قضية سمرقند
منقولة من كتاب "قصص من التاريخ لعلي الطنطاوي
انت ليلة ميتة لا يتردد في صدرها نفَس من نسيم، ولا تبدو فيها حركة حياة،
عمياء لا تبصر فيها عين من نجم يسطع في السماء أو مصباح يزهر على الأرض،
وقد أوى كل حي في سمرقند إلى مضجعه، ونامت المدينة تحت أثقال من الصمت والظلام،
ولم يبقَ متيقظاً فيها إلا هذا الرجل الذي خرج من داره، يخوض لجة الليل ماراً إلى غايته،
ولا يقف ولا يتلفّت، حتى بلغ قصر الإمارة فألقى عليه نظرة،
لو كانت نظرة تحرق لأحرقه الشرر المتطاير منها.
ثم أوسع الخطو وأسرع كأنه يريد أن يجنب نفسه مرأى هذا القصر،
وأن يسابق الزمن إلى هدفه الذي يرمي إليه.
وفارق المدينة واحتواه الغاب،
وطنّت في أذنيه أصوات هوامه وحشراته.
وكان الغاب موحشاً غارقاً في ظلمتين:
ظلمته وظلمة الليل،
ولكن الرجل لم ينتبه إلى وحشته وظلامه،
وقد كان له من ضخامة المطلب الذي يسعى إليه،
وعظم الخطر الذي يُقدم عليه، شاغل عن التفكير في ثقل هذه الليلة وانفراده في الغاب والخوف من أن تنشق هذه الظلمة المتراكبة حوله عما يؤذي ويروع ...
حتى إذا بلغ الصخرة التي تقوم عند باب المعبد وقف وأحجم، وخالطته هيبة شديدة،
ووقر على صدره شيء لم يجد مثله في الغاب الموحش.
ولم يكن غلاماً تفزعه الأشباح، ولا كان الجبان الرعديد،
ولكن ما وضعوه في نفسه وهو صغير من أسرار المعبد وعجائبه جعله يشب ويكتهل ولا يزال أمامه مثل الطفل الصغير.
وكان فارسَ البلد غير مدافع، وبطل المعارك المكفهرة، ولكن المعبد غير الميدان.
ولئن واجه في الميدان رجالاً مثله، ففي المعبد قوى لا يراها وخفايا لا تصنع معها شجاعته شيئاً.
ولم يدخله قط، إنما يدخل المعبد هؤلاء النفر من الشيوخ الذي مارسوا من أنواع العبادة والرياضات ما جعلهم أهلاً لدخوله،
ثم لا يخرجون منه أبداً، ولا يجوز لهم أن يعودوا فيروا نور الشمس ولا زهر الروض.
وكان يشعر بأن لهؤلاء الكهنة مهابة في قلبه ومحبة،
ويحس بالخوف منهم وهو الذي يواجه الأبطال الصناديد ويقدم على الموت الأكيد غير خائف ولا وَجِل.
وطال وقوفه عند الصخرة وهو يتهيب أن يقرعها بيده على نحو ما أمروه أن يفعل إذا هو وصل.
وجعل يحدق في الظلام، فرأى كأن شخصاً عظيم الهامة له لحية بيضاء عريضة قد نبع من الأرض،
ففزع وارتاع، ولكنه سمع صوتاً إنسانياً يناديه باسمه ويدعوه إلى أن يتبعه، فعلم أنه الحارس الموكل بباب المعبد.
فلحق به وقلبه يخفق تطلعاً إلى ما وراءه من خفايا وأسرار،
فاجتاز به سرداباً طويلاً ملتوياً تضيئه مصابيح نحاسية منقوشة، يخرج منها لهيب أزرق يتراقص فيلقي على الجدران الصخرية ظلالاً عجيبة،
وفي السراديب تماثيل «آلهة» ذات صور بشعة مرعبة، يومض من عينيها ضوء أحمر فيكون لها منظر يخلع قلوب الجبابرة.
وفي السرداب شقوق يدخل منها الهواء فيصفر صفيراً مخيفاً،
كأنه صوت سرب من البوم. ثم دخل به غرفاً منقورة في الصخر،
حتى انتهى به إلى قاعة الكهنة الذين لا يراهم أحد (لأنهم لا يخرجون من المعبد، وقل أن يدخِلوا أحداً عليهم)
والذين كانوا هم حكّام البلد وملوكه وأصحاب الكلمة فيه،
لا يجرؤ على مخالفة أمرهم أحد إلا حقت عليه لعنة «آلهة ...» المعبد ذات الوجه البشع المرعب!
لم يستطع الرجل من دهشته أن يدير نظره فيما حوله أو أن يملأ عينيه من الكهنة ومن كان معهم،
وسمع كلاماً ينصبّ في أذنيه بصوت خافت رهيب كأنما هو يسمعه حالماً،
وفهم أن المتكلم يذكر ماضي سمرقند وسالف مجدها، وكيف هبط عليها هؤلاء المسلمون هبوط البلاء،
فأزاحوا عرشها وحطموا جيشها، وحكموا وملكوا أمرها.
ثم أفاض في الكلام على الخطة التي اختطها لإفساد أخلاقهم ودينهم وإضعافهم وإلقاء الخلف بينهم،
وكانت خطة شيطانية ارتجف لسماعها.
ثم عاد المتكلم فقال: غير أنّا رأينا أن نرجئ خطتنا ونرمي آخر سهم في جعبتنا؛
وذلك أنّا سمعنا أن لهؤلاء القوم ملكاً عادلاً يقيم في دمشق،
فأزمعنا أن نرسل إليه رسولاً يرفع إليه شكايتنا ويشرح له مظلمتنا،
ثم نرى ما هو فاعل.
وقد اخترناك لمعرفتك العربية وجراءة جنانك لتكون أنت الرسول، فهل أنت راضٍ؟
قال: نعم.
قال: امضِ بتوفيق الآلهة!
وخرج وما تسعه من فرط الزهو الأرض، وأحس من الخفة والنشاط أنه سيطير،
ورأى ظلام الليل أبيض مضيئاً.
ولقد اعتدّها نعمة كبرى أن دخل المعبد وكلم الكهنة وكان موضع ثقتهم ونجواهم،
وأن أولوه شرف القيام بأضخم مهمة عهدوا بها إلى أحد، وشعر أن حرية قطر سمرقند وشرفه في يمينه،
وأنه هو المحامي عنه والمنافح دونه. وكان - لفرط شجاعته - يتمنى لو كلفوه حرب المسلمين وإخراجهم من بلده.
ولم يكن يعرف مبلغ قوتهم وجلال ملكهم، وأن هذا القطر كله في جنب دولتهم كالساقية التي جاءت تغالب البحر
(ولو مد البحر وأزبد وهاج لاقتلع الساقية من منبعها فشربها، فضاعت فيه فلم يبق لها أثر).
فلما شد رحاله وسافر، ومضى يقطع الليالي الطوال، والأسابيع والشهور،
وهو لا يفتأ يمشي في ظلال الراية الإسلامية المظفّرة لم يُلقِ عصا التسيار ولم يبلغ العاصمة ...
من سمرقند،
إلى بخارى،
إلى بلخ،
إلى هرات،
إلى قزوين،
إلى الموصل،
إلى حلب،
إلى دمشق ...
دنيا من الخصب والحضارة والمجد، وبلاد كانت ممالك كثيرة،
ما مملكة منها إلا وهي أعظم وأضخم من سمرقند ... وما سمرقند في جانب ملك كسرى وخاقان؟
فأين ملك خاقان وكسرى؟
لقد ابتلعته المدينة المتوارية بين الحرتين وراء رمال الجزيرة،
تلك القرية التي هزها محمد بيمينه فولدت الأبطال الذين انتشروا في آفاق الأرض وملوكها،
وأنبتت رمالها جنات الشام والعراق وفارس وخراسان وهذه البلاد الخصبة الممرعة التي ليس لها آخر ...
وكان كلما تقدم ورأى جديداً من دنيا الإسلام تمتلئ نفسه فرقاً من لقاء الخليفة.
* * *
وأفاق يوماً من ذهوله - بعدما صرم في هذه الرحلة أشهراً - على صوت الدليل وهو يهتف باسم «دمشق».
هذه دمشق، سرة الأرض، هذه سدة الدنيا.
هنا التقى والعلى والمجد والغنى والجلال والجمال،
من هنا تخرج الكلمة التي تمضي مطاعة حتى تنتهي إلى بلده سمرقند،
وتمضي من هناك حتى تبلغ أرضاً أبعد وأنأى، حتى تجوز إسبانيا.
هنا يقيم الرجل الذي ملك ما لم يملكه في سالف الدهر قيصر ولا كسرى ولا الإسنكدر ولا خاقان،
والذي لا يجد من جبال الصين إلى بحر الظلمات من يخالف عن أمره أو يرد قوله.
ولكن كيف الوصول إليه؟ وأنى لغريب منكر مثله بالدخول عليه؟
وخالط قلبه اليأس، فسأل عن خان ينزل فيه،
فأُرشد إلى خان أمضى فيه ليلته.
فلما أصبح أخرج ثيابه فلبس أحسنها وخرج ليلقي الخليفة.
(يتبع.....)
منقولة من كتاب "قصص من التاريخ لعلي الطنطاوي
انت ليلة ميتة لا يتردد في صدرها نفَس من نسيم، ولا تبدو فيها حركة حياة،
عمياء لا تبصر فيها عين من نجم يسطع في السماء أو مصباح يزهر على الأرض،
وقد أوى كل حي في سمرقند إلى مضجعه، ونامت المدينة تحت أثقال من الصمت والظلام،
ولم يبقَ متيقظاً فيها إلا هذا الرجل الذي خرج من داره، يخوض لجة الليل ماراً إلى غايته،
ولا يقف ولا يتلفّت، حتى بلغ قصر الإمارة فألقى عليه نظرة،
لو كانت نظرة تحرق لأحرقه الشرر المتطاير منها.
ثم أوسع الخطو وأسرع كأنه يريد أن يجنب نفسه مرأى هذا القصر،
وأن يسابق الزمن إلى هدفه الذي يرمي إليه.
وفارق المدينة واحتواه الغاب،
وطنّت في أذنيه أصوات هوامه وحشراته.
وكان الغاب موحشاً غارقاً في ظلمتين:
ظلمته وظلمة الليل،
ولكن الرجل لم ينتبه إلى وحشته وظلامه،
وقد كان له من ضخامة المطلب الذي يسعى إليه،
وعظم الخطر الذي يُقدم عليه، شاغل عن التفكير في ثقل هذه الليلة وانفراده في الغاب والخوف من أن تنشق هذه الظلمة المتراكبة حوله عما يؤذي ويروع ...
حتى إذا بلغ الصخرة التي تقوم عند باب المعبد وقف وأحجم، وخالطته هيبة شديدة،
ووقر على صدره شيء لم يجد مثله في الغاب الموحش.
ولم يكن غلاماً تفزعه الأشباح، ولا كان الجبان الرعديد،
ولكن ما وضعوه في نفسه وهو صغير من أسرار المعبد وعجائبه جعله يشب ويكتهل ولا يزال أمامه مثل الطفل الصغير.
وكان فارسَ البلد غير مدافع، وبطل المعارك المكفهرة، ولكن المعبد غير الميدان.
ولئن واجه في الميدان رجالاً مثله، ففي المعبد قوى لا يراها وخفايا لا تصنع معها شجاعته شيئاً.
ولم يدخله قط، إنما يدخل المعبد هؤلاء النفر من الشيوخ الذي مارسوا من أنواع العبادة والرياضات ما جعلهم أهلاً لدخوله،
ثم لا يخرجون منه أبداً، ولا يجوز لهم أن يعودوا فيروا نور الشمس ولا زهر الروض.
وكان يشعر بأن لهؤلاء الكهنة مهابة في قلبه ومحبة،
ويحس بالخوف منهم وهو الذي يواجه الأبطال الصناديد ويقدم على الموت الأكيد غير خائف ولا وَجِل.
وطال وقوفه عند الصخرة وهو يتهيب أن يقرعها بيده على نحو ما أمروه أن يفعل إذا هو وصل.
وجعل يحدق في الظلام، فرأى كأن شخصاً عظيم الهامة له لحية بيضاء عريضة قد نبع من الأرض،
ففزع وارتاع، ولكنه سمع صوتاً إنسانياً يناديه باسمه ويدعوه إلى أن يتبعه، فعلم أنه الحارس الموكل بباب المعبد.
فلحق به وقلبه يخفق تطلعاً إلى ما وراءه من خفايا وأسرار،
فاجتاز به سرداباً طويلاً ملتوياً تضيئه مصابيح نحاسية منقوشة، يخرج منها لهيب أزرق يتراقص فيلقي على الجدران الصخرية ظلالاً عجيبة،
وفي السراديب تماثيل «آلهة» ذات صور بشعة مرعبة، يومض من عينيها ضوء أحمر فيكون لها منظر يخلع قلوب الجبابرة.
وفي السرداب شقوق يدخل منها الهواء فيصفر صفيراً مخيفاً،
كأنه صوت سرب من البوم. ثم دخل به غرفاً منقورة في الصخر،
حتى انتهى به إلى قاعة الكهنة الذين لا يراهم أحد (لأنهم لا يخرجون من المعبد، وقل أن يدخِلوا أحداً عليهم)
والذين كانوا هم حكّام البلد وملوكه وأصحاب الكلمة فيه،
لا يجرؤ على مخالفة أمرهم أحد إلا حقت عليه لعنة «آلهة ...» المعبد ذات الوجه البشع المرعب!
لم يستطع الرجل من دهشته أن يدير نظره فيما حوله أو أن يملأ عينيه من الكهنة ومن كان معهم،
وسمع كلاماً ينصبّ في أذنيه بصوت خافت رهيب كأنما هو يسمعه حالماً،
وفهم أن المتكلم يذكر ماضي سمرقند وسالف مجدها، وكيف هبط عليها هؤلاء المسلمون هبوط البلاء،
فأزاحوا عرشها وحطموا جيشها، وحكموا وملكوا أمرها.
ثم أفاض في الكلام على الخطة التي اختطها لإفساد أخلاقهم ودينهم وإضعافهم وإلقاء الخلف بينهم،
وكانت خطة شيطانية ارتجف لسماعها.
ثم عاد المتكلم فقال: غير أنّا رأينا أن نرجئ خطتنا ونرمي آخر سهم في جعبتنا؛
وذلك أنّا سمعنا أن لهؤلاء القوم ملكاً عادلاً يقيم في دمشق،
فأزمعنا أن نرسل إليه رسولاً يرفع إليه شكايتنا ويشرح له مظلمتنا،
ثم نرى ما هو فاعل.
وقد اخترناك لمعرفتك العربية وجراءة جنانك لتكون أنت الرسول، فهل أنت راضٍ؟
قال: نعم.
قال: امضِ بتوفيق الآلهة!
وخرج وما تسعه من فرط الزهو الأرض، وأحس من الخفة والنشاط أنه سيطير،
ورأى ظلام الليل أبيض مضيئاً.
ولقد اعتدّها نعمة كبرى أن دخل المعبد وكلم الكهنة وكان موضع ثقتهم ونجواهم،
وأن أولوه شرف القيام بأضخم مهمة عهدوا بها إلى أحد، وشعر أن حرية قطر سمرقند وشرفه في يمينه،
وأنه هو المحامي عنه والمنافح دونه. وكان - لفرط شجاعته - يتمنى لو كلفوه حرب المسلمين وإخراجهم من بلده.
ولم يكن يعرف مبلغ قوتهم وجلال ملكهم، وأن هذا القطر كله في جنب دولتهم كالساقية التي جاءت تغالب البحر
(ولو مد البحر وأزبد وهاج لاقتلع الساقية من منبعها فشربها، فضاعت فيه فلم يبق لها أثر).
فلما شد رحاله وسافر، ومضى يقطع الليالي الطوال، والأسابيع والشهور،
وهو لا يفتأ يمشي في ظلال الراية الإسلامية المظفّرة لم يُلقِ عصا التسيار ولم يبلغ العاصمة ...
من سمرقند،
إلى بخارى،
إلى بلخ،
إلى هرات،
إلى قزوين،
إلى الموصل،
إلى حلب،
إلى دمشق ...
دنيا من الخصب والحضارة والمجد، وبلاد كانت ممالك كثيرة،
ما مملكة منها إلا وهي أعظم وأضخم من سمرقند ... وما سمرقند في جانب ملك كسرى وخاقان؟
فأين ملك خاقان وكسرى؟
لقد ابتلعته المدينة المتوارية بين الحرتين وراء رمال الجزيرة،
تلك القرية التي هزها محمد بيمينه فولدت الأبطال الذين انتشروا في آفاق الأرض وملوكها،
وأنبتت رمالها جنات الشام والعراق وفارس وخراسان وهذه البلاد الخصبة الممرعة التي ليس لها آخر ...
وكان كلما تقدم ورأى جديداً من دنيا الإسلام تمتلئ نفسه فرقاً من لقاء الخليفة.
* * *
وأفاق يوماً من ذهوله - بعدما صرم في هذه الرحلة أشهراً - على صوت الدليل وهو يهتف باسم «دمشق».
هذه دمشق، سرة الأرض، هذه سدة الدنيا.
هنا التقى والعلى والمجد والغنى والجلال والجمال،
من هنا تخرج الكلمة التي تمضي مطاعة حتى تنتهي إلى بلده سمرقند،
وتمضي من هناك حتى تبلغ أرضاً أبعد وأنأى، حتى تجوز إسبانيا.
هنا يقيم الرجل الذي ملك ما لم يملكه في سالف الدهر قيصر ولا كسرى ولا الإسنكدر ولا خاقان،
والذي لا يجد من جبال الصين إلى بحر الظلمات من يخالف عن أمره أو يرد قوله.
ولكن كيف الوصول إليه؟ وأنى لغريب منكر مثله بالدخول عليه؟
وخالط قلبه اليأس، فسأل عن خان ينزل فيه،
فأُرشد إلى خان أمضى فيه ليلته.
فلما أصبح أخرج ثيابه فلبس أحسنها وخرج ليلقي الخليفة.
(يتبع.....)

تعليق