الرسالة السابعة
من النفسانيات العقليات في البعث والقيامة
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ
اعلم أيها الأخ أنَّا قد فرغنا من بيان ماهية العشق ومحبة النفوس ما هو أشرف وأحسن وأكمل وأجمل وأتم وأدوم منها، ونريد الآن أن نذكر في هذه الرسالة ماهية البعث والقيامة وكيفية المعراج، فنقول:
اعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن العلوم كثيرة، وكلها شريفة، وفي معرفتها عزة، وفي طلبها نجاة من الهلكة، ونيلها حياة للنفوس وراحة للقلوب، وتعلُّمها هدًى ورشد وخروج من ظلمات الجهالة وصلاح في الدين والدنيا جميعًا، ولكن بعض العلوم أشرف من بعض وأهلها يتفاضلون، وذلك أن أفضل العلماء هم أهل الدين والورع، الذين هم من أمر الآخرة على يقين وبصيرة، لا على تقليد ورواية.
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن معرفة حقيقة الآخرة والعلم بالمعاد محجوب عن إبليس وذريته المنكرين لما غاب عن رؤية الأبصار وعن أهل التقليد الذين لا يعرفون حقيقةَ ما هم مقرُّون به من أمر الآخرة والبعث والقيامة والحشر والحساب والميزان والصراط والمعاد والجزاء هناك: إن خيرًا فخيرًا وإن شرًّا فشرًّا؛ لأن هذا العلم هو لب الألباب وسر لأولياء الله دون سواهم؛ لأن أولياء الله هم المصطفَون الأخيار الذين أخلصوا بخالصة ذكرى الدار، ونريد أن نلوح من هذا العلم طرفًا في هذه الرسالة الجليلة القدر بإشارات مرموزة وأمثال مضروبة للمريدين لله عز وجل الطالبين دار الآخرة؛ إذ كان الإخبار عن حقيقتها يدق عن البيان، ويبعد عن التصور بالأفكار والتخيل بالأوهام، إلا لأنفس زاكية وأرواح طاهرة وقلوب واعية وآذان سامعة، ولكن قبل ذلك نحتاج أن نذكر النفس والروح وحقيقتهما وماهيتهما وتصاريف أمرهما؛ إذ كان معرفة حقيقة الآخرة وأمر المعاد بعد معرفة البعث والقيامة بعد معرفة النفس والروح، وعلة أخرى أيضًا أن قومًا من علماء الإسلام يتعاطون العلوم والكلام والجدل، وينكرون أمر النفس ووجودها، ويجهلون حقيقة الروح وتصاريف أحوالها.
من أجل هذا احتجنا إلى أن ندل أولًا على وجود النفس وماهية جوهرها وتصاريف أمورها بطريق السمع والإخبار، وما ذُكر في الأخبار والكتب النبوية المنزلة، ثم نذكر حججًا عقلية حكمية؛ لأن قومًا من هؤلاء المجادِلة لا يرضون طريق السمع والإخبار، ولا يقنعهم ذلك لشكوك في نفوسهم وريبة في قلوبهم، بل يريدون دلائل عقلية وحججًا فلسفية، فنقول:
اعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن الحكماء والفلاسفة قد أكثرت في كتبها وفي مذكراتها ذكر النفوس، وحثت تلاميذها وأولادها على طلب علم النفس ومعرفة جوهرا؛ لأن في علم النفس ومعرفة جواهرها معرفةَ حقائق الأشياء الروحانية من أمر المبدأ والمعاد والباري تعالى عز وجل وملائكته، وخاصة معرفة البعث وحقيقة القيامة والنشر بعد الموت والحشر والحساب والجزاء وثواب المحسنين وعقاب المسيئين.
وذلك أن كل إنسان لا يعرف نفسه ولا يعلم ذاته ولا يعلم ما الفرق بين النفس والجسد تكون همته كلها مصروفة إلى إصلاح أمر الجسد ومرافق أمر البدن من لذة العيش والتمتع بنعيم الدنيا وتمني الخلود فيها مع نسيان أمر المعاد وحقيقة الآخرة! وإذا عرف الإنسان نفسه وحقيقة جوهرها، صارت همته في أكثر الأحوال في أمر النفس، وفكرته أكثرها في إصلاح شأنها، وكيفية حالها بعد الموت، واليقين بأمر المعاد، والاستعداد للرحلة من الدنيا والتزود للمعاد، والمسارعة في الخيرات والتوبة، وتجنب الشر والمنكر والمعاصي.
فإذا فعل ذلك يزول عنه خوف الموت، وربما تمنى لقاء الله تعالى، وهذه صفة أولياء الله تعالى وعباده الصالحين كما ذكر الله سبحانه وأشار إليهم بقوله في كتابه على لسان نبيه محمد ﷺ في توبيخه لليهود لما زعموا أنهم أولياء الله من دون الناس فقال لهم: فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بأنكم أولياء الله من دون الناس، وإنما يتمنى أولياءُ الله الموت إذا تذكروا ما وعدهم الله وأعده لهم من التحية والسلام كما قال جل ثناؤه: تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا، وقال تعالى أيضًا: وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ، وقد علم كل عاقل علمًا يقينًا أن أجساد هؤلاء قد بليت في التراب، وأن هذه الكرامة والتحية والسلام هي لأرواحهم ونفوسهم الطاهرة الزكية كما ذكر جل ثناؤه بقوله تعالى: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي، وقال تعالى: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا، وقال تعالى: يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ، وقال أيضًا: إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي، وقال جل وعز: اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، وآيات كثيرة في القرآن في ذِكر النفس وخطابها بالتأنيث ليعلم كل عاقل أنها هي شيء غير الجسد؛ لأن الجسد مذكر لا يخاطب بالتأنيث، فكفى بهذا فرقًا وبيانًا بين النفس والجسد.
وقد يعلم كل عاقل إذا تأمل وتفكر في أمر الجسد أنه جسم مؤلف من اللحم والدم والعروق والعصب والعظام وما شاكلها، وأصله نطفة ودم انطمس، ثم اللبن والغذاء والمأكولات والمشروبات، ثم آخر الأمر الموت وبعد مفارقة النفس إياه يبلي ويصير ترابًا، ثم يعاد خلقًا جديدًا إذا شاء الله كما وعد جل ثناؤه.
فأما النفس، يعني الروح، فهي جوهرة سماوية نورانية حية علامة فعالة بالطبع، حساسة دراكة لا تموت ولا تفنى بل تبقى مؤبدة، إما ملتذة وإما مؤتلمة؛ فأنفس المؤمنين من أولياء الله وعباده الصالحين يُعرج بها بعد الموت إلى ملكوت السموات وفسحة الأفلاك وتُخلى هناك، فهي تسبح في فضاء من الروح وفسحة من النور وروح وراحة إلى يوم القيامة الطامة الكبرى، فإذا انتشرت أجسادها رُدَّت إليها لتحاسَب وتجازى بالإحسان إحسانًا والسيئات غفرانًا.
وأما أنفس الكفار والفساق والأشرار فتبقى في عماها وجهالاتها معذبة متألمة مغتمة حزينة خائفة وجِلة إلى يوم القيامة، ثم تُرد إلى أجسادها التي خرجت منها لتحاسب وتجازى بما علمت من سوء.
والدليل على صحة ما قلنا وحقيقة ما وصفنا قول الله سبحانه: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ، وقال أيضًا: وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ، وقال أيضًا: وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ، وقال: ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ، وقال أيضًا: يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ * وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ، وآيات كثيرة في القرآن في هذا المعنى تدل على بقاء النفوس بعد الموت؛ إما منعمة ملتذة وإما معذبة متألمة.
وفيما ذكرنا كفاية لمن أنصف عقله ونصح نفسه، واهتم لما بعد الموت وتفكر في أمر المعاد، واستعد للرحلة وتزود للسفر، وزهد في الدنيا ورغب في الآخرة قبل فناء العمر وتقارب الأجل والفوت. وفقك الله أيها الأخ للسداد، وهداك للرشاد وإيانا وجميع إخواننا حيث كانوا في البلاد.
اعلم، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن الذين أنكروا أمر البعث والقيامة والنشر والحشر، والوقوف والحساب ووضْع الموازين لوزن الحسنات والسيئات، والجواز على الصراط وما شاكل هذه الأمور المذكورة في كتب الأنبياء عليهم السلام؛ لشكوك في نفوسهم وحيرة في قلوبهم، والعلة في ذلك طلبهم حقيقة معرفتها وكيفيتها وأبنيتها وماهيتها وكميتها قبل معرفتهم أنفسهم وحقيقة جوهرها وكيفية كونها مع الجسد، ولم ربطت به وقتًا ما ولم تفارقه وقتًا آخر، ومن أين كان مبدؤها وإلى أين يكون معادها بعد مفارقتها جسدها، وهذ المباحث علم غامض وسر لطيف ليس إليها طريق للمبتدئين في العلوم الحكمية إلا التسليم والإيمان والتصديق للمخبرين عنها، الصادقين عن الله جل ثناؤه، الذين أخذوا هذا العلم عن الملائكة وحيًا وإلهامًا بتأييد من الله جل ثناؤه.
وأما الذين لا يرضون أن يأخذوا هذا العلم تسليمًا وتصديقًا، بل يريدون براهين عقلية وحججًا فلسفية، فيحتاجون إلى أن تكون لهم نفوس زكية وقلوب صافية وأذن واعية وأخلاق طاهرة، وأن يكونوا غير متعصبين في الآراء والمذاهب المختلفة، ومع ذلك يكونوا قد ارتاضوا في الرياضات الفلسفية من علم العدد والهندسة والمنطق والطبيعيات، ثم نظروا في علوم الإلهيات.
وقد ذكرنا في رسائلنا طرفًا من ذلك، وبيَّنا فيها ما يحتاج إخواننا من هذه العلوم إليها والمعرفة بها، فانظر يا أخي فيها واعتبرْها وتأملْها ترشد إن شاء الله.
ثم اعلم يا أخي أن معنى القيامة مشتق مِن قام يقوم قيامًا، والهاء فيه للمبالغة، وهي من قيامة النفس من وقوعها في بلائها، والبعث هو انبعاثها وانتباهها من نوم غفلتها ورقدة جهالتها، وهي بالفارسية رست خيزاي؛ قيامًا مستويًا.
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن كل عاقل لبيب إذا تَفكَّرَ في أمر الدنيا وتَأمَّلَ تصرف حالاتها بأهلها من الكون والفساد والتغير والاستحالة، وخاصة أمر الحياة والممات اللذين مرهون بهما جميع الحيوان، واعتَبرَ أحوال الماضين من القرون السالفة تَيقَّنَ أنه لا محالة ميت وصائر إلى ما صاروا إليه، فيود عند ذلك ويتمنى أن يعرف حقيقة أمر الآخرة على صحة وبيان ليكون على يقين منها. واعلم يا أخي بأن الناس في أمر الآخرة على رأيين ومذهبين: فطائفة مقرَّة بها وطائفة منكرة؛ فالمنكرون أمرَ الآخرة هم الذين يظنون أن حكم الإنسان بعد الممات كحكم النبات والحيوان؛ وذلك أنهم لما تأملوا أمرهما وتفكروا في كونهما وفسادهما واعتبروا أحوالهما، وجدوا النبات يتكون وينشأ ويبلغ إلى غايةٍ ما، ثم يَبلى ويضمحل ويتكون مثله آخر، وهكذا أمر الحيوان يتوالد ويتربى ثم يبلغ إلى غايةٍ ما، ثم يموت ويهلك ويبلى ويتكون آخر مثله.
فلما وجدوا حكم النبات والحيوان على ما وصفنا، جعلوا ذلك قياسًا على حال الإنسان فقالوا: نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ، فقال الله تعالى: وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ؛ لأنهم لو سُئلوا ما الدهرُ، لعجزوا عن ما هو الدهر في البيان، وما دروا ما الدهر.
واعلم يا أخي أن المقرين بالآخرة طائفتان من الناس: إحداهما الذين يقرون بها بألسنتهم من غير تصورٍ منهم لها بقلوبهم ولا معرفة بحقيقتها بعقولهم، فإقرارهم إيمان وتسليم لقول الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وتقليد لهم فيما يقولون ويخبرونهم عنها؛ والطائفة الأخرى الذين هم مع إقرارهم بها وتصديقهم للأنبياء عليهم الصلاة والسلام متصورون لها بقلوبهم عارفون حقيقتها بعقولهم، وقد مدح الله تعالى كلتا الطائفتين جميعًا، وأثنى عليهم بقوله جل ثناؤه: يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ، ولكن فضَّل الله إحداهما على الأخرى بقوله: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ.
واعلم يا أخي أن العلم هو تصور الشيء على حقيقته وصحته، فأما الإيمان فهو الإقرار بذلك الشيء والتصديق لقول المخبرين عنه من غير تصور له.
فالأنبياء عليهم السلام وأولياؤهم هم المخبرون عن الآخرة المتصورون لها بقلوبهم والعارفون حقيقتها بعقولهم، والمؤمنون هم المقرون بالآخرة بألسنتهم، المصدقون الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في أخبارهم، المنتظرون لكشفها لهم.
واعلم يا أخي أن المنتظرين لأمر الآخرة طائفتان من الناس: إحداهما تنتظر كونها وحدوثها في الزمان المستقبل عند خراب السموات والأرضين، هم لا يعلمون من الأمور إلا المحسوسات، ولا من الجواهر إلا الجسمانيات، ولا من أحوالها إلا ما ظهر؛ والطائفة الأخرى ينتظرونها كشفًا وبيانًا واطلاعًا عليها، وهم الذين يعرفون الأمور المعقولة والجواهر الروحانية والحالات النفسانية.
واعلم يا أخي أن معرفة أمر الآخرة على الحقيقة في معرفة أمر الدنيا؛ لأنهما من جنس المضاف، ومن خاصة جنس المضاف أن في معرفة أحد المضافين معرفةَ الآخر؛ فالدنيا باسمها تدل على اسم الأخرى؛ أن الدنيا مشتق من الدنو، والآخرة مشتق من التأخر.
فالدنيا هي أول معلوماتنا وأحوالُها أول محسوساتنا، وشعورنا من أجسادنا ومشاهدتنا أحوال أجسامنا وأبناء جنسنا.
وهذه كلها قبل معرفتنا بنفوسنا ومشاهدتنا عالَمَها وعرفاننا أبناءَ جنسها ووجداننا لِذات معقولاتها؛ لأن هذه تحصل لنفوسنا بعد مفارقتها أجسادَها، كما حصلت تلك لنا بعد ولادة أجسادها؛ لأن مفارقة النفس الجسدَ هي ولادة لها، كما أن مفارقة الجنين للرحم ولادة الجسد.
واعلم يا أخي أن الحياة الدنيا إنما هي مدة كون النفس مع الجسد في عالم الأجسام إلى وقت المفارقة التي هي الممات.
وأما الدار الآخر فهي عالم الأرواح، التي هي الحيوان لو كانوا يعلمون، أيْ أبناء الدنيا، وهو كون النفس في عالمها بعد مفارقتها جسدها ما بقيَت السموات والأرض، كما ذكر الله تعالى في كتابه فقال الله تعالى: وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ.
وقد بيَّنا في رسالة الآلام كيف يكون عذاب الأشقياء في الآخرة وكيف تكون لذات السعداء هناك.
واعلم يا أخي أن الموت ليس هو شيئًا سوى ترك النفس استعمالَ الجسد، وأن النفس تترك استعمال الجسد لسببين اثنين: أحدهما طبيعي، والآخر عرضي.
والسبب الطبيعي هو أن يهرم الجسد على طول الزمان، وتضعف البنية وتكل آلات الحواس، وتسترخي الأعصاب والعضلات المحركات للأعضاء، وتجف الرطوبة المغذية للبدن، وتطفأ الحرارة الغريزية كما يطفأ السراج إذا فَنِيَ الدهن، فعند ذلك لا يمكن أن يعيش الإنسان ولا يفعل شيئًا من الأفعال والأعمال؛ لأن البدنَ للنفس بمنزلة الدكان للصانع، والأعضاءَ بمنزلة الأدوات؛ فإذا كلَّت آلات الصانع أو انكسرت أو خرب الدكان وانهدم، فإن الصانع لا يقدر على عمل شيء من صنعته إلا أن يتخذ دكانًا آخر وأدوات مجددة.
وأما ترْك النفس استعمالَ الجسد لسبب عرضي فهو كثير الفنون، ولكن يجمعها نوعان: فمنها أسباب من داخل الجسد بلا اختيار، كالأمراض والأعلال المتلفة للجسد؛ ومنها أسباب من خارج، كالذبح والقتل. والقتل ليس هو شيئًا سوى أن يقصد قاصد فيهدم بنية الجسد بضربٍ من الفساد والخراب، كما يقصد إنسان فيخرب دار إنسان أو دكانه.
واعلم يا أخي أن كل صانع حكيم إذا فكر في أمره ونظر في العواقب، علم أنه لا بُدَّ أن يخرب يومًا دكانه، وتكل أدواته، وتضعف قوة بدنه، وتذهب أيام شبابه؛ فمن بادر واجتهد قبل خراب الدكان وكلال الأدوات وذهاب القوة، فاكتسب مالًا بصنعته في دكانه واستغنى عن السعي؛ فإنه لا يحتاج بعد ذلك إلى دكان آخر ولا أدوات مجددة، بل يستريح من العمل ويشتغل بالتمتع واللذات بما قد كسب، فهكذا يكون حال النفس بعد خراب الجسد.
فانظر يا أخي وتفكرْ وبادرْ واجتهِد وتزودْ قبل خراب هذا الدكان وانهدام هذه البنية فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى.
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن مواهب الله عز وجل لعباده كثيرة لا يحصي عددها إلا الله تعالى، فمِن جليل مواهبه وعظيم نعمه وجزيل إحسانه ومِنَنِه على الإنسانِ العقلُ الراجح والرأي الرصين والتمييز الصحيح، التي لها نتائج العلوم الحقيقية ووجدان المعارف الروحانية والتألُّه الرباني.
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن من أجلِّ نتائج العقول وأشرف وجدانها الآراءَ الجيدة والاعتقادات الصحيحة المُصلِحة لنفوس معتقديها؛ وذلك أن الآراءَ الجيدةَ والاعتقاداتِ الصحيحةَ المُعِينةُ لنفوس معتقديها على الانبعاث من نوم الغفلة ومن رقدة الجهالة، ومحيِيَة من موت الخطيئة ومنجية لها من نيران جهنم وعذاب الهاويةِ — عالمِ الكون والفساد — وموصلة إلى نعيم الجنان في دارِ الحيوان — عالمِ الأفلاك وسعة السموات — ومقربة لها إلى خالقها ومنشئها ومتممها ومكملها ومبلغها أتم غاياتها وأكمل نهاياتها عند باريها في دار الخلود والمقام هناك، متنعمة ملتذة في دائم الأوقات مسرورة أبد الآبدين ودهر الداهرين مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا، ذلك الفضل من الله.
ثم اعلم أن أحد الآراء الصحيحة المنجية لنفوس معتقديها اعتقادُ الموحدين بأن العالم محدَث مخترَع، مَطوِي في قبضة باريه، محتاج إليه في بقائه، مفتقِر إليه في دوامه، لا يستغني عنه طرفة عين، ولا عن إمداد الفيض عليه ساعة فساعة، وأنه لو منعه ذلك الفيض والحفظ والإمساك لحظة واحدة؛ لتهافتت السموات، وبادت الأفلاك، وتساقطت الكواكب، وعدمت الأركان، وهلكت الخلائق، ودثر العالم دفعة واحدة بلا زمان! كما ذكر الله تعالى بقوله: إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ، وبقوله تعالى: وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ.
واعلم يا أخي أن من يعتقد هذا الرأي ويتحقق هذا الاعتقاد في أمر السموات والأرض؛ فهو في دائم الأوقات يكون متعلقَ القلب بربه، معتصمًا بحبله، متوكلًا عليه في جميع أحواله، مسندًا ظهره إليه في جميع تصرفاته، داعيًا له في جميع أوقاته، سائلًا منه كل حوائجه، مفوضًا إليه سائر أموره؛ فيكون له بهذه الأوصاف قربة إلى ربه، وحياة لنفسه، وهدوء لقلبه، ونجاة من المهالك، كما ذكر الله تعالى بقوله حكاية عن عبدٍ من عباده وهو مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه في آخر خطاب طويل مع فرعون: وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * فَوَقَاهُ اللهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ، فأما من يظن أو يتوهم أن العالم مستقل بذاته ومستغنٍ في وجوده عن فيض باريه عليه بالمادة والبقاء والحفظ والإمساك، فهو يكون مُعرِضًا عن ربه ناسيًا ذكره، غافلًا عن دعائه مشغولًا بما حوله من أعراض دنياه وما كان له فيها وملكه منها! فهو لا يذكر ربه إلا ساهيًا، ولا يدعوه إلا لاهيًا، ولا يسأله إلا بطرًا ورياءً أو مضطرًّا عند الشدائد والبلوى والمصائب والضراء على كرهٍ منه وشكوك في حيرة وضلال! لا يدري لِمَ ابتلي ولا كيف عوفي هو، ويكون جاهلًا بربه حق معرفته فيبقى محجوبًا عن ربه طول عمره في دنياه فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا. ومن الآراء الجيدة والاعتقادات النافعة لنفوس معتقديها المعينة لها على الانبعاث من نوم الغفلة، المقيمة لها من رقدة الجهالة، المحيية لها من موت الخطيئة، المنجية لها من نيران الهاوية — عالم الكون والفساد — الموصلة لها إلى الجنة (عالم الأفلاك وسعة السموات) المقربة لها إلى باريها لديه زلفى؛ اعتقادُ الإنسان العاقل وعلمه اليقين أنه متوجه إلى ربه، وقاصد نحوه منذ يوم خلقه نطفة في قرار مكين، ينقله ربه وخالقه حالًا بعد حال من الأنقص إلى الأتم والأكمل، ومن الأَدْون إلى الأشرف والأفضل، إلى أن يلقى ربه ويراه ويشاهده فيوفيه حسابه، كما ذكر الله جل ثناؤه بقوله: فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا، وآيات كثيرة في القرآن في هذا المعنى. وقال الله تعالى وعيدًا وذمًّا وتوبيخًا لمن لا يعتقد هذا الرأي: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ، إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ، وآيات كثيرة في القرآن في هذا المعنى.
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن ملاك أمر الآخرة وزمام أمر المعاد هي معرفة حقيقة البعث والقيامة كلها هو في معرفة الإنسان نفسه وحقيقة جوهرها؛ وذلك أن كل إنسان لا يعرف نفسه ولا يميز بينها وبين الجسد تكون همته أكثرها مصروفة إلى أمر الجسد وإصلاح شأنه والتمني للخلود في الدنيا والتمتع بلذة شهواتها. فأما كل مَن كان يعرف نفسه على الحقيقة، فإن أكثر همته تكون مصروفة إلى حال النفس، وإصلاح شأنها، والتفكر له في أمر معادها ودار قرارها، والاستعداد للرحلة من الدنيا، والتزود للمعاد واليقين بلقاء الله تعالى، وقلة الخوف من الموت؛ وهذه صفة أولياء الله تعالى، وإليهم أشار بقوله في توبيخه لليهود: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ، وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ؛ يعني في قولهم: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ.
اعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن من أفضل مناقب العقلاء كثرةُ العلوم والمعارف، وأن من أشرف العلوم وأجلِّ المعارف التي يَبلغها العقلاء العلماء، ويهدي الله أولياءه إليها من المؤمنين المصدقين ويكرمهم بها؛ عِلْمَ البعث ومعرفةَ حقيقة القيامة وكيفية تصاريف أحوالها، وقد ذكر الله سبحانه في القرآن تصاريف أحوالها في نحوٍ من ألف وسبعمائة آية، وأشار إليها بأوصاف شتى وإشارات مفننة؛ مثل قوله تعالى: يوم القيامة، ويوم يبعثون، ويوم الدين، ويوم الفصل، ويوم الحساب، ويوم الآزفة، ويوم التناد، ويوم التغابن، ويوم الحشر، ويوم يخرجون، ويوم تقوم الساعة، وما شاكَلَ هذه الأوصاف والإشارات التي قد تاهت عقول أكثر العلماء في طلب حقائقها وتصوُّر كيفياتها بكنه صفاتها، ولا يعلم تأويلها إلا الله والراسخون في العلم من أولياء الله وأصفيائه، الذين يقولون: كُلٌّ مِن عِند ربنا، ولا يُحِيطُون بشيء مِن عِلْمه إلَّا بما شاء، ولا يُطلِع على غَيْبه أحدًا، إلَّا مَنِ ارتضى مِن رسول، وهم من خشيته مُشْفِقون.
اعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن علم البعث وحقيقة القيامة محجوب عن إبليس وذريته وأتباعه وجنوده من شياطين الجن والإنس، وهو سر الله الأعظم لا يُطلع عليه أحدًا من خلقه إلا من ارتضى من أوليائه وأصفيائه وأهل مودته من ذرية آدم ومن ذرية نوح وذرية إبراهيم وإسرائيل، وممن هدى واجتبى! إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا، جعلكم الله أيها الأخ وإيانا منهم برحمته، إنه ودود رءوف رحيم.
ونريد أن نلوح من هذا السر طرفًا ونشير إليه إشارة ما؛ إذ لا يجوز التصريح به اقتداءً بسنة الله عز وجل وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، وقال عليه السلام: «اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون» إشارة إلى مثل هؤلاء القوم الذين هم ظالم لنفسه.
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أنه لما كان العقلاء متفاوتي الدرجات في ذكاء نفوسهم وصفاء أذهانهم وجودة تمييزهم، صاروا أيضًا متفاوتي الدرجات في العلوم والمعارف، كما بيَّنا في رسالة الآراء والمذاهب.
ولما كان الأمر كما وصفْنا، لم يكن أن يخاطَبوا بصريح الحقائق خطابًا واحدًا إلا بألفاظ مشتركة المعاني؛ ليَحمل كل ذي لب وعقل وتمييز بحسب طاقته واتساعه في المعارف والعلوم، كما ذكر الله جل ثناؤه بقوله، على سبيل المثل: أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا، قال المفسرون معنى هذه الآية وتأويلها: أنه أنزل القرآن من السماء إلى الأرض كما أنزل المطر من الغيم، فاحتملت القلوب من علم القرآن بحسب اتساعها في المعارف وصفاء جواهر النفوس، كما تَحمل الأودية من سيل المطر بحسب سعتها وجريانها.
ثم افهم أن لفظ القلب ليس هو قطعة اللحم الصنوبري الشكل المعلقة من الصدر الموجود في أكثر الحيوانات، وليس المراد من القلب ههنا ذاك، بل مراد إخواننا أمْر وراء ذلك؛ وهي النفس.
واعلم يا أخي أن لفظ البعث اسم مشترك في اللغة العربية يحتمل ثلاثة معانٍ؛ فمنها قول القائل: «بعثت»؛ يعني أرسلت، كما قال الله تعالى: فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ يعني أرسلهم؛ ومنها ما يكون معنى البعث هو بعث الأجساد الميتة من القبور ونشْر الأبدان من التراب، كما وَعَدَ الكفار والمنكرين بقولهم: أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ قال الله تعالى: قُلْ نَعَمْ؛ ومنها بعث النفوس الجاهلة من نوم الغفلة وإحياؤها من موت الجهالة كما ذكر الله جل ثناؤه بقوله: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا وقوله تعالى: ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وقوله لمحمد ﷺ: عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا.
واعلم يا أخي أنَّ مَن لا يوقن ببعث الأجساد ولا يتصوره فليس من الحكمة أن يخاطَب ببعث النفوس؛ لأن بعث الأجساد يمكن تصوره ويقرب فهمه وعلمه، فأما مَن لا يُقرُّ به ولا يتصوره فهو لبعث النفوس أَنْكَرُ وبه أجهل ومِن تصوُّره أبعد؛ لأن بعث النفوس هو مِن علم الخواص ولا يتصوره إلا المرتاضون بالعلوم الإلهية والمعارف الربانية، وإنما وَعَدَ الكفارَ أن يبعث أجسادهم ليوافقهم على تكذيبهم ويجازيهم بسوء أفعالهم، ووعد الله المؤمنين أن يحيي نفوسهم ويبعث أرواحهم ليجازيهم على حسناتهم ويثيبهم بأعمالهم.
فلا تكن يا أخي ممن ينتظر بعث الأجساد ويؤمل نشر الأبدان؛ فإن ذلك ظلم عظيم في حقك إذا كنت تتوهم ذلك، ولكن إن استوى لك فكُن من الذين ينتظرون بعث النفوس ويؤملون حياتها ووصولها إلى عالمها الروحاني ودار قرارها الحيواني مخلدًا في النعيم أبد الآبدين ودهر الداهرين مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسُن أولئك رفيقًا.
(١) فصل في بعث الأجساد
واعلم يا أخي أن بعث الأجساد من القبور الدَّارِسات وقيامها من التراب إنما يكون ذلك إذا رُدَّت إليها تلك النفوس والأرواح التي كانت متعلقة بها وقتًا من الزمان فيما سلف من الدهر، فتنتعش تلك الأجساد وتحيا تلك الأبدان وتتحرك وتحس بعدما كانت جمودًا، ثم تحشر وتحاسب وتجازى؛ لأن الغرض من البعث هو المجازاة والمكافأة.
واعلم يا أخي أنَّ رد النفوس الناجية إلى الأجسام الفانية في التراب من الرأس ربما يكون موتًا لها في الجهالة واستغراقًا في ظلمات الأجسام وحبسًا في أَسْر الطبيعة وغرقًا في بحر الهيولى.
فأما بعث النفوس وقيام الأرواح فهو الانتباه من نوم الغفلة، واليقظة من رقدة الجهالة، والحياة بروح المعارف، والخروج من ظلمات عالم الأجسام الطبيعية، والنجاة من بحر الهيولى وأَسْر الطبيعة، والترقي إلى درجات عالم الأرواح والرجوع إلى عالمها الروحاني ومحلها النوراني ودارها الحيواني، كما ذكر الله تعالى بقوله: وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ؛ يعني أبناء الدنيا، فإذا كانت الدار هي الحيوان فما ظنك يا أخي بأهل الدار كيف تكون صفاتهم ونعيمهم ولذَّاتهم إلا كما ذكر الله تعالى بقوله: وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ لا يموتون فيها ولا يمرضون.
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن العلوم كلها شريفة، ونَيْلها عزٌّ لصاحبها، وعرفانها نور لقلوب أهلها وهداية وحياة لنفوسهم وشفاء لصدورهم ويقظة لها من نوم الغفلة ورقدة الجهالة، ولذة للأرواح وصلاح للأجساد وتمام وكمال للأجسام وقوام للعالم ونظام للخلائق وترتيب للموجودات وزينة للكائنات، ولكن قيل بعض العلوم أشرف وأفضل وأكرم، فأشرف العلوم وأجلُّ المعارف التي ينالها العقلاء المكلفون، معرفة الله جل ثناؤه والعلم بصفات وحدانيته وأوصافه اللائقة به.
ثم بعد هذا معرفة جوهر النفس وكيفية تصاريف أحوالها في جميع الأزمان الماضية والآتية والحاضرة، ثم كيفية تعلُّقها بالأجسام وتدبيرها للأجساد واستعمالها الأبدان مدة، ثم كيفية تركها لها ومفارقتها إياها وتفردها بذاتها ولحوقها بعالمها وعنصرها وجوهرها الكلي، ثم معرفة البعث والقيامة والحشر والحساب والميزان والصراط ودخول الجنان ومجاورة الرحمن، ذو الجلال والإكرام.
واعلم يا أخي أن هذا الفن من العلوم هو لب الألباب، وإليه نَدْب ذوي العقول الراجحة والحكمة الفلسفية دون غيرهم من الناس؛ لأن هذا الفن من العلم والمعارف آخر مرتبة ينتهي إليها الإنسان في المعارف مما يلي رتبة الملائكة، ومن أجل هذا هو مكلَّف متعبِّد وقاصد نحوه منذ يوم خَلَقَه الله تعالى إلى يوم يلقاه فيوفيه حسابه، وهو الغرض الأقصى في وجود النفس وتعلقها بالأجساد ونشوئها معها وتتميمها وتكميلها.
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أنك إذا أردت النظر في هذا العلم الشريف والبحث عن هذا السر اللطيف، فستحتاج إلى أن تقصد إلى أهله وتسألهم عنه، كما يُقصد في سائر العلوم والصنائع إلى أهلها، كما قيل: استعينوا على كل صناعة بأهلها.
واعلم يا أخي أن أهل هذه الصناعة وعلماء هذه الأسرار هم إخواننا الكرام الفضلاء، فانظر يا أخي فيما قالوا وتأمل ما وصفوه من حقائق الأشياء التي أنت مُقرٌّ بها بلسانك وتؤمن بقلبك، ثم تَفَكَّرْ فيما تسمع وتأمل ما يوصف لك وميِّزْه ببصيرتك واعرضه على عقلك الذي هو حجة الله عليك والقاضي بينك وبين أبناء جنسك، فإن اتضحت لك حقيقة ما تسمع وتصورتَ ما يصفون وتيقنتَ ما يخبرون، فبتوفيق من الله وهداية منه، وإن تكن الأخرى كنتَ قد بذلتَ المجهود وأزلت العذر فيما أنت مكلَّف له وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ.
وإن لم يتفق لك يا أخي لقاء أحد من أهل هذه الصناعة بحيث أن تسأله عن حقيقة هذا السر ويعرفك ما تطلب، وتريد أن تعلم أنت باجتهادك وعقلك وبصيرتك وتمييزك، فاسلك في هذا البحث، والنظر طريقة الحكماء النجباء، واستعمل القياس البرهاني الذي هو ميزان العقول — كما وصف في المنطق — وقد بيَّنا مِن علم المنطق في رسائل شبه المدخل والمقدمات ما فيه كفاية، ولكن نذكر في هذا الفصل مثالًا واحدًا ليقرب به عليك مأخذه.
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن علم الإنسان المعلومات؛ بعضها بطريق الحواس، وبعضها بطريق السمع والروايات والأخبار، وبعضها بطريق الفكر والروية والتأمل والعقل الغريزي، وبعضها بطريق الوحي والإلهام — وليس هذا الفن باكتساب من الإنسان ولا باختيار منه بل هو موهبة من الله تعالى — وبعضها بطريق القياس والاستدلال، وهو العقل المكتسب، وبهذا العقلِ يفتخر العقلاءُ، وبه يتفاضل الحكماء والفلاسفة.
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أنك إذا طلبت علم البعث ومعرفة حقيقة القيامة وما يوصف من أحوالها، فليست تخلو معرفتها من أحد هذه الطرق التي تَقدَّم ذكرها؛ فإن أردت أن تعرفها بطريق القياس والبرهان، فاعمل في هذه المسألة وابحث — أعني معرفة البعث وعلم حقيقة القيامة — كما يعمل أصحاب المجسطي عند طلبهم معرفة عظم جرم الشمس؛ وذلك أنهم قالوا لا يخلو جرم الشمس من أن يكون مساويًا لجرم الأرض أو أعظم أو أصغر منها في المقدار؛ إذ ليس في القسمة العقلية غير هذه، ثم بحثوا عن واحد واحد من هذه الأقسام الثلاثة حتى عرفوا حقيقتها كما هو مذكور في كتبهم بشرح طويل.
فاعمل أنت يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، في هذه المسألة مثل ما عمل هؤلاء في مسألتهم؛ وهو أن تقول: لا يخلو أمر البعث ومعنى القيامة أن تبعث الأجساد دون النفوس، أو النفوس دون الأجساد، أو الجميع؛ إذ كان ليس في القسمة غير هذه الوجوه الثلاثة، ثم ابحث وتصفح عن حقيقة واحد واحد من هذه الوجوه الثلاثة كما نبين في هذا الفصل.
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن مَن يرى ويعتقد بأن الإنسان ليس هو شيئًا سوى هذه الجملة المحسوسة — أعني الجسد المؤلف من اللحم والدم والعظم والعروق وما شاكلها، التي هي كلها أجسام طويلة عريضة عميقة وما يحلها من الأعراض على البنية المخصوصة التي هي صورة الإنسانية — فهو لا يتحقق أمر البعث ولا يتصور حقيقة القيامة إلا إعادة هذه الأجساد برمتها وتلك الأجرام والأعراض بعينها، على هذه الحال التي هي عليها الآن، ثم يحشرون ويحاسبون الجسمانية والنوازع الجاذبة لها إلى الأسباب الضرورية، من الجوع والعطش والغذاء والحر والبرد والآلام والأوجاع والأمراض والأسقام والأحزان والمصائب والحدثان؛ من جور السلطان، وحسد الإخوان، وعداوة الجيران، ومقاساة غيظ الأقران، ووساوس الشيطان، وما هو مكلَّف به من حَمل ثقل الطاعات، والجهد في العبادات من الصوم والصلوات، ومنع النفس عن الشهوات، المركوزة في الجبلة والعادات المطبوعة وما على النفس في البدن من الكلية، مع شدة هذه كلها يرى ويعتقد بأنه محبوس في هذه الدنيا إلى وقت معلوم، كما قال رسول الله ﷺ: «الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر»؛ لأن المؤمن المحق قد سَجَن نفسه بالمنع لها عن الشهوات والملاذ التي تراد الدنيا من أجلها. ومَن كان يرى ويعتقد أمر الحياة في الدنيا على هذه الحال، فهو لا يتصور أمر البعث ولا يتحقق أمر القيامة إلا مفارقة النفس الجسد بعد استقلالها بذاتها وتفرُّدها بجوهرها ومشاهدتها عالمها، ولا يَسأل ربَّه إلا اللحوق بأبناء جنسها من الماضين من عباد الله الصالحين من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين؛ كما سأل إبراهيمُ خليل الرحمن ربَّه في آخر دعائه فقال: وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ يريد بعد الموت؛ وهكذا يوسف الصديق: تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ يريد بعد الموت؛ فقال الله تعالى لمحمد نبيه ﷺ وعلى جميع النبيين: وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى؛ وقال عليه السلام: «أبى الله أن يجعل لأوليائه الخلود في الدنيا.»
فمن كان هذا رأيه واعتقاده فهو لا يتصور البعث والقيامة إلا مفارقة النفس الجسد، كما حُكي عن رسول الله ﷺ أنه قال: «من مات فقد قامت قيامته.»
ويحكى عن بعض مَن كان يعتقد هذا الرأي أنه لقي أخًا له من أهل رأْيِه فقال له: «كيف أصبحت يا أخي؟ فكيف حالك في هذه الدنيا؟» فقال: «بخير ونرجو خيرًا من هذا أن سلمنا من آفاتها وبلياتها إن شاء الله تعالى، فكيف أنت وكيف حالك؟» قال: «كيف تكون حال مَن يصبح في دار غربة أسيرًا فقيرًا لا يَقدِر على جَرِّ نَفْع ما يرجو، ولا دَفْع ضُرِّ ما يكره؟!» قال أخوه: «كيف ذلك؟» قال: «لأنهم قد يجازَوْن بما عملوا من خير أو شر أو عرفان أو انكار.»
واعلم يا أخي أن هذا الرأي والاعتقاد جيد للنساء والصبيان والجهَّال والعَوَام ومَن لا ينظر في حقائق العلوم ولا يعرفها.
وذلك أنهم إذا اعتقدوا هذا الرأي وتحققوا هذا الاعتقاد، يكون ذلك حثًّا لهم على عمل الخير وترك الشرور، واجتناب المعاصي وفعل الطاعات، وأداء الأمانات وترك الخيانات، والوفاء بالعهود وصحة المعاملة والنصيحة فيها وحسن الخلق، وخصال كثيرة محمودة تتبعها، ويكون ذلك صلاحًا لهم ولمن يعاملهم ويعاشرهم في الحياة الدنيا إلى الممات.
وأما من كان فوق هذه الطوائف في العلوم والمعارف فهو يرى ويعتقد بأن مع هذه الأجساد جواهر أُخر أشرف منها وأفضل، وليست بأجسام تسمى أرواحًا أو نفوسًا، فهو لا يتصور أمر البعث ولا يتحقق أمر القيامة إلا بردِّ تلك النفوس والأرواح إلى تلك الأجساد بعينها أو أجساد أُخر تقوم مقامها، ثم يحشرون ويحاسبون ويجازَوْن بما عملوا من خير أو شر، وهذا الرأي أَجْوَدُ وأقرب إلى الحقِّ، وفي اعتقادهم له صلاح لهم ولغيرهم كما تَقدَّم من قبلُ.
وأما من كان فوق هذه الطائفة في العلم والمعارف والدراية فهو يرى ويعتقد بأن الغرض من كون هذه النفوس والأرواح مع هذه الأجساد في الدنيا مدةً ما، هو مِن أجل أن تستقيم ذواتها وتكمل صورها وتخرج من حد القوة والكمون إلى الفعل والظهور، ولتستكمل أيضًا فضائلها من عرفانها أمر المحسوسات، وتخيُّلها رسومَ المعقولات، وتخرج بالآداب والرياضات، والنظر في العلوم الطبيعيات والإلهيات، وبالاعتبار والتجارب والتدبير والسياسات، وليكون ذلك سببًا لانتباه النفوس من نوم الغفلة ورقدة الجهالة، وتحيا بروح المعارف وتنفتح لها عين البصيرة لتنظر إلى عالمها الروحاني، وتشاهد دارها الحيواني، ويتبين لها أنها في عالم الغربة وموضع المحنة والبلوى، غريقة في بحر الهيولى مبتلاة في أسر الطبيعة، مشتعلة فيها نيران الهاوية الموقدة، المطلعة على الأفئدة، من حريق الشهوات أصبحنا في الدنيا معذبين في صورة المنعمين، مجبورين في صورة المختارين، مغرورين في صورة المغبوطين، أحرارًا كرامًا في صورة عبيد مهانين، مسلَّطًا علينا خمسة حكَّام يسوموننا سوء العذاب، ينفذون أحكامهم علينا شئنا أو أبينا، ليست لنا حيلة في الخروج عن أحكامهم، ولا دفع سلطانهم، ولا الخلاص من جورهم إلى الممات.
قال: أخبرني من هؤلاء الحكام؟ قال: نعم، أولهم هذا الفلك الدوار الذي نحن في جوفه محبوسون، وكواكبه السيارة التي لا تزال تدور علينا ليلًا ونهارًا لا تقر؛ تارة تجيئنا بالليل وظلمته وتارة بالنهار وحرارته، وتارة بالصيف وسمائمه وتارة بالشتاء وزمهريره، وتارة بالرياح العواصف في زعازعها وتارة بالغيوم وأمطارها، وتارة بالرعود والزوابع وصواعقها وتارة بالجدب والغلاء والموتات والبلاء، وتارة بالحروب والفتن وتارة بالهموم والأحزان. ليس منها نجاة إلا بجهد وبلوى وكدر وعناء وخوف ورجاء إلى الممات.
ثم قال: فهذا واحد، وأما الآخر فهو هذه الطبيعة وأمورها المركوزة في الجبلة من حرارة الجوع ولهب العطش ونار الشبق وحريق الشهوات والآلام والأمراض والأسقام وكثرة الحاجات! ليس لنا شغل ليلًا ولا نهارًا إلا طلب الحيلة لجر المنفعة أو لدفع المضرة عن هذه الأجساد المستحيلة التي لا تقف على حالة واحدة طرفة عين! فنفوسنا منها في جهد وبلاء وكدر وعناء وبؤس وشقاء! ليس لنا راحة إلى الممات، فهذان اثنان.
وأما الثالث فهو هذا الناموس وأحكامه وحدوده وأوامره ونواهيه ووعيده وزجره وتهديده وتوبيخه، إن خرجنا من أحكامه فضرب الرقاب والحدود، وإن فررنا منه لم نجد لذة العيش ولا صلاح الوجود في الوحدة، وإن دخلنا تحت أحكامه فما نقاسي من الجهد والبلوى في إقامة حدوده أكثر مما يحصى من ألم الجوع عند الصيام، وتعب الأبدان عند القيام للصلاة، ومقاساة برد الماء عند الطهارات، ومجاهدة شح النفوس عند إخراج الزكاة والصدقات الواجبات، ومشقة الأسفار والأحكام عند قضاء الحج والجهاد، وما نقاسي من الألم عند ترك اللذات والشهوات المحرمات! وإن لم نأتمر ولم ننتهِ، فالحدود والأحكام بحسب الجنايات، ومع هذه كلها كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ * ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ، فهذه حالنا ليس لنا منها خلاص ولا نجاة إلى الممات! فهذه ثلاثة.
وأما الرابع فهذا السلطان المسلط الجائر الذي قد ملك رقاب الناس بالقهر والغلبة واستعبدهم جبرًا وكرهًا، يتحاكم عليهم كما يشاء، ويرفع ويكرم من يريد ممن يخدمه ويطيعه ويتصرف بين يديه ويمتثل أمره ونهيه، ويضع ويبعد من خالفه، ويعذب ويقتل من خانه أو غشه! فإذا خرجنا من مملكته وفررنا من سلطانه فلا عيش لنا في الوجود في هذه الدنيا إلا عيشًا نكدًا؛ لأننا قد نحتاج في لذة العيش وصلاح المعاش إلى الجم الغفير من المتعاونين في المدن والقرى في إصلاح أمر المعاش، ولا بُدَّ لهم من سلطان يملكهم ويرأسهم ويحكم بينهم فيما يختلفون فيه ويتنازعون، ويمنع الظالمَ القويَّ من التعدي على الضعيف المظلوم، ويؤمن لخوفه السبل، ويأخذ الناس بلزوم سنة الناموس وتأدية موجبات فرائضه التي في إقامتها وحفظها صلاح الجميع، فلهذه العلة وبهذا السبب لا يمكنا الخروج من المملكة ولا الفرار من سلطانه، فإن خدمناه وقمنا بواجب طاعته فما نقاسي من الجهد والبلوى أكثر مما يحصى من تعب الأبدان، وهموم النفوس، وعناء الأرواح، وتَلَفِ الأجساد، واحتمال الذل، وشماته الحساد، ومداراة الإخوان، وعداوة الأقران، ومشقة الأسفار، ومخاوف الحروب، وما يتكلف من التعب والعناء في جمع الآلات والأثاث من السلاح والدواب وحوائجها ومرافقها مما لا يحصى عدها كثرة، وليس لنا منها راحة إلى الممات فهذه أربعة.
وأما الخامس فهو شدة الحاجة إلى المواد التي لا قوام لهذا الهيكل إلا بها من المأكولات والمشروبات واللباس والمسكن والمركب والأثاث، وما لا بُدَّ منه في قوام الحياة الدنيا، وما نقاسي من الجهد والبلوى في طلبها ليلنا ونهارنا في تعلم الصنائع والتجارات المتعبة والمكاسب المكدة؛ من الحرث والزرع والبيع والشراء والمناقشة في الحساب والحرص والشره وجمع الأموال وحفظها من حيل اللصوص ومكابرة القطاع، وأخذ السلطان لها بالجور والظلم، وحراستها من الآفات العارضة التي لا يحصى عددها، كل ذلك بالكد والعناء والهموم والغموم وتعب الأبدان وعناء الأرواح وشقاء النفوس التي لا راحة لنا منها إلى الممات.
فهذه حالنا يا أخي وحال أكثر أبناء جنسنا في هذه الحياة الدنيا؛ فأما من يريد المقام في الدنيا ويتمنى الخلود فيها مع هذه الآفات كلها، فهو من أجل إحدى خلَّتين: إما أنه لا يؤمن بالآخرة ولا يصدق بالمعاد ولا يتصور الوجود إلا هكذا، ويظن ويتوهم أن بعد الموت عدمًا أو شرًّا محضًا! فمن أجل هذا الرأي وهذا الاعتقاد يريد المقام في الدنيا ويتمنى الخلود فيها مع هذه الآفات كلها، ويكون معذورًا في تمنِّيه وإرادته الخلود؛ لأن في جبلة الخلائق وفي طبائع الموجودات محبة البقاء وكراهية الفناء مذكور ذلك.
فمن أجل هذه الخصال والشرائط يرضى أكثر أبناء الدنيا المقام فيها ويتمنون الخلود! فأما من قد تصور كيفية الدار الآخرة وتحقق أمر المعاد وعرف فضلها وشرفها وسرورها ولذاتها ونعيمها، فأيُّ عذر له في التمني للخلود في الدنيا مع ما قد عرف من آفاتها وشرورها وأحزانها ومصائبها وبلياتها؟! فاجتهدْ يا أخي في طلب معرفة الدار الآخرة وحقيقة أمر المعاد؛ لكيما تساق نفسك إليها بعد الفراق مع أهلك زمرًا، كما ذكر الله جل ثناؤه بقوله: وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا.
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أنك إن لم تعرف الدار الآخرة ولم تتحقق أمر المعاد قبل الممات، وكانت نفسك في الدنيا عمياء؛ فهي بعد الممات في الآخرة أعمى وأضل سبيلًا، وحوشيت يا أخي من ذلك إن شاء الله تعالى.
واعلم يا أخي أن المُقر بالآخرة المؤمن بالمعاد المصدق بها، لا يتصورها ولا يعرف حقيقتها إلا بعدما تنتبه نفسه من نوم الغفلة، وتنبعث من موت الجهالة، وتحيا بروح المعارف، وتنفتح عين البصيرة؛ فتبصر عند ذلك بنور الهداية ما هو مقرٌّ به ومصدق له، ويكون عند ذلك من أهل الأعراف، كما حُكي عن مستبشر لما سئل فقيل: كيف أصبحت؟ فقال: أصبحت مؤمنًا حقًّا! قيل: وما حقيقة إيمانك؟ قال: أرى كأن القيامة قد قامت، وكأني بعرش ربي بارزًا، وكأن الخلائق في الحساب، وكأني بأهل الجنة فيها منعمين، وأهل النار فيها معذبين. فقيل له: قد أصبتَ فالزم عين الطريق. وإليه وإلى أمثاله أشار جل ثناؤه بقوله: وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ * وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وهم الرجال الذين لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ (تعالى) فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ.
فهل لك يا أخي أن ترغب في صحبتهم وتسلك طريقهم وتطلب منهاجهم وتتخلق بأخلاقهم وتسير بسيرتهم وتنظر في علومهم؛ لتعرف مذهبهم وتعتقد رأيهم وتعمل مثل عملهم؛ لعلك تحشر معهم وتفوز بمفازتهم لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ، وهم أولياء الله وعباده الصالحون الذين استثناهم بقوله في قصة إبليس: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وقوله: إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ.
فإذا أردت يا أخي أن تعرف وتعلم أأنت منهم أم من غيرهم، فاعلم أن لهم علامات يُعرفون بها، وسمات يستدل عليهم بها: فمن علامات أولياء الله المبعوثين من موت الجهالة، المنبهين من رقدة الغفلة، المستبصرين بعين اليقين ونور الهداية، العارفين بحقائق الأشياء، الشاهدين حساب يوم الدين؛ أنهم قوم تستوي عندهم الأماكن والأزمان وتغايُر الأمور وتصاريف الأحوال؛ فقد صارت الأيام كلها عندهم عيدًا واحدًا وجمعة واحدة، وصارت الأماكن كلها لهم مسجدًا واحدًا، والجهات كلها قبلة ومحرابًا، أينما تولوا فثم وجه الله، وصارت حركاتهم كلها عبادة لله وسكوناتهم طاعة له، استوى عندهم مدح المادحين وذم الذامِّين، لا يأخذهم في الله لومة لائم، قيامًا لله بالقسط، شهداء لله بالحق، وهم على صلواتهم دائمون، وإنما استوت عندهم الأماكن كلها وصارت مسجدًا وقبلة ومحرابًا واحدًا لتصديقهم قول الله تعالى: فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ، وصاروا شهداء بمشاهدتهم له وتصديقهم قوله: مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.
وإنما استوت عندهم الأيام كلها فصارت جمعة وعيدًا لمشاهدتهم يوم القيامة الذي هو من أول ما بعث الله محمدًا عليه السلام إلى تمام ألف سنة كما قال ﷺ: «بعثت أنا والقيامة كهاتين.»
وأيضًا فإنما استوى عندهم تغايُر الأزمان وتصاريف الأحوال لتصديقهم قول الله تعالى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ * لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ، وصار دعاؤهم مستجابًا لأنهم لا يسألونه إلا ما يكون، ولا يكون إلا ما قدر في سابق العلم، فقلوبهم في راحة من التعلق بالأسباب، وأبدانهم فارغة من تكلف ما لا يعنى به، ونفوسهم ساكنة عن الوسواس، وهم في راحة من أنفسهم والناس منهم في راحة وأمان، لا يريدون لأحد سوءًا ولا يضمرون شرًّا لأحد من الخلق، عدوًّا كان أو صديقًا، مخالفًا كان أو موافقًا.
وهذه أيضًا حكاية أخرى، فهذه محاورات جرت بين رجلين أحدهما من أولياء الله تعالى وعباده الصالحين الذين نجاهم الله من نار جهنم، وأعتقهم من أسرها، وأخلص نفوسهم من عداوة أهلها، وأراح قلوبهم من ألم المعذبين فيها؛ والآخَرُ من الهالكين المعذبين فيها بألوان العذاب، المحرَقة قلوبُهم بحرارة عداوة أهلها، المتألمة نفوسهم بعقوباتها. قال الناجي للهالك: كيف أصبحتَ يا فلان؟ قال: أصبحتُ في نعمة من الله، طالبًا للزيادة، راغبًا فيها حريصًا على جمعها، ناصرًا لدين الله معاديًا لأعداء الله محاربًا لهم. قال الناجي: ومَن أعداء الله هؤلاء؟ قال: كل مَن خالفني في مذهبي واعتقادي. قال: وإن كان من أهل لا إله إلا الله؟ قال: نعم. قال: إن ظفرتَ بهم ماذا تفعل بهم؟ قال له: أدعوهم إلى مذهبي واعتقادي ورأيي. قال: فإن لم يقبلوا منك؟ قال: أقاتلهم وأستحل دماءهم وأموالهم وأسبي ذراريهم. قال: فإن لم تقدر عليهم، ماذا تفعل؟ قال: أدعو عليهم ليلًا ونهارًا وألعنُهم في الصلاة؛ كل ذلك تقربًا إلى الله تعالى. قال: فهل تعلم أنك إذا دعوتَ عليهم ولعنتهم يصيبهم شيء؟ قال: لا أدري! ولكن إذا فعلتُ ما وصفتُ لك وجدتُ لقلبي راحة، ولنفسي لذة، ولصدري شفاءً. وقال له الناجي: أتدري لمَ ذلك؟ قال: لا، ولكن قل أنتَ. قال: لأنك مريض النفس معذب القلب معاقَب الروح؛ لأن اللذة إنما هي خروج من الآلام، ثم اعلم أنك محبوس في طبقة من طبقات جهنم، وهي الحطمة نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة إلى أن تخلص منها وتنجو نفسك من عذابها إذا لقيت الله عز وجل كما وعد بقوله: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا. ثم قال الهالك للناجي: أخبرني أنت عن رأيكَ ومذهبك وحال نفسك كيف هي؟ قال: نعم، أما أنا فإني أرى أني قد أصبحت في نعمة من الله وإحسان لا أحصي عددها ولا أؤدي شكرها، راضيًا بما قسم الله لي وقدر، صابرًا لأحكامه، لا أريد لأحد من الخلق سوءًا، ولا أضمر لهم دغلًا، ولا أنوي لهم شرًّا، نفسي في راحة، وقلبي في فسحة، والخلق من جهتي في أمان! أسلمتُ لربي، مذهبي وديني دين إبراهيم عليه السلام! أقول كما قال: فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
فصل
ثم اعلم أن جهنم لها طبقات كثيرة، وهي الأهواء المختلفة والجهالات المتراكمة التي النفوس فيها محبوسة ومعها موقوفة، وقلوب أهلها معذبة منها بألوان من الآلام وهُم في العذاب مشتركون، كلما مضت منهم أمة فانقرضت خلفها قوم آخرون من تلاميذهم وأتباعهم في تلك المذاهب والآراء، وكلما دخلت من الآراء أمة لعنت أختها المخالِفة لها، كما ذكر الله تعالى في عدة سور من القرآن، قولَه في سورة الأعراف: كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا، أو في سورة أخرى يلعن بعضهم بعضًا ويتعايرون ويتنادرون ويتباغضون وهم في العذاب مشتركون، فهذه حالهم في الدنيا وفي الآخرة سواء وأشر لو كانوا يعلمون، وقاك الله وإيانا شرهم برحمته.
وأما ما قيل من تتعاطى علم النفس والطبيعة ما تقول يا أخي١ أن الصانع الذي بنى هذه المدينة — أعني جسد الإنسان — أهو الساكن فيها والمستعمل لها في هذه الساعة أو غيره؟ فإن كان المستعمل لها في هذه الساعة هو الذي بناها، فلِمَ لا يدري كيف بناها؟! ولِمَ لا يَذكر كيف كانت؟! فإنَّا نرى أصحاب التشريح لم تعرف٢ كيفية بنية هذا الجسد إلا بعد هدمه ونقضه وخرابه، وإن كان هذا الذي بنى هذه البنية هو غير المستعمل لها هذه الساعة، فتُرى بنَّاؤها بناها بنفسه أو بناها على يدي غيره، ثم سلمها إلى المستعمل لها دون ما فيها؟ أتَرى أن هذا المستعمل لهذه البنية هو تلميذ ذلك الصانع الذي بنى هذه المدينة، أو ابن له كان في ذلك الوقت صبيًّا جاهلًا وصار الساعة بالغًا عاقلًا حكيمًا، وإنما كان بالقوة فيخرج الآن إلى الفعل والظهور؟ أفتِنَا، أيدك الله في ذلك، واهدنا إلى سواء الصراط مأجورًا.
فصل
ذكروا أن ملكًا كان عظيم الشأن عزيز السلطان واسع المملكة كثير الجنود والعبيد وُلِدَ له وَلَدٌ ذكر، كان أقرب الخلق شبهًا به وإلى والديه، طبعًا وخلقًا.
فلما تربى ونشأ وكمل ولَّاه أبوه بعض مملكته، وأمر جنوده وعبيده بطاعته، وأوصاه بحسن سياستهم، وأباحه جميع النعمة، غير أنه نهاه عن مرتبته فمكث الابن زمانًا طويلًا قدر نصف يوم متنعمًا ملتذًّا، إلا أنه كان غارًا ساهيًا، فحسده بعض عبيد أبيه ممن كان رئيسًا قبله، فقال له: إنك لست تعرف نعمة ولا تجد لذة لأنك منهي عن أرفع لذة ونعمة وممنوع من ألذ شهوة، فإن بادرت وطلبت الملك سبقت إليه. فاغتر بقوله لأنه كان غرًّا جهولًا وطلب ما ليس له أن يتناوله قبل حينه ويطلبه قبل وقته، فسقطت مرتبته وانحطت درجته عند أبيه، وبدت له سوأته واستبانت له خطيئته، فهرب خوفًا من أبيه ذاهبًا في مملكته شبه المستتر، فلقي العناء وأصابته البأساء والضراء، وقاسى الجهد والبلاء، فتذكر يومًا ما كان فيه من نعمة أبيه، فحزن على ما فاته وبكى أسفًا ثم نعس فنام فحمل إلى أبيه، فقال: دعوه نائمًا إلى يوم الجمعة. ثم رزق في اليوم الثاني ابنًا آخر أشبه الناس بأخيه، فتربى ونشأ وكمل ونما وكان حليمًا وقورًا شكورًا صبورًا، فولاه أبوه بعض مملكته وأمرهم بطاعته وأوصاه بسياستهم ودعاهم وأمرهم ونهاهم، فلم يسمعوا له ولم يطيعوا أمره لأنه كان شبه زحل! بل آذوه فصبر زمانًا ثم شكى إلى أبيه فغضب عند ذلك عليهم ورمى أكثرهم إلى الماء.
فلما رأى ما أصابهم اغتم وحزن ونعس ونام وحمل إلى أبيه، فقال: اتركوه نائمًا إلى يوم الجمعة. ثم إنه رزق في اليوم الثالث ابنًا آخر، وكان أشبه الناس بأخويه اللَّذَين تقدم ذكرهما، فتربى ونشأ وكمل ونما، وكان خيرًا فاضلًا عالمًا محجاجًا، فولاه أبوه مكان أخويه وأمر الرعية بطاعته وأوصى إليه مما أوصى إلى أخويه، فدعاهم وأمرهم ونهاهم، فلم يسمعوا له ولم يطيعوه؛ لأنه كان أشبه بالمشتري، وفزعوه بالنار، فذهب إلى أبيه وبنى له هيكلًا ونذر له قربانًا وعمل مناسك، ونادى في الناس هلموا تعالوا لتروا ما لم تروا وتسمعوا ما لم تسمعوا، ثم نام وحمل إلى أبيه، فقال: اتركوه نائمًا إلى يوم الجمعة. وبقي نداؤه في مسامع النفوس؛ يتوارثونه من غير أن يسمعوه، ويذهبون إلى هيكله فيرون ظاهره ومرآه ما لا يبصرون، ويفعلون سنَّة مناسكه ولكنهم معناها لا يفهمون؛ لأنهم صم بكم عمي فهم لا يعقلون.
وأعيذك أيها الأخ أن تكون منهم، وانظر بنور عقلك في رسالة أفعال الروحانية لعلك تعرف ما قلنا وتفهم ما أشرنا إليه، ثم إنه رزق في اليوم الرابع ابنًا آخر، فتربى ونشأ وكمل ونما، وكان جلدًا قويًّا جريئًا مقدامًا، فولاه أبوه مكان إخوته وأمر الرعية بطاعته وأوصى إليه بما كان أوصى إلى إخوته، فدعاهم وأمرهم ونهاهم فلم يسمعوا له ولم يطيعوه؛ لأنه كان شبه المريخ! وبارزوه وبارزهم وناوشوه وناوشهم، وكان مؤيدًا بقوة أبيه، فغلبهم وبدد شملهم وفرق جمعهم وشتت ألفتهم ورماهم في البر والبحر.
ثم بقي وحيدًا كالغريب يدعو فلا يجاب ويأمر فلا يهاب! فاغتم وحزن ونعس ونام وحمل إلى أبيه، فقال: دعوه نائمًا إلى يوم الجمعة. ثم إنه رزق في اليوم الخامس ابنًا آخر أشبه الناس بأخيه الأول، فتربى ونشأ وكمل ونما، وكان هاديًا رشيدًا طيبًا رفيقًا، فولاه أبوه مكان إخوته وأمر الرعية بطاعته وأوصى إليه بما أوصى إلى إخوته، ودعاهم وأمرهم ونهاهم فلم يتبعوه إلا قليلًا، ولم يطيعوه إلا يسيرًا، إلا أنه كان يشبه الزهرة.
ثم وثبوا عليه فأخذوا منه القميص الذي خاطت أمه، فذهب إلى أبيه فاستنفر عليهم بجنوده وأيده بروح منه، فسرى في نفوسهم وتحكم في لاهوتهم بدلًا وقصاصًا لما تحكموا في ناسوته! وأراد أن ينزل من الرأس، فقال أبوه: اصبروا إلى يوم الجمعة. ثم قال أبوهم في اليوم السادس للنجوم: اختاروا لابني الذي يشبه عطارد يومًا لينزل إلى عالم الكون والفساد، فينبه إخوته النيام ويناديهم إلى حقه، فقد رضيت عنهم، ويأمرهم بالاستعداد للصلاة، فإن غدًا هو العيد يوم الجمعة. فيبرز القضاة ويحكم بينهم فيما كانوا فيه يختلفون، فاجتمعت سادة النجوم ورؤساء الكواكب في بيت المريخ وتشاوروا بينهم.
فقال رئيس الكواكب وملكها الشمس: أنا أختار له من قوتي وأزوده من فضائلي العظمة والرياسة والسلطان والعز والرفعة والبهجة والبهاء والمدح والثناء والبذل والعطاء. وقال شيخهم كيوان: أنا أختار له من قوتي الحلم والوقار والصبر والثبات وبُعد الغور وعلو الهمة والحفظ والأمانة والفكر والروية.
وقال برجيس القاضي العدل: أنا أختار له من قوتي وأزوده الدين والورع والخير والصلاح والعدل والإنصاف والحق والصواب والصدق والوفاء والصيانة والمروءة. قال بهرام صاحب الجيوش: أنا أختار له من قوتي وأزوده من فضائلي العزم والصرامة والنجدة والشجاعة والهمة والبسالة والظفر والغلبة والبذل والسخاء والتيقظ. وقالت الناهيد أخت النجوم: أنا أختار له من قوتي وأزوده من فصائلي الحسن والجمال والتمام والكمال والرأفة والرحمة والزينة والنظافة والحب والمودة والسرور واللذة.
وقال أخوهم الأصغر، وهو أخفاهم منظرًا، وأجلهم مخبرًا، الذي صَنْعَتُه أظهر، وعلومه أكثر، وعجائبه أشهر وأزهر: أنا أختار له من قوتي وأزوده من فضائلي وأسوِّي٣ إليه من مناقبي الفصاحة والنطق والتمييز والفطنة والنظر واللطافة والقراءة والنغمة والعلوم والحكمة. وقالت أم النجوم وهي القمر: أنا أرضعه وأربيه وأختار له من قوتي وأزوده من فضائلي النور والبهاء والزيادة والنماء والحركة في الأقطار الثلاثة والتنقل في الأسفار وبلوغ الآمال والسير والأخبار وعلم مواقيت الآجال.
ثم إنه دارت الأفلاك وتمخضت قوى الروحانيات واستبشر أهل السموات، ونزل إلى عالم الكون في ليلة القدر قبل طلوع الفجر صاحب النشور لينفخ في الصور، فمكث هذا المولود في الرحم أربعين يومًا من أيام الشمس، وعشرين يومًا في الرضاع حتى تربى ونشأ وكمل ونما، وكان أشبه الناس بأخيه الثالث شبهًا لأنه كان يشبه عطارد الذي هو أخو المشتري لتقابُل بينهما وتربيعهما وتقابل فلكهما، فصار هذا المولود من بين إخوته أتمَّهم جثة وأكملهم صورة، وكان أديبًا عالمًا حكيمًا ملكًا عزيزًا إمامًا عادلًا نبيًّا مرسلًا، فولاه أبوه مملكته ومملكة إخوته كلها؛ فظهر وقهر من خالفه، ورفع وأعز من وافقه، وتحكم في مملكته نحوًا من ثلاثين يومًا من أيام الشمس، ثم أعجبته نفسه فأصابته العين، فاعتل وبقي على الفراش نحو ألف يوم من أيام القمر مرفه الجسم عليل النفس، ثم تحول إلى دار أخرى ونهض قليلًا ومشى وقوي ونشط وانبسط وشرب من حب الدنيا وغرورها وأمانيها، فسكر من خمر شهواتها ودخل إلى كهف أبيه ونام مع إخوته فمكثوا زمانًا طويلًا، فلما انقضى دور الرقاد وتقارب الميعاد ناداهم أبوهم: ألم يأن لكم أن تنتبهوا من نومكم وتستيقظوا من غفلتكم وتذكروا ما نسيتم من أمر مبدئكم، وترجعوا إلى معادكم من أسفاركم؛ إذ لكل ابتداء انتهاء، ولكل حياة فناء، ولكل موت ونائم انتباه؟ وبادروا إلى معادكم من غربتكم؛ فقد تم خلق السموات السبع في ستة أيام وغدًا يوم الجمعة يستوي ربكم على العرش يحمله يومئذ ثمانية!
فانتبهت لذلك الإخوة الذين قيل لهم إنهم سبعة وثامنهم كلبهم بعد رقدتهم ثلاثمائة سنة وأربعة وخمسين يومًا من أيام الشمس بحساب القمر يتذاكرون كم لبثوا في كهفهم! فقال أبوهم لأخيهم: فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا، فأخفوا وكتموا أسرارهم لأنه مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
فافهم يا أخي هذه الإشارات والتنبيهات وقِسْ على ذلك نظائرها، ولا تفشِ الأسرار لعلك تنتبه من نوم الغفلة ورقدة الجهالة قبل أن ينفخ في الصور وقبل أن ينادي منادٍ للصلاة من يوم الجمعة فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ، وقبل أن يحشر المجرمون إلى جهنم وِرْدًا، وتزوَّدْ من الدنيا فإنك راحل وإِن خير الزاد التَّقْوَى واتَّقُونِ يا أُولِي الألباب، ولا تَبْغِ الفساد في الأرض، قد أَفْلَح مَن زَكَّاها وقد خاب مَن دَسَّاها.
وفَّقك الله وإيانا وجميع إخواننا إلى طريق السداد، إنه رءوف بالعباد.
(تمت رسالة البعث والقيامة ويليها رسالة في كمية أجناس الحركات.)
من النفسانيات العقليات في البعث والقيامة
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ
اعلم أيها الأخ أنَّا قد فرغنا من بيان ماهية العشق ومحبة النفوس ما هو أشرف وأحسن وأكمل وأجمل وأتم وأدوم منها، ونريد الآن أن نذكر في هذه الرسالة ماهية البعث والقيامة وكيفية المعراج، فنقول:
اعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن العلوم كثيرة، وكلها شريفة، وفي معرفتها عزة، وفي طلبها نجاة من الهلكة، ونيلها حياة للنفوس وراحة للقلوب، وتعلُّمها هدًى ورشد وخروج من ظلمات الجهالة وصلاح في الدين والدنيا جميعًا، ولكن بعض العلوم أشرف من بعض وأهلها يتفاضلون، وذلك أن أفضل العلماء هم أهل الدين والورع، الذين هم من أمر الآخرة على يقين وبصيرة، لا على تقليد ورواية.
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن معرفة حقيقة الآخرة والعلم بالمعاد محجوب عن إبليس وذريته المنكرين لما غاب عن رؤية الأبصار وعن أهل التقليد الذين لا يعرفون حقيقةَ ما هم مقرُّون به من أمر الآخرة والبعث والقيامة والحشر والحساب والميزان والصراط والمعاد والجزاء هناك: إن خيرًا فخيرًا وإن شرًّا فشرًّا؛ لأن هذا العلم هو لب الألباب وسر لأولياء الله دون سواهم؛ لأن أولياء الله هم المصطفَون الأخيار الذين أخلصوا بخالصة ذكرى الدار، ونريد أن نلوح من هذا العلم طرفًا في هذه الرسالة الجليلة القدر بإشارات مرموزة وأمثال مضروبة للمريدين لله عز وجل الطالبين دار الآخرة؛ إذ كان الإخبار عن حقيقتها يدق عن البيان، ويبعد عن التصور بالأفكار والتخيل بالأوهام، إلا لأنفس زاكية وأرواح طاهرة وقلوب واعية وآذان سامعة، ولكن قبل ذلك نحتاج أن نذكر النفس والروح وحقيقتهما وماهيتهما وتصاريف أمرهما؛ إذ كان معرفة حقيقة الآخرة وأمر المعاد بعد معرفة البعث والقيامة بعد معرفة النفس والروح، وعلة أخرى أيضًا أن قومًا من علماء الإسلام يتعاطون العلوم والكلام والجدل، وينكرون أمر النفس ووجودها، ويجهلون حقيقة الروح وتصاريف أحوالها.
من أجل هذا احتجنا إلى أن ندل أولًا على وجود النفس وماهية جوهرها وتصاريف أمورها بطريق السمع والإخبار، وما ذُكر في الأخبار والكتب النبوية المنزلة، ثم نذكر حججًا عقلية حكمية؛ لأن قومًا من هؤلاء المجادِلة لا يرضون طريق السمع والإخبار، ولا يقنعهم ذلك لشكوك في نفوسهم وريبة في قلوبهم، بل يريدون دلائل عقلية وحججًا فلسفية، فنقول:
اعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن الحكماء والفلاسفة قد أكثرت في كتبها وفي مذكراتها ذكر النفوس، وحثت تلاميذها وأولادها على طلب علم النفس ومعرفة جوهرا؛ لأن في علم النفس ومعرفة جواهرها معرفةَ حقائق الأشياء الروحانية من أمر المبدأ والمعاد والباري تعالى عز وجل وملائكته، وخاصة معرفة البعث وحقيقة القيامة والنشر بعد الموت والحشر والحساب والجزاء وثواب المحسنين وعقاب المسيئين.
وذلك أن كل إنسان لا يعرف نفسه ولا يعلم ذاته ولا يعلم ما الفرق بين النفس والجسد تكون همته كلها مصروفة إلى إصلاح أمر الجسد ومرافق أمر البدن من لذة العيش والتمتع بنعيم الدنيا وتمني الخلود فيها مع نسيان أمر المعاد وحقيقة الآخرة! وإذا عرف الإنسان نفسه وحقيقة جوهرها، صارت همته في أكثر الأحوال في أمر النفس، وفكرته أكثرها في إصلاح شأنها، وكيفية حالها بعد الموت، واليقين بأمر المعاد، والاستعداد للرحلة من الدنيا والتزود للمعاد، والمسارعة في الخيرات والتوبة، وتجنب الشر والمنكر والمعاصي.
فإذا فعل ذلك يزول عنه خوف الموت، وربما تمنى لقاء الله تعالى، وهذه صفة أولياء الله تعالى وعباده الصالحين كما ذكر الله سبحانه وأشار إليهم بقوله في كتابه على لسان نبيه محمد ﷺ في توبيخه لليهود لما زعموا أنهم أولياء الله من دون الناس فقال لهم: فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بأنكم أولياء الله من دون الناس، وإنما يتمنى أولياءُ الله الموت إذا تذكروا ما وعدهم الله وأعده لهم من التحية والسلام كما قال جل ثناؤه: تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا، وقال تعالى أيضًا: وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ، وقد علم كل عاقل علمًا يقينًا أن أجساد هؤلاء قد بليت في التراب، وأن هذه الكرامة والتحية والسلام هي لأرواحهم ونفوسهم الطاهرة الزكية كما ذكر جل ثناؤه بقوله تعالى: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي، وقال تعالى: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا، وقال تعالى: يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ، وقال أيضًا: إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي، وقال جل وعز: اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، وآيات كثيرة في القرآن في ذِكر النفس وخطابها بالتأنيث ليعلم كل عاقل أنها هي شيء غير الجسد؛ لأن الجسد مذكر لا يخاطب بالتأنيث، فكفى بهذا فرقًا وبيانًا بين النفس والجسد.
وقد يعلم كل عاقل إذا تأمل وتفكر في أمر الجسد أنه جسم مؤلف من اللحم والدم والعروق والعصب والعظام وما شاكلها، وأصله نطفة ودم انطمس، ثم اللبن والغذاء والمأكولات والمشروبات، ثم آخر الأمر الموت وبعد مفارقة النفس إياه يبلي ويصير ترابًا، ثم يعاد خلقًا جديدًا إذا شاء الله كما وعد جل ثناؤه.
فأما النفس، يعني الروح، فهي جوهرة سماوية نورانية حية علامة فعالة بالطبع، حساسة دراكة لا تموت ولا تفنى بل تبقى مؤبدة، إما ملتذة وإما مؤتلمة؛ فأنفس المؤمنين من أولياء الله وعباده الصالحين يُعرج بها بعد الموت إلى ملكوت السموات وفسحة الأفلاك وتُخلى هناك، فهي تسبح في فضاء من الروح وفسحة من النور وروح وراحة إلى يوم القيامة الطامة الكبرى، فإذا انتشرت أجسادها رُدَّت إليها لتحاسَب وتجازى بالإحسان إحسانًا والسيئات غفرانًا.
وأما أنفس الكفار والفساق والأشرار فتبقى في عماها وجهالاتها معذبة متألمة مغتمة حزينة خائفة وجِلة إلى يوم القيامة، ثم تُرد إلى أجسادها التي خرجت منها لتحاسب وتجازى بما علمت من سوء.
والدليل على صحة ما قلنا وحقيقة ما وصفنا قول الله سبحانه: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ، وقال أيضًا: وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ، وقال أيضًا: وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ، وقال: ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ، وقال أيضًا: يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ * وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ، وآيات كثيرة في القرآن في هذا المعنى تدل على بقاء النفوس بعد الموت؛ إما منعمة ملتذة وإما معذبة متألمة.
وفيما ذكرنا كفاية لمن أنصف عقله ونصح نفسه، واهتم لما بعد الموت وتفكر في أمر المعاد، واستعد للرحلة وتزود للسفر، وزهد في الدنيا ورغب في الآخرة قبل فناء العمر وتقارب الأجل والفوت. وفقك الله أيها الأخ للسداد، وهداك للرشاد وإيانا وجميع إخواننا حيث كانوا في البلاد.
اعلم، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن الذين أنكروا أمر البعث والقيامة والنشر والحشر، والوقوف والحساب ووضْع الموازين لوزن الحسنات والسيئات، والجواز على الصراط وما شاكل هذه الأمور المذكورة في كتب الأنبياء عليهم السلام؛ لشكوك في نفوسهم وحيرة في قلوبهم، والعلة في ذلك طلبهم حقيقة معرفتها وكيفيتها وأبنيتها وماهيتها وكميتها قبل معرفتهم أنفسهم وحقيقة جوهرها وكيفية كونها مع الجسد، ولم ربطت به وقتًا ما ولم تفارقه وقتًا آخر، ومن أين كان مبدؤها وإلى أين يكون معادها بعد مفارقتها جسدها، وهذ المباحث علم غامض وسر لطيف ليس إليها طريق للمبتدئين في العلوم الحكمية إلا التسليم والإيمان والتصديق للمخبرين عنها، الصادقين عن الله جل ثناؤه، الذين أخذوا هذا العلم عن الملائكة وحيًا وإلهامًا بتأييد من الله جل ثناؤه.
وأما الذين لا يرضون أن يأخذوا هذا العلم تسليمًا وتصديقًا، بل يريدون براهين عقلية وحججًا فلسفية، فيحتاجون إلى أن تكون لهم نفوس زكية وقلوب صافية وأذن واعية وأخلاق طاهرة، وأن يكونوا غير متعصبين في الآراء والمذاهب المختلفة، ومع ذلك يكونوا قد ارتاضوا في الرياضات الفلسفية من علم العدد والهندسة والمنطق والطبيعيات، ثم نظروا في علوم الإلهيات.
وقد ذكرنا في رسائلنا طرفًا من ذلك، وبيَّنا فيها ما يحتاج إخواننا من هذه العلوم إليها والمعرفة بها، فانظر يا أخي فيها واعتبرْها وتأملْها ترشد إن شاء الله.
ثم اعلم يا أخي أن معنى القيامة مشتق مِن قام يقوم قيامًا، والهاء فيه للمبالغة، وهي من قيامة النفس من وقوعها في بلائها، والبعث هو انبعاثها وانتباهها من نوم غفلتها ورقدة جهالتها، وهي بالفارسية رست خيزاي؛ قيامًا مستويًا.
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن كل عاقل لبيب إذا تَفكَّرَ في أمر الدنيا وتَأمَّلَ تصرف حالاتها بأهلها من الكون والفساد والتغير والاستحالة، وخاصة أمر الحياة والممات اللذين مرهون بهما جميع الحيوان، واعتَبرَ أحوال الماضين من القرون السالفة تَيقَّنَ أنه لا محالة ميت وصائر إلى ما صاروا إليه، فيود عند ذلك ويتمنى أن يعرف حقيقة أمر الآخرة على صحة وبيان ليكون على يقين منها. واعلم يا أخي بأن الناس في أمر الآخرة على رأيين ومذهبين: فطائفة مقرَّة بها وطائفة منكرة؛ فالمنكرون أمرَ الآخرة هم الذين يظنون أن حكم الإنسان بعد الممات كحكم النبات والحيوان؛ وذلك أنهم لما تأملوا أمرهما وتفكروا في كونهما وفسادهما واعتبروا أحوالهما، وجدوا النبات يتكون وينشأ ويبلغ إلى غايةٍ ما، ثم يَبلى ويضمحل ويتكون مثله آخر، وهكذا أمر الحيوان يتوالد ويتربى ثم يبلغ إلى غايةٍ ما، ثم يموت ويهلك ويبلى ويتكون آخر مثله.
فلما وجدوا حكم النبات والحيوان على ما وصفنا، جعلوا ذلك قياسًا على حال الإنسان فقالوا: نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ، فقال الله تعالى: وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ؛ لأنهم لو سُئلوا ما الدهرُ، لعجزوا عن ما هو الدهر في البيان، وما دروا ما الدهر.
واعلم يا أخي أن المقرين بالآخرة طائفتان من الناس: إحداهما الذين يقرون بها بألسنتهم من غير تصورٍ منهم لها بقلوبهم ولا معرفة بحقيقتها بعقولهم، فإقرارهم إيمان وتسليم لقول الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وتقليد لهم فيما يقولون ويخبرونهم عنها؛ والطائفة الأخرى الذين هم مع إقرارهم بها وتصديقهم للأنبياء عليهم الصلاة والسلام متصورون لها بقلوبهم عارفون حقيقتها بعقولهم، وقد مدح الله تعالى كلتا الطائفتين جميعًا، وأثنى عليهم بقوله جل ثناؤه: يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ، ولكن فضَّل الله إحداهما على الأخرى بقوله: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ.
واعلم يا أخي أن العلم هو تصور الشيء على حقيقته وصحته، فأما الإيمان فهو الإقرار بذلك الشيء والتصديق لقول المخبرين عنه من غير تصور له.
فالأنبياء عليهم السلام وأولياؤهم هم المخبرون عن الآخرة المتصورون لها بقلوبهم والعارفون حقيقتها بعقولهم، والمؤمنون هم المقرون بالآخرة بألسنتهم، المصدقون الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في أخبارهم، المنتظرون لكشفها لهم.
واعلم يا أخي أن المنتظرين لأمر الآخرة طائفتان من الناس: إحداهما تنتظر كونها وحدوثها في الزمان المستقبل عند خراب السموات والأرضين، هم لا يعلمون من الأمور إلا المحسوسات، ولا من الجواهر إلا الجسمانيات، ولا من أحوالها إلا ما ظهر؛ والطائفة الأخرى ينتظرونها كشفًا وبيانًا واطلاعًا عليها، وهم الذين يعرفون الأمور المعقولة والجواهر الروحانية والحالات النفسانية.
واعلم يا أخي أن معرفة أمر الآخرة على الحقيقة في معرفة أمر الدنيا؛ لأنهما من جنس المضاف، ومن خاصة جنس المضاف أن في معرفة أحد المضافين معرفةَ الآخر؛ فالدنيا باسمها تدل على اسم الأخرى؛ أن الدنيا مشتق من الدنو، والآخرة مشتق من التأخر.
فالدنيا هي أول معلوماتنا وأحوالُها أول محسوساتنا، وشعورنا من أجسادنا ومشاهدتنا أحوال أجسامنا وأبناء جنسنا.
وهذه كلها قبل معرفتنا بنفوسنا ومشاهدتنا عالَمَها وعرفاننا أبناءَ جنسها ووجداننا لِذات معقولاتها؛ لأن هذه تحصل لنفوسنا بعد مفارقتها أجسادَها، كما حصلت تلك لنا بعد ولادة أجسادها؛ لأن مفارقة النفس الجسدَ هي ولادة لها، كما أن مفارقة الجنين للرحم ولادة الجسد.
واعلم يا أخي أن الحياة الدنيا إنما هي مدة كون النفس مع الجسد في عالم الأجسام إلى وقت المفارقة التي هي الممات.
وأما الدار الآخر فهي عالم الأرواح، التي هي الحيوان لو كانوا يعلمون، أيْ أبناء الدنيا، وهو كون النفس في عالمها بعد مفارقتها جسدها ما بقيَت السموات والأرض، كما ذكر الله تعالى في كتابه فقال الله تعالى: وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ.
وقد بيَّنا في رسالة الآلام كيف يكون عذاب الأشقياء في الآخرة وكيف تكون لذات السعداء هناك.
واعلم يا أخي أن الموت ليس هو شيئًا سوى ترك النفس استعمالَ الجسد، وأن النفس تترك استعمال الجسد لسببين اثنين: أحدهما طبيعي، والآخر عرضي.
والسبب الطبيعي هو أن يهرم الجسد على طول الزمان، وتضعف البنية وتكل آلات الحواس، وتسترخي الأعصاب والعضلات المحركات للأعضاء، وتجف الرطوبة المغذية للبدن، وتطفأ الحرارة الغريزية كما يطفأ السراج إذا فَنِيَ الدهن، فعند ذلك لا يمكن أن يعيش الإنسان ولا يفعل شيئًا من الأفعال والأعمال؛ لأن البدنَ للنفس بمنزلة الدكان للصانع، والأعضاءَ بمنزلة الأدوات؛ فإذا كلَّت آلات الصانع أو انكسرت أو خرب الدكان وانهدم، فإن الصانع لا يقدر على عمل شيء من صنعته إلا أن يتخذ دكانًا آخر وأدوات مجددة.
وأما ترْك النفس استعمالَ الجسد لسبب عرضي فهو كثير الفنون، ولكن يجمعها نوعان: فمنها أسباب من داخل الجسد بلا اختيار، كالأمراض والأعلال المتلفة للجسد؛ ومنها أسباب من خارج، كالذبح والقتل. والقتل ليس هو شيئًا سوى أن يقصد قاصد فيهدم بنية الجسد بضربٍ من الفساد والخراب، كما يقصد إنسان فيخرب دار إنسان أو دكانه.
واعلم يا أخي أن كل صانع حكيم إذا فكر في أمره ونظر في العواقب، علم أنه لا بُدَّ أن يخرب يومًا دكانه، وتكل أدواته، وتضعف قوة بدنه، وتذهب أيام شبابه؛ فمن بادر واجتهد قبل خراب الدكان وكلال الأدوات وذهاب القوة، فاكتسب مالًا بصنعته في دكانه واستغنى عن السعي؛ فإنه لا يحتاج بعد ذلك إلى دكان آخر ولا أدوات مجددة، بل يستريح من العمل ويشتغل بالتمتع واللذات بما قد كسب، فهكذا يكون حال النفس بعد خراب الجسد.
فانظر يا أخي وتفكرْ وبادرْ واجتهِد وتزودْ قبل خراب هذا الدكان وانهدام هذه البنية فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى.
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن مواهب الله عز وجل لعباده كثيرة لا يحصي عددها إلا الله تعالى، فمِن جليل مواهبه وعظيم نعمه وجزيل إحسانه ومِنَنِه على الإنسانِ العقلُ الراجح والرأي الرصين والتمييز الصحيح، التي لها نتائج العلوم الحقيقية ووجدان المعارف الروحانية والتألُّه الرباني.
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن من أجلِّ نتائج العقول وأشرف وجدانها الآراءَ الجيدة والاعتقادات الصحيحة المُصلِحة لنفوس معتقديها؛ وذلك أن الآراءَ الجيدةَ والاعتقاداتِ الصحيحةَ المُعِينةُ لنفوس معتقديها على الانبعاث من نوم الغفلة ومن رقدة الجهالة، ومحيِيَة من موت الخطيئة ومنجية لها من نيران جهنم وعذاب الهاويةِ — عالمِ الكون والفساد — وموصلة إلى نعيم الجنان في دارِ الحيوان — عالمِ الأفلاك وسعة السموات — ومقربة لها إلى خالقها ومنشئها ومتممها ومكملها ومبلغها أتم غاياتها وأكمل نهاياتها عند باريها في دار الخلود والمقام هناك، متنعمة ملتذة في دائم الأوقات مسرورة أبد الآبدين ودهر الداهرين مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا، ذلك الفضل من الله.
ثم اعلم أن أحد الآراء الصحيحة المنجية لنفوس معتقديها اعتقادُ الموحدين بأن العالم محدَث مخترَع، مَطوِي في قبضة باريه، محتاج إليه في بقائه، مفتقِر إليه في دوامه، لا يستغني عنه طرفة عين، ولا عن إمداد الفيض عليه ساعة فساعة، وأنه لو منعه ذلك الفيض والحفظ والإمساك لحظة واحدة؛ لتهافتت السموات، وبادت الأفلاك، وتساقطت الكواكب، وعدمت الأركان، وهلكت الخلائق، ودثر العالم دفعة واحدة بلا زمان! كما ذكر الله تعالى بقوله: إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ، وبقوله تعالى: وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ.
واعلم يا أخي أن من يعتقد هذا الرأي ويتحقق هذا الاعتقاد في أمر السموات والأرض؛ فهو في دائم الأوقات يكون متعلقَ القلب بربه، معتصمًا بحبله، متوكلًا عليه في جميع أحواله، مسندًا ظهره إليه في جميع تصرفاته، داعيًا له في جميع أوقاته، سائلًا منه كل حوائجه، مفوضًا إليه سائر أموره؛ فيكون له بهذه الأوصاف قربة إلى ربه، وحياة لنفسه، وهدوء لقلبه، ونجاة من المهالك، كما ذكر الله تعالى بقوله حكاية عن عبدٍ من عباده وهو مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه في آخر خطاب طويل مع فرعون: وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * فَوَقَاهُ اللهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ، فأما من يظن أو يتوهم أن العالم مستقل بذاته ومستغنٍ في وجوده عن فيض باريه عليه بالمادة والبقاء والحفظ والإمساك، فهو يكون مُعرِضًا عن ربه ناسيًا ذكره، غافلًا عن دعائه مشغولًا بما حوله من أعراض دنياه وما كان له فيها وملكه منها! فهو لا يذكر ربه إلا ساهيًا، ولا يدعوه إلا لاهيًا، ولا يسأله إلا بطرًا ورياءً أو مضطرًّا عند الشدائد والبلوى والمصائب والضراء على كرهٍ منه وشكوك في حيرة وضلال! لا يدري لِمَ ابتلي ولا كيف عوفي هو، ويكون جاهلًا بربه حق معرفته فيبقى محجوبًا عن ربه طول عمره في دنياه فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا. ومن الآراء الجيدة والاعتقادات النافعة لنفوس معتقديها المعينة لها على الانبعاث من نوم الغفلة، المقيمة لها من رقدة الجهالة، المحيية لها من موت الخطيئة، المنجية لها من نيران الهاوية — عالم الكون والفساد — الموصلة لها إلى الجنة (عالم الأفلاك وسعة السموات) المقربة لها إلى باريها لديه زلفى؛ اعتقادُ الإنسان العاقل وعلمه اليقين أنه متوجه إلى ربه، وقاصد نحوه منذ يوم خلقه نطفة في قرار مكين، ينقله ربه وخالقه حالًا بعد حال من الأنقص إلى الأتم والأكمل، ومن الأَدْون إلى الأشرف والأفضل، إلى أن يلقى ربه ويراه ويشاهده فيوفيه حسابه، كما ذكر الله جل ثناؤه بقوله: فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا، وآيات كثيرة في القرآن في هذا المعنى. وقال الله تعالى وعيدًا وذمًّا وتوبيخًا لمن لا يعتقد هذا الرأي: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ، إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ، وآيات كثيرة في القرآن في هذا المعنى.
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن ملاك أمر الآخرة وزمام أمر المعاد هي معرفة حقيقة البعث والقيامة كلها هو في معرفة الإنسان نفسه وحقيقة جوهرها؛ وذلك أن كل إنسان لا يعرف نفسه ولا يميز بينها وبين الجسد تكون همته أكثرها مصروفة إلى أمر الجسد وإصلاح شأنه والتمني للخلود في الدنيا والتمتع بلذة شهواتها. فأما كل مَن كان يعرف نفسه على الحقيقة، فإن أكثر همته تكون مصروفة إلى حال النفس، وإصلاح شأنها، والتفكر له في أمر معادها ودار قرارها، والاستعداد للرحلة من الدنيا، والتزود للمعاد واليقين بلقاء الله تعالى، وقلة الخوف من الموت؛ وهذه صفة أولياء الله تعالى، وإليهم أشار بقوله في توبيخه لليهود: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ، وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ؛ يعني في قولهم: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ.
اعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن من أفضل مناقب العقلاء كثرةُ العلوم والمعارف، وأن من أشرف العلوم وأجلِّ المعارف التي يَبلغها العقلاء العلماء، ويهدي الله أولياءه إليها من المؤمنين المصدقين ويكرمهم بها؛ عِلْمَ البعث ومعرفةَ حقيقة القيامة وكيفية تصاريف أحوالها، وقد ذكر الله سبحانه في القرآن تصاريف أحوالها في نحوٍ من ألف وسبعمائة آية، وأشار إليها بأوصاف شتى وإشارات مفننة؛ مثل قوله تعالى: يوم القيامة، ويوم يبعثون، ويوم الدين، ويوم الفصل، ويوم الحساب، ويوم الآزفة، ويوم التناد، ويوم التغابن، ويوم الحشر، ويوم يخرجون، ويوم تقوم الساعة، وما شاكَلَ هذه الأوصاف والإشارات التي قد تاهت عقول أكثر العلماء في طلب حقائقها وتصوُّر كيفياتها بكنه صفاتها، ولا يعلم تأويلها إلا الله والراسخون في العلم من أولياء الله وأصفيائه، الذين يقولون: كُلٌّ مِن عِند ربنا، ولا يُحِيطُون بشيء مِن عِلْمه إلَّا بما شاء، ولا يُطلِع على غَيْبه أحدًا، إلَّا مَنِ ارتضى مِن رسول، وهم من خشيته مُشْفِقون.
اعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن علم البعث وحقيقة القيامة محجوب عن إبليس وذريته وأتباعه وجنوده من شياطين الجن والإنس، وهو سر الله الأعظم لا يُطلع عليه أحدًا من خلقه إلا من ارتضى من أوليائه وأصفيائه وأهل مودته من ذرية آدم ومن ذرية نوح وذرية إبراهيم وإسرائيل، وممن هدى واجتبى! إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا، جعلكم الله أيها الأخ وإيانا منهم برحمته، إنه ودود رءوف رحيم.
ونريد أن نلوح من هذا السر طرفًا ونشير إليه إشارة ما؛ إذ لا يجوز التصريح به اقتداءً بسنة الله عز وجل وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، وقال عليه السلام: «اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون» إشارة إلى مثل هؤلاء القوم الذين هم ظالم لنفسه.
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أنه لما كان العقلاء متفاوتي الدرجات في ذكاء نفوسهم وصفاء أذهانهم وجودة تمييزهم، صاروا أيضًا متفاوتي الدرجات في العلوم والمعارف، كما بيَّنا في رسالة الآراء والمذاهب.
ولما كان الأمر كما وصفْنا، لم يكن أن يخاطَبوا بصريح الحقائق خطابًا واحدًا إلا بألفاظ مشتركة المعاني؛ ليَحمل كل ذي لب وعقل وتمييز بحسب طاقته واتساعه في المعارف والعلوم، كما ذكر الله جل ثناؤه بقوله، على سبيل المثل: أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا، قال المفسرون معنى هذه الآية وتأويلها: أنه أنزل القرآن من السماء إلى الأرض كما أنزل المطر من الغيم، فاحتملت القلوب من علم القرآن بحسب اتساعها في المعارف وصفاء جواهر النفوس، كما تَحمل الأودية من سيل المطر بحسب سعتها وجريانها.
ثم افهم أن لفظ القلب ليس هو قطعة اللحم الصنوبري الشكل المعلقة من الصدر الموجود في أكثر الحيوانات، وليس المراد من القلب ههنا ذاك، بل مراد إخواننا أمْر وراء ذلك؛ وهي النفس.
واعلم يا أخي أن لفظ البعث اسم مشترك في اللغة العربية يحتمل ثلاثة معانٍ؛ فمنها قول القائل: «بعثت»؛ يعني أرسلت، كما قال الله تعالى: فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ يعني أرسلهم؛ ومنها ما يكون معنى البعث هو بعث الأجساد الميتة من القبور ونشْر الأبدان من التراب، كما وَعَدَ الكفار والمنكرين بقولهم: أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ قال الله تعالى: قُلْ نَعَمْ؛ ومنها بعث النفوس الجاهلة من نوم الغفلة وإحياؤها من موت الجهالة كما ذكر الله جل ثناؤه بقوله: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا وقوله تعالى: ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وقوله لمحمد ﷺ: عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا.
واعلم يا أخي أنَّ مَن لا يوقن ببعث الأجساد ولا يتصوره فليس من الحكمة أن يخاطَب ببعث النفوس؛ لأن بعث الأجساد يمكن تصوره ويقرب فهمه وعلمه، فأما مَن لا يُقرُّ به ولا يتصوره فهو لبعث النفوس أَنْكَرُ وبه أجهل ومِن تصوُّره أبعد؛ لأن بعث النفوس هو مِن علم الخواص ولا يتصوره إلا المرتاضون بالعلوم الإلهية والمعارف الربانية، وإنما وَعَدَ الكفارَ أن يبعث أجسادهم ليوافقهم على تكذيبهم ويجازيهم بسوء أفعالهم، ووعد الله المؤمنين أن يحيي نفوسهم ويبعث أرواحهم ليجازيهم على حسناتهم ويثيبهم بأعمالهم.
فلا تكن يا أخي ممن ينتظر بعث الأجساد ويؤمل نشر الأبدان؛ فإن ذلك ظلم عظيم في حقك إذا كنت تتوهم ذلك، ولكن إن استوى لك فكُن من الذين ينتظرون بعث النفوس ويؤملون حياتها ووصولها إلى عالمها الروحاني ودار قرارها الحيواني مخلدًا في النعيم أبد الآبدين ودهر الداهرين مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسُن أولئك رفيقًا.
(١) فصل في بعث الأجساد
واعلم يا أخي أن بعث الأجساد من القبور الدَّارِسات وقيامها من التراب إنما يكون ذلك إذا رُدَّت إليها تلك النفوس والأرواح التي كانت متعلقة بها وقتًا من الزمان فيما سلف من الدهر، فتنتعش تلك الأجساد وتحيا تلك الأبدان وتتحرك وتحس بعدما كانت جمودًا، ثم تحشر وتحاسب وتجازى؛ لأن الغرض من البعث هو المجازاة والمكافأة.
واعلم يا أخي أنَّ رد النفوس الناجية إلى الأجسام الفانية في التراب من الرأس ربما يكون موتًا لها في الجهالة واستغراقًا في ظلمات الأجسام وحبسًا في أَسْر الطبيعة وغرقًا في بحر الهيولى.
فأما بعث النفوس وقيام الأرواح فهو الانتباه من نوم الغفلة، واليقظة من رقدة الجهالة، والحياة بروح المعارف، والخروج من ظلمات عالم الأجسام الطبيعية، والنجاة من بحر الهيولى وأَسْر الطبيعة، والترقي إلى درجات عالم الأرواح والرجوع إلى عالمها الروحاني ومحلها النوراني ودارها الحيواني، كما ذكر الله تعالى بقوله: وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ؛ يعني أبناء الدنيا، فإذا كانت الدار هي الحيوان فما ظنك يا أخي بأهل الدار كيف تكون صفاتهم ونعيمهم ولذَّاتهم إلا كما ذكر الله تعالى بقوله: وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ لا يموتون فيها ولا يمرضون.
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن العلوم كلها شريفة، ونَيْلها عزٌّ لصاحبها، وعرفانها نور لقلوب أهلها وهداية وحياة لنفوسهم وشفاء لصدورهم ويقظة لها من نوم الغفلة ورقدة الجهالة، ولذة للأرواح وصلاح للأجساد وتمام وكمال للأجسام وقوام للعالم ونظام للخلائق وترتيب للموجودات وزينة للكائنات، ولكن قيل بعض العلوم أشرف وأفضل وأكرم، فأشرف العلوم وأجلُّ المعارف التي ينالها العقلاء المكلفون، معرفة الله جل ثناؤه والعلم بصفات وحدانيته وأوصافه اللائقة به.
ثم بعد هذا معرفة جوهر النفس وكيفية تصاريف أحوالها في جميع الأزمان الماضية والآتية والحاضرة، ثم كيفية تعلُّقها بالأجسام وتدبيرها للأجساد واستعمالها الأبدان مدة، ثم كيفية تركها لها ومفارقتها إياها وتفردها بذاتها ولحوقها بعالمها وعنصرها وجوهرها الكلي، ثم معرفة البعث والقيامة والحشر والحساب والميزان والصراط ودخول الجنان ومجاورة الرحمن، ذو الجلال والإكرام.
واعلم يا أخي أن هذا الفن من العلوم هو لب الألباب، وإليه نَدْب ذوي العقول الراجحة والحكمة الفلسفية دون غيرهم من الناس؛ لأن هذا الفن من العلم والمعارف آخر مرتبة ينتهي إليها الإنسان في المعارف مما يلي رتبة الملائكة، ومن أجل هذا هو مكلَّف متعبِّد وقاصد نحوه منذ يوم خَلَقَه الله تعالى إلى يوم يلقاه فيوفيه حسابه، وهو الغرض الأقصى في وجود النفس وتعلقها بالأجساد ونشوئها معها وتتميمها وتكميلها.
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أنك إذا أردت النظر في هذا العلم الشريف والبحث عن هذا السر اللطيف، فستحتاج إلى أن تقصد إلى أهله وتسألهم عنه، كما يُقصد في سائر العلوم والصنائع إلى أهلها، كما قيل: استعينوا على كل صناعة بأهلها.
واعلم يا أخي أن أهل هذه الصناعة وعلماء هذه الأسرار هم إخواننا الكرام الفضلاء، فانظر يا أخي فيما قالوا وتأمل ما وصفوه من حقائق الأشياء التي أنت مُقرٌّ بها بلسانك وتؤمن بقلبك، ثم تَفَكَّرْ فيما تسمع وتأمل ما يوصف لك وميِّزْه ببصيرتك واعرضه على عقلك الذي هو حجة الله عليك والقاضي بينك وبين أبناء جنسك، فإن اتضحت لك حقيقة ما تسمع وتصورتَ ما يصفون وتيقنتَ ما يخبرون، فبتوفيق من الله وهداية منه، وإن تكن الأخرى كنتَ قد بذلتَ المجهود وأزلت العذر فيما أنت مكلَّف له وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ.
وإن لم يتفق لك يا أخي لقاء أحد من أهل هذه الصناعة بحيث أن تسأله عن حقيقة هذا السر ويعرفك ما تطلب، وتريد أن تعلم أنت باجتهادك وعقلك وبصيرتك وتمييزك، فاسلك في هذا البحث، والنظر طريقة الحكماء النجباء، واستعمل القياس البرهاني الذي هو ميزان العقول — كما وصف في المنطق — وقد بيَّنا مِن علم المنطق في رسائل شبه المدخل والمقدمات ما فيه كفاية، ولكن نذكر في هذا الفصل مثالًا واحدًا ليقرب به عليك مأخذه.
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن علم الإنسان المعلومات؛ بعضها بطريق الحواس، وبعضها بطريق السمع والروايات والأخبار، وبعضها بطريق الفكر والروية والتأمل والعقل الغريزي، وبعضها بطريق الوحي والإلهام — وليس هذا الفن باكتساب من الإنسان ولا باختيار منه بل هو موهبة من الله تعالى — وبعضها بطريق القياس والاستدلال، وهو العقل المكتسب، وبهذا العقلِ يفتخر العقلاءُ، وبه يتفاضل الحكماء والفلاسفة.
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أنك إذا طلبت علم البعث ومعرفة حقيقة القيامة وما يوصف من أحوالها، فليست تخلو معرفتها من أحد هذه الطرق التي تَقدَّم ذكرها؛ فإن أردت أن تعرفها بطريق القياس والبرهان، فاعمل في هذه المسألة وابحث — أعني معرفة البعث وعلم حقيقة القيامة — كما يعمل أصحاب المجسطي عند طلبهم معرفة عظم جرم الشمس؛ وذلك أنهم قالوا لا يخلو جرم الشمس من أن يكون مساويًا لجرم الأرض أو أعظم أو أصغر منها في المقدار؛ إذ ليس في القسمة العقلية غير هذه، ثم بحثوا عن واحد واحد من هذه الأقسام الثلاثة حتى عرفوا حقيقتها كما هو مذكور في كتبهم بشرح طويل.
فاعمل أنت يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، في هذه المسألة مثل ما عمل هؤلاء في مسألتهم؛ وهو أن تقول: لا يخلو أمر البعث ومعنى القيامة أن تبعث الأجساد دون النفوس، أو النفوس دون الأجساد، أو الجميع؛ إذ كان ليس في القسمة غير هذه الوجوه الثلاثة، ثم ابحث وتصفح عن حقيقة واحد واحد من هذه الوجوه الثلاثة كما نبين في هذا الفصل.
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن مَن يرى ويعتقد بأن الإنسان ليس هو شيئًا سوى هذه الجملة المحسوسة — أعني الجسد المؤلف من اللحم والدم والعظم والعروق وما شاكلها، التي هي كلها أجسام طويلة عريضة عميقة وما يحلها من الأعراض على البنية المخصوصة التي هي صورة الإنسانية — فهو لا يتحقق أمر البعث ولا يتصور حقيقة القيامة إلا إعادة هذه الأجساد برمتها وتلك الأجرام والأعراض بعينها، على هذه الحال التي هي عليها الآن، ثم يحشرون ويحاسبون الجسمانية والنوازع الجاذبة لها إلى الأسباب الضرورية، من الجوع والعطش والغذاء والحر والبرد والآلام والأوجاع والأمراض والأسقام والأحزان والمصائب والحدثان؛ من جور السلطان، وحسد الإخوان، وعداوة الجيران، ومقاساة غيظ الأقران، ووساوس الشيطان، وما هو مكلَّف به من حَمل ثقل الطاعات، والجهد في العبادات من الصوم والصلوات، ومنع النفس عن الشهوات، المركوزة في الجبلة والعادات المطبوعة وما على النفس في البدن من الكلية، مع شدة هذه كلها يرى ويعتقد بأنه محبوس في هذه الدنيا إلى وقت معلوم، كما قال رسول الله ﷺ: «الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر»؛ لأن المؤمن المحق قد سَجَن نفسه بالمنع لها عن الشهوات والملاذ التي تراد الدنيا من أجلها. ومَن كان يرى ويعتقد أمر الحياة في الدنيا على هذه الحال، فهو لا يتصور أمر البعث ولا يتحقق أمر القيامة إلا مفارقة النفس الجسد بعد استقلالها بذاتها وتفرُّدها بجوهرها ومشاهدتها عالمها، ولا يَسأل ربَّه إلا اللحوق بأبناء جنسها من الماضين من عباد الله الصالحين من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين؛ كما سأل إبراهيمُ خليل الرحمن ربَّه في آخر دعائه فقال: وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ يريد بعد الموت؛ وهكذا يوسف الصديق: تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ يريد بعد الموت؛ فقال الله تعالى لمحمد نبيه ﷺ وعلى جميع النبيين: وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى؛ وقال عليه السلام: «أبى الله أن يجعل لأوليائه الخلود في الدنيا.»
فمن كان هذا رأيه واعتقاده فهو لا يتصور البعث والقيامة إلا مفارقة النفس الجسد، كما حُكي عن رسول الله ﷺ أنه قال: «من مات فقد قامت قيامته.»
ويحكى عن بعض مَن كان يعتقد هذا الرأي أنه لقي أخًا له من أهل رأْيِه فقال له: «كيف أصبحت يا أخي؟ فكيف حالك في هذه الدنيا؟» فقال: «بخير ونرجو خيرًا من هذا أن سلمنا من آفاتها وبلياتها إن شاء الله تعالى، فكيف أنت وكيف حالك؟» قال: «كيف تكون حال مَن يصبح في دار غربة أسيرًا فقيرًا لا يَقدِر على جَرِّ نَفْع ما يرجو، ولا دَفْع ضُرِّ ما يكره؟!» قال أخوه: «كيف ذلك؟» قال: «لأنهم قد يجازَوْن بما عملوا من خير أو شر أو عرفان أو انكار.»
واعلم يا أخي أن هذا الرأي والاعتقاد جيد للنساء والصبيان والجهَّال والعَوَام ومَن لا ينظر في حقائق العلوم ولا يعرفها.
وذلك أنهم إذا اعتقدوا هذا الرأي وتحققوا هذا الاعتقاد، يكون ذلك حثًّا لهم على عمل الخير وترك الشرور، واجتناب المعاصي وفعل الطاعات، وأداء الأمانات وترك الخيانات، والوفاء بالعهود وصحة المعاملة والنصيحة فيها وحسن الخلق، وخصال كثيرة محمودة تتبعها، ويكون ذلك صلاحًا لهم ولمن يعاملهم ويعاشرهم في الحياة الدنيا إلى الممات.
وأما من كان فوق هذه الطوائف في العلوم والمعارف فهو يرى ويعتقد بأن مع هذه الأجساد جواهر أُخر أشرف منها وأفضل، وليست بأجسام تسمى أرواحًا أو نفوسًا، فهو لا يتصور أمر البعث ولا يتحقق أمر القيامة إلا بردِّ تلك النفوس والأرواح إلى تلك الأجساد بعينها أو أجساد أُخر تقوم مقامها، ثم يحشرون ويحاسبون ويجازَوْن بما عملوا من خير أو شر، وهذا الرأي أَجْوَدُ وأقرب إلى الحقِّ، وفي اعتقادهم له صلاح لهم ولغيرهم كما تَقدَّم من قبلُ.
وأما من كان فوق هذه الطائفة في العلم والمعارف والدراية فهو يرى ويعتقد بأن الغرض من كون هذه النفوس والأرواح مع هذه الأجساد في الدنيا مدةً ما، هو مِن أجل أن تستقيم ذواتها وتكمل صورها وتخرج من حد القوة والكمون إلى الفعل والظهور، ولتستكمل أيضًا فضائلها من عرفانها أمر المحسوسات، وتخيُّلها رسومَ المعقولات، وتخرج بالآداب والرياضات، والنظر في العلوم الطبيعيات والإلهيات، وبالاعتبار والتجارب والتدبير والسياسات، وليكون ذلك سببًا لانتباه النفوس من نوم الغفلة ورقدة الجهالة، وتحيا بروح المعارف وتنفتح لها عين البصيرة لتنظر إلى عالمها الروحاني، وتشاهد دارها الحيواني، ويتبين لها أنها في عالم الغربة وموضع المحنة والبلوى، غريقة في بحر الهيولى مبتلاة في أسر الطبيعة، مشتعلة فيها نيران الهاوية الموقدة، المطلعة على الأفئدة، من حريق الشهوات أصبحنا في الدنيا معذبين في صورة المنعمين، مجبورين في صورة المختارين، مغرورين في صورة المغبوطين، أحرارًا كرامًا في صورة عبيد مهانين، مسلَّطًا علينا خمسة حكَّام يسوموننا سوء العذاب، ينفذون أحكامهم علينا شئنا أو أبينا، ليست لنا حيلة في الخروج عن أحكامهم، ولا دفع سلطانهم، ولا الخلاص من جورهم إلى الممات.
قال: أخبرني من هؤلاء الحكام؟ قال: نعم، أولهم هذا الفلك الدوار الذي نحن في جوفه محبوسون، وكواكبه السيارة التي لا تزال تدور علينا ليلًا ونهارًا لا تقر؛ تارة تجيئنا بالليل وظلمته وتارة بالنهار وحرارته، وتارة بالصيف وسمائمه وتارة بالشتاء وزمهريره، وتارة بالرياح العواصف في زعازعها وتارة بالغيوم وأمطارها، وتارة بالرعود والزوابع وصواعقها وتارة بالجدب والغلاء والموتات والبلاء، وتارة بالحروب والفتن وتارة بالهموم والأحزان. ليس منها نجاة إلا بجهد وبلوى وكدر وعناء وخوف ورجاء إلى الممات.
ثم قال: فهذا واحد، وأما الآخر فهو هذه الطبيعة وأمورها المركوزة في الجبلة من حرارة الجوع ولهب العطش ونار الشبق وحريق الشهوات والآلام والأمراض والأسقام وكثرة الحاجات! ليس لنا شغل ليلًا ولا نهارًا إلا طلب الحيلة لجر المنفعة أو لدفع المضرة عن هذه الأجساد المستحيلة التي لا تقف على حالة واحدة طرفة عين! فنفوسنا منها في جهد وبلاء وكدر وعناء وبؤس وشقاء! ليس لنا راحة إلى الممات، فهذان اثنان.
وأما الثالث فهو هذا الناموس وأحكامه وحدوده وأوامره ونواهيه ووعيده وزجره وتهديده وتوبيخه، إن خرجنا من أحكامه فضرب الرقاب والحدود، وإن فررنا منه لم نجد لذة العيش ولا صلاح الوجود في الوحدة، وإن دخلنا تحت أحكامه فما نقاسي من الجهد والبلوى في إقامة حدوده أكثر مما يحصى من ألم الجوع عند الصيام، وتعب الأبدان عند القيام للصلاة، ومقاساة برد الماء عند الطهارات، ومجاهدة شح النفوس عند إخراج الزكاة والصدقات الواجبات، ومشقة الأسفار والأحكام عند قضاء الحج والجهاد، وما نقاسي من الألم عند ترك اللذات والشهوات المحرمات! وإن لم نأتمر ولم ننتهِ، فالحدود والأحكام بحسب الجنايات، ومع هذه كلها كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ * ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ، فهذه حالنا ليس لنا منها خلاص ولا نجاة إلى الممات! فهذه ثلاثة.
وأما الرابع فهذا السلطان المسلط الجائر الذي قد ملك رقاب الناس بالقهر والغلبة واستعبدهم جبرًا وكرهًا، يتحاكم عليهم كما يشاء، ويرفع ويكرم من يريد ممن يخدمه ويطيعه ويتصرف بين يديه ويمتثل أمره ونهيه، ويضع ويبعد من خالفه، ويعذب ويقتل من خانه أو غشه! فإذا خرجنا من مملكته وفررنا من سلطانه فلا عيش لنا في الوجود في هذه الدنيا إلا عيشًا نكدًا؛ لأننا قد نحتاج في لذة العيش وصلاح المعاش إلى الجم الغفير من المتعاونين في المدن والقرى في إصلاح أمر المعاش، ولا بُدَّ لهم من سلطان يملكهم ويرأسهم ويحكم بينهم فيما يختلفون فيه ويتنازعون، ويمنع الظالمَ القويَّ من التعدي على الضعيف المظلوم، ويؤمن لخوفه السبل، ويأخذ الناس بلزوم سنة الناموس وتأدية موجبات فرائضه التي في إقامتها وحفظها صلاح الجميع، فلهذه العلة وبهذا السبب لا يمكنا الخروج من المملكة ولا الفرار من سلطانه، فإن خدمناه وقمنا بواجب طاعته فما نقاسي من الجهد والبلوى أكثر مما يحصى من تعب الأبدان، وهموم النفوس، وعناء الأرواح، وتَلَفِ الأجساد، واحتمال الذل، وشماته الحساد، ومداراة الإخوان، وعداوة الأقران، ومشقة الأسفار، ومخاوف الحروب، وما يتكلف من التعب والعناء في جمع الآلات والأثاث من السلاح والدواب وحوائجها ومرافقها مما لا يحصى عدها كثرة، وليس لنا منها راحة إلى الممات فهذه أربعة.
وأما الخامس فهو شدة الحاجة إلى المواد التي لا قوام لهذا الهيكل إلا بها من المأكولات والمشروبات واللباس والمسكن والمركب والأثاث، وما لا بُدَّ منه في قوام الحياة الدنيا، وما نقاسي من الجهد والبلوى في طلبها ليلنا ونهارنا في تعلم الصنائع والتجارات المتعبة والمكاسب المكدة؛ من الحرث والزرع والبيع والشراء والمناقشة في الحساب والحرص والشره وجمع الأموال وحفظها من حيل اللصوص ومكابرة القطاع، وأخذ السلطان لها بالجور والظلم، وحراستها من الآفات العارضة التي لا يحصى عددها، كل ذلك بالكد والعناء والهموم والغموم وتعب الأبدان وعناء الأرواح وشقاء النفوس التي لا راحة لنا منها إلى الممات.
فهذه حالنا يا أخي وحال أكثر أبناء جنسنا في هذه الحياة الدنيا؛ فأما من يريد المقام في الدنيا ويتمنى الخلود فيها مع هذه الآفات كلها، فهو من أجل إحدى خلَّتين: إما أنه لا يؤمن بالآخرة ولا يصدق بالمعاد ولا يتصور الوجود إلا هكذا، ويظن ويتوهم أن بعد الموت عدمًا أو شرًّا محضًا! فمن أجل هذا الرأي وهذا الاعتقاد يريد المقام في الدنيا ويتمنى الخلود فيها مع هذه الآفات كلها، ويكون معذورًا في تمنِّيه وإرادته الخلود؛ لأن في جبلة الخلائق وفي طبائع الموجودات محبة البقاء وكراهية الفناء مذكور ذلك.
فمن أجل هذه الخصال والشرائط يرضى أكثر أبناء الدنيا المقام فيها ويتمنون الخلود! فأما من قد تصور كيفية الدار الآخرة وتحقق أمر المعاد وعرف فضلها وشرفها وسرورها ولذاتها ونعيمها، فأيُّ عذر له في التمني للخلود في الدنيا مع ما قد عرف من آفاتها وشرورها وأحزانها ومصائبها وبلياتها؟! فاجتهدْ يا أخي في طلب معرفة الدار الآخرة وحقيقة أمر المعاد؛ لكيما تساق نفسك إليها بعد الفراق مع أهلك زمرًا، كما ذكر الله جل ثناؤه بقوله: وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا.
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أنك إن لم تعرف الدار الآخرة ولم تتحقق أمر المعاد قبل الممات، وكانت نفسك في الدنيا عمياء؛ فهي بعد الممات في الآخرة أعمى وأضل سبيلًا، وحوشيت يا أخي من ذلك إن شاء الله تعالى.
واعلم يا أخي أن المُقر بالآخرة المؤمن بالمعاد المصدق بها، لا يتصورها ولا يعرف حقيقتها إلا بعدما تنتبه نفسه من نوم الغفلة، وتنبعث من موت الجهالة، وتحيا بروح المعارف، وتنفتح عين البصيرة؛ فتبصر عند ذلك بنور الهداية ما هو مقرٌّ به ومصدق له، ويكون عند ذلك من أهل الأعراف، كما حُكي عن مستبشر لما سئل فقيل: كيف أصبحت؟ فقال: أصبحت مؤمنًا حقًّا! قيل: وما حقيقة إيمانك؟ قال: أرى كأن القيامة قد قامت، وكأني بعرش ربي بارزًا، وكأن الخلائق في الحساب، وكأني بأهل الجنة فيها منعمين، وأهل النار فيها معذبين. فقيل له: قد أصبتَ فالزم عين الطريق. وإليه وإلى أمثاله أشار جل ثناؤه بقوله: وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ * وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وهم الرجال الذين لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ (تعالى) فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ.
فهل لك يا أخي أن ترغب في صحبتهم وتسلك طريقهم وتطلب منهاجهم وتتخلق بأخلاقهم وتسير بسيرتهم وتنظر في علومهم؛ لتعرف مذهبهم وتعتقد رأيهم وتعمل مثل عملهم؛ لعلك تحشر معهم وتفوز بمفازتهم لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ، وهم أولياء الله وعباده الصالحون الذين استثناهم بقوله في قصة إبليس: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وقوله: إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ.
فإذا أردت يا أخي أن تعرف وتعلم أأنت منهم أم من غيرهم، فاعلم أن لهم علامات يُعرفون بها، وسمات يستدل عليهم بها: فمن علامات أولياء الله المبعوثين من موت الجهالة، المنبهين من رقدة الغفلة، المستبصرين بعين اليقين ونور الهداية، العارفين بحقائق الأشياء، الشاهدين حساب يوم الدين؛ أنهم قوم تستوي عندهم الأماكن والأزمان وتغايُر الأمور وتصاريف الأحوال؛ فقد صارت الأيام كلها عندهم عيدًا واحدًا وجمعة واحدة، وصارت الأماكن كلها لهم مسجدًا واحدًا، والجهات كلها قبلة ومحرابًا، أينما تولوا فثم وجه الله، وصارت حركاتهم كلها عبادة لله وسكوناتهم طاعة له، استوى عندهم مدح المادحين وذم الذامِّين، لا يأخذهم في الله لومة لائم، قيامًا لله بالقسط، شهداء لله بالحق، وهم على صلواتهم دائمون، وإنما استوت عندهم الأماكن كلها وصارت مسجدًا وقبلة ومحرابًا واحدًا لتصديقهم قول الله تعالى: فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ، وصاروا شهداء بمشاهدتهم له وتصديقهم قوله: مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.
وإنما استوت عندهم الأيام كلها فصارت جمعة وعيدًا لمشاهدتهم يوم القيامة الذي هو من أول ما بعث الله محمدًا عليه السلام إلى تمام ألف سنة كما قال ﷺ: «بعثت أنا والقيامة كهاتين.»
وأيضًا فإنما استوى عندهم تغايُر الأزمان وتصاريف الأحوال لتصديقهم قول الله تعالى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ * لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ، وصار دعاؤهم مستجابًا لأنهم لا يسألونه إلا ما يكون، ولا يكون إلا ما قدر في سابق العلم، فقلوبهم في راحة من التعلق بالأسباب، وأبدانهم فارغة من تكلف ما لا يعنى به، ونفوسهم ساكنة عن الوسواس، وهم في راحة من أنفسهم والناس منهم في راحة وأمان، لا يريدون لأحد سوءًا ولا يضمرون شرًّا لأحد من الخلق، عدوًّا كان أو صديقًا، مخالفًا كان أو موافقًا.
وهذه أيضًا حكاية أخرى، فهذه محاورات جرت بين رجلين أحدهما من أولياء الله تعالى وعباده الصالحين الذين نجاهم الله من نار جهنم، وأعتقهم من أسرها، وأخلص نفوسهم من عداوة أهلها، وأراح قلوبهم من ألم المعذبين فيها؛ والآخَرُ من الهالكين المعذبين فيها بألوان العذاب، المحرَقة قلوبُهم بحرارة عداوة أهلها، المتألمة نفوسهم بعقوباتها. قال الناجي للهالك: كيف أصبحتَ يا فلان؟ قال: أصبحتُ في نعمة من الله، طالبًا للزيادة، راغبًا فيها حريصًا على جمعها، ناصرًا لدين الله معاديًا لأعداء الله محاربًا لهم. قال الناجي: ومَن أعداء الله هؤلاء؟ قال: كل مَن خالفني في مذهبي واعتقادي. قال: وإن كان من أهل لا إله إلا الله؟ قال: نعم. قال: إن ظفرتَ بهم ماذا تفعل بهم؟ قال له: أدعوهم إلى مذهبي واعتقادي ورأيي. قال: فإن لم يقبلوا منك؟ قال: أقاتلهم وأستحل دماءهم وأموالهم وأسبي ذراريهم. قال: فإن لم تقدر عليهم، ماذا تفعل؟ قال: أدعو عليهم ليلًا ونهارًا وألعنُهم في الصلاة؛ كل ذلك تقربًا إلى الله تعالى. قال: فهل تعلم أنك إذا دعوتَ عليهم ولعنتهم يصيبهم شيء؟ قال: لا أدري! ولكن إذا فعلتُ ما وصفتُ لك وجدتُ لقلبي راحة، ولنفسي لذة، ولصدري شفاءً. وقال له الناجي: أتدري لمَ ذلك؟ قال: لا، ولكن قل أنتَ. قال: لأنك مريض النفس معذب القلب معاقَب الروح؛ لأن اللذة إنما هي خروج من الآلام، ثم اعلم أنك محبوس في طبقة من طبقات جهنم، وهي الحطمة نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة إلى أن تخلص منها وتنجو نفسك من عذابها إذا لقيت الله عز وجل كما وعد بقوله: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا. ثم قال الهالك للناجي: أخبرني أنت عن رأيكَ ومذهبك وحال نفسك كيف هي؟ قال: نعم، أما أنا فإني أرى أني قد أصبحت في نعمة من الله وإحسان لا أحصي عددها ولا أؤدي شكرها، راضيًا بما قسم الله لي وقدر، صابرًا لأحكامه، لا أريد لأحد من الخلق سوءًا، ولا أضمر لهم دغلًا، ولا أنوي لهم شرًّا، نفسي في راحة، وقلبي في فسحة، والخلق من جهتي في أمان! أسلمتُ لربي، مذهبي وديني دين إبراهيم عليه السلام! أقول كما قال: فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
فصل
ثم اعلم أن جهنم لها طبقات كثيرة، وهي الأهواء المختلفة والجهالات المتراكمة التي النفوس فيها محبوسة ومعها موقوفة، وقلوب أهلها معذبة منها بألوان من الآلام وهُم في العذاب مشتركون، كلما مضت منهم أمة فانقرضت خلفها قوم آخرون من تلاميذهم وأتباعهم في تلك المذاهب والآراء، وكلما دخلت من الآراء أمة لعنت أختها المخالِفة لها، كما ذكر الله تعالى في عدة سور من القرآن، قولَه في سورة الأعراف: كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا، أو في سورة أخرى يلعن بعضهم بعضًا ويتعايرون ويتنادرون ويتباغضون وهم في العذاب مشتركون، فهذه حالهم في الدنيا وفي الآخرة سواء وأشر لو كانوا يعلمون، وقاك الله وإيانا شرهم برحمته.
وأما ما قيل من تتعاطى علم النفس والطبيعة ما تقول يا أخي١ أن الصانع الذي بنى هذه المدينة — أعني جسد الإنسان — أهو الساكن فيها والمستعمل لها في هذه الساعة أو غيره؟ فإن كان المستعمل لها في هذه الساعة هو الذي بناها، فلِمَ لا يدري كيف بناها؟! ولِمَ لا يَذكر كيف كانت؟! فإنَّا نرى أصحاب التشريح لم تعرف٢ كيفية بنية هذا الجسد إلا بعد هدمه ونقضه وخرابه، وإن كان هذا الذي بنى هذه البنية هو غير المستعمل لها هذه الساعة، فتُرى بنَّاؤها بناها بنفسه أو بناها على يدي غيره، ثم سلمها إلى المستعمل لها دون ما فيها؟ أتَرى أن هذا المستعمل لهذه البنية هو تلميذ ذلك الصانع الذي بنى هذه المدينة، أو ابن له كان في ذلك الوقت صبيًّا جاهلًا وصار الساعة بالغًا عاقلًا حكيمًا، وإنما كان بالقوة فيخرج الآن إلى الفعل والظهور؟ أفتِنَا، أيدك الله في ذلك، واهدنا إلى سواء الصراط مأجورًا.
فصل
ذكروا أن ملكًا كان عظيم الشأن عزيز السلطان واسع المملكة كثير الجنود والعبيد وُلِدَ له وَلَدٌ ذكر، كان أقرب الخلق شبهًا به وإلى والديه، طبعًا وخلقًا.
فلما تربى ونشأ وكمل ولَّاه أبوه بعض مملكته، وأمر جنوده وعبيده بطاعته، وأوصاه بحسن سياستهم، وأباحه جميع النعمة، غير أنه نهاه عن مرتبته فمكث الابن زمانًا طويلًا قدر نصف يوم متنعمًا ملتذًّا، إلا أنه كان غارًا ساهيًا، فحسده بعض عبيد أبيه ممن كان رئيسًا قبله، فقال له: إنك لست تعرف نعمة ولا تجد لذة لأنك منهي عن أرفع لذة ونعمة وممنوع من ألذ شهوة، فإن بادرت وطلبت الملك سبقت إليه. فاغتر بقوله لأنه كان غرًّا جهولًا وطلب ما ليس له أن يتناوله قبل حينه ويطلبه قبل وقته، فسقطت مرتبته وانحطت درجته عند أبيه، وبدت له سوأته واستبانت له خطيئته، فهرب خوفًا من أبيه ذاهبًا في مملكته شبه المستتر، فلقي العناء وأصابته البأساء والضراء، وقاسى الجهد والبلاء، فتذكر يومًا ما كان فيه من نعمة أبيه، فحزن على ما فاته وبكى أسفًا ثم نعس فنام فحمل إلى أبيه، فقال: دعوه نائمًا إلى يوم الجمعة. ثم رزق في اليوم الثاني ابنًا آخر أشبه الناس بأخيه، فتربى ونشأ وكمل ونما وكان حليمًا وقورًا شكورًا صبورًا، فولاه أبوه بعض مملكته وأمرهم بطاعته وأوصاه بسياستهم ودعاهم وأمرهم ونهاهم، فلم يسمعوا له ولم يطيعوا أمره لأنه كان شبه زحل! بل آذوه فصبر زمانًا ثم شكى إلى أبيه فغضب عند ذلك عليهم ورمى أكثرهم إلى الماء.
فلما رأى ما أصابهم اغتم وحزن ونعس ونام وحمل إلى أبيه، فقال: اتركوه نائمًا إلى يوم الجمعة. ثم إنه رزق في اليوم الثالث ابنًا آخر، وكان أشبه الناس بأخويه اللَّذَين تقدم ذكرهما، فتربى ونشأ وكمل ونما، وكان خيرًا فاضلًا عالمًا محجاجًا، فولاه أبوه مكان أخويه وأمر الرعية بطاعته وأوصى إليه مما أوصى إلى أخويه، فدعاهم وأمرهم ونهاهم، فلم يسمعوا له ولم يطيعوه؛ لأنه كان أشبه بالمشتري، وفزعوه بالنار، فذهب إلى أبيه وبنى له هيكلًا ونذر له قربانًا وعمل مناسك، ونادى في الناس هلموا تعالوا لتروا ما لم تروا وتسمعوا ما لم تسمعوا، ثم نام وحمل إلى أبيه، فقال: اتركوه نائمًا إلى يوم الجمعة. وبقي نداؤه في مسامع النفوس؛ يتوارثونه من غير أن يسمعوه، ويذهبون إلى هيكله فيرون ظاهره ومرآه ما لا يبصرون، ويفعلون سنَّة مناسكه ولكنهم معناها لا يفهمون؛ لأنهم صم بكم عمي فهم لا يعقلون.
وأعيذك أيها الأخ أن تكون منهم، وانظر بنور عقلك في رسالة أفعال الروحانية لعلك تعرف ما قلنا وتفهم ما أشرنا إليه، ثم إنه رزق في اليوم الرابع ابنًا آخر، فتربى ونشأ وكمل ونما، وكان جلدًا قويًّا جريئًا مقدامًا، فولاه أبوه مكان إخوته وأمر الرعية بطاعته وأوصى إليه بما كان أوصى إلى إخوته، فدعاهم وأمرهم ونهاهم فلم يسمعوا له ولم يطيعوه؛ لأنه كان شبه المريخ! وبارزوه وبارزهم وناوشوه وناوشهم، وكان مؤيدًا بقوة أبيه، فغلبهم وبدد شملهم وفرق جمعهم وشتت ألفتهم ورماهم في البر والبحر.
ثم بقي وحيدًا كالغريب يدعو فلا يجاب ويأمر فلا يهاب! فاغتم وحزن ونعس ونام وحمل إلى أبيه، فقال: دعوه نائمًا إلى يوم الجمعة. ثم إنه رزق في اليوم الخامس ابنًا آخر أشبه الناس بأخيه الأول، فتربى ونشأ وكمل ونما، وكان هاديًا رشيدًا طيبًا رفيقًا، فولاه أبوه مكان إخوته وأمر الرعية بطاعته وأوصى إليه بما أوصى إلى إخوته، ودعاهم وأمرهم ونهاهم فلم يتبعوه إلا قليلًا، ولم يطيعوه إلا يسيرًا، إلا أنه كان يشبه الزهرة.
ثم وثبوا عليه فأخذوا منه القميص الذي خاطت أمه، فذهب إلى أبيه فاستنفر عليهم بجنوده وأيده بروح منه، فسرى في نفوسهم وتحكم في لاهوتهم بدلًا وقصاصًا لما تحكموا في ناسوته! وأراد أن ينزل من الرأس، فقال أبوه: اصبروا إلى يوم الجمعة. ثم قال أبوهم في اليوم السادس للنجوم: اختاروا لابني الذي يشبه عطارد يومًا لينزل إلى عالم الكون والفساد، فينبه إخوته النيام ويناديهم إلى حقه، فقد رضيت عنهم، ويأمرهم بالاستعداد للصلاة، فإن غدًا هو العيد يوم الجمعة. فيبرز القضاة ويحكم بينهم فيما كانوا فيه يختلفون، فاجتمعت سادة النجوم ورؤساء الكواكب في بيت المريخ وتشاوروا بينهم.
فقال رئيس الكواكب وملكها الشمس: أنا أختار له من قوتي وأزوده من فضائلي العظمة والرياسة والسلطان والعز والرفعة والبهجة والبهاء والمدح والثناء والبذل والعطاء. وقال شيخهم كيوان: أنا أختار له من قوتي الحلم والوقار والصبر والثبات وبُعد الغور وعلو الهمة والحفظ والأمانة والفكر والروية.
وقال برجيس القاضي العدل: أنا أختار له من قوتي وأزوده الدين والورع والخير والصلاح والعدل والإنصاف والحق والصواب والصدق والوفاء والصيانة والمروءة. قال بهرام صاحب الجيوش: أنا أختار له من قوتي وأزوده من فضائلي العزم والصرامة والنجدة والشجاعة والهمة والبسالة والظفر والغلبة والبذل والسخاء والتيقظ. وقالت الناهيد أخت النجوم: أنا أختار له من قوتي وأزوده من فصائلي الحسن والجمال والتمام والكمال والرأفة والرحمة والزينة والنظافة والحب والمودة والسرور واللذة.
وقال أخوهم الأصغر، وهو أخفاهم منظرًا، وأجلهم مخبرًا، الذي صَنْعَتُه أظهر، وعلومه أكثر، وعجائبه أشهر وأزهر: أنا أختار له من قوتي وأزوده من فضائلي وأسوِّي٣ إليه من مناقبي الفصاحة والنطق والتمييز والفطنة والنظر واللطافة والقراءة والنغمة والعلوم والحكمة. وقالت أم النجوم وهي القمر: أنا أرضعه وأربيه وأختار له من قوتي وأزوده من فضائلي النور والبهاء والزيادة والنماء والحركة في الأقطار الثلاثة والتنقل في الأسفار وبلوغ الآمال والسير والأخبار وعلم مواقيت الآجال.
ثم إنه دارت الأفلاك وتمخضت قوى الروحانيات واستبشر أهل السموات، ونزل إلى عالم الكون في ليلة القدر قبل طلوع الفجر صاحب النشور لينفخ في الصور، فمكث هذا المولود في الرحم أربعين يومًا من أيام الشمس، وعشرين يومًا في الرضاع حتى تربى ونشأ وكمل ونما، وكان أشبه الناس بأخيه الثالث شبهًا لأنه كان يشبه عطارد الذي هو أخو المشتري لتقابُل بينهما وتربيعهما وتقابل فلكهما، فصار هذا المولود من بين إخوته أتمَّهم جثة وأكملهم صورة، وكان أديبًا عالمًا حكيمًا ملكًا عزيزًا إمامًا عادلًا نبيًّا مرسلًا، فولاه أبوه مملكته ومملكة إخوته كلها؛ فظهر وقهر من خالفه، ورفع وأعز من وافقه، وتحكم في مملكته نحوًا من ثلاثين يومًا من أيام الشمس، ثم أعجبته نفسه فأصابته العين، فاعتل وبقي على الفراش نحو ألف يوم من أيام القمر مرفه الجسم عليل النفس، ثم تحول إلى دار أخرى ونهض قليلًا ومشى وقوي ونشط وانبسط وشرب من حب الدنيا وغرورها وأمانيها، فسكر من خمر شهواتها ودخل إلى كهف أبيه ونام مع إخوته فمكثوا زمانًا طويلًا، فلما انقضى دور الرقاد وتقارب الميعاد ناداهم أبوهم: ألم يأن لكم أن تنتبهوا من نومكم وتستيقظوا من غفلتكم وتذكروا ما نسيتم من أمر مبدئكم، وترجعوا إلى معادكم من أسفاركم؛ إذ لكل ابتداء انتهاء، ولكل حياة فناء، ولكل موت ونائم انتباه؟ وبادروا إلى معادكم من غربتكم؛ فقد تم خلق السموات السبع في ستة أيام وغدًا يوم الجمعة يستوي ربكم على العرش يحمله يومئذ ثمانية!
فانتبهت لذلك الإخوة الذين قيل لهم إنهم سبعة وثامنهم كلبهم بعد رقدتهم ثلاثمائة سنة وأربعة وخمسين يومًا من أيام الشمس بحساب القمر يتذاكرون كم لبثوا في كهفهم! فقال أبوهم لأخيهم: فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا، فأخفوا وكتموا أسرارهم لأنه مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
فافهم يا أخي هذه الإشارات والتنبيهات وقِسْ على ذلك نظائرها، ولا تفشِ الأسرار لعلك تنتبه من نوم الغفلة ورقدة الجهالة قبل أن ينفخ في الصور وقبل أن ينادي منادٍ للصلاة من يوم الجمعة فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ، وقبل أن يحشر المجرمون إلى جهنم وِرْدًا، وتزوَّدْ من الدنيا فإنك راحل وإِن خير الزاد التَّقْوَى واتَّقُونِ يا أُولِي الألباب، ولا تَبْغِ الفساد في الأرض، قد أَفْلَح مَن زَكَّاها وقد خاب مَن دَسَّاها.
وفَّقك الله وإيانا وجميع إخواننا إلى طريق السداد، إنه رءوف بالعباد.
(تمت رسالة البعث والقيامة ويليها رسالة في كمية أجناس الحركات.)