الرسالة الثالثة
في معنى قول الحكماء إن العالم إنسان كبير
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ
(١) فصل
اعلم أيها الأخ البار الرحيم، أيدك الله وإيانا بروح منه، أنَّا قد فرغنا من ذكر مراتب المبادئ العقلية على رأي إخوان الصفاء وبيَّنَّا فيها بكلام مشبع أن الوجود متقدم على البقاء، والبقاء متقدم على التمام، والتمام متقدم على الكمال، ونريد الآن أن نذكر في هذه الرسالة معنى قول الحكماء «إن العالم إنسان كبير» فنقول:
اعلم أن قول الحكماء «إن العالم إنسان كبير» وقولهم «إن الإنسان عالم صغير» يجب أن نشرح معناه لتقف على حقيقته؛ معنى ذلك أن العالم له جسم ونفس يَعْنُون به الفلك المحيط وما يحوي من سائر الموجودات من الجواهر والأعراض، وأن حكم جسمه بجميع أجزائه البسيطة والمركبة والمولدة يجري مجرى جسم إنسان واحد أو حيوان واحد بجميع أعضاء بدنه المختلفة الصور المفننة الأشكال، وأن حكْم نفسه بجميع قواها السارية في أجزاء جسمه المحركة المدبرة لأجناس الموجودات وأنواعها وأشخاصها، كحكْم نفس إنسان واحد أو حيوان واحد، السارية في جميع أعضاء بدنه ومفاصل جسده، المحركة المدبرة لعضوٍ عضوٍ وحاسَّةٍ حاسَّةٍ من بدنه، وذلك قول الله تعالى: مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ، وإذا قلنا نحن في رسائلنا: «الجسم الكلي» فإنما نعني به جسم العالم بأسره، وإذا قلنا «النفس الكلية» فإنما نعني بها نفس العالم بأسرها، وإذا قلنا «العقل الكلي» فإنما نعني به القوة الإلهية المؤيدة للنفس الكلية، وإذا قلنا «الطبيعة الكلية» فإنما نعني بها قوة النفس الكلية السارية في جميع الأجسام المحركة المدبرة لها المظهرة بها ومنها أفعالها وآثارها، وإذا قلنا «الهيولى» فإنما نعني به الجوهر الذي له طول وعرض وعمق فهو بها جسم مطلق، وإذا قلنا «الأجسام البسيطة» فإنما نعني بها الأفلاك والكواكب والأركان الأربعة التي هي النار والهواء والماء والأرض، وإذا قلنا «الأنفس البسيطة» فإنما نعني بها قوى النفس الكلية المحركة المدبرة لهذه الأجسام السارية فيها، وهذه القوى نسميها الملائكة الروحانيين في رسائلنا، وإذا قلنا «الأنفس الحيوانية والنباتية والمعدنية» فإنما نعني بها قوى النفس البسيطة المحركة المدبرة لهذه الأجسام المولدة السارية فيها المظهرة بها ومنها أفعالها.
فإذا قلنا «الأجسام الجزئية» فإنما نعني بها أشخاص الحيوانات والنبات والمعادن وغيرها من المصنوعات على أيدي البشر وغيرهم من الحيوان.
وإذا قلنا «الأنفس الجزئية المتحركة» فإنما نعني بها قوى النفوس الحيوانية والنباتية والمعدنية السارية في الأجسام الجزئية المحركة المدبرة لها المظهرة بها ومنها أفعالها واحدًا واحدًا من الأشخاص الموجودة تحت فلك القمر؛ فقد بان بهذا أن مجرى حكم العالم ومجاري أموره بجميع الأجسام الموجودة فيه، مع اختلاف صورها وافتنان أشكالها وتغاير أعراضها، يجري مجرى جسم الإنسان الواحد من الناس أو الحيوان الواحد بجميع أجزائه المختلفة الصور ومفاصله المفننة الأشكال وهيئته المتغايرة الأعراض، وأن حكْم سريان قوى نفس العالم في جميع أجزاء جسمه كحكْم سريان قوى نفس إنسان واحد في جميع أجزاء بدنه ومفاصل جسده.
(٢) فصل
واعلم أيها الأخ البار الرحيم، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن العالم الذي سميناه إنسانًا كبيرًا، في أجزائه ومجاري أموره، أمثلة وتشبيهات دالات على مجاري أحكام العالم الذي هو إنسان صغير، فنريد أن نذكر من تلك الأمثلة طرفًا ليكون أقرب لفهم المتعلمين، ومن يريد أن يفهم حكم العالم ومجاري أموره في فروع الموجودات التي في العالم من أصولها، تلك الأصول من أصول آخر قبلها إلى أن تنتهي إلى أصل يجمعها كلها، كمثل شجرة واحدة لها عروق وأغصان وعليها فروع وقضبان، وعلى تلك الفروع والقضبان أوراق وتحتها نور وثمار لها لون وطعم ورائحة، ومن وجه آخر مجاري حكْم الموجودات التي في العالم، فروعها من أصولها وأصولها من أصولٍ أُخر، إلى أن تنتهي كلها إلى أصل واحد كمجرى حكم جنس الأجناس الذي تحته أنواع تسمى جنس المضاف، وتحتها أنواع تسمى أنواع المضاف، وتحت تلك الأنواع أشخاص كثيرة مختلفة الصور والأشكال والهيئات والأعراض، لا يحصي عددها إلا الله عز وجل.
ومن وجه آخر مثل هذه الموجودات الجنسية والنوعية والشخصية مع جنس الأجناس كمثل قبيلة لها شعوب، ولشعوبها بطون، ولبطونها أفخاذ، ولأفخاذها عمائر ولها عشائر وأقارب.
ومن وجه آخر مجرى حكم العالم في جميع موجوداته كمجرى حكم شريعة واحدة فيها مفروضات كثيرة، ولتلك المفروضات سنن مختلفة، ولتلك السنن أحكام متباينة، ولتلك الأحكام حدود متغايرة يجمعها كلها دين واحد لأهله مذاهب مختلفة، ولكل أهل مذهب مقالات متغايرة، وتحت كل مقالة أقاويل كثيرة مفننة.
ومن وجه آخر حكْم العالم ومجاري أموره من فنون تركيب أفلاكه، واختلاف حركات كواكبه، واستحالة بعض أركانه إلى بعض، وتولُّد اختلاف الكائنات المختلفة الأشكال، وافتنان أجناس نباته وفنون جواهر معدنه، وسريان قوى النفس الكلية في هذه الأجسام وتحريكها إياها وتدبيرها لها وبها، ومنها كمجرى حكم دكان لصانع واحد وله فيه أدوات وآلات مختلفة الصور وله بها ومنها أفعال وحركات مفننة ومصنوعاتها مختلفات الصور والأشكال والهيئات وقوة نفسه سارية فيها كلها وحكمه جارٍ عليها بحسب ما يليق بواحد واحد منها.
ومن وجه آخر مجاري أحكام الموجودات الجسمانية في العالم مع اختلاف صورها وأعراضها ومنافعها للنفس الكلية كمجرى حكم دار فيها بيوت وخزائن، وفي تلك الخزائن آلات وأوانٍ وأثاث لرب الدار، وله فيها أهلٌ وخدم وغلمان، وحكمه جارٍ فيها وفيهم جميعًا، وتدبيره لهم منتظم على أتقن ما تقتضيه السياسة الربانية والعناية الإلهية.
ومن وجه آخر حكْم العالم الذي هو إنسان كبير ومجاري أموره في الأجسام الكليات والبسائط والمولدات والمركبات الجزئيات، وارتباط بعضها ببعض وإحاطة بعضها ببعض من تركيب أفلاكه ونظام كواكبه ومقادير أجرامها، وترتيب أركانه واستحالاتها وقرار معادنه واختلاف جواهرها وأنواع نباته وثبات أصولها، وحركات حيوانه وتصرفها لمعايشها وسريان قوى النفس الكلية من أولها إلى آخرها؛ كحكم مدينة حولها أسوار وفي داخلها محالٌّ وخانات ونواحٍ فيها شوارع وطرقات وأسواق في خلالها منازل ودُورٌ فيها بيوت، وخزائن فيها أموال وأمتعة وأثاث وآلات وحوائج يملكها كلها ملك واحد له في تلك المدينة جيوش ورعية وغلمان وحاشية وخدم وأتباع، وحكمه جارٍ في رؤساء جنده وأشراف مدينته وتُنَّاء بلده، وحكم أولئك الرؤساء والأشراف والتُّنَّاء١ جار في أتباعهم وحكم أتباعهم فيمن دونهم إلى آخره، وإن ذلك الملك يَسُوس تلك المدينة وأهلَها على أحسنها من مراعاة أمورهم واحدًا واحدًا؛ صغيرهم وكبيرهم أولهم وآخرهم لا يخل بواحد منها.
فهكذا يجري حكم النفس الكلية في جميع أجزاء العالم من الأفلاك والكواكب والأركان والمولدات والمركبات والمصنوعات على أيدي البشر، كجريان حكم ذلك الملك على تلك المدينة.
وكذلك يسري حكمها في الأنفس البسيطة والجنسية والنوعية والشخصية في تصريفها لها وتحريكها وتدبيرها للموجودات الجسمانية وأجناسها وأنواعها وأشخاصها؛ صغيرها وكبيرها وأولها وآخرها وظاهرها وباطنها.
ثم اعلم أنَّ مَثل النفس الكلية كجنس الأجناس، والأنفس البسيطة كالأنواع لها، والأنفس التي دونها كنوع الأنواع، والأنفس الجزئية كالأشخاص؛ مرتبة بعضها تحت بعض كترتيب العدد.
فالنفس الكلية كالواحد، والبسيطة كالآحاد، والجنسية كالعشرات، والنوعية كالمئات، والأنفس الجزئية الشخصية كالألوف؛ وهي التي تختص بتدبير جزئياتِ الأجسامِ والأنفسُ النوعية مؤيدةٌ لها، والجنسية مؤيدة للنوعية، والنفوس البسيطة مؤيدة للجنسية.
والنفس الكلية التي هي نفس العالم مؤيدة للنفوس البسيطة، والعقل الكلي مؤيد للنفس الكلية، والباري — جل ثناؤه — مؤيد للعقل الكلي؛ فهو مبدعها كلها ومدبِّر لها من غير ممازجة لها ولا مباشرة، فتبارك الله أحسن الخالقين.
ثم اعلم أيها الأخ كما أن في تلك المدينة رجالًا ونساءً ومشايخ وشبانًا وصبيانًا، فمنهم أخيار وأشرار وعلماء وجهال ومصلح ومفسد، وأقوام مختلفو الطباع والأخلاق والآراء والأعمال والعادات؛ فهكذا في العالم الكبير نفوس كثيرة بسيطة كلية وجزئية مختلفات الحالات: فمنها نفوس علامة خيرة فاضلة، ومنها نفوس علامة شريرة رذلة، ومنها جاهلة شريرة، ومنها جاهلة غير شريرة.
فالنفوس العلامة الخيرية الفاضلة هي أجناس الملائكة وصالحو المؤمنين والعلماء من الجن والإنس، والعلامة الشريرة مَرَدَة الشياطين وسَحَرَة الجن والفراعنة والدجالون من الناس، والجاهلة الشريرة أنفس السباع الضارية والجهال الأشرار من الناس، والجاهلة غير الشريرة أنفس بعض الحيوانات السليمة كالغنم والحمام وغيرها من الحيوان.
(٣) فصل
إن أجساد بعض الحيوانات حبوس لنفوسها ومطامير لها، وبعضها صراط يجوزون عليه، وبعضها برزخ إلى يوم يبعثون، وبعضها أعراف لها، هم عليها واقفون.
وقد بيَّنا هذه المعاني في رسالة أخرى، وكما أن لأهل تلك المدينة فيها مساجدَ وبِيَعًا وصلواتٍ، ولأهل العلم والدين فيها مجالسَ وجماعاتٍ وأعيادًا وصلواتٍ، فهكذا يجري في فضاء الأفلاك وسعة السموات للملائكة جموعٌ وتسابيحُ ودعواتٌ، كما ذكر الله تعالى: يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ، وقال الله تعالى: وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ. وكما أن في تلك المدينة لأهلها فيها حبوس ومطامير، عليها شرط وأعوان، فهكذا في العالم الكبير للنفوس الشريرة جهنم ونيران وهاوية، عليها ملائكة غلاظ شداد، وهو عالم الكون والفساد.
ثم اعلم أيها الأخ أنه ليس كل نفس وردت إلى عالم الكون والفساد تكون محبوسة فيه، كما أنه ليس كل مَن دخل الحبس يكون محبوسًا فيه، بل ربما دخل الحبس مَن يقصد إخراج المحبوسين منه، كما أنه قد يدخل بلاد الروم من يستنقذ أسارى المسلمين، وإنما وردت النفوس النبوية إلى عالم الكون والفساد لاستنقاذ هذه النفوس المحبوسة في حبس الطبيعة الغريقة في بحر الهيولى الأسيرة في الشهوات الجسمانية.
وكما أن المحبوس إذا اتبع مَن دخل الحبس لإخراج خرج ونجا، كذلك من اتبع الأنبياء في شرائعهم وسننهم ومناهجهم نجا وتخلص من جهنم، وخرج من عالم الكون والفساد، ونجا وفاز ولو كان بعد حين، كما روي عن النبي ﷺ أنه قال: «لا يزال يخرج من النار قوم بعد قوم من أمتي بعدما دخلوها حتى لا يبقى في النار أحد ممن قال لا إله إلا الله مخلصًا في دار الدنيا»، وذلك قول الله تعالى: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا، وكما أن في تلك المدينة لأهلها جنانًا وميادين وأنهارًا وبساتين وفيها مجالس لنزهة النفوس وبهجة وسرور ولذة ونعيم.
فهكذا في فضاء الأفلاك وسعة السموات لأهلها فيها فسحة وجنان وروح وريحان ونعمة ورضوان، كما ذكر في التوراة والإنجيل والقرآن من وصف الجنان.
فافهم يا أخي هذه الإرشادات والتنبيهات، وانتبه من نوم الغفلة ورقدة الجهالة، وقد روي في الخبر أن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تسرح في الجنان بالنهار على رءوس أشجارها وأنهارها وأزهارها، وتأوي بالليل إلى قناديلَ معلَّقةٍ تحت العرش، وذلك قول الله تعالى: وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ، وكما أن لأهل تلك المدينة فيها لأهلها صناعًا وعمالًا لهم أجرة وأرزاق، وفيها باعة وتجار يتعاملون بموازين ومكاييل، ولهم مظالم وخصومات، ولهم فيها قضاة وعدول، ولهم فقه وأحكام وفصول وقضايا، وإن من سُنة القضاة البروزَ والجلوسَ لفصل القضايا، في كل سبعة أيام يوم واحد، فهكذا يجري حكم النفس الكلية في الأنفس الجزئية في كل سبعة آلاف سنة مرة تعرض النفوس الجزئية لدى النفس الكلية، فتبرز النفس الكلية لفصل القضايا بينها بالحق، فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ.
وروي عن النبي ﷺ أنه قال: «عمر الدنيا سبعة آلاف سنة بعثت في آخر ألف منها»، وقال: «لا نبي بعدي»، وعلى آخر هذه المدة تقوم الساعة. وإلى هذه المدة أشار بقوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ، وهذا الخطاب كان يوم الميثاق، وهو يوم العرض الأول، ويوم القيامة هو يوم العرض الثاني الكائن بينهما مدة سبعة أيام، كل يوم كألف سنة كما قال الله تعالى: وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ وإلى هذا اليوم أشار بقوله تعالى: وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ وقال: يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ وقال: كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ.
وكما أن يوم الحكم يَقعد القضاة ويُحضِرون العدول ويُدعَى الشهود ويُحشرون هم والخصوم، وتخرج الصكوك ويفصل الحكم، فهكذا يوم عرض الحبوس يخرج الوالي ويحضر الأعوان ويُخرِجون المحبوسين، ونتبين براءة قوم منهم فيُطلَقون، وقوم تقام عليهم الحدود ويخلون، وقوم يخلدون في الحبس إلى يوم الفصل الثاني. وهكذا يوم عرض النفوس، يخرج الوالي ويخرج الدواوين ويحضر الكتاب ويدعو المنيبين للعرض وتعطى أرزاق المستحقين، ويزاد قوم وقوم ينقصون، ويثبت قوم وقوم يسقطون، وهكذا تجري حكم النفس الكلية في الأنفس الجزئية يوم الدين؛ لأن الله تعالى جعل أحكام الدنيا ومجاري أمورها أمثلة، وأشار بها إلى أحوال القيامة ومجاري أمورها، فاعتبروا يا أولي الأبصار، وتيقنوا يا أولي الألباب مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللهِ بَاقٍ، وإنما ذكر الله الميزان والوزن والعدد يوم الحساب لأن النصفة بين الناس لا تتبين لهم إلا بالكيل والوزن والعدد والذرع، وهذه كلها كالموازين تعرف بها مقادير الأشياء؛ فمن أجل هذا ونضع الموازين القسط ليوم القيامة، ولم يقل ونضع الميزان، فإنْ تَوَهَّمَ مُتَوَهِّمٌ أن الذي وعده النبي ﷺ الناس يوم القيامة من وزن الأعمال من الخير والشر، وهذه أعراض لا تثبت وتتبين، فكيف يكون وزنها؛ فلْيعلم أن الوزن إنما يحتاج إليه ليعلم مقدار الشيء ليقابل بمثله أو يزداد عليه أو ينقص منه، وهذا المعنى شائع في الأعراض، جارٍ فيها مثل العَروض الذي هو ميزان الشعر الذي به يعرف استواؤه وزائده وناقصه.
والشعر عرض من الأعراض، ومثل البنكان والإسطرلاب وأمثالها من الآلات يعرف بها مقادير الزمان من الزيادة والنقصان والاستواء، والزمان عرض من الأعراض، ومثل الذراع الذي يعرف به الطول والقصر والبعد والقرب والكبر والصغر، وهي أعراض كلها، ومثل المسطرة والبركار يعرف بهما الاستواء والاعوجاج وهما عرضان، ومثل الصنجات والأرطال يعرف بهما الثقل والخفة والزيادة والنقصان، وهي أعراض كلها، فالذي ينكره المتوهم أن يكون لأعمال الخير والشر ميزان يعرف به مقدار الخير والشر وله قوم يعرفون كيفية وزن الأعمال وهي صناعتهم، كما أن لتلك الموازين التي ذكرنا، لكلِّ واحدٍ منها قومٌ هي صناعتهم، وإخواننا الفضلاء هم أهل هذه الصناعة وإليها ندعو إخواننا الباقين.
(تمت الرسالة، وبعد هذه زيادة لم توجد في سائر النسخ ولعلها زيدت من رسائل متقدمة.)
(٤) فصل في أن العالم بأسره كرة تنفصل إحدى عشرة طبقة
اعلم أيها الأخ البار الرحيم، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن العالم بأسره كرة واحدة تنفصل إحدى عشرة طبقة؛ تسع منها هي أفلاك كريَّات مجوفات مشفَّات وكواكبها أيضًا كلها كريات مستديرات مضيئات، وحركتها كلها دورية، وذلك أن الفلك المحيط بجميع ما يحوي من الأفلاك والكواكب يدور حول الأرض في كل أربع وعشرين ساعة دورة واحدة، وكذلك كل كوكب يدور في فلك مختص به أو دائر حركة دورية في زمان معلوم، وكلما دارت دورة استأنفت ثانية كما وصفنا في رسالة مدخل النجوم ورسالة السماء والعالم ورسالة الأدوار والأكوار، ودون فلك القمر كرتان إحداهما النار والهواء، والأخرى الماء والأرض، وكل واحدة منها كُرِيَّة الشكل، محيطات أواخرها متصلة بأوائلها، بيان ذلك أن النار متصل أولها بفلك القمر وآخرها بطبيعة الزمهرير، والزمهرير آخره متصل محيط بالماء والأرض كما ذكرنا في رسالة الآثار العلوية، وأما الأرض بجميع جبالها وبحارها فهي كرة واحدة، فإذا اعتبر شكل الجبال والأنهار على بسيط الأرض وتأمل، تبين أن كل واحد منها كأنه قطعة قوس من محيط الدائرة، وأما أشكال البحار فكل واحد كأنه قشر من سطح جسم كري.
فصل
وهكذا أحوال الكائنات إذا اعتبرت وتأملت تَبيَّن أن أكثرها كريات الشكل ومستديرات؛ من ذلك أن أكثر الأشجار وأوراقها وحب النبات ونوارها كريات الأشكال ومستديرات، وهكذا أكثر مصنوعات البشر كما بيَّنا في رسالة الهندسة، وأما أحوالها فدائرة أيضًا بعطف أوائلها على أواخرها مثل دوران الزمان من الشتاء إلى الربيع، ومن الربيع إلى الصيف، ومن الصيف إلى الخريف، ومن الخريف إلى الشتاء، وهكذا دوران الليل والنهار حول كرة الأرض كما بيَّنا في رسالة الهيولى.
وكذلك الحكم في دوران مياه الأنهار والبحار والغيوم والأمطار، فإنها كالدولاب الدائر، وذلك أن الغيوم والسحاب تنشأ من البخار الصاعد من البحار والأنهار، وتسوقها الرياح إلى القفار ورءوس الجبال، وتمطر هناك فتجتمع السيول إلى الأودية والأنهار، فتذهب راجعة إلى البحار ثم تصعد ثانية، وذلك تقدير العزيز العليم. وكذلك حال النبات وتكوينه من التراب والماء والنار والهواء، ورجوعه إليها في دورانها كالدولاب، وذلك أن النبات يبدو وينشأ ويتم ويكمل، حتى إذا بلغ إلى أقصى غاياته ومنتهاها رجع عند البلى والفساد إلى ما تكون منه، وبيان ذلك أن النبات يمتص بعروقه لطائف الأركان ويصير منه ورق وثمار يتناولها الحيوان بالاغتذاء فتستحيل في بعض أبدانه لحمًا ودمًا، وبعضها ثقلًا وسمادًا، ويردُّ إلى أصول النبات ليغتذي منه ويصير حبًّا وثمارًا ثانيًا ويتناوله الحيوان أيضًا، فإذا تأمل هذا من حالها وجد كأنه دولاب دائر.
وأما أجسام الحيوان فإنها كلها تعود إلى التراب وتبلى وتصير ترابًا، ويكون منها ثانيًا النبات ومن النبات حيوان كما بيَّنا قبل، فإذا تأمل ذلك أيضًا وجد كأنه دولاب يدور، وأما أحوال البشر إذا اعتبرت فكلها دائرة كالدواليب؛ وذلك أن الإنسان يبتدئ كونه من النطفة ثم ينشأ وينمو ويتم ويبلغ إلى أن يتولد منه النطفة فينتهي العود إلى حيث خرج لقضاء شهوته ونتاج مثله؛ وكذلك بدء كونِه ناقصُ القوة ضعيف البنية ثم يرتقي ويتزايد إلى أن يبلغ أشده، ثم يأخذ في الانحطاط والنقص إلى أن يردَّ إلى أرذل العمر، كما كان بديًا، وكما ذكر سبحانه فقال: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ، وكما قال سبحانه: خلقناكم مِن تراب ثم مِن نُطْفةٍ ثم مِن عَلَقة ثم مِن مُضْغةٍ مُخلَّقةٍ وغير مُخلَّقةٍ لنُبيِّنَ لكم ونُقِرُّ في الأَرْحام ما نشاء إلى أَجَل مُسَمًّى ثم نُخرِجُكم طِفْلًا ثم لتَبْلُغوا أَشُدَّكم ثم لتَكُونوا شُيوخًا ومِنْكم مَن يُتَوفَّى ومِنْكم مَن يُرَدُّ إلى أَرْذَل العُمُر لكيلا يَعلَمَ من بعد عِلْم شيئًا.
(٥) فصل في أن للموجودات نظامًا في الوجود والبقاء
واعلم أيها الأخ البار الرحيم، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن لهذه الموجودات التي تحت فلك القمر نظامًا وترتيبًا أيضًا في الوجود والبقاء، وهي مرتبة بعضها تحت بعض، متصل أواخرها بأوائلها كترتيب العدد وترتيب الأفلاك.
بيان ذلك أنه لما كان ترتيب أجزاء العالم محيطات بعضها ببعض، وهي إحدى عشرة كرة، تسع منها في عالم الأفلاك، أولها من لدن فلك المحيط وآخرها إلى منتهى فلك القمر، وأواخرها متصلة بأوائلها كما بيَّنا في رسالة السماء والعالم، وكان اثنان منها دون فلك القمر، وهي كرة النار والهواء وكرة الماء والأرض، وهي مقسومة على أربع طبائع؛ أولها الأثير وهو نار ملتهبة دون فلك القمر، ودونه الهواء وهو جسم سيال، ودونه الزمهرير والبرد المفرط، ودونه الماء المفرط: الرطوبة، ودون الأرض المفرطة اليبس.
وهذه الأربعة محفوظة كلياتها في مراكزها، ومتصلة أواخرها بأوائلها، مستحيلة جزئياتها بعضها إلى بعض، كما بيَّنا في رسالة الكون والفساد.
فأما الكائنات منها التي هي جزئياتها فهي المعادن والنبات والحيوان، ولها نظام وترتيب، متصل أواخرها بأوائلها كترتيب الأفلاك والأركان، بيان ذلك أن المعادن متصلة أوائلها بالتراب وأواخرها بالنبات أيضًا، والنبات متصل آخره بالحيوان، والحيوان متصل آخره بالإنسان، والإنسان متصل آخره بالملائكة، والملائكة أيضًا لها مراتب ومقامات متصلة أواخرها بأوائلها، كما بيَّنا في رسالة الروحانيات. ونريد أن نذكر في هذا الفصل مراتب الكائنات من الأركان الأربعة التي هي المعادن والنبات والحيوان، فنقول: إن المعادن إذا تأملت وجدت إما مما يلي الترابَ فهو الجصُّ، وإما مما يلي الماءَ فهو الملحُ؛ وذلك أن الجص هو تراب رملي يقبل الأمطار ثم ينعقد ويصير جصًّا، وأما الملح فإنه ماء يمتزج بالتربة السبخة ثم ينعقد فيصير ملحًا.
وأما أواخر المعادن مما يلي النباتَ فهو الكمأة والفطر وما شاكل ذلك؛ وذلك أن هذا الجنس من الكائنات يتكون في التراب كالمعدن، ثم ينبت في المواضع الندية في أيام الربيع من الأمطار كما ينبت النبات، ولكن من أجل أنه ليس له ثمرة ولا ورقة ويتكون في التراب كما تتكون الجواهر المعدنية وعلى أشكالها صار يشبه المعادن، ومن جهة أخرى يشبه النبات.
فأما باقي أنواع الجواهر المعدنية ففيما بين هذين الحدين — أعني الجص والكمأة — وقد بيَّنا في رسالة أنواعها وأجناسها وخواصها ومنافعها.
وأما النبات فأقول إن هذا الجنس من الكائنات متصل أوله بالمعدن، كما بيَّنا في رسالة المعادن، وآخره بالحيوان أيضًا؛ بيان ذلك أن أول مرتبة النباتية وأَدْوَنها مما يلي الترابَ — وهو خضراء الدمن — ليس بشيء سوى غبار يتلبد على الأرض والصخور والأحجار، ثم يصيبه بلل الأمطار وندا الليل فتصبح بالغداوات خضراء كأنها نبت زرع وحشائش، فإذا أصابها حر الشمس نصف النهار رجعت، ثم تصبح من غد مثل ذلك من نداوة الليل وطيب النسيم، ولا تنبت الكمأة ولا خضراء الدمن إلا في أيام الربيع في البقاع المتجاورة لتقارُب ما بينهما؛ لأن هذا معدنه نباتي، وذلك نبات معدني.
فصل
وأما النخل فهو آخر مرتبة النباتية مما يلي الحيوانية؛ وذلك أن النخل نبات حيواني لأن بعض أفعاله وأحواله مبائن لأحوال النبات وإن كان جسمه نباتًا؛ بيان ذلك أن القوة الفاعلة فيه منفصلة من القوة المنفعلة.
والدليل على ذلك أن أشخاص الفحولة منه مباينة لأشخاص الإناث، وللفحولة من أشخاصه لقاح في إناثها كما يكون ذلك في الحيوان.
وأما سائر النبات فإن القوة الفاعلة منه ليست بمنفصلة من المنفعلة بالشخص بل بالفعل حسب كما بيَّنا في رسالة النبات.
وأيضًا فإن النخل إذا قطعت رءوسها جفت وبطل نموها ونشوءها وماتت، وكذلك موجود في الحيوان، فهذا الاعتبار يبين أن النخل نبات بالجسم حيوان بالنفس؛ إذ كانت أفعاله أفعال النفس الحيوانية وشكلُ جسمه شكلٌ نباتي.
وفي النبات نوع آخر فعله أيضًا فعل النفس الحيوانية، ولكن جسمه جسم نباتي وهو الكثوث؛ وذلك أن هذا النوع من النبات ليس له أصل ثابت في الأرض كما يكون لسائر النبات ولا له أوراق كأوراقها، بل إنما يلتف على الأشجار والزروع والشوك، فيمتص من رطوبتها ويتغذى كما يفعل الدود الذي يدب على ورق الأشجار وقضبان النبات ويقرضها فيأكلها، ويتغذى هذا النوع من النبات، وإن كان جسمه يشبه النبات فإن فعل نفسِه فعل الحيوان، فقد بان مما وصفنا أن آخر رتبة النباتية متصل بأول الحيوانية، وأما سائر مراتب مرتبة النباتية ففيما بين هذين.
(٦) فصل في أن أول مرتبة من الحيوانية متصلة بآخر النبات
واعلم يا أخي بأن أول مرتبة من الحيوانية أيضًا متصلة بآخر النبات، كما أن أول النباتية متصل بآخر المعدنية، وأول المعدنية متصل بالتراب والماء، كما بيَّنا قبل.
فأَدْون الحيوان وأنقصه هو الذي ليس له إلا حاسَّة واحدة فقط؛ وهو الحلزون، وهي دودة في جوف أنبوبة تنبت تلك الأنبوبة على الصخر الذي في سواحل البحار وشطوط الأنهار، وتلك الدودة تخرج نصف شخصها من جوف تلك الأنبوبة وتنبسط يمنة ويسرة تطلب مادة يتغذى بها جسمها، فإذا أحست برطوبة ولين انبسطت إليه، فإن أحست بخشونة أو صلابة انقبضت وغاصت في جوف تلك الأنبوبة حذرًا من مؤذٍ لجسمها أو مُفسِدٍ لهيكلها، وليس لها سمع ولا بصر ولا شم ولا ذوق إلا اللمس فحسب، وهكذا أكثر الديدان التي تتكون في الطين في قعور البحار وأعماق الأنهار ليس لها سمع ولا بصر ولا ذوق ولا شم؛ لأن الحكمة الإلهية لا تعطي الحيوان عضوًا لا يحتاج في جر المنفعة أو دفع المضرة؛ لأنه لو أعطاها ما لا تحتاج إليه كان وبالًا عليها في حفظها لبقائها، فهذا النوع حيوان نباتي لأنه ينبت جسمه كما ينبت بعض النبات، ويقوم على ساقه قائمًا، وهو من أجل أنه يحركه حركةً اختياريةً حيوانيٌّ، ومن أجل أنه ليست له إلا حاسَّة واحدة فهو أنقص الحيوانات رتبة في الحيوانية.
أما تلك الحاسَّة فقد شارك بها النبات؛ وذلك أن النبات له حس اللمس حسب، والدليل على ذلك إرساله العروق نحو النهر في المواضع الندية وامتناعه عن إرسالها نحو الصخور واليبس وأيضًا، فإنه متى اتفق منبته في مضيق مالَ وعدلَ عنه طالبًا للفسحة والسعة، فإن كان فوقه سقف يمنعه من الذهاب علوًّا وتُرك له ثقب من جانبٍ مالَ إلى نحو تلك الناحية التي إذا طال طلع من هناك، وهذه الأفعال تدل على أن له حسًّا وتمييزًا بمقدار الحاجة. فأما حس الألم فليس للنبات؛ وذلك لأنه لم يلق بالحكمة الإلهية أن تجعل للنبات ألمًا وهي لم تجعل له حيلة الدفع، كما جعلت للحيوان، وذلك أن الحيوان لمَّا جعل له أن يحس بالألم جعلت له أيضًا حيلة الدفع؛ إما بالفرار والهرب، وإما بالتحرز، وإما بالممانعة. فقد بان مما وصفنا كيفية مرتبة الحيوانية مما يلي النباتَ، فنريد أن نذكر ونبين كيفية مرتبة الحيوانية مما يلي الإنسانية — ليست من وجه واحد ولكن من عدة وجوه — وذلك أن رتبة الإنسانية لما كانت معدن الفضائل وينبوع المناقب لم يستوعبها نوع واحد من الحيوان، ولكن عدة أنواع؛ فمنها ما قارب رتبة الإنسانية بصورة جسده مثل القرد، ومنها بالأخلاق النفسانية كالفرس في كثير من أخلاقه وكالطائر الأنسي أيضًا، ومثل الفيل في ذكائه وكالببغاء والهزار ونحوهما من الأطيار الكثيرة الأصوات والألحان والنغمات، ومثل ذلك النحل اللطيف الصنائع إلى ما شاكل هذه الأجناس؛ وذلك أنه ما من حيوان يستعمله الناس أو يأنس بهم إلا وَلَهُ في نفسه شرف وقرب من نفس الإنسانية.
فأما القرد فلقرب شكل جسده من شكل جسد الإنسان صارت نفسه تحاكي أفعال النفس الإنسانية، وذلك منه متعارف بيِّن.
وأما الفرس الكريم فإنه قد بلغ من كرم أخلاقه أن صار مركبًا للملوك، وذلك أنه ربما بلغ من حسن أدبه ألا يبول ولا يروث ما دام بحضرة الملك أو حامله.
وله أيضًا مع ذلك ذكاء وإقدام في الهيجاء وصبر على الطعن والجراح، كما يكون للرجل الشجاع كما وصف الشاعر حيث يقول:
وإذا شكى مهري إليَّ جراحه
عند اختلاف الطعن قلت له اقدما
لما رآني لست أقبل عذره
عض الصميم على اللجام وحمحما
وأما الفيل فإنه يفهم الخطاب بذكائه، ويمتثل الأمر والنهي كما يمتثل الرجل العاقل المأمور المنهي. وهذه الحيوانات في آخر مرتبة الحيوانية مما يلي رتبة الإنسان لِما يظهر منها من الفضائل الإنسانية.
وأما باقي أنواع الحيوانات ففيما بين هاتين المرتبتين، وإذ قد فرغنا من ذكر مراتب الحيوانية مما يلي رتبةَ الإنسانية، فينبغي أن نذكر أول مرتبة الإنسانية مما يلي الحيوانية.
(٧) فصل
اعلم يا أخي أن أَدْون رُتَب الإنسانية مما يلي الحيوانية هي رتبة الذين لا يعلمون من الأمور المحسوسات ولا يعرفون من الخيرات إلا الجسمانيات، ولا يطلبون إلا إصلاح الأجساد ولا يرغبون إلا في الدنيا، ولا يتمنون إلا الخلود فيها مع علمهم أنهم لا سبيل لهم إلى ذلك! ولا يشتهون من اللذات إلا الأكل والشرب مثل البهائم، ولا يتنافسون إلا في الجماع والنكاح كالخنازير والحمير، ولا يحرصون إلا في جمع الذخائر متاع الحياة الدنيا، يجمعون ما لا يحتاجون إليه كالنمل، ويخبئون ما لا ينتفعون به كالعقائق، ولا يعرفون من الزينة إلا صباغ اللباس كالطواويس، يتهارشون على حطام الدنيا كالكلاب على الجيف، وإن كانت صورتهم الجسدانية صورة الإنسان فإن أفعال نفوسهم أفعال النفوس الحيوانية والنباتية.
فصل
اعلم أيها الأخ ما علمت واعمل بما أودعت، أعاذك الله أيها الأخ البار الرحيم من نزغات الشيطان الرجيم، ووفقك الله وإيانا وجميع إخواننا بمَنِّه الكريم.
(تمت رسالة معنى قول الحكماء «إن العالم إنسان كبير»، ويليها رسالة العقل والمعقول.)
في معنى قول الحكماء إن العالم إنسان كبير
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ
(١) فصل
اعلم أيها الأخ البار الرحيم، أيدك الله وإيانا بروح منه، أنَّا قد فرغنا من ذكر مراتب المبادئ العقلية على رأي إخوان الصفاء وبيَّنَّا فيها بكلام مشبع أن الوجود متقدم على البقاء، والبقاء متقدم على التمام، والتمام متقدم على الكمال، ونريد الآن أن نذكر في هذه الرسالة معنى قول الحكماء «إن العالم إنسان كبير» فنقول:
اعلم أن قول الحكماء «إن العالم إنسان كبير» وقولهم «إن الإنسان عالم صغير» يجب أن نشرح معناه لتقف على حقيقته؛ معنى ذلك أن العالم له جسم ونفس يَعْنُون به الفلك المحيط وما يحوي من سائر الموجودات من الجواهر والأعراض، وأن حكم جسمه بجميع أجزائه البسيطة والمركبة والمولدة يجري مجرى جسم إنسان واحد أو حيوان واحد بجميع أعضاء بدنه المختلفة الصور المفننة الأشكال، وأن حكْم نفسه بجميع قواها السارية في أجزاء جسمه المحركة المدبرة لأجناس الموجودات وأنواعها وأشخاصها، كحكْم نفس إنسان واحد أو حيوان واحد، السارية في جميع أعضاء بدنه ومفاصل جسده، المحركة المدبرة لعضوٍ عضوٍ وحاسَّةٍ حاسَّةٍ من بدنه، وذلك قول الله تعالى: مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ، وإذا قلنا نحن في رسائلنا: «الجسم الكلي» فإنما نعني به جسم العالم بأسره، وإذا قلنا «النفس الكلية» فإنما نعني بها نفس العالم بأسرها، وإذا قلنا «العقل الكلي» فإنما نعني به القوة الإلهية المؤيدة للنفس الكلية، وإذا قلنا «الطبيعة الكلية» فإنما نعني بها قوة النفس الكلية السارية في جميع الأجسام المحركة المدبرة لها المظهرة بها ومنها أفعالها وآثارها، وإذا قلنا «الهيولى» فإنما نعني به الجوهر الذي له طول وعرض وعمق فهو بها جسم مطلق، وإذا قلنا «الأجسام البسيطة» فإنما نعني بها الأفلاك والكواكب والأركان الأربعة التي هي النار والهواء والماء والأرض، وإذا قلنا «الأنفس البسيطة» فإنما نعني بها قوى النفس الكلية المحركة المدبرة لهذه الأجسام السارية فيها، وهذه القوى نسميها الملائكة الروحانيين في رسائلنا، وإذا قلنا «الأنفس الحيوانية والنباتية والمعدنية» فإنما نعني بها قوى النفس البسيطة المحركة المدبرة لهذه الأجسام المولدة السارية فيها المظهرة بها ومنها أفعالها.
فإذا قلنا «الأجسام الجزئية» فإنما نعني بها أشخاص الحيوانات والنبات والمعادن وغيرها من المصنوعات على أيدي البشر وغيرهم من الحيوان.
وإذا قلنا «الأنفس الجزئية المتحركة» فإنما نعني بها قوى النفوس الحيوانية والنباتية والمعدنية السارية في الأجسام الجزئية المحركة المدبرة لها المظهرة بها ومنها أفعالها واحدًا واحدًا من الأشخاص الموجودة تحت فلك القمر؛ فقد بان بهذا أن مجرى حكم العالم ومجاري أموره بجميع الأجسام الموجودة فيه، مع اختلاف صورها وافتنان أشكالها وتغاير أعراضها، يجري مجرى جسم الإنسان الواحد من الناس أو الحيوان الواحد بجميع أجزائه المختلفة الصور ومفاصله المفننة الأشكال وهيئته المتغايرة الأعراض، وأن حكْم سريان قوى نفس العالم في جميع أجزاء جسمه كحكْم سريان قوى نفس إنسان واحد في جميع أجزاء بدنه ومفاصل جسده.
(٢) فصل
واعلم أيها الأخ البار الرحيم، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن العالم الذي سميناه إنسانًا كبيرًا، في أجزائه ومجاري أموره، أمثلة وتشبيهات دالات على مجاري أحكام العالم الذي هو إنسان صغير، فنريد أن نذكر من تلك الأمثلة طرفًا ليكون أقرب لفهم المتعلمين، ومن يريد أن يفهم حكم العالم ومجاري أموره في فروع الموجودات التي في العالم من أصولها، تلك الأصول من أصول آخر قبلها إلى أن تنتهي إلى أصل يجمعها كلها، كمثل شجرة واحدة لها عروق وأغصان وعليها فروع وقضبان، وعلى تلك الفروع والقضبان أوراق وتحتها نور وثمار لها لون وطعم ورائحة، ومن وجه آخر مجاري حكْم الموجودات التي في العالم، فروعها من أصولها وأصولها من أصولٍ أُخر، إلى أن تنتهي كلها إلى أصل واحد كمجرى حكم جنس الأجناس الذي تحته أنواع تسمى جنس المضاف، وتحتها أنواع تسمى أنواع المضاف، وتحت تلك الأنواع أشخاص كثيرة مختلفة الصور والأشكال والهيئات والأعراض، لا يحصي عددها إلا الله عز وجل.
ومن وجه آخر مثل هذه الموجودات الجنسية والنوعية والشخصية مع جنس الأجناس كمثل قبيلة لها شعوب، ولشعوبها بطون، ولبطونها أفخاذ، ولأفخاذها عمائر ولها عشائر وأقارب.
ومن وجه آخر مجرى حكم العالم في جميع موجوداته كمجرى حكم شريعة واحدة فيها مفروضات كثيرة، ولتلك المفروضات سنن مختلفة، ولتلك السنن أحكام متباينة، ولتلك الأحكام حدود متغايرة يجمعها كلها دين واحد لأهله مذاهب مختلفة، ولكل أهل مذهب مقالات متغايرة، وتحت كل مقالة أقاويل كثيرة مفننة.
ومن وجه آخر حكْم العالم ومجاري أموره من فنون تركيب أفلاكه، واختلاف حركات كواكبه، واستحالة بعض أركانه إلى بعض، وتولُّد اختلاف الكائنات المختلفة الأشكال، وافتنان أجناس نباته وفنون جواهر معدنه، وسريان قوى النفس الكلية في هذه الأجسام وتحريكها إياها وتدبيرها لها وبها، ومنها كمجرى حكم دكان لصانع واحد وله فيه أدوات وآلات مختلفة الصور وله بها ومنها أفعال وحركات مفننة ومصنوعاتها مختلفات الصور والأشكال والهيئات وقوة نفسه سارية فيها كلها وحكمه جارٍ عليها بحسب ما يليق بواحد واحد منها.
ومن وجه آخر مجاري أحكام الموجودات الجسمانية في العالم مع اختلاف صورها وأعراضها ومنافعها للنفس الكلية كمجرى حكم دار فيها بيوت وخزائن، وفي تلك الخزائن آلات وأوانٍ وأثاث لرب الدار، وله فيها أهلٌ وخدم وغلمان، وحكمه جارٍ فيها وفيهم جميعًا، وتدبيره لهم منتظم على أتقن ما تقتضيه السياسة الربانية والعناية الإلهية.
ومن وجه آخر حكْم العالم الذي هو إنسان كبير ومجاري أموره في الأجسام الكليات والبسائط والمولدات والمركبات الجزئيات، وارتباط بعضها ببعض وإحاطة بعضها ببعض من تركيب أفلاكه ونظام كواكبه ومقادير أجرامها، وترتيب أركانه واستحالاتها وقرار معادنه واختلاف جواهرها وأنواع نباته وثبات أصولها، وحركات حيوانه وتصرفها لمعايشها وسريان قوى النفس الكلية من أولها إلى آخرها؛ كحكم مدينة حولها أسوار وفي داخلها محالٌّ وخانات ونواحٍ فيها شوارع وطرقات وأسواق في خلالها منازل ودُورٌ فيها بيوت، وخزائن فيها أموال وأمتعة وأثاث وآلات وحوائج يملكها كلها ملك واحد له في تلك المدينة جيوش ورعية وغلمان وحاشية وخدم وأتباع، وحكمه جارٍ في رؤساء جنده وأشراف مدينته وتُنَّاء بلده، وحكم أولئك الرؤساء والأشراف والتُّنَّاء١ جار في أتباعهم وحكم أتباعهم فيمن دونهم إلى آخره، وإن ذلك الملك يَسُوس تلك المدينة وأهلَها على أحسنها من مراعاة أمورهم واحدًا واحدًا؛ صغيرهم وكبيرهم أولهم وآخرهم لا يخل بواحد منها.
فهكذا يجري حكم النفس الكلية في جميع أجزاء العالم من الأفلاك والكواكب والأركان والمولدات والمركبات والمصنوعات على أيدي البشر، كجريان حكم ذلك الملك على تلك المدينة.
وكذلك يسري حكمها في الأنفس البسيطة والجنسية والنوعية والشخصية في تصريفها لها وتحريكها وتدبيرها للموجودات الجسمانية وأجناسها وأنواعها وأشخاصها؛ صغيرها وكبيرها وأولها وآخرها وظاهرها وباطنها.
ثم اعلم أنَّ مَثل النفس الكلية كجنس الأجناس، والأنفس البسيطة كالأنواع لها، والأنفس التي دونها كنوع الأنواع، والأنفس الجزئية كالأشخاص؛ مرتبة بعضها تحت بعض كترتيب العدد.
فالنفس الكلية كالواحد، والبسيطة كالآحاد، والجنسية كالعشرات، والنوعية كالمئات، والأنفس الجزئية الشخصية كالألوف؛ وهي التي تختص بتدبير جزئياتِ الأجسامِ والأنفسُ النوعية مؤيدةٌ لها، والجنسية مؤيدة للنوعية، والنفوس البسيطة مؤيدة للجنسية.
والنفس الكلية التي هي نفس العالم مؤيدة للنفوس البسيطة، والعقل الكلي مؤيد للنفس الكلية، والباري — جل ثناؤه — مؤيد للعقل الكلي؛ فهو مبدعها كلها ومدبِّر لها من غير ممازجة لها ولا مباشرة، فتبارك الله أحسن الخالقين.
ثم اعلم أيها الأخ كما أن في تلك المدينة رجالًا ونساءً ومشايخ وشبانًا وصبيانًا، فمنهم أخيار وأشرار وعلماء وجهال ومصلح ومفسد، وأقوام مختلفو الطباع والأخلاق والآراء والأعمال والعادات؛ فهكذا في العالم الكبير نفوس كثيرة بسيطة كلية وجزئية مختلفات الحالات: فمنها نفوس علامة خيرة فاضلة، ومنها نفوس علامة شريرة رذلة، ومنها جاهلة شريرة، ومنها جاهلة غير شريرة.
فالنفوس العلامة الخيرية الفاضلة هي أجناس الملائكة وصالحو المؤمنين والعلماء من الجن والإنس، والعلامة الشريرة مَرَدَة الشياطين وسَحَرَة الجن والفراعنة والدجالون من الناس، والجاهلة الشريرة أنفس السباع الضارية والجهال الأشرار من الناس، والجاهلة غير الشريرة أنفس بعض الحيوانات السليمة كالغنم والحمام وغيرها من الحيوان.
(٣) فصل
إن أجساد بعض الحيوانات حبوس لنفوسها ومطامير لها، وبعضها صراط يجوزون عليه، وبعضها برزخ إلى يوم يبعثون، وبعضها أعراف لها، هم عليها واقفون.
وقد بيَّنا هذه المعاني في رسالة أخرى، وكما أن لأهل تلك المدينة فيها مساجدَ وبِيَعًا وصلواتٍ، ولأهل العلم والدين فيها مجالسَ وجماعاتٍ وأعيادًا وصلواتٍ، فهكذا يجري في فضاء الأفلاك وسعة السموات للملائكة جموعٌ وتسابيحُ ودعواتٌ، كما ذكر الله تعالى: يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ، وقال الله تعالى: وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ. وكما أن في تلك المدينة لأهلها فيها حبوس ومطامير، عليها شرط وأعوان، فهكذا في العالم الكبير للنفوس الشريرة جهنم ونيران وهاوية، عليها ملائكة غلاظ شداد، وهو عالم الكون والفساد.
ثم اعلم أيها الأخ أنه ليس كل نفس وردت إلى عالم الكون والفساد تكون محبوسة فيه، كما أنه ليس كل مَن دخل الحبس يكون محبوسًا فيه، بل ربما دخل الحبس مَن يقصد إخراج المحبوسين منه، كما أنه قد يدخل بلاد الروم من يستنقذ أسارى المسلمين، وإنما وردت النفوس النبوية إلى عالم الكون والفساد لاستنقاذ هذه النفوس المحبوسة في حبس الطبيعة الغريقة في بحر الهيولى الأسيرة في الشهوات الجسمانية.
وكما أن المحبوس إذا اتبع مَن دخل الحبس لإخراج خرج ونجا، كذلك من اتبع الأنبياء في شرائعهم وسننهم ومناهجهم نجا وتخلص من جهنم، وخرج من عالم الكون والفساد، ونجا وفاز ولو كان بعد حين، كما روي عن النبي ﷺ أنه قال: «لا يزال يخرج من النار قوم بعد قوم من أمتي بعدما دخلوها حتى لا يبقى في النار أحد ممن قال لا إله إلا الله مخلصًا في دار الدنيا»، وذلك قول الله تعالى: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا، وكما أن في تلك المدينة لأهلها جنانًا وميادين وأنهارًا وبساتين وفيها مجالس لنزهة النفوس وبهجة وسرور ولذة ونعيم.
فهكذا في فضاء الأفلاك وسعة السموات لأهلها فيها فسحة وجنان وروح وريحان ونعمة ورضوان، كما ذكر في التوراة والإنجيل والقرآن من وصف الجنان.
فافهم يا أخي هذه الإرشادات والتنبيهات، وانتبه من نوم الغفلة ورقدة الجهالة، وقد روي في الخبر أن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تسرح في الجنان بالنهار على رءوس أشجارها وأنهارها وأزهارها، وتأوي بالليل إلى قناديلَ معلَّقةٍ تحت العرش، وذلك قول الله تعالى: وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ، وكما أن لأهل تلك المدينة فيها لأهلها صناعًا وعمالًا لهم أجرة وأرزاق، وفيها باعة وتجار يتعاملون بموازين ومكاييل، ولهم مظالم وخصومات، ولهم فيها قضاة وعدول، ولهم فقه وأحكام وفصول وقضايا، وإن من سُنة القضاة البروزَ والجلوسَ لفصل القضايا، في كل سبعة أيام يوم واحد، فهكذا يجري حكم النفس الكلية في الأنفس الجزئية في كل سبعة آلاف سنة مرة تعرض النفوس الجزئية لدى النفس الكلية، فتبرز النفس الكلية لفصل القضايا بينها بالحق، فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ.
وروي عن النبي ﷺ أنه قال: «عمر الدنيا سبعة آلاف سنة بعثت في آخر ألف منها»، وقال: «لا نبي بعدي»، وعلى آخر هذه المدة تقوم الساعة. وإلى هذه المدة أشار بقوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ، وهذا الخطاب كان يوم الميثاق، وهو يوم العرض الأول، ويوم القيامة هو يوم العرض الثاني الكائن بينهما مدة سبعة أيام، كل يوم كألف سنة كما قال الله تعالى: وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ وإلى هذا اليوم أشار بقوله تعالى: وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ وقال: يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ وقال: كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ.
وكما أن يوم الحكم يَقعد القضاة ويُحضِرون العدول ويُدعَى الشهود ويُحشرون هم والخصوم، وتخرج الصكوك ويفصل الحكم، فهكذا يوم عرض الحبوس يخرج الوالي ويحضر الأعوان ويُخرِجون المحبوسين، ونتبين براءة قوم منهم فيُطلَقون، وقوم تقام عليهم الحدود ويخلون، وقوم يخلدون في الحبس إلى يوم الفصل الثاني. وهكذا يوم عرض النفوس، يخرج الوالي ويخرج الدواوين ويحضر الكتاب ويدعو المنيبين للعرض وتعطى أرزاق المستحقين، ويزاد قوم وقوم ينقصون، ويثبت قوم وقوم يسقطون، وهكذا تجري حكم النفس الكلية في الأنفس الجزئية يوم الدين؛ لأن الله تعالى جعل أحكام الدنيا ومجاري أمورها أمثلة، وأشار بها إلى أحوال القيامة ومجاري أمورها، فاعتبروا يا أولي الأبصار، وتيقنوا يا أولي الألباب مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللهِ بَاقٍ، وإنما ذكر الله الميزان والوزن والعدد يوم الحساب لأن النصفة بين الناس لا تتبين لهم إلا بالكيل والوزن والعدد والذرع، وهذه كلها كالموازين تعرف بها مقادير الأشياء؛ فمن أجل هذا ونضع الموازين القسط ليوم القيامة، ولم يقل ونضع الميزان، فإنْ تَوَهَّمَ مُتَوَهِّمٌ أن الذي وعده النبي ﷺ الناس يوم القيامة من وزن الأعمال من الخير والشر، وهذه أعراض لا تثبت وتتبين، فكيف يكون وزنها؛ فلْيعلم أن الوزن إنما يحتاج إليه ليعلم مقدار الشيء ليقابل بمثله أو يزداد عليه أو ينقص منه، وهذا المعنى شائع في الأعراض، جارٍ فيها مثل العَروض الذي هو ميزان الشعر الذي به يعرف استواؤه وزائده وناقصه.
والشعر عرض من الأعراض، ومثل البنكان والإسطرلاب وأمثالها من الآلات يعرف بها مقادير الزمان من الزيادة والنقصان والاستواء، والزمان عرض من الأعراض، ومثل الذراع الذي يعرف به الطول والقصر والبعد والقرب والكبر والصغر، وهي أعراض كلها، ومثل المسطرة والبركار يعرف بهما الاستواء والاعوجاج وهما عرضان، ومثل الصنجات والأرطال يعرف بهما الثقل والخفة والزيادة والنقصان، وهي أعراض كلها، فالذي ينكره المتوهم أن يكون لأعمال الخير والشر ميزان يعرف به مقدار الخير والشر وله قوم يعرفون كيفية وزن الأعمال وهي صناعتهم، كما أن لتلك الموازين التي ذكرنا، لكلِّ واحدٍ منها قومٌ هي صناعتهم، وإخواننا الفضلاء هم أهل هذه الصناعة وإليها ندعو إخواننا الباقين.
(تمت الرسالة، وبعد هذه زيادة لم توجد في سائر النسخ ولعلها زيدت من رسائل متقدمة.)
(٤) فصل في أن العالم بأسره كرة تنفصل إحدى عشرة طبقة
اعلم أيها الأخ البار الرحيم، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن العالم بأسره كرة واحدة تنفصل إحدى عشرة طبقة؛ تسع منها هي أفلاك كريَّات مجوفات مشفَّات وكواكبها أيضًا كلها كريات مستديرات مضيئات، وحركتها كلها دورية، وذلك أن الفلك المحيط بجميع ما يحوي من الأفلاك والكواكب يدور حول الأرض في كل أربع وعشرين ساعة دورة واحدة، وكذلك كل كوكب يدور في فلك مختص به أو دائر حركة دورية في زمان معلوم، وكلما دارت دورة استأنفت ثانية كما وصفنا في رسالة مدخل النجوم ورسالة السماء والعالم ورسالة الأدوار والأكوار، ودون فلك القمر كرتان إحداهما النار والهواء، والأخرى الماء والأرض، وكل واحدة منها كُرِيَّة الشكل، محيطات أواخرها متصلة بأوائلها، بيان ذلك أن النار متصل أولها بفلك القمر وآخرها بطبيعة الزمهرير، والزمهرير آخره متصل محيط بالماء والأرض كما ذكرنا في رسالة الآثار العلوية، وأما الأرض بجميع جبالها وبحارها فهي كرة واحدة، فإذا اعتبر شكل الجبال والأنهار على بسيط الأرض وتأمل، تبين أن كل واحد منها كأنه قطعة قوس من محيط الدائرة، وأما أشكال البحار فكل واحد كأنه قشر من سطح جسم كري.
فصل
وهكذا أحوال الكائنات إذا اعتبرت وتأملت تَبيَّن أن أكثرها كريات الشكل ومستديرات؛ من ذلك أن أكثر الأشجار وأوراقها وحب النبات ونوارها كريات الأشكال ومستديرات، وهكذا أكثر مصنوعات البشر كما بيَّنا في رسالة الهندسة، وأما أحوالها فدائرة أيضًا بعطف أوائلها على أواخرها مثل دوران الزمان من الشتاء إلى الربيع، ومن الربيع إلى الصيف، ومن الصيف إلى الخريف، ومن الخريف إلى الشتاء، وهكذا دوران الليل والنهار حول كرة الأرض كما بيَّنا في رسالة الهيولى.
وكذلك الحكم في دوران مياه الأنهار والبحار والغيوم والأمطار، فإنها كالدولاب الدائر، وذلك أن الغيوم والسحاب تنشأ من البخار الصاعد من البحار والأنهار، وتسوقها الرياح إلى القفار ورءوس الجبال، وتمطر هناك فتجتمع السيول إلى الأودية والأنهار، فتذهب راجعة إلى البحار ثم تصعد ثانية، وذلك تقدير العزيز العليم. وكذلك حال النبات وتكوينه من التراب والماء والنار والهواء، ورجوعه إليها في دورانها كالدولاب، وذلك أن النبات يبدو وينشأ ويتم ويكمل، حتى إذا بلغ إلى أقصى غاياته ومنتهاها رجع عند البلى والفساد إلى ما تكون منه، وبيان ذلك أن النبات يمتص بعروقه لطائف الأركان ويصير منه ورق وثمار يتناولها الحيوان بالاغتذاء فتستحيل في بعض أبدانه لحمًا ودمًا، وبعضها ثقلًا وسمادًا، ويردُّ إلى أصول النبات ليغتذي منه ويصير حبًّا وثمارًا ثانيًا ويتناوله الحيوان أيضًا، فإذا تأمل هذا من حالها وجد كأنه دولاب دائر.
وأما أجسام الحيوان فإنها كلها تعود إلى التراب وتبلى وتصير ترابًا، ويكون منها ثانيًا النبات ومن النبات حيوان كما بيَّنا قبل، فإذا تأمل ذلك أيضًا وجد كأنه دولاب يدور، وأما أحوال البشر إذا اعتبرت فكلها دائرة كالدواليب؛ وذلك أن الإنسان يبتدئ كونه من النطفة ثم ينشأ وينمو ويتم ويبلغ إلى أن يتولد منه النطفة فينتهي العود إلى حيث خرج لقضاء شهوته ونتاج مثله؛ وكذلك بدء كونِه ناقصُ القوة ضعيف البنية ثم يرتقي ويتزايد إلى أن يبلغ أشده، ثم يأخذ في الانحطاط والنقص إلى أن يردَّ إلى أرذل العمر، كما كان بديًا، وكما ذكر سبحانه فقال: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ، وكما قال سبحانه: خلقناكم مِن تراب ثم مِن نُطْفةٍ ثم مِن عَلَقة ثم مِن مُضْغةٍ مُخلَّقةٍ وغير مُخلَّقةٍ لنُبيِّنَ لكم ونُقِرُّ في الأَرْحام ما نشاء إلى أَجَل مُسَمًّى ثم نُخرِجُكم طِفْلًا ثم لتَبْلُغوا أَشُدَّكم ثم لتَكُونوا شُيوخًا ومِنْكم مَن يُتَوفَّى ومِنْكم مَن يُرَدُّ إلى أَرْذَل العُمُر لكيلا يَعلَمَ من بعد عِلْم شيئًا.
(٥) فصل في أن للموجودات نظامًا في الوجود والبقاء
واعلم أيها الأخ البار الرحيم، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن لهذه الموجودات التي تحت فلك القمر نظامًا وترتيبًا أيضًا في الوجود والبقاء، وهي مرتبة بعضها تحت بعض، متصل أواخرها بأوائلها كترتيب العدد وترتيب الأفلاك.
بيان ذلك أنه لما كان ترتيب أجزاء العالم محيطات بعضها ببعض، وهي إحدى عشرة كرة، تسع منها في عالم الأفلاك، أولها من لدن فلك المحيط وآخرها إلى منتهى فلك القمر، وأواخرها متصلة بأوائلها كما بيَّنا في رسالة السماء والعالم، وكان اثنان منها دون فلك القمر، وهي كرة النار والهواء وكرة الماء والأرض، وهي مقسومة على أربع طبائع؛ أولها الأثير وهو نار ملتهبة دون فلك القمر، ودونه الهواء وهو جسم سيال، ودونه الزمهرير والبرد المفرط، ودونه الماء المفرط: الرطوبة، ودون الأرض المفرطة اليبس.
وهذه الأربعة محفوظة كلياتها في مراكزها، ومتصلة أواخرها بأوائلها، مستحيلة جزئياتها بعضها إلى بعض، كما بيَّنا في رسالة الكون والفساد.
فأما الكائنات منها التي هي جزئياتها فهي المعادن والنبات والحيوان، ولها نظام وترتيب، متصل أواخرها بأوائلها كترتيب الأفلاك والأركان، بيان ذلك أن المعادن متصلة أوائلها بالتراب وأواخرها بالنبات أيضًا، والنبات متصل آخره بالحيوان، والحيوان متصل آخره بالإنسان، والإنسان متصل آخره بالملائكة، والملائكة أيضًا لها مراتب ومقامات متصلة أواخرها بأوائلها، كما بيَّنا في رسالة الروحانيات. ونريد أن نذكر في هذا الفصل مراتب الكائنات من الأركان الأربعة التي هي المعادن والنبات والحيوان، فنقول: إن المعادن إذا تأملت وجدت إما مما يلي الترابَ فهو الجصُّ، وإما مما يلي الماءَ فهو الملحُ؛ وذلك أن الجص هو تراب رملي يقبل الأمطار ثم ينعقد ويصير جصًّا، وأما الملح فإنه ماء يمتزج بالتربة السبخة ثم ينعقد فيصير ملحًا.
وأما أواخر المعادن مما يلي النباتَ فهو الكمأة والفطر وما شاكل ذلك؛ وذلك أن هذا الجنس من الكائنات يتكون في التراب كالمعدن، ثم ينبت في المواضع الندية في أيام الربيع من الأمطار كما ينبت النبات، ولكن من أجل أنه ليس له ثمرة ولا ورقة ويتكون في التراب كما تتكون الجواهر المعدنية وعلى أشكالها صار يشبه المعادن، ومن جهة أخرى يشبه النبات.
فأما باقي أنواع الجواهر المعدنية ففيما بين هذين الحدين — أعني الجص والكمأة — وقد بيَّنا في رسالة أنواعها وأجناسها وخواصها ومنافعها.
وأما النبات فأقول إن هذا الجنس من الكائنات متصل أوله بالمعدن، كما بيَّنا في رسالة المعادن، وآخره بالحيوان أيضًا؛ بيان ذلك أن أول مرتبة النباتية وأَدْوَنها مما يلي الترابَ — وهو خضراء الدمن — ليس بشيء سوى غبار يتلبد على الأرض والصخور والأحجار، ثم يصيبه بلل الأمطار وندا الليل فتصبح بالغداوات خضراء كأنها نبت زرع وحشائش، فإذا أصابها حر الشمس نصف النهار رجعت، ثم تصبح من غد مثل ذلك من نداوة الليل وطيب النسيم، ولا تنبت الكمأة ولا خضراء الدمن إلا في أيام الربيع في البقاع المتجاورة لتقارُب ما بينهما؛ لأن هذا معدنه نباتي، وذلك نبات معدني.
فصل
وأما النخل فهو آخر مرتبة النباتية مما يلي الحيوانية؛ وذلك أن النخل نبات حيواني لأن بعض أفعاله وأحواله مبائن لأحوال النبات وإن كان جسمه نباتًا؛ بيان ذلك أن القوة الفاعلة فيه منفصلة من القوة المنفعلة.
والدليل على ذلك أن أشخاص الفحولة منه مباينة لأشخاص الإناث، وللفحولة من أشخاصه لقاح في إناثها كما يكون ذلك في الحيوان.
وأما سائر النبات فإن القوة الفاعلة منه ليست بمنفصلة من المنفعلة بالشخص بل بالفعل حسب كما بيَّنا في رسالة النبات.
وأيضًا فإن النخل إذا قطعت رءوسها جفت وبطل نموها ونشوءها وماتت، وكذلك موجود في الحيوان، فهذا الاعتبار يبين أن النخل نبات بالجسم حيوان بالنفس؛ إذ كانت أفعاله أفعال النفس الحيوانية وشكلُ جسمه شكلٌ نباتي.
وفي النبات نوع آخر فعله أيضًا فعل النفس الحيوانية، ولكن جسمه جسم نباتي وهو الكثوث؛ وذلك أن هذا النوع من النبات ليس له أصل ثابت في الأرض كما يكون لسائر النبات ولا له أوراق كأوراقها، بل إنما يلتف على الأشجار والزروع والشوك، فيمتص من رطوبتها ويتغذى كما يفعل الدود الذي يدب على ورق الأشجار وقضبان النبات ويقرضها فيأكلها، ويتغذى هذا النوع من النبات، وإن كان جسمه يشبه النبات فإن فعل نفسِه فعل الحيوان، فقد بان مما وصفنا أن آخر رتبة النباتية متصل بأول الحيوانية، وأما سائر مراتب مرتبة النباتية ففيما بين هذين.
(٦) فصل في أن أول مرتبة من الحيوانية متصلة بآخر النبات
واعلم يا أخي بأن أول مرتبة من الحيوانية أيضًا متصلة بآخر النبات، كما أن أول النباتية متصل بآخر المعدنية، وأول المعدنية متصل بالتراب والماء، كما بيَّنا قبل.
فأَدْون الحيوان وأنقصه هو الذي ليس له إلا حاسَّة واحدة فقط؛ وهو الحلزون، وهي دودة في جوف أنبوبة تنبت تلك الأنبوبة على الصخر الذي في سواحل البحار وشطوط الأنهار، وتلك الدودة تخرج نصف شخصها من جوف تلك الأنبوبة وتنبسط يمنة ويسرة تطلب مادة يتغذى بها جسمها، فإذا أحست برطوبة ولين انبسطت إليه، فإن أحست بخشونة أو صلابة انقبضت وغاصت في جوف تلك الأنبوبة حذرًا من مؤذٍ لجسمها أو مُفسِدٍ لهيكلها، وليس لها سمع ولا بصر ولا شم ولا ذوق إلا اللمس فحسب، وهكذا أكثر الديدان التي تتكون في الطين في قعور البحار وأعماق الأنهار ليس لها سمع ولا بصر ولا ذوق ولا شم؛ لأن الحكمة الإلهية لا تعطي الحيوان عضوًا لا يحتاج في جر المنفعة أو دفع المضرة؛ لأنه لو أعطاها ما لا تحتاج إليه كان وبالًا عليها في حفظها لبقائها، فهذا النوع حيوان نباتي لأنه ينبت جسمه كما ينبت بعض النبات، ويقوم على ساقه قائمًا، وهو من أجل أنه يحركه حركةً اختياريةً حيوانيٌّ، ومن أجل أنه ليست له إلا حاسَّة واحدة فهو أنقص الحيوانات رتبة في الحيوانية.
أما تلك الحاسَّة فقد شارك بها النبات؛ وذلك أن النبات له حس اللمس حسب، والدليل على ذلك إرساله العروق نحو النهر في المواضع الندية وامتناعه عن إرسالها نحو الصخور واليبس وأيضًا، فإنه متى اتفق منبته في مضيق مالَ وعدلَ عنه طالبًا للفسحة والسعة، فإن كان فوقه سقف يمنعه من الذهاب علوًّا وتُرك له ثقب من جانبٍ مالَ إلى نحو تلك الناحية التي إذا طال طلع من هناك، وهذه الأفعال تدل على أن له حسًّا وتمييزًا بمقدار الحاجة. فأما حس الألم فليس للنبات؛ وذلك لأنه لم يلق بالحكمة الإلهية أن تجعل للنبات ألمًا وهي لم تجعل له حيلة الدفع، كما جعلت للحيوان، وذلك أن الحيوان لمَّا جعل له أن يحس بالألم جعلت له أيضًا حيلة الدفع؛ إما بالفرار والهرب، وإما بالتحرز، وإما بالممانعة. فقد بان مما وصفنا كيفية مرتبة الحيوانية مما يلي النباتَ، فنريد أن نذكر ونبين كيفية مرتبة الحيوانية مما يلي الإنسانية — ليست من وجه واحد ولكن من عدة وجوه — وذلك أن رتبة الإنسانية لما كانت معدن الفضائل وينبوع المناقب لم يستوعبها نوع واحد من الحيوان، ولكن عدة أنواع؛ فمنها ما قارب رتبة الإنسانية بصورة جسده مثل القرد، ومنها بالأخلاق النفسانية كالفرس في كثير من أخلاقه وكالطائر الأنسي أيضًا، ومثل الفيل في ذكائه وكالببغاء والهزار ونحوهما من الأطيار الكثيرة الأصوات والألحان والنغمات، ومثل ذلك النحل اللطيف الصنائع إلى ما شاكل هذه الأجناس؛ وذلك أنه ما من حيوان يستعمله الناس أو يأنس بهم إلا وَلَهُ في نفسه شرف وقرب من نفس الإنسانية.
فأما القرد فلقرب شكل جسده من شكل جسد الإنسان صارت نفسه تحاكي أفعال النفس الإنسانية، وذلك منه متعارف بيِّن.
وأما الفرس الكريم فإنه قد بلغ من كرم أخلاقه أن صار مركبًا للملوك، وذلك أنه ربما بلغ من حسن أدبه ألا يبول ولا يروث ما دام بحضرة الملك أو حامله.
وله أيضًا مع ذلك ذكاء وإقدام في الهيجاء وصبر على الطعن والجراح، كما يكون للرجل الشجاع كما وصف الشاعر حيث يقول:
وإذا شكى مهري إليَّ جراحه
عند اختلاف الطعن قلت له اقدما
لما رآني لست أقبل عذره
عض الصميم على اللجام وحمحما
وأما الفيل فإنه يفهم الخطاب بذكائه، ويمتثل الأمر والنهي كما يمتثل الرجل العاقل المأمور المنهي. وهذه الحيوانات في آخر مرتبة الحيوانية مما يلي رتبة الإنسان لِما يظهر منها من الفضائل الإنسانية.
وأما باقي أنواع الحيوانات ففيما بين هاتين المرتبتين، وإذ قد فرغنا من ذكر مراتب الحيوانية مما يلي رتبةَ الإنسانية، فينبغي أن نذكر أول مرتبة الإنسانية مما يلي الحيوانية.
(٧) فصل
اعلم يا أخي أن أَدْون رُتَب الإنسانية مما يلي الحيوانية هي رتبة الذين لا يعلمون من الأمور المحسوسات ولا يعرفون من الخيرات إلا الجسمانيات، ولا يطلبون إلا إصلاح الأجساد ولا يرغبون إلا في الدنيا، ولا يتمنون إلا الخلود فيها مع علمهم أنهم لا سبيل لهم إلى ذلك! ولا يشتهون من اللذات إلا الأكل والشرب مثل البهائم، ولا يتنافسون إلا في الجماع والنكاح كالخنازير والحمير، ولا يحرصون إلا في جمع الذخائر متاع الحياة الدنيا، يجمعون ما لا يحتاجون إليه كالنمل، ويخبئون ما لا ينتفعون به كالعقائق، ولا يعرفون من الزينة إلا صباغ اللباس كالطواويس، يتهارشون على حطام الدنيا كالكلاب على الجيف، وإن كانت صورتهم الجسدانية صورة الإنسان فإن أفعال نفوسهم أفعال النفوس الحيوانية والنباتية.
فصل
اعلم أيها الأخ ما علمت واعمل بما أودعت، أعاذك الله أيها الأخ البار الرحيم من نزغات الشيطان الرجيم، ووفقك الله وإيانا وجميع إخواننا بمَنِّه الكريم.
(تمت رسالة معنى قول الحكماء «إن العالم إنسان كبير»، ويليها رسالة العقل والمعقول.)