – الدر الفاخر في مناقب الشيخ عبد القادر, تحقيق – علي محمود علي – رسالة ماجستير - جامعة بغداد – 1999 – ص 203.وقد تضمنت هذه الرسالة ترجمة مفصلة للشيخ أبو المظفر – أنظر ص 144.

    (2) الشطنوفي - المصدر نفسه – ص 85.

    (3) للمزيد من التفصيل حول رأي العلماء المعاصرين في الشيخ عبد القادر, واعظامهم له – أنظر قلائد الجواهر- ص 19 فما بعدها.

    (1) الشطنوفي - بهجة الأسرار ومعدن الأنوار – ص 118 – أما عن علو مكانة الشيخ عبد القادر وعظم قدره فيكفي أن نذكر إن أهل زمانه والذين جاءوا من بعدهم نقلوا عنه الكثير من الأخبار والحوادث التي تروي على سبيل المثال كيف أن بعض مشايخ الصوفية البارزين, تنبأوا بولادته وظهوره وعلو كعبه وسيادته المطلقة, وكذلك الروايات الكثيرة التي ذكرت قوله المشهور: قدمي هذه على عنق كل ولي لله. وأنه ربما قام له الشيوخ وهو شاب لم يشتهر أمره بعد, وتنبأوا له بمستقبل عظيم وفتح روحي مبين وأخبار كثيرة غيرها نراها مبثوثة في الكتب التي تحدثت عنه. وتجدر الأشارة هنا إلى أنه لايهمنا معرفة مدى صحة هذه الأخبار وحدود صدقها, ولكن يهمنا منها ما تشير إليه من المكانة العالية التي بلغها الشيخ عبد القادر بين الناس إلى الدرجة التي جعلتهم ينظرون إليه بكونه شخصا ربانيا له سيرة إستثنائية.

    (2) عبد الغني النابلسي – كوكب المباني وموكب المعاني في شرح صلوات الشيخ عبد القادر الجيلاني – مخطوطة تحت رقم – 3361 – مكتبة وزارة الأوقاف – بغداد.

    (1) حول اسماء مشاهير هؤلاء العلماء – انظر – ابو الحسن الندوي-الامام عبد القادر الجيلاني-ص5.

    (2) يذكر صاحب (القلائد) –خبر حضور الخليفة المقتضي بالله لاحد مجالس الشيخ عبد القادر انظر-قلائد الجواهر- ص65.

    (3) كان الشيخ عبد القادر ، طالما ينادي اهل زمانه ويدعوهم بقوله : إلي ايها التائهون إلي أيها الضالّون، إلي ايها الضائعون ، طريق الاسلام من هنا ، عودوا اليه قبل ان تجتالكم الشياطين وتهلككم الاهواء وتفتنكم الدنيا- انظر-الفتح الرباني والفيض الرحماني – الشيخ عبد القادر الجيلاني-ص172

    (1) العّيارون : جمع عيّار ، وهو لغة لكثرة المجيء والذهاب ، واما هنا فهو يعني اللصوص وقطاع الطرق . انظر-التادفي-قلائد الجواهر-ص15.

    (2) ابو الحسن الندوي واخرون – الشيخ عبد القادر الجيلاني قطب الاسلام وحجة الايمان – ص7


    (3) أنظر – د. عبد الرزاق الجيلاني – من أعلام المسلمين – الشيخ عبد القادر الجيلاني – ص71-72.

    (1) د. ماجد عرسان الكيلاني – هكذا ظهر جيل صلاح الدين وهكذا عادت القدس – ص 67فما بعد

    (2) للمزيد من التفصيل حول أحداث تلك الفترة – أنظر – د. حسين مؤنس – نور الدين محمود . القاهرة – 1959

    (3) الجيلاني – الفتح الرباني والفيض الرحماني – بغداد – 1983 – ص12

    (1) الجيلاني المصدر نفسه – ص246

    (2) يخاطب الشيخ عبد القادر هؤلاء العلماء بقوله : اما تستحي ، قد حملك حرصك على انك تخدم الظلمة وتاكل الحرام، الى متى تاكل وتخدم الملوك الذين تخدمهم يزول ملكهم عن قريب افما ان لك ان تتولى خدمة الحق عز وجل الذي ملكه لا يزول-الفتح الرباني والفيض الرحماني- ص221.

    (3) عمر محمود السامرائي –الشيخ عبد القادر الجيلاني ومنهجه في التربية والسلوك-رسالة ماجستير كلية العلوم الاسلامية-جامعة بغداد ص128

    (4) الجيلاني – الفتح الرباني والفيض الرحماني – ص90

    (1) ان نظرة الشيخ عبد القادر الى الدين الاسلامي، بكونه وحدة عضوية واحدة لا تقبل التجزئة، ستظهر كذلك في نظرته الى التصوف، اذ يرى فيه ايضاً وحدة واحدة لا يمكن الفصل بين اجزائها الا لغرض الافهام او التعبير اللفظي .

    (2) التادفي- قلائد الجوهر – ص8.

    (3) التادفي – قلائد الجواهر –ص24.

    (4) الجيلاني – الفتح الرباني والفيض الرحماني –ص216.

    (1) أبو الحسن الندوي- ألأمام عبد القادر الجيلاني-ص2

    (2) الشطنوفي-بهجة الأسرار ومعدن الأنوار-ص80 .والباز الأشهب هو من الالقاب المعروفة للشيخ عبد القادر الجيلاني.وقد ورد هذا اللقب في بعض الاشعار التي تنسب اليه، كقوله في القصيدة التي مطلعها:
    مافي الصبابة منهل مستعذ ب إلا ولي فيها الألذّ الأطيب
    إلى قوله:
    أنا بلبل الأفراح أملأ دوحها طرباً وفي العلياء باز أشهب .
    انظر- ديوان الشيخ عبد القادر الجيلاني – مخطوطة رقم/362 – دار صدام للمخطوطات .

    (1) الجيلاني – الفتح الرباني والفيض الرحماني-ص27- وللمزيد من التفصيل حول سيرة الشيخ عبد القادر الذاتية وذكره لأنواع المجاهدات ووصفه لمعراجه الروحي-أنظر-الدرّ الفاخر في مناقب الشيخ عبد القادر –البسطامي- ص168 فما بعدها.

    (2) للمزيد من التفصيل حول احداث الحروب الصليبية- راجع كتاب- د.حسين مؤنس نور الدين محمود (سيرة مجاهد صادق) –القاهرة -1959- اما عن دور الشيخ عبد القادر الايجابي في افشال الحملة الصليبية وعلاقته بالقائدين نور الدين زنكي وصلاح الدين الايوبي، فيراجع كتاب د. ماجد عرسان – هكذا ظهر جيل صلاح الدين وهكذا عادت القدس- الدار السعودية -1985.

    (1) علي الندوي واخرون – الشيخ عبد القادر الكيلاني – ص19

    (2) مما جاء في فتاوي ابن تيمية وهو المعروف بشدة انكاره على الصوفية قوله: واما ائمة الصوفية المشهورون مثل الجنيد واتباعه والشيخ عبد القادر وامثاله، فهؤلاء اعظم الناس لزوماً للامر والنهي ، فالشيخ عبد القادر كلامه كله يعود على اتباع المامون وترك المحضور والصبر على المقدور- راجع-الفتاوى جـ /10 –ص507.

    (1) الشطنوفي –بهجة الاسرار ومعدن الانوار- ص55.

    * يمكننا ان نلمس حرص الشيخ عبد القادر على انتقاء عقائده ، من خلال اراءة الكلامية التي توخى فيها التزام (خط الوسط) المرغوب فيه من العامة والفقهاء، إذ انه لا يربك اولئك ولا يثير حفيضة هؤلاء. انه يقول بالتنزيه الذي لا يشوبه حدّ ولا كيف ولا اين ولا وقت، ولكنه مع ذلك لا يصل الى تخوم التعطيل، وهو يلتزم بظاهر النص ولكنه من غير اقرار بالتجسيم. وهو يؤمن بالتوحيد الذي يتجلى للعام والخاص من خلال فعل الله تعالى في خلقه وامره، وهو ايضاً يقول بالارادة الالهية المطلقة التي لا تتعارض ، رغم اطلاقها، مع القول بكسب الانسان ومسؤوليته عن افعاله ، وهو اخيراً، وهنا يظهر بوضوح جانبه الاشعري يقول ، بقدم كلام الله تعالى وازليته. – حول اهم اراء اليشخ عبد القادر الكلامية انظر- كتاب الفيوضات الربانية ص41 فما بعدها- وكذلك كتاب –بهجة الاسرار ومعدن الانوار- ص50 فما بعدها.

    (1) هو أبو العباس أحمد بن أبي الحسن علي الرفاعي, مؤسس الطريقة الرفاعية وواضع أصولها, ولد في منطقة البطائح جنوبي العراق عام (500 هـ) وتوفي فيها عام (578 هـ ). أنظر طبقات الأولياء– أبن الملقن – ص 100 وكذلك بهجة الأسرار ومعدن الأنوار ص 238.

    (1) لأجل تسليط مزيد من الضوء على النقاط الحرجة التي كانت تواجه الموقف الصوفي في تلك المدة – راجع مقدمة الرسالة القشيرية, للإمام ابو القاسم القشيري.

    (2) الجيلاني – الفتح الرباني والفيض الرحماني – ص 63.

    (3) الشطنوفي – بهجة الأسرار ومعدن الأنوار – ص 72.

    (1) هنا أيضا يمكننا أن نلمس رجحان كفة الفقه عند الشيخ عبد القادر من خلال نظره للفعاليات الصوفية بمنظار فقهي أو تسمية لها بمسميات فقهية, وهذا عكس ما نلاحظه عند متصوفة القرنين الثالث والرابع الهجريين, الذين كانوا يبحثون بين مفاصل الفقه وأوامره العملية, عن معان صوفية. وإن هذا الأختلاف يعود, كما ذكرنا سابقا, إلى الأختلاف الكبير في الظروف السياسية والفكرية بين المدتين.

    (2) القشيري – الرسالة القشيرية – ص 17.

    (3) الجيلاني – الفتح الرباني والفيض الرحماني – ص 117.

    (1) الشطنوفي – بهجة الأسرار ومعدن الأنوار – ص 53.

    (2) البدلية: وهي صفة أو مرتبة روحية يبلغها المريد, ويسمى صاحبها بـ (البدل) – وهو من تبدلت إرادته بإرادة الحق عزوجل فأصبح يريد بأرادة الحق أبدا إلى الوفاة, ولهذا سمي بدلا. أنظر – فتوح الغيب – ص 15.

    (3) محمد الأمين الكيلاني التونسي – رياض البساتين في أخبار الشيخ عبد القادر الجيلي – ط / 1 – تونس – 1302هـ – ص 69.

    (4) يؤكد الشيخ عبد القادر, في أكثر من موضع في كتبه, أنه أكثر أهل عصره تمسكاً بسنة جده المصطفى ((r) إذ يقول ما رفع المصطفى ((r) قدما إلا وقد وضعت قدمي في الموضع الذي رفع قدمه منه, إلا أن يكون قدما من أقدام النبوة, فأنه لاسبيل إلى أن يناله غير النبي–أنظر الدر الفاخر في مناقب الشيخ عبد القادر–ص138– ويلاحظ هنا تأكيد الشيخ عبد القادر, وهو تأكيد له ما يسوغه في ذلك الوقت, على أنه لا مجال للمقارنة أو المفاضلة بين النبوة والولاية, كما تذهب إلى ذلك بعض الفرق الباطنية, وأن الولاية لا يمكنها أن تتجاوز النبوة أو تخرج عن مظلتها.

    (1) الشطنوفي – قلائد الجواهر في مناقب الشيخ عبد القادر – ص 37 – وفيه ذكر لقصة لقاء الشيخ عبد القادر بالشيخ شهاب الدين عمر السهروردي, صاحب كتاب عوارف المعارف – وكيف أن الشيخ عبد القادر قد نهاه عن الخوض في علم الكلام, ورغبه في الأخذ بالتصوف وتنبأ له بأنه آخر المشهورين في العراق. وتجدر الأشارة هنا إلى أن كتاب عوارف المعارف المطبوع حديثا ينسب إلى عبد القاهر بن عبد الله السهروردي, بينما تؤكد الكتب القديمة نسبته إلى الشيخ شهاب الدين عمر السهروردي حيث يلحق أسمه في أغلب الأحيان بعبارة (صاحب كتاب عوارف المعارف) – أنظر – بهجة الأسرار ومعدن الأنوار – ص 235 وكذلك – قلائد الجواهر – ص 140 – وكذلك مقدمة كتاب سراج السالكين للشيخ حسين القاضي.

    (1) الجيلاني – الغنية لطالبي طريق الحق عزوجل – ص 1272 – وبمناسبة هذه العبارة نذكر هنا حادثة النور المتجسد الذي لاح للشيخ عبد القادر في الأفق بعد مجاهدات طويلة وقد نودي منه: أنني ربك وقد أحللت لك المحرمات, فقال له أعوذ بالله من الشيطان الرجيم, أخسأ يالعين, فأستحال النور ظلاما. وحين سئل كيف علم أنه الشيطان, قال: بقوله أحللت لك المحرمات, فعلمت أن الله لايأمر بالفحشاء – أنظر قلائد الجواهر – ص 25 – ومايهمنا من هذه القصة أو من غيرها, هو حرص الشيخ عبد القادر الشديد على سد جميع المنافذ والطرق في وجه القائلين بأسقاط التكاليف.

    (2) الجيلاني- فتوح الغيب- ص89 . وبمناسبة هذه العبارة فقد سئل الشيخ عبد القادر عن محنة الحلاج فقال : جناح طال دعواه فسلط عليه مقراظ الشريعة فقصه ولم يكن في زمنه من يأخذ بيده ولو كنت في زمنه لأخذت بيده وأنا لكل من عثر مركبه من مريدي وأصحابي. – أنظر قلائد الجواهر – ص21

    (3) الجيلاني –المصدر نفسه – ص 94.

    (4) الجيلاني – الفتح الرباني والفيض الرحماني – ص 41.

    (1) الجيلاني – الفتح الرباني والفيض الرحماني – ص 15.

    (2) الجيلاني – جلاء الخاطر من كلام الشيخ عبد القادر-تحقيق الشيخ محمد الكسنزاني – بغداد– 1989– ص 40 وبصدد هذا الموضوع, فأننا نود أن نشير إلى المحاولة المجحفة للكاتب العربي (أدونيس) في الربط بين التجربة الصوفية والتجربة السوريالية, بكونهما يبغيان الأنفلات والتجاوز على المؤسسات الأجتماعية كافة بما فيها الدين بوصفه مؤسسة أخلاقية صارمة إذ يرى (أدونيس) إن التجربة الصوفية تتجاوز الشريعة لكي تقدر أن تصل إلى الحقيقة وإن النص الصوفي ماهو في حقيقته إلا نص لاشرعي لابل إنه خرق للشرعية الدينية. وبمداخله سريعة يمكن القول: إن التجربة السوريالية تختلف نوعا عن التجربة الصوفية, إختلافا يصل إلى حد التعاكس, فالتجربة السوريالية هي في حد ذاتها محاولة للغوص في داخل الذات الإنسانية من أجل إيقاظ النوازع النفسية الدفينة وتأجيج النزق البدائي فيها والوصول إلى المستويات الدنيا من (الأنا) الإنسانية من غير ما تلفت إلى قوانين خلقية أو إجتماعية. أما التجربة الصوفية فهي على الضد من ذلك. أنها وبكل تأكيد غوص إلى الداخل, ولكن من أجل غاية أخرى تدعم الجانب الأخلاقي ولاتحاول الأنفكاك عنه. إنها ولوج إلى الداخل من أجل التحكم فيه [ Yوالسيطرة عليه ومن ثم توجيهه الوجهة الأخلاقية الصحيحة. على أن لايشكل ذلك عند الصوفي الغاية النهائية, لأن غايته تتمثل في الأنطلاق نحو الأعلى, أي نحو الترقي بهذه المستويات النفسية المتدنية إلى آفاقها الربانية. إن التجربة الصوفية تقترب من النفس البشرية من أجل تنقيتها وزيادة شفافيتها, أما التجربة السوريالية فأنها تقترب من النفس الإنسانية من أجل أن تزيد من لزوجتها وإلتصاقها بالأشياء. راجع كتاب – أدونيس – الصوفية والسوريالية – بيروت – دار الساقي – 1992.

    (1) يبدو هذا التشبيه لأول وهلة وكأنه معكوس, فلقد اعتدنا على أن الشرع هو الذي يمثل الناحية العملية بينما الحقيقة هي التي تحوز على العلوم والمعارف النظرية, ولكن مقصود الشيخ عبد القادر هنا يعتمد على أن البحث عن الحقيقة يعد سعيا عمليا يحتاج إلى أن يتأسس على العلوم الشرعية.

    (2) الجيلاني – جلاء الخاطر – ص 67.

    (3) الجيلاني – الفتح الرباني والفيض الرحماني – ص 213.

    (1)محمد المكي – الحق الظاهر في شرح حال الشيخ عبد القادر مخطوطة – ص 56.

    (2) الجيلاني – فتوح الغيب – ص 7.

    (3) يقول أبن تيمية (ت – 721 هـ ) وهو المشهور بصلابة موقفه المضاد للصوفية وشدة إنكاره عليهم: أما المستقيمون من السالكين كجمهور مشايخ السلف من المتقدمين مثل الشيخ عبد القادر, والشيخ حماد الدباس, فهم لايسوغون للسالك ولو طار في الهواء أو مشى على الماء, أن يخرج عن الأمر والنهي الشرعيين, بل عليه أن يفعل المأمور ويدع المحظور إلى أن يموت, وهكذا كثير في كلامهم كقول الشيخ عبد القادر في كتابه فتوح الغيب: أخرج من نفسك وتنح عنها وسلم الكل إلى الله عزوجل وأمتثل أمره وأنته نهيه ولاتدخل الهوى قلبك. أنظر فتاوى إبن تيمية – ج /10 – 11 – الرياض – 1381 هـ - ص 516 فما بعدها.

    (1) سورة الجن – آية / 16.

    (2) سورة طه – آية / 104.

    (3) سورة النساء – آية / 168.

    (4) سورة الجن – آية / 11.

    (5) الجرجاني – التعريفات – ص 136.

    (1) أبو حامد الغزالي – أحياء علوم الدين – ج / 3 – ص 52 فما بعدها.

    (1) القشيري – الرسالة القشيرية – ص 7.

    (2) الشطنوفي – بهجة الأسرار ومعدن الأنوار – ص 85.

    (3) حول أسبقية الطريقة القادرية وتقدمها على بقية الطرق الصوفية – أنظر – اليافعي – مرآة الجنان – ج / 3 – ص 351 – كذلك الزركلي – الأعلام – ج / 4 ص 171. ومن الكتب الحديثة يمكن مراجعة كتاب – عامر النجار – الطرق الصوفية في مصر.

    (1) الجيلاني – فتوح الغيب – ص 9.

    (2) الإمام زين الدين السائح – الدر الفاخر في مناقب الشيخ عبد القادر الكيلاني – تحقيق – علي محمود علي البلاطي – رسالة ماجستير – 1999 – الجامعة المستنصرية – ص 142.

    (3) الجيلاني – الفتح الرباني والفيض الرحماني – ص 233.

    (1) الشطنوفي – بهجة الأسرار ومعدن الأنوار – ص 74.

    (2) الجيلاني – الفتح الرباني والفيض الرحماني – ص240

    (1) الشطنوفي- بهجة الاسرار ومعدن الانوار – ص74 ويرد هنا قول الشيخ عبد القادر : ان من طلب ربه بحقيقة صدق قلبه ، صار صدقه في قلبه مراة تريه عجائب الدنيا والاخرة

    (1) الجيلاني الفتح الرباني والفيض الرحماني –ص108- وفي هذه العبارة الاخيرة يتفق الشيخ عبد القادر مع اكثر الصوفية في ان اقتل ما يقتل العبادة ويُفرغها من مضمونها هو تحولها بمرور الوقت الى عادة يمارسها الانسان من دون شعور او احساس ، ولذلك كان من ضمن اهداف السلوك في الطرق الصوفية هو، اعطاء العبادات معانيها الحقيقة عن طريق ممارستها بحضور قلب ويقظة وجدان.

    (2) الجيلاني – الفتح الرباني والفيض الرحماني- ص108

    (3) يعرّف القشيري مصطلحي الشريعة والحقيقة تعريفاً دقيقاً يبين من خلاله عمق العلاقة العضويه التي تربط بينهما ، فالشريعة عنده هي أمره بالتزام العبودية واما الحقيقة فهي مشاهدة الربوبية ، فكل شريعة غير مؤيدة بالحقيقة غير مقبولة وكل حقيقة غير مقيدة بالشريعة فغير محصولة –أي لا يمكن بلوغها-الشريعة جاءت لتكليف الخلق والحقيقة انباء عن تصريف الحق. الشريعة ان تعبده والحقيقة ان تشهده والشريعة قيام بما امر والحقيقة شهود لما قضى وقّدر واخفى واظهر والشريعة تتجسد بقوله ((أياك نعبد)) والحقيقة تتجسد بقوله (( إياك نستعين)). واعلم ان الشريعة حقيقة من حيث انها وجبت بامره والحقيقة ايضاً شريعة من حيث ان المعارف به سبحانه ايضاً وجبت بامره.- الرسالة القشيرية- ص72.

    (1) تحقيق الاسلام يعني به هنا : تطبيق مبادئه قولاً وعملا واداء فرائضه ظاهراً والائتمار بأوامره والانتهاء بنواهيه.

    (2)الجيلاني –الفتح الرباني والفيض الرحماني-ص125.

    (3) الجيلاني – المصدر نفسه- ص111.

    (4) الجيلاني – المصدر نفسه- ص111.

    (5) يصف الشعراني في طبقاته ، طريقة الشيخ عبد القادر بقوله : كانت طريقته التوحيد وصفاً وحكماً وحالاً وتحقيقه الشرع ظاهراً وباطناً .-انظر الطبقات الكبرى ج /1 – ص129.

    (1) يمكن ان نلاحظ ذلك عملياً من خلال وصية االشيخ عبد القادر لابنه عبد الرزاق والتي جاء فيها: ان طريقتنا هذه مبنية على الكتاب والسنة وسلامة الصدر وسخاء اليد وبذل الندى وكف الجفاء وحمل الاذى والصفح عن عثرات الاخوان ومحبة الفقراء وحفظ حرمة المشايخ وحسن العشرة مع الاخوان والنصيحة للاصاغر والاكابر وترك الخصومة الا في امور الدين... وان حقيقة الفقر هي ان لا تفتقر الى من هو مثلك وحقيقة الغنى ان تستغني عمن هو مثلك ،وان التصوف حال لا لمن ياخذ بالقيل والقال .- انظر –الشيخ محمد صادق السعدي- تفريح الخاطر في مناقب الشيخ عبد القادر-باللغة الفارسية- ترجمة الشيخ عبد القادر القادري-ط/4-1957- ص55.

    (2) الجيلاني- الفتح الرباني والفيض الرحماني- ص292.

    (1)الجيلاني- الفتح الرباني والفيض الرحماني- ص302 0

    (2)الجيلاني – فتوح الغيب- ص138 0

    (1) الجيلاني- فتوح الغيب – ص138.

    (2) الجيلاني- المصدر نفسه –ص139.

    (3) الجيلاني- المصدر نفسه –ص139.

    (4) الكيلاني – فتوح الغيب – ص140

    (1) - حتى هذه المرحلة المتقدمة يقسمها الشيخ عبد القادر على ثلاث درجات : بقاء المعلوم بعد سقوط العلم عيناً لا علماً وهو حال التسليم والموت الارادي وبقاء المشهود بعد سقوط الشهود وجوداً لا نعتاً وهو حال الفناء الشهودي وبقاء ما لم يزل حقاً باسقاط ما لم يكن محواً وهو حال الفناء الوجودي الذي ياتي بعده البقاء بالله تعالى- للمزيد من التفصيل – أنظر- بهجة الاسرار ومعدن الانوار –ص80.

    (2) الجيلاني- فتوح الغيب- ص40

    (3) يعرف الشيخ عبد القادر التقوى بانها: طريق تبدأ اولا بالتخلص من مظالم العباد ومن حقوقهم ثم من المعاصي الكبائر منها والصغائر ثم الاشتغال بترك ذنوب القلب التي هي أُمهات الذنوب واصولها والتي منها تتفرع ذنوب الجوارح كالرياء والنفاق والعجب والكبر والحرص والطمع والخوف وطلب الجاه والرئاسة والتقدم على ابناء الجنس- ورد هذا النص باللغة التركية في كتاب " جامع الانوار " لمؤلفه مرتضى نظمي ، وقد نقلناه مترجماً الى العربية عن كتاب " الباز الاشهب " . تاليف –ابراهيم الدروبي- ص7.

    (1) البقرة /آية -197

    (2) الشطنوفي – بهجت الاسرار ومعدن الانوار – ص 66

    (3)الجيلاني – الفتح الرباني والفيض الرحماني – ص19

    (1) الشطنوفي – بهجت الأسرار ومعدن الأنوار – ص71

    (2) الجيلاني – جلاء الخاطر من كلام الشيخ عبد القادر الجيلاني – ص66

    (1) وهذا المعنى يلخصه الشيخ عبد القادر في قصيدته الهائية التي يقول فيها :
    سترمي النفوس باهوالها فأمّا عليها وإما لها
    فان اسلمت فتنال المنى وإن تلفت فبآجالها - الشطنوفي – المصدر نفسه – ص17-18

    (2) الشطنوفي –المصدر السابق نفسه ص17-18

    (1) الشطنوفي – بهجة الأسرار ومعدن الأموار – ص18.

    (2) الجيلاني – الفتح الرباني والفيض الرحماني – ص14-15.

    (1) الجيلاني – الفتح الرباني والفيض الرحماني – ص30.

    (2) مما جاء في عقيدة الشيخ عبد القادر قوله: الحمد لله الذي كيّف الكيف وتنزه عن الكيفية وأين الأين وتعزز عن الأينية ووجد في كل شئ وتقدس عن الظرفية وحضر عند كل شئ وتعالى عن العندية فهو أول كل شئ وليس له آخرية. وإن قلت أين فقد طالبته بالأينية وإن قلت كيف فقد طلبته بالكيفية وإن قلت متى فقد زاحمته بالوقتية وأن قلت ليس فقد عطّلته عن الكونية, وأن قلت لو فقد قابلته بالنقصية وأن قلت لم فقد عارضته في الملكوتية, سبحانه وتعالى لا يسبق بقبلية ولا يلحق ببعديه ولا يقاس بمثليه ولا يقرن بشكلية – أنظر – الفيوضات الربانية – ترجمة السيد نور الدين آل المدرس الحسيني – ص41-42.

    *يذهب الشيخ عبد القادر:إلى أن الأبدال سمو أبدالاً لأنهم لا يريدون مع إرادة الله عز وجل ولا يختارون مع اختياره إختيار، يحكمون الحكم الظاهر ويعملون الأعمال الظاهرة ثم يتفردون إلى أعمال تخصهم. وهم كلما ترقت درجاتهم ومنازلهم فأنهم يزيدون من إلتزامهم بالأوامر والنواهي ولا يزالون في غيبة مع الحق عز وجل وإنما يحضرون في وقت مجيء الأمر والنهي يحفظون فيهما حتى لا يخربوا حداً من حدود الشرع لأن الفرائض لا تسقط عن أحد في حال من الأحوال – الفتح الرباني والفيض الرحماني ص50

    (1) الجيلاني- فتوح الغيب – ص123.

    (1) الجيلاني- فتوح الغيب – ص105

    (2) الغزالي – إحياء علوم الدين – ج / 4 – ص 258.

    (1) الجيلاني - الغنية لطالبي طريق الحق عز وجل – ج / 3 – ص 1265. ومن الجدير بالذكر أن القشيري في رسالته وهو في صدد تعريفه للإرادة, يذكر مفارقة ملفتة للنظر, فهو يذكر أن المريد في عرف هذه الطائفة – الصوفية – هو من لاإرادة له, لأن من لم يتجرد عن إرادته لايمكن أن يكون مريدا, كما أن من لإرادة له على موجب الأشتقاق نفسه لايكون مريدا – أنظر – الرسالة القشيرية – ص 157 على أنه أن هذا الاختلاف يزول فيما لو علمنا بأن الإرادة (الأولى) لها تعلق بالنفس وشهواتها وأهوائها وأما (الثانية) فأنها متعلقة بعزيمة المريد على إرادة الحق وطلب الوصول إلى الله تعالى.

    (2) الجيلاني – الغنية لطالبي طريق الحق عز وجل – ج / 3 ص 1265.
    1. الجيلاني – الغنية لطالبي طريق الحق عزوجل – ج /3 – ص 1267.

    (1) الجيلاني – المصدر نفسه ج / 3 – ص 1267 – ويمكننا أن نلاحظ هنا تأكيد الشيخ عبد القادر على أظهار معالم نظريته الصوفية بوضوح بالغ, وتجنبه كثيرا للبناءات الفكرية المعقدة والنظريات الرمزية المضنون بها على غير أهلها.

    (2) هذا القول يتضمن إشارة واضحة إلى صفات الإنسان الكامل أو الوريث المحمدي الذي سيرد تفصيل الكلام فيه في الفصل التالي.

    (3) الجيلاني – الغنية لطالبي طريق الحق عز وجل – ج /3 ص 1267 – وعبارة الشيخ عبد القادر الأخيرة هنا تعد تفسيرا للحديث القدسي: لا يزال عبدي المؤمن يتقرب ألي بالنوافل حتى أحبه, فأذا أحببته كنت سمعه وبصره ولسانه ويده ورجله وفؤاده, فبي يسمع وبي يبصر وبي ينطق وبي يعقل وبي يبطش. أنتهى. والحديث منقول عن – نيل الأوطار – ج / 2 ص 62 – وهو بنصه ينقله الشيخ عبد القادر في كتاب الغنية – ص 1268.

    (1) وكمثال على المريد والمراد يرى الشيخ عبد القادر أن نبي الله موسى (u) يعد مريدا بينما النبي محمد (r) مراد. موسى (u) إنتهى إلى طور سيناء بينما النبي محمد (r) طار إلى العرش واللوح المسطور – للتفصيل – أنظر – الغنية لطالبي الحق عز وجل – ج / 3 ص 1269.

    (2) الجيلاني – الغنية لطالبي الحق عز وجل – ج /3 ص 1269.

    (1) للمزيد من التفصيل حول أحداث هذه المدة – أنظر – د. عبد الرزاق الجيلاني – الشيخ عبد القادر الجيلاني – ص 218.

    *- هو عدي بن مسافر بن أسماعيل بن موسى بن مروان بن الحسن بن مروان الأموي الشامي الأصل والمولد الهكاري المسكن . رحل إلى بغداد وأجتمع بالشيخ عبد القادر والشيخ حماد الدباس. ثم إنفرد بجبل هكار في شمال العراق وبنى هنالك زاوية. عاش قريباً من ثمانين عاماً ودفن في بلده هكار . كان في حياته يعد من أجلاء مشايخ المشرق ، وهو شيخ الطائفة العدوية وكان الشيخ عبد القادر يجله ويثني عليه كثيرا – قلائد الجواهر في مناقب الشيخ عبد القادر – ص107 .
    (2) بهجة الأسرار ومعدن الأنوار – ص 84.

    * كان من أجلاء شيوخ العراق ومشاهيرهم, صحب الشيخ عبد القادر كثيرا. سكن في قرية زريران من أعمال نهر الملك ومات فيها وقد غلب سنه على مائة وعشرين سنة وقبره فيها ظاهر يزار – التادفي – قلائد الجواهر في مناقب الشيخ عبد القادر – ص 114.

    (3) الشطنوفي – المصدر نفسه – ص 84.

    * لم نجد له في كتب التراجم تاريخ لولادة أو وفاة, وهو من أعيان المشايخ في العراق وكان الشيخ عبد القادر يثني عليه ويعظمه كثيرا. سكن (بانبوس) قرية من قرى نهر الملك وفيها توفي وقد نيف على الثمانين وقبره بها ظاهر يزار, التادفي – قلائد الجواهر في مناقب الشيخ عبد القادر – ص 132.

    (1) الشطنوفي – بهجة الأسرار ومعدن الأنوار – ص 84.

    * كان من شيوخ التصوف والفقهاء المعتبرين المفتين. عاصر الشيخ عبد القادر ولما حضرته الوفاة قال له إبنه أبو الخير سعيد: أوصني فقال له: أوصيك بحفظ حرمة الشيخ عبد القادر لأنه ريحانة أسرار الأولياء وأقرب أهل الأرض إلى الله تعالى وأحبهم إليه, مات بقرية قيلوية من قرى نهر الملك ودفن فيها وقبره فيها ظاهر يزار – التادفي قلائد الجواهر في مناقب الشيخ عبد القادر – ص 132.

    (2) الشطنوفي – المصدر نفسه –ص 84.

    (1) تعد البيعة من أولى الخطوات العملية التي يخطوها المريد الطالب للسلوك. وصيغة البيعة تختلف من طريقة إلى أخرى وهي في الطريقة القادرية تتم من خلال المصافحة المباشرة بين الشيخ أو أحد وكلائه وبين المريد ويصاحب ذلك ترديد صيغة البيعة التي هي أقرب إلى إعلان التوبة من الحياة السابقة والاستعداد للحياة الروحية الجديدة.

    (2) تتفرع كافة الطرق الصوفية في الإسلام, عن أربعة طرق رئيسية والتي هي إضافة إلى الطريقة القادرية: الطريقة الرفاعية ومؤسسها الشيخ أحمد الرفاعي (512 – 578 هـ ) والطريقة البدوية ومؤسسها الشيخ أحمد البدوي (596 – 675 هـ ) والطريقة الدسوقية ومؤسسها الشيخ إبراهيم الدسوقي (623 – 676 هـ ). للتفصيل – أنظر كتاب – مناقب الأقطاب الأربعة – تأليف الشيخ يونس السامرائي

    (1) د. أبو الوفا التافتزاني – مدخل إلى التصوف الإسلامي – القاهرة – 1989 – ص 235.

    (1) يذهب د. يوسف زيدان إلى ضرورة قصر إستخدام لفظ التصوف على الأتجاه الذي رسمه أئمة المسلمين والذي وحدوا فيه بين الشريعة والحقيقة – حول ذلك أنظر كتابه – عبد القادر الجيلاني باز الله الأشهب – بيروت – 1991 – ص17.

    (1) للتفصيل حول مضمون هذه الآيات – أنظر – د. عامر النجار – الطرق الصوفية في مصر – ص8.

    (2) وهو معنى قوله (r): رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر, فقيل يارسول الله وما الجهاد الأكبر؟ قال جهاد النفس.- رواه البيهقي في باب الزهد – أنظر – المغني عن حمل الأسفار – ج / 3 ص64.

    (1) السلمي - طبقات الصوفية – ص10.

    (2) السلمي - المصدر نفسه – ص18.

    (3) السلمي - المصدر نفسه – ص53.

    (4) السلمي - المصدر نفسه – ص60.

    (5)السلمي - طبقات الصوفية – ص74.

    (1) السلمي - المصدر نفسه – ص158 – وسنلاحظ فيما بعد أن الشيخ عبد القادر سيأخذ حرفيا بهذا التعريف للتصوف.

    (2) السلمي - المصدر نفسه – ص159.

    (3) السلمي – طبقات الصوفية – ص211.

    (4) يحاول أدونيس في كتابه الآنف الذكر أن يدمج, تعسفا, بين التصوف الإسلامي وهذه المذاهب مع أن الأختلاف بين الأتجاهين واضح جدا, ولا يخفى على أي دارس, تلك الأختلافات سواء من حيث المرجعيات الفكرية أو من حيث المناهج الفكرية أو الأبعاد السياسية أو الوظائف الأجتماعية.

    (1) د. يوسف زيدان- الفكر الصوفي عند عبد الكريم الجيلي- بيروت – 1988- ص7

    (2) وهو معنى الحديث النبوي الشريف المسمى بحديث جبريل والذي قسم فيه النبي محمد e الدين الى اسلام وايمان واحسان وعرّف الاحسان بانه : ان تعبد الله كانك تراه فأن لم تكن تراه ، فانه يراك. انظر تفصيل الحديث في – دليل الفاتحين- ج/1 ص266.

    (3) الشطنوفي- بهجة الاسرار ومعدن الانوار- ص 60

    (4) الجيلاني- الغنية لطالبي طريق الحق عز وجل- ج/3/-ص1270

    (1) الجيلاني- المصدر نفسه – ج/3- ص1270.

    (2) الجيلاني- المصدر نفسه – ج/3- ص1271.

    (1) – مفارقة الجهات ألست ترمز الى الأحاطة الألهية،حيث لامهرب ولا ملجأ ولامنجى للمريد إلا إلى ربه تعالى،ولكن لايدرك العبد هذه الأحاطة إلا بعد تلك المفارقة0

    (1) الجيلاني- الغنية لطالبي طريق الحق عز وجل-ج/3-ص1271

    (2) الجيلاني- المصدر نفسه -ج/3 -ص1271.

    (3) الجيلاني- المصدر نفسه- ج/ 3-ص1271.

    (4) الجيلاني- المصدر نفسه- ج/ 3-ص1272.

    (1) الجيلاني- الفتح الرباني والفيض الرحماني- ص220.

    (2) الاخلاص عند الشيخ عبد القادر هو: ان يكون فعلك خالصاً لله عز وجل ، فانسك به وسكونك اليه وشكواك اليه، ولا تظهر الى احدٍ ضراً وقع بك، فانه ليس بضرٍ ولا نفع ولا جلب ولا دفع ولا عزٍ ولا ذلٍ ولا رفع ولا خفض ولا فقر ولا غنى ولا تحريك ولا تسكين الا بالله عز وجل- أنظر- رياض البساتين- ص67.

    (3) الجيلاني- الفتح الرباني والفيض الرحماني –ص306.

    (1) تسعى الدنيا وراء الانسان، أي بمعنى أنها تُلحق به ارزاقه وحظوظه التي قسمها ربه له وقدّرها عليه.

    (2) الشطنوفي- بهجة الاسرار ومعدن الانوار- ص102.

    (1) الشطنوفي- المصدر نفسه- ص122.

    (2)حسين امين- الغزالي فقيهاً وفيلسوفاً ومتصرفاً- بغداد -1963-ص149.

    (3) الذاريات / آية/56.

    (4) الجيلاني- فتوح الغيب- ص34-35.

    (1) الولي هو من يتولى الله سبحانه أمره, فلا يكله إلى نفسه لحظة والولي أيضا هو الذي يتولى عبادة الله تعالى وطاعته، فعبادته تجري على التوالي من غير ان يتخللها عصيان، ومن شرط الولي ان يكون محفوظاً كما ان من شرط النبي ان يكون معصوماً، وان كل من ادعى الولاية وكان للشرع عليه اعتراض فهو مغرور مخدوع.- انظر- الرسالة القشيرية- ص200. وقد وردت كلمة (ولي) في القران الكريم في عدة مواضع ، كقوله تعالى : انما وليكم الله ورسوله والذين امنوا- المائدة/ 55 وقوله تعالى: والمؤمنون والمؤمنات بعضهم اولياء بعض.التوبة/ 71.

    (2) الجيلاني- الفتح الرباني والفيض الرحماني- ص24.

    (3) الجيلاني-المصدر نفسه - ص69.

    (1) يؤكد الشيخ عبد القادر دائماً، ان القرب من الله تعالى في هذه الدنيا، ما هو في حقيقته الا قرب قلوب وارواح أي بمعنى انه قرب معنوي، يعتمد على تصفية النفوس بالمجاهدة والعبادة والاذكار، فاما مسالة لقاء الاخرة ، فتلك مسالة خلاف بين مفكري الاسلام، إذ يرى بعضهم ان انبعاث الاخرة يتم بالارواح فقط واما انبعاث الاجساد فانه يتعارض وابسط بديهيات العقل، وهذا الموقف يتجسد خصوصاً عند الفلاسفة المسلمين من امثال الفارابي وابن سينا. اصحاب الموقف المقابل، من الذين يؤمنون ببعث الاجساد، يرون ضرورة الالتزام بظاهر الشرع، وظاهر ااشرع يؤكد البعث الجسدي ومن ابرز أنصار هذا الرأي الامام الغزالي والشيخ الجيلاني- حول تفصيل هذه المسالة – انظر- د. حسام الدين الالوسي- حوار بين الفلاسفة والمتكلمين- ط/2-1980-ص122.

    (2) الجيلاني- المصدر نفسه ص224 0

    (3) الجيلاني- فتوح الغيب- ص292.

    (4) البقرة/ اية -282.

    (1) الجيلاني- الفتح الرباني والفيض الرحماني- ص24.

    (2) الجيلاني- المصدر نفسه- ص61.

    (3) الجيلاني- الفتح الرباني والفيض الرحماني -ص288.

    (4) الجيلاني- المصدر نفسه – ص24.

    (1) التادفي- قلائد الجواهر في مناقب الشيخ عبد القادر-ص90.

    (2) الجيلاني- الفتح الرباني والفيض الرحماني- ص221.

    (1) الجيلاني- المصدر نفسه- ص74. ولعل الشيخ عبد القادر، في تاكيده هنا على اهمية القلب الى الدرجة التي الغى معها دور غيره من الجوارح ، يشير الى مقام الخلافة في الامة الاسلامية اذ اصبح من الواضح لدى اهل ذلك العصر، والذين من قبلهم، ان ما لحق بامة الاسلام من الويلات والمفاسد واسباب الضعف والشتات واقبال الناس على الدنيا، كان بسبب فساد الخلفاء وانغماسهم في الشهوات وتنصلهم عن دورهم الحقيقي في رعاية امور العباد.

    (2) معنى حسن الخلق عند الشيخ عبد القادر هو : ان لايؤثر فيك جفاء الخلق بعد مطالعتك للحق واستصغار نفسك وما منها معرفة بعيوبها، واستعظام الخلق وما منهم نظراً الى ما اودعوا من الايمان والحكم وهو افضل مناقب العبد وفيه تظهر جواهر الرجال. انظر التادفي– قلائد الجواهر- ص72.

    (1) السر عند الشيخ عبد القادر، ياتي في مرتبة اعلى بعد القلب ، وهو ارقى درجة يمكن للنفس الانسانية ان تبلغها ولذلك يقول الصوفية عن شيوخهم (قدست اسرارهم) ولا يقولون : (قدست ارواحهم) وسياتي تفصيل ذلك في المبحث المتعلق بالنفس.

    (2) الجيلاني الفتح الرباني والفيض الرحماني – ص111

    (3) الجيلاني المصدر نفسه – ص 49

    (1) الجيلاني – جلاء الخاطر من كلام الشيخ عبد القادر – ص 35

    (2) الشطنوفي – بهجة الأسرار ومعدن الأنوار – ص 74

    (1) الشطنوفي – المصدر نفسه – ص74

    (2) الفتح الرباني والفيض الرحماني – ص33

    (1) الجيلاني – المصدر نفسه – ص 31

    (2) محمد الأمين التونسي – رياض البساتين في أخبار الشيخ عبد القادر الجيلي محيي الدين – ص65

    (1) الفتح الرباني والفيض الرحماني – ص296

    (2) الجيلاني - المصدر -70

    (1) الجيلاني – جلاء الخاطر من كلام الشيخ عبد القادر – ص43

    (1) الجيلاني – ألغنية لطالبي طريق الحقّ عز وجل ج/3 – ص1334 – ص1335

    (2) الجيلاني – الفتح الرباني والفيض الرحماني –248

    (1) التادفي- قلائد الجواهر في مناقب الشيخ عبد القادر- ص93.




    خادم الإسلام 14/09/2015
    "

    جزاكم الله خيرا ونفع بكم

    وكتبها الله لكم في ميزان حسناتكم

    بارك الله فيكم واسعدكم في الدنيا والاخره

    "


    ابو نبيل 27/09/2015
    جزاك الله خيرا


    الشريفة الشاذلية 27/09/2015
    "السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

    شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك ... لك مني أجمل تحية ."


    الشريفة الشاذلية 27/09/2015
    "السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    موفق بإذن الله ... لك مني أجمل تحية ."


    AMATOLLAH 20/10/2015
    بارك الله فيكى وجعله فى ميزان حسناتك


    AMATOLLAH 28/10/2015
    حبيبي الباز الاشهب



    سعسوقي 16/08/2017
    "

    كتبها الله لكم في ميزان حسناتكم

    بارك الله فيكم واسعدكم في الدنيا والاخره
    موفق بإذن الله ... لك مني أجمل تحية .

    "


    ابوالشيخ 05/10/2017
    شكر جزيلا

    تعليق

    يعمل...
    X