الرسالة الثانية
من النفسانيات العقليات في المبادئ العقلية على رأي إخوان الصفاء
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ
(١) فصل
اعلم يا أخي أيدك الله وإيانا بروح منه، أنه قد بحث الفلاسفة والعلماء والحكماء في مبادئ الموجودات عن أصول الكائنات، فسنح لقومٍ منهم غير ما سنح للآخرين؛ وذلك أنه سنح لقوم من الثنوية الأمور المثنوية، ولقوم من النصارى الأمور الثلاثية، ولقوم من الطبيعيين الأمور الرباعية، ولقوم آخرين السداسية، ولقوم من الخرمية الأمور الخماسية، ولقوم آخرين الأمور السداسية، ولقوم آخرين الأمور السباعية، ولقوم آخرين من الموسيقيين الأمور الثُّمانية، ولقوم آخرين من الهند الأمور التُّساعية. وأطنبت كل طائفة في ذكرِ ما سنح لها وشغفت به وأغفلت ما سوى ذلك. فأما الحكماء الفيثاغوريون فأَعطَوا كل ذي حق حقه؛ إذ قالوا إن الموجودات بحسب طبيعة العدد كما سنبين طرفًا منه في هذه الرسالة، وهذا مذهب إخواننا — أيدهم الله — وبحسب رأيهم في وضع الأشياء مواضعها وترتيبهم حق مراتبها على المجرى الطبيعي والنظام الإلهي.
(٢) فصل في معنى قول الفيثاغوريين إن الموجودات بحسب طبيعة العدد
اعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن فيثاغورس كان رجلًا حكيمًا موحِّدًا من أهل حران، وكان شديد العناية بالنظر في علم العدد وكيفية نشوئه، كثير البحث عنه وعن خواصه ومراتبه ونظامه، وكان يقول: إن في معرفة العدد وكيفية نشوئه من الواحد الذي قبل الاثنين معرفة وحدانية الله عز وجل، وفي معرفة خواص الأعداد وكيفية ترتيبها ونظامها معرفة موجودات الباري تعالى وعلم مخترعاته وكيفية نظامها وترتيبها، وإن علم العدد مركوز في النفس يحتاج إلى أدنى تأمُّل ويسير من التذكار حتى يستبين ويعرف بلا دليل.
فصل
في مراتب الموجودات ونظام المخترعات، وأنها مطابقة لمراتب الأعداد المفردات المتتاليات عن الواحد، وأن الكل محتاج إلى الواحد، وعلى رأي الإخوان أن الواحد وما بعده محتاج إلى الغير، وهو العاد.
فصل
اعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن الله جل ثناؤه لما أبدع الموجودات واخترع المخلوقات، نَظَمَها ورتبها في الوجود كمراتب الأعداد عن الواحد لتكون كثرتُها دالةً على وحدانيته، وترتيبُها ونظامُها دالَّيْن على إتقان حكمته في صنعها، ولتكون أيضًا نسبتها إلى الذي هو خالقها ومبدعها كنسبة الأعداد إلى الواحد الذي قبل الاثنين، الذي هو أصلها ومبدؤها ومنشؤها، كما بيَّنا في رسالة الأرثماطيقي، وذلك أن الباري جل ثناؤه لما كان واحدًا بالحقيقة من جميع الوجوه والمعاني لم يَجُزْ أن يكون المخلوقٌ المخترَع واحدًا بالحقيقة، بل وجب أن يكون واحدًا متكثرًا مثنويًّا مزدوجًا؛ وذلك أن الباري جل ثناؤه أول ما بدأ بفعل واحد مفعولًا واحدًا متحدًا بفعله الذي هو علة العلل، فلم يكن واحدًا بالحقيقة بل فيه مثنوية؛ فلذلك قالوا إنه أَوجَدَ واخترع أشياء مثنوية مزدوجة وجعلها قوانين الموجودات وأصول الكائنات.
فمِن ذلك ما قالت الحكماءُ الفلاسفةُ الهيولى والصورة، ومنهم من قال النور والظلمة، ومنهم من قال الجوهر والعرض، ومنهم من قال الخير والشر، ومنهم من قال الإثبات والنفي، ومنهم من قال الإيجاب والسلب، ومنهم من قال الروحاني والجسماني، ومنهم من قال اللوح والقلم، ومنهم من قال الفيض والعقل، ومنهم من قال المحبة والغلبة، ومنهم من قال الحركة والسكون، ومنهم من قال الوجود والعدم، ومنهم من قال النفس والروح، ومنهم من قال الكون والفساد، ومنهم من قال الدنيا والآخرة، ومنهم من قال العلة والمعلول، ومنهم من قال المبدأ والمعاد، ومنهم من قال القبض والبسط.
وعلى هذا القياس توجد أشياء كثيرة طبيعية مزدوجة أو متضادة كالمتحرك والساكن، والظاهر والباطن، والعالي والسافل، والخارج والداخل، واللطيف الكثيف، والحار والبارد، والرطب واليابس، والزائد والناقص، والجماد والنامي، والناطق والصامت، والذكر والأنثى من كل زوجين اثنين.
وهكذا توجد تصاريف أحوال الموجودات من الحيوان والنبات؛ كالحياة والممات، والنوم واليقظة، والمرض والصحة، والألم واللذة، والبؤس والنعمة، والسرور والغمة، والحزن والفرح، والصلاح والفساد، والضر والنفع، والخير والشر، والسعادة والمنحسة، والإدبار والإقبال.
وهكذا توجد أحكام الأمور الوضعية والشرعية؛ كالأمر والنهي، والوعد والوعيد، والترغيب والترهيب، والطاعة والمعصية، والمدح والذم، والعقاب والثواب، والحلال والحرام، والحدود والأحكام، والصواب والخطأ، والحسن والقبيح، والصدق والكذب، والحق والباطل.
وعلى هذه الأمور توجد الأمور المثنوية المزدوجة المتضادة، وبالجملة من كل زوجين اثنين.
واعلم يا أخي أنه لمَّا لم يكن من الحكمة أن تكون الأمور الموجودة كلها مثنوية مزدوجة، جعل بعضها مثلثات وبعضها مربعات ومخمسات ومسدسات ومسبعات، وما زاد بالغًا ما بلغ كما سنذكر منها طرفًا بعد هذا الفصل إن شاء الله.
واعلم يا أخي أن الموجودات كلها نوعان، لا أقل ولا أكثر، كليات وجزئيات حسْب؛ فالكليات تسع مراتب، محفوظ نظامها ثابتة أعيانها، وهي كتسعة آحادٍ أولُها البارئ الواحد الفرد جل ثناؤه، ثم العقل ذو القوتين، ثم النفس ذات الثلاثة الألقاب، ثم الهيولى الأولى ذات الأربع الإضافات، ثم الطبيعة ذات الخمسة الأسماء، ثم الجسم ذو الست الجهات، ثم الفلك ذو السبع المدبرات، ثم الأركان ذات الثَّمانية المزاجات، ثم المكونات ذات التسعة الأنواع.
فصل
واعلم أن الباري جل ثناؤه هو أول الموجودات، كما أن الواحد هو قبل كل الأعداد؛ وكما أن الواحد هو نشوء الأعداد، كذلك الباري مُوجِد الموجودات؛ وكما أن الاثنين أول الأعداد والأعداد ترتبت عن الواحد، كذلك العقل أول موجود أبدعه الباري جل وعلا واخترعه، فمن غريزي ومكتسب دليل على رتبته في الموجودات؛ وكما أن الثلاثة ترتبت بعد الاثنين، كذلك النفس ترتبت في الوجود بعد العقل وصارت أنواعها ثلاثة؛ نباتية وحيوانية وناطقة، لتكون دالة على رتبتها في الموجودات له، ثم أوجَدَ الباري جل ثناؤه الهيولى كما ترتبت الأربعة بعد الثلاثة.
ومن أجل هذا قيل إن الهيولى أربعة أنواع: هيولى الصناعة، وهيولى الطبيعة، وهيولى الكل، والهيولى الأولى؛ لتكون هذه الأربعة الأركان دالةً على مَرتبتها في الموجودات، ثم الطبيعة ترتبت بعد الهيولى كما أن الخمسة ترتبت بعد الأربعة.
ومن أجل هذا قيل إن الطبائع خمس: إحداها طبيعة الفلك، وأربع تحت الفلك، ثم تَرتَّبَ الجسم بعد الطبيعة كما ترتبت الستة بعد الخمسة.
ومن أجل هذا قيل إن الجسم له ست جهات، ثم تَركَّبَ الفلك من الجسم وترتب بعده كما ترتبت السبعة بعد الستة.
ومن أجل هذا صار أمر الفلك يجري على سبعة كواكب مدبرات ليكون دلالة على رتبته في الموجودات، ثم ترتبت الأركان في جوف الفلك كما ترتبت الثمانية بعد السبعة.
ومن أجل هذا قيل إنها ذات ثمانية مزاجات؛ فالأرض باردة يابسة، والماء بارد رطب، والهواء حار رطب، والنار حارة يابسة؛ لتكون هذه الثمانية الأوصاف دالةً على رتبتها في الموجودات، ثم تولدت المولدات الثلاثة الأجناس ذات التسعة الأنواع لتكون دالةً على مرتبتها في الموجودات الكليات وهي آخرها كلها، كما أن التسعة آخر مرتبة الآحاد وهي الكائنات المولدات من الأركان الأربعة التي هي الأمهات، وهي المعادن والنبات والحيوان، والمعادن ثلاثة أنواع: ترابية لا تذوب ولا تحترق كالزاجات والكحل، وحجر يذوب ولا يحترق كالذهب والفضة والنحاس وما شاكلها، ومائية تذوب وتحترق كالكبريت والقير وغيرهما. والحيوان ثلاثة أنواع: منه ما يلد ويضع، ومنه ما يبيض ويحضن، ومنه ما يتكون من العفونات. والنبات ثلاثة أنواع: منها ما يغرس كالأشجار، ومنها ما يزرع كالحبوب، ومنها ما ينبت كالحشائش والكلأ.
فقد تَبيَّنَ بما ذكرنا أن الموجودات الكليات هي هذه التسعة المراتب التي ذكرناها وشرحناها، وأما الأمور الجزئيات فداخلة في هذه الكليات التي تَقدَّم ذكرها. وأما الأمور الموجودات المثلثات، فإن من الموجودات الثلاثية الهيولى والصورة والمركب منهما، والجواهر والأعراض والمؤلف منهما، والروحاني والجسماني والمجموع منهما، ومثل المقادير الثلاثة التي هي الخطوط والسطوح والأجسام، ومثل الأبعاد الثلاثة التي هي الطول والعرض والعمق، والأزمان الثلاثة التي هي الماضي والحاضر والمستقبل، والحركات الثلاث من الوسط وإلى الوسط وعلى الوسط، والأعداد الثلاثة التام والزائد والناقص، والعناصر الثلاثة التي هي الممكن والواجب والممتنع، وتقاسيم الأوتاد والزوائل وما يلي الوتد، والمكونات الثلاثة: المعادن والنبات والحيوان، وبالجملة كل أمر ذي واسطة أو طرفين.
ولما كانت الأربعة من الأعداد تالية للثلاثة، وَجَبَ أن تكون أشياء رباعية للمثلثات في الوجود، فجعل الباري جل ثناؤه أشياءَ مربعات تاليات لها في الوجود.
فمنها الأركان الأربعة التي هي النار والهواء والماء والأرض، والطبائع الأربع وهي البرودة واليبوسة والرطوبة والحرارة، والأخلاط الأربعة الصفراء والسوداء والدم والبلغم، والرياح الأربع الصبا والدبور والجرميا والتيمن، والجهات الأربع المشرق والمغرب والشَّمال والجنوب، والأوتاد الأربعة الطالع والغارب والرابع والعاشر، والأزمان الأربعة الربيع والصيف والخريف والشتاء، وأيام العمر أربعة فصولٍ أيام الصبا وأيام الشباب وأيام الكهولة وأيام الشيخوخة، ومراتب الأعداد أربعٌ آحاد وعشرات ومئات وألوف.
وعلى هذا القياس إذا تأمَّل وَجَدَ كثيرًا من مربعات ومخمسات ومسدسات ومسبعات ومثمنات ومتسعات ومعشرات، وما زاد بالغًا ما بلغ من المئات والألوف وعشرات الألوف ومئات الألوف وألوف الألوف.
وبالجملة ما من عدد من الأعداد إلا وقد خلق الباري جل ثناؤه جنسًا من الموجودات مطابقًا لذلك العدد، قل أو كثر، ونريد أن نبين من ذلك طرفًا ليكون دليلًا على ما قلنا وحقيقة لما ذكرنا:
أما المسدسات من الموجودات فأوَّلها في طبيعة الأفلاك وأقسام البروج وحالات الكواكب؛ وذلك أن البروج الاثني عشر: ستة منها ذكور وستة منها إناث، وستة نهارية وستة ليلية، وستة شمالية وستة جنوبية، وستة مستقيمة الطلوع وستة معوجة الطلوع، وستة من حيِّز الشمس وستة من حيِّز القمر، وستة تطلع بالنهار وستة تطلع بالليل، وستة ترى أنها فوق الأرض وستة لا تُرى فهي تحت الأرض.
وأما الأحوال الست التي للكواكب فهي أن تكون في أوجاتها أو حضيضها، أو شرفها أو هبوطها، أو مع رأس جو زهرها أو مع الذنب فهي ست أحوال.
وأما الست الأخرى، فهي أن يكنَّ مقترنات أو متقابلات أو مربعات أو مثلثات أو مسدسات أو سواقط لا ينظر بعضها إلى بعض.
وأما المسدسات من الأمور التي تحت الفلك فهي الجهات الست التي تنسب إلى الأجسام، والستة الأخرى التي وضعت لمقادير الأوزان من الصنجات والأذرع والمكاييل والأرطال؛ كل ذلك بفعل الستة إذا كانت هي أول العدد التام.
وأما السبعات من الأمور الموجودة فتَرَكْنا ذكرها؛ إذ كان قوم من أهل العلم قد شُغِفُوا بها وأطنبوا في ذكرها، وهي معروفة موجودة في أيدي أهل العلم.
وأما المثمنات فقد ذكرنا طرفًا منها في رسالة الموسيقى لا يحتاج إلى إعادته.
وأما المتسعات من الأمور فقد شغف بها أيضًا قوم من أهل الهند وأكثروا من ذكرها، وأيضًا رجل من أهل العلم يُعرف بالكيال قد شغف بها وأكثرَ مِن ذِكْرِها في كتبٍ له معروفة موجودة في أيدي أهل العلم.
وقد ذكرنا أيضًا طرفًا منها في بعض رسائلنا وفي فصلٍ من هذه الرسالة مما تقدم، وقلنا إن الموجودات الكليات تسع مراتب فحسب، لا أقل ولا أكثر، مطابقة التسع الآحاد المتفق بين الأمم كلها على وضعها؛ لتكون الأمور الوضعية مطابقة مراتبها للأمور الطبيعية التي هي ليست من صنع البشر، بل صنعة خالقٍ حكيم سبحانه وبحمده.
وأما الموجودات المخمسات فالكواكب الخمسة المتحيرة: زحل والمشتري والمريخ والزهرة وعطارد، وإنما سميت متحيرة لأن لها رجوعًا واستقامة، وليس للشمس ولا للقمر رجوع ولا استقامة.
والأجسام الطبيعية الخمسة التي هي جسم الفلك والأربعة الأركان التي دونه من النار والهواء والأرض والماء.
والخمسة الأجناس من الحيوان هي: الإنسان والطير والسائح، والمشَّاء ذو الرجلين وذو الأربع، والذي ينساب على بطنه.
والحواس الخمس الموجودة في الحيوان التام الخلقة؛ وهي: السمع والبصر والشم والذوق واللمس.
والخمسة الأجزاء الموجودة في النبات، وهي الأصل والعروق والورق والزهر والثمر.
والخمسة الأشكال الفاضلة المذكورة في كتاب إقليدس وهي: الشكل الناري ذو الأربعة السطوح المثلثات، والشكل الأرضي ذو السطوح المربعات، والشكل المائي ذو الثمانية السطوح المثلثات، والشكل الهوائي ذو العشرين قاعدة مثلثات، والشكل الفلكي ذو الاثنتي عشرة قاعدة مخمسات.
والخمس النسب الفاضلة الموسيقية؛ وهي: المثل والجزء، والمثل والأجزاء، والضعف، والضعف والجزء، والضعف والأجزاء.
والخمسة أولو العزم من الرسل: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد — صلى الله عليه وآله وعليهم الصلاة والسلام.
والخمسة الأيام الملقب أسماؤها بالعدد في جميع اللغات؛ وهي بالعربية: الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس، وبالفارسية مثلها: يك شنبه، دو شنبه، سه شنبه، جهار شنبه، بنج شنبه.
والخمسة الأيام المشرفة من جملة أيام السنة الفارسية في آخر أيار ماه وأسماؤها بالفارسية: أهند كاه، اسهد كاه، اسفيد كاه، همشتر كاه، استورست كاه.
ففي كون هذه الموجودات على هذه الأعداد المخصوصة دلالة لمن كان له عقل راجح وفهم دقيق، وفطنة بأن لله تعالى ملائكة هم صفوته من خلقه وخيرته من بريته، إليهم تقع الإشارة بهذه الموجودات المقدمات المخصوصات، خَلَقهم لحفظ عالمه، وجعلهم سكان سمواته ومدبِّري أفلاكه ومسيِّري كواكبه ومربِّي نبات أرضه ورعاة حيوانه، منهم السفراء بينه وبين أنبيائه من بني آدم، فمنهم يقع الوحي والنبوات، وهم ينزلون بالبركات من السموات، ويعرجون بأعمال بني آدم وبأرواحهم، وإليهم أشار في أكثر أحكام الشريعة ومفروضات سننها مثل: الصلوات الخمس، والزكاة الخمس، والطهارة الخمس، وشرائط الإيمان الخمس، وبُني الإسلام على خمس، والفضلاء من أهل بيت النبوة خمسة، ومراقي منبر النبوات خمس، وفرائض الحج خمس، والأيام المعدودات بمنى وعرفات خمسة، والحروف المستعملة في أوائل سور القرآن من واحد إلى خمسة.
وكل هذه المخمسات إشارات ودلالات على خمسة من الملائكة، مع كل واحد منهم خمسة آلاف من الملائكة إلى خمسين ألفًا إلى خمسمائة ألف، وما زاد بالغًا ما بلغ، وإليهم أشار في عدة آيات من سور القرآن مثل قوله: تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ، وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ، وقوله تعالى: وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ * وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ * وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ وإلى الخمسة الفاضلة من الملائكة أشار النبي ﷺ بقوله: «حدثني جبريل عليه السلام عن ميكائيل عن إسرافيل عن اللوح عن القلم»، فقد تبين مما ذكرنا معنى قول الحكماء الفيثاغوريين إن الموجودات بحسب طبيعة العدد.
(٣) فصل في بيان نضد العالم وأنه كُرِيُّ الشكل
اعلم يا أخي أن الباري تعالى لمَّا أبدع الموجودات واخترع المخترعات رتَّبها ونظمها وجمعها كلها في فلك واحد محيط بها من كل الجهات، كما ذكر سبحانه وتعالى بقوله: وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ.
فصل
اعلم أن الفلك المحيط كري الشكل مستدير مجوف، وسائر الأفلاك في جوفه مستديرات محيطٌ بعضها ببعض كحلقة البيض والبصل، وهي إحدى عشرة أكرة، والشمس هي في أوسط الأكر: خمس من فوق أكرتها وخمس من دون أكرتها، فالتي فوق أكرتها أكرة المريخ ثم أكرة المشتري ثم أكرة زحل ثم أكرة الكواكب الثابتة ثم أكرة المحيط، والتي دون أكرتها أكرة الزهرة ثم أكرة عطارد ثم أكرة القمر ثم أكرة الهواء ثم أكرة الأرض التي هي المركز، وهي ليست مجوفة ولكن متخلخلة لكثرة المغارات والكهوف والأهوية، وأما الكوكب فإنه أكريات مصمتات مستديرات كما بيَّن في المجسطي بقياس هندسي.
واعلم يا أخي أن الباري جل ثناؤه جعل شكل العالم كريًّا؛ لأن هذا الشكل أفضل الأشكال الخمسة من المثلثات والمربعات والمخروطات وغيرها، وهو أيضًا أوسعها مساحة وأسرعها حركة وأبعدها من الآفات وأقطارُه متساوية ومركزه في وسطه، ويمكنه أن يدور في مكانه ولا يُماسُّ غيرَه إلا على نقطة وأجزاء متقاربة، ويمكنه أن يتحرك مستديرًا مستقيمًا، ولا يمكن أن توجد هذه الخصال والصفات في غيره، وقسم الفلك اثني عشر قسمًا؛ لأن هذا العدد زائدةٌ أجزاؤه أكثر من كله؛ فقد تبين مما ذكرنا أن هذا الشكل الأكري أفضل الأشكال، وأن الباري عز وجل يفعل الأحكم والأتقن، فنتج من هاتين المقدمتين أن شكل العالم مستدير، وإنما اقتضت الحكمة الإلهية والعناية الربانية أنْ جعل الباري جل ثناؤه شكل العالم كريًّا مستديرًا والأفلاك والكواكب كذلك لِمَا تَبيَّن من فضل هذا الشكل على سائر الأشكال الخمسة، وجعل أيضًا حركات الكواكب والأفلاك كُرِيَّة مستديرة، وذلك أن كل كوكب من السبعة يدور في فلك صغير يسمى أفلاك التداوير، وتلك الأفلاك الخارجة المراكز تدور في سطح فلك البروج المحيط بسائر الأفلاك، وهذا الفلك المحيط أيضًا يدور حول الأرض في كل أربع وعشرين ساعة دورة واحدة من المشرق إلى المغرب فوق الأرض، ومن المغرب إلى المشرق تحت الأرض مثل الدولاب.
فلو لم تكن الأرض والفلك وكواكبه كريات مستديرات لَمَا استوى هذا الدوران ولَمَا استمرتْ حركات كواكبه على ما ذكرنا وبيَّنَّا في هذا الوصف. وإذ قد تبين مما ذكرنا أن العالم كري الشكل مستدير، فنريد أن نبين أيضًا أن تصاريف أموره الجزئيات أيضًا مستديرة؛ فمن ذلك أن الأرض بما عليها من البحار والجبال والبراري والأنهار والعمران والخراب أكرة واحدة، والهواء محيط بها من جميع جوانبها وفلك القمر محيط بالهواء، كذلك أن شكل الجبال على بسيط الأرض كل واحدة قطعة قوس من محيط الدائرة، وكذلك شكل الأنهار والأودية ومحيط الأقاليم كل واحد قطعة قوس من محيط الدائرة، وهكذا حكم جريان مياه الأنهار، فإنها تبتدئ من الأنهار في جريانها نحو البحار وتسقي القرى والسوادات، وينصبُّ الباقي إلى البحار ويختلط بمياهها المالحة، ثم يصير بخارًا ويرتفع في الهواء، ويتركب ويتكاثف ويصير غيومًا وسحابًا تسوقها الرياح إلى رءوس الجبال والبراري والقفار، فتمطر هناك وتسيل منها أودية وأنهار وتجري نحو البحار راجعة من الرأس، ويكون منها البخار والغيوم مثل ما كان عام أول دولاب يدور وذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ وهكذا حكم النبات والحيوان والمعادن، فإنها تتكون من هذه الأركان، وتنشأ وتتم وتكمل ثم تفسد وتبلى وتصير ترابًا كما كانت بديًا، ثم إن الله تعالى ينشئ منها ما يشاء كما بدأ أولًا يعيده مرة أخرى دولابًا يدور، وكذلك إذا نظرتَ وتأملتَ واعتبرتَ وجدتَ أكثر ثمار الأشجار وحبوب النبات وبذورها وأوراقها مستديرات الأشكال أو كريات أو مخروطات قريبة من الاستدارة.
وهكذا الثُّقَب التي في أبدان الحيوان إلى الاستدارة أقرب ما تكون، وهكذا أشكال أواني الناس وأدوات الصناع وأرحيتهم ودواليبهم وآبارهم والكيزان والغضائر والقدور والأقداح والقصاع والخواتم والقلانس والعمائم والحلي والتيجان أقرب إلى التدوير.
فاعلم ذلك أيها الأخ وتَفكَّرْ فيه، أعانك الله على المعرفة بحقائق الأشياء بمَنِّه ولطفه، وصلى الله على النبي الخاتم وعلى الوصي القائم، وعلى أولاده وبنيه وعترته آباء الأئمة المهتدين وأمراء المؤمنين الموحدين وسلم تسليمًا، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
(تمت رسالة المبادئ العقلية وتتلوها رسالة في معنى قول الحكماء: إن العالم إنسان كبير.)
من النفسانيات العقليات في المبادئ العقلية على رأي إخوان الصفاء
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ
(١) فصل
اعلم يا أخي أيدك الله وإيانا بروح منه، أنه قد بحث الفلاسفة والعلماء والحكماء في مبادئ الموجودات عن أصول الكائنات، فسنح لقومٍ منهم غير ما سنح للآخرين؛ وذلك أنه سنح لقوم من الثنوية الأمور المثنوية، ولقوم من النصارى الأمور الثلاثية، ولقوم من الطبيعيين الأمور الرباعية، ولقوم آخرين السداسية، ولقوم من الخرمية الأمور الخماسية، ولقوم آخرين الأمور السداسية، ولقوم آخرين الأمور السباعية، ولقوم آخرين من الموسيقيين الأمور الثُّمانية، ولقوم آخرين من الهند الأمور التُّساعية. وأطنبت كل طائفة في ذكرِ ما سنح لها وشغفت به وأغفلت ما سوى ذلك. فأما الحكماء الفيثاغوريون فأَعطَوا كل ذي حق حقه؛ إذ قالوا إن الموجودات بحسب طبيعة العدد كما سنبين طرفًا منه في هذه الرسالة، وهذا مذهب إخواننا — أيدهم الله — وبحسب رأيهم في وضع الأشياء مواضعها وترتيبهم حق مراتبها على المجرى الطبيعي والنظام الإلهي.
(٢) فصل في معنى قول الفيثاغوريين إن الموجودات بحسب طبيعة العدد
اعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن فيثاغورس كان رجلًا حكيمًا موحِّدًا من أهل حران، وكان شديد العناية بالنظر في علم العدد وكيفية نشوئه، كثير البحث عنه وعن خواصه ومراتبه ونظامه، وكان يقول: إن في معرفة العدد وكيفية نشوئه من الواحد الذي قبل الاثنين معرفة وحدانية الله عز وجل، وفي معرفة خواص الأعداد وكيفية ترتيبها ونظامها معرفة موجودات الباري تعالى وعلم مخترعاته وكيفية نظامها وترتيبها، وإن علم العدد مركوز في النفس يحتاج إلى أدنى تأمُّل ويسير من التذكار حتى يستبين ويعرف بلا دليل.
فصل
في مراتب الموجودات ونظام المخترعات، وأنها مطابقة لمراتب الأعداد المفردات المتتاليات عن الواحد، وأن الكل محتاج إلى الواحد، وعلى رأي الإخوان أن الواحد وما بعده محتاج إلى الغير، وهو العاد.
فصل
اعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن الله جل ثناؤه لما أبدع الموجودات واخترع المخلوقات، نَظَمَها ورتبها في الوجود كمراتب الأعداد عن الواحد لتكون كثرتُها دالةً على وحدانيته، وترتيبُها ونظامُها دالَّيْن على إتقان حكمته في صنعها، ولتكون أيضًا نسبتها إلى الذي هو خالقها ومبدعها كنسبة الأعداد إلى الواحد الذي قبل الاثنين، الذي هو أصلها ومبدؤها ومنشؤها، كما بيَّنا في رسالة الأرثماطيقي، وذلك أن الباري جل ثناؤه لما كان واحدًا بالحقيقة من جميع الوجوه والمعاني لم يَجُزْ أن يكون المخلوقٌ المخترَع واحدًا بالحقيقة، بل وجب أن يكون واحدًا متكثرًا مثنويًّا مزدوجًا؛ وذلك أن الباري جل ثناؤه أول ما بدأ بفعل واحد مفعولًا واحدًا متحدًا بفعله الذي هو علة العلل، فلم يكن واحدًا بالحقيقة بل فيه مثنوية؛ فلذلك قالوا إنه أَوجَدَ واخترع أشياء مثنوية مزدوجة وجعلها قوانين الموجودات وأصول الكائنات.
فمِن ذلك ما قالت الحكماءُ الفلاسفةُ الهيولى والصورة، ومنهم من قال النور والظلمة، ومنهم من قال الجوهر والعرض، ومنهم من قال الخير والشر، ومنهم من قال الإثبات والنفي، ومنهم من قال الإيجاب والسلب، ومنهم من قال الروحاني والجسماني، ومنهم من قال اللوح والقلم، ومنهم من قال الفيض والعقل، ومنهم من قال المحبة والغلبة، ومنهم من قال الحركة والسكون، ومنهم من قال الوجود والعدم، ومنهم من قال النفس والروح، ومنهم من قال الكون والفساد، ومنهم من قال الدنيا والآخرة، ومنهم من قال العلة والمعلول، ومنهم من قال المبدأ والمعاد، ومنهم من قال القبض والبسط.
وعلى هذا القياس توجد أشياء كثيرة طبيعية مزدوجة أو متضادة كالمتحرك والساكن، والظاهر والباطن، والعالي والسافل، والخارج والداخل، واللطيف الكثيف، والحار والبارد، والرطب واليابس، والزائد والناقص، والجماد والنامي، والناطق والصامت، والذكر والأنثى من كل زوجين اثنين.
وهكذا توجد تصاريف أحوال الموجودات من الحيوان والنبات؛ كالحياة والممات، والنوم واليقظة، والمرض والصحة، والألم واللذة، والبؤس والنعمة، والسرور والغمة، والحزن والفرح، والصلاح والفساد، والضر والنفع، والخير والشر، والسعادة والمنحسة، والإدبار والإقبال.
وهكذا توجد أحكام الأمور الوضعية والشرعية؛ كالأمر والنهي، والوعد والوعيد، والترغيب والترهيب، والطاعة والمعصية، والمدح والذم، والعقاب والثواب، والحلال والحرام، والحدود والأحكام، والصواب والخطأ، والحسن والقبيح، والصدق والكذب، والحق والباطل.
وعلى هذه الأمور توجد الأمور المثنوية المزدوجة المتضادة، وبالجملة من كل زوجين اثنين.
واعلم يا أخي أنه لمَّا لم يكن من الحكمة أن تكون الأمور الموجودة كلها مثنوية مزدوجة، جعل بعضها مثلثات وبعضها مربعات ومخمسات ومسدسات ومسبعات، وما زاد بالغًا ما بلغ كما سنذكر منها طرفًا بعد هذا الفصل إن شاء الله.
واعلم يا أخي أن الموجودات كلها نوعان، لا أقل ولا أكثر، كليات وجزئيات حسْب؛ فالكليات تسع مراتب، محفوظ نظامها ثابتة أعيانها، وهي كتسعة آحادٍ أولُها البارئ الواحد الفرد جل ثناؤه، ثم العقل ذو القوتين، ثم النفس ذات الثلاثة الألقاب، ثم الهيولى الأولى ذات الأربع الإضافات، ثم الطبيعة ذات الخمسة الأسماء، ثم الجسم ذو الست الجهات، ثم الفلك ذو السبع المدبرات، ثم الأركان ذات الثَّمانية المزاجات، ثم المكونات ذات التسعة الأنواع.
فصل
واعلم أن الباري جل ثناؤه هو أول الموجودات، كما أن الواحد هو قبل كل الأعداد؛ وكما أن الواحد هو نشوء الأعداد، كذلك الباري مُوجِد الموجودات؛ وكما أن الاثنين أول الأعداد والأعداد ترتبت عن الواحد، كذلك العقل أول موجود أبدعه الباري جل وعلا واخترعه، فمن غريزي ومكتسب دليل على رتبته في الموجودات؛ وكما أن الثلاثة ترتبت بعد الاثنين، كذلك النفس ترتبت في الوجود بعد العقل وصارت أنواعها ثلاثة؛ نباتية وحيوانية وناطقة، لتكون دالة على رتبتها في الموجودات له، ثم أوجَدَ الباري جل ثناؤه الهيولى كما ترتبت الأربعة بعد الثلاثة.
ومن أجل هذا قيل إن الهيولى أربعة أنواع: هيولى الصناعة، وهيولى الطبيعة، وهيولى الكل، والهيولى الأولى؛ لتكون هذه الأربعة الأركان دالةً على مَرتبتها في الموجودات، ثم الطبيعة ترتبت بعد الهيولى كما أن الخمسة ترتبت بعد الأربعة.
ومن أجل هذا قيل إن الطبائع خمس: إحداها طبيعة الفلك، وأربع تحت الفلك، ثم تَرتَّبَ الجسم بعد الطبيعة كما ترتبت الستة بعد الخمسة.
ومن أجل هذا قيل إن الجسم له ست جهات، ثم تَركَّبَ الفلك من الجسم وترتب بعده كما ترتبت السبعة بعد الستة.
ومن أجل هذا صار أمر الفلك يجري على سبعة كواكب مدبرات ليكون دلالة على رتبته في الموجودات، ثم ترتبت الأركان في جوف الفلك كما ترتبت الثمانية بعد السبعة.
ومن أجل هذا قيل إنها ذات ثمانية مزاجات؛ فالأرض باردة يابسة، والماء بارد رطب، والهواء حار رطب، والنار حارة يابسة؛ لتكون هذه الثمانية الأوصاف دالةً على رتبتها في الموجودات، ثم تولدت المولدات الثلاثة الأجناس ذات التسعة الأنواع لتكون دالةً على مرتبتها في الموجودات الكليات وهي آخرها كلها، كما أن التسعة آخر مرتبة الآحاد وهي الكائنات المولدات من الأركان الأربعة التي هي الأمهات، وهي المعادن والنبات والحيوان، والمعادن ثلاثة أنواع: ترابية لا تذوب ولا تحترق كالزاجات والكحل، وحجر يذوب ولا يحترق كالذهب والفضة والنحاس وما شاكلها، ومائية تذوب وتحترق كالكبريت والقير وغيرهما. والحيوان ثلاثة أنواع: منه ما يلد ويضع، ومنه ما يبيض ويحضن، ومنه ما يتكون من العفونات. والنبات ثلاثة أنواع: منها ما يغرس كالأشجار، ومنها ما يزرع كالحبوب، ومنها ما ينبت كالحشائش والكلأ.
فقد تَبيَّنَ بما ذكرنا أن الموجودات الكليات هي هذه التسعة المراتب التي ذكرناها وشرحناها، وأما الأمور الجزئيات فداخلة في هذه الكليات التي تَقدَّم ذكرها. وأما الأمور الموجودات المثلثات، فإن من الموجودات الثلاثية الهيولى والصورة والمركب منهما، والجواهر والأعراض والمؤلف منهما، والروحاني والجسماني والمجموع منهما، ومثل المقادير الثلاثة التي هي الخطوط والسطوح والأجسام، ومثل الأبعاد الثلاثة التي هي الطول والعرض والعمق، والأزمان الثلاثة التي هي الماضي والحاضر والمستقبل، والحركات الثلاث من الوسط وإلى الوسط وعلى الوسط، والأعداد الثلاثة التام والزائد والناقص، والعناصر الثلاثة التي هي الممكن والواجب والممتنع، وتقاسيم الأوتاد والزوائل وما يلي الوتد، والمكونات الثلاثة: المعادن والنبات والحيوان، وبالجملة كل أمر ذي واسطة أو طرفين.
ولما كانت الأربعة من الأعداد تالية للثلاثة، وَجَبَ أن تكون أشياء رباعية للمثلثات في الوجود، فجعل الباري جل ثناؤه أشياءَ مربعات تاليات لها في الوجود.
فمنها الأركان الأربعة التي هي النار والهواء والماء والأرض، والطبائع الأربع وهي البرودة واليبوسة والرطوبة والحرارة، والأخلاط الأربعة الصفراء والسوداء والدم والبلغم، والرياح الأربع الصبا والدبور والجرميا والتيمن، والجهات الأربع المشرق والمغرب والشَّمال والجنوب، والأوتاد الأربعة الطالع والغارب والرابع والعاشر، والأزمان الأربعة الربيع والصيف والخريف والشتاء، وأيام العمر أربعة فصولٍ أيام الصبا وأيام الشباب وأيام الكهولة وأيام الشيخوخة، ومراتب الأعداد أربعٌ آحاد وعشرات ومئات وألوف.
وعلى هذا القياس إذا تأمَّل وَجَدَ كثيرًا من مربعات ومخمسات ومسدسات ومسبعات ومثمنات ومتسعات ومعشرات، وما زاد بالغًا ما بلغ من المئات والألوف وعشرات الألوف ومئات الألوف وألوف الألوف.
وبالجملة ما من عدد من الأعداد إلا وقد خلق الباري جل ثناؤه جنسًا من الموجودات مطابقًا لذلك العدد، قل أو كثر، ونريد أن نبين من ذلك طرفًا ليكون دليلًا على ما قلنا وحقيقة لما ذكرنا:
أما المسدسات من الموجودات فأوَّلها في طبيعة الأفلاك وأقسام البروج وحالات الكواكب؛ وذلك أن البروج الاثني عشر: ستة منها ذكور وستة منها إناث، وستة نهارية وستة ليلية، وستة شمالية وستة جنوبية، وستة مستقيمة الطلوع وستة معوجة الطلوع، وستة من حيِّز الشمس وستة من حيِّز القمر، وستة تطلع بالنهار وستة تطلع بالليل، وستة ترى أنها فوق الأرض وستة لا تُرى فهي تحت الأرض.
وأما الأحوال الست التي للكواكب فهي أن تكون في أوجاتها أو حضيضها، أو شرفها أو هبوطها، أو مع رأس جو زهرها أو مع الذنب فهي ست أحوال.
وأما الست الأخرى، فهي أن يكنَّ مقترنات أو متقابلات أو مربعات أو مثلثات أو مسدسات أو سواقط لا ينظر بعضها إلى بعض.
وأما المسدسات من الأمور التي تحت الفلك فهي الجهات الست التي تنسب إلى الأجسام، والستة الأخرى التي وضعت لمقادير الأوزان من الصنجات والأذرع والمكاييل والأرطال؛ كل ذلك بفعل الستة إذا كانت هي أول العدد التام.
وأما السبعات من الأمور الموجودة فتَرَكْنا ذكرها؛ إذ كان قوم من أهل العلم قد شُغِفُوا بها وأطنبوا في ذكرها، وهي معروفة موجودة في أيدي أهل العلم.
وأما المثمنات فقد ذكرنا طرفًا منها في رسالة الموسيقى لا يحتاج إلى إعادته.
وأما المتسعات من الأمور فقد شغف بها أيضًا قوم من أهل الهند وأكثروا من ذكرها، وأيضًا رجل من أهل العلم يُعرف بالكيال قد شغف بها وأكثرَ مِن ذِكْرِها في كتبٍ له معروفة موجودة في أيدي أهل العلم.
وقد ذكرنا أيضًا طرفًا منها في بعض رسائلنا وفي فصلٍ من هذه الرسالة مما تقدم، وقلنا إن الموجودات الكليات تسع مراتب فحسب، لا أقل ولا أكثر، مطابقة التسع الآحاد المتفق بين الأمم كلها على وضعها؛ لتكون الأمور الوضعية مطابقة مراتبها للأمور الطبيعية التي هي ليست من صنع البشر، بل صنعة خالقٍ حكيم سبحانه وبحمده.
وأما الموجودات المخمسات فالكواكب الخمسة المتحيرة: زحل والمشتري والمريخ والزهرة وعطارد، وإنما سميت متحيرة لأن لها رجوعًا واستقامة، وليس للشمس ولا للقمر رجوع ولا استقامة.
والأجسام الطبيعية الخمسة التي هي جسم الفلك والأربعة الأركان التي دونه من النار والهواء والأرض والماء.
والخمسة الأجناس من الحيوان هي: الإنسان والطير والسائح، والمشَّاء ذو الرجلين وذو الأربع، والذي ينساب على بطنه.
والحواس الخمس الموجودة في الحيوان التام الخلقة؛ وهي: السمع والبصر والشم والذوق واللمس.
والخمسة الأجزاء الموجودة في النبات، وهي الأصل والعروق والورق والزهر والثمر.
والخمسة الأشكال الفاضلة المذكورة في كتاب إقليدس وهي: الشكل الناري ذو الأربعة السطوح المثلثات، والشكل الأرضي ذو السطوح المربعات، والشكل المائي ذو الثمانية السطوح المثلثات، والشكل الهوائي ذو العشرين قاعدة مثلثات، والشكل الفلكي ذو الاثنتي عشرة قاعدة مخمسات.
والخمس النسب الفاضلة الموسيقية؛ وهي: المثل والجزء، والمثل والأجزاء، والضعف، والضعف والجزء، والضعف والأجزاء.
والخمسة أولو العزم من الرسل: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد — صلى الله عليه وآله وعليهم الصلاة والسلام.
والخمسة الأيام الملقب أسماؤها بالعدد في جميع اللغات؛ وهي بالعربية: الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس، وبالفارسية مثلها: يك شنبه، دو شنبه، سه شنبه، جهار شنبه، بنج شنبه.
والخمسة الأيام المشرفة من جملة أيام السنة الفارسية في آخر أيار ماه وأسماؤها بالفارسية: أهند كاه، اسهد كاه، اسفيد كاه، همشتر كاه، استورست كاه.
ففي كون هذه الموجودات على هذه الأعداد المخصوصة دلالة لمن كان له عقل راجح وفهم دقيق، وفطنة بأن لله تعالى ملائكة هم صفوته من خلقه وخيرته من بريته، إليهم تقع الإشارة بهذه الموجودات المقدمات المخصوصات، خَلَقهم لحفظ عالمه، وجعلهم سكان سمواته ومدبِّري أفلاكه ومسيِّري كواكبه ومربِّي نبات أرضه ورعاة حيوانه، منهم السفراء بينه وبين أنبيائه من بني آدم، فمنهم يقع الوحي والنبوات، وهم ينزلون بالبركات من السموات، ويعرجون بأعمال بني آدم وبأرواحهم، وإليهم أشار في أكثر أحكام الشريعة ومفروضات سننها مثل: الصلوات الخمس، والزكاة الخمس، والطهارة الخمس، وشرائط الإيمان الخمس، وبُني الإسلام على خمس، والفضلاء من أهل بيت النبوة خمسة، ومراقي منبر النبوات خمس، وفرائض الحج خمس، والأيام المعدودات بمنى وعرفات خمسة، والحروف المستعملة في أوائل سور القرآن من واحد إلى خمسة.
وكل هذه المخمسات إشارات ودلالات على خمسة من الملائكة، مع كل واحد منهم خمسة آلاف من الملائكة إلى خمسين ألفًا إلى خمسمائة ألف، وما زاد بالغًا ما بلغ، وإليهم أشار في عدة آيات من سور القرآن مثل قوله: تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ، وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ، وقوله تعالى: وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ * وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ * وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ وإلى الخمسة الفاضلة من الملائكة أشار النبي ﷺ بقوله: «حدثني جبريل عليه السلام عن ميكائيل عن إسرافيل عن اللوح عن القلم»، فقد تبين مما ذكرنا معنى قول الحكماء الفيثاغوريين إن الموجودات بحسب طبيعة العدد.
(٣) فصل في بيان نضد العالم وأنه كُرِيُّ الشكل
اعلم يا أخي أن الباري تعالى لمَّا أبدع الموجودات واخترع المخترعات رتَّبها ونظمها وجمعها كلها في فلك واحد محيط بها من كل الجهات، كما ذكر سبحانه وتعالى بقوله: وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ.
فصل
اعلم أن الفلك المحيط كري الشكل مستدير مجوف، وسائر الأفلاك في جوفه مستديرات محيطٌ بعضها ببعض كحلقة البيض والبصل، وهي إحدى عشرة أكرة، والشمس هي في أوسط الأكر: خمس من فوق أكرتها وخمس من دون أكرتها، فالتي فوق أكرتها أكرة المريخ ثم أكرة المشتري ثم أكرة زحل ثم أكرة الكواكب الثابتة ثم أكرة المحيط، والتي دون أكرتها أكرة الزهرة ثم أكرة عطارد ثم أكرة القمر ثم أكرة الهواء ثم أكرة الأرض التي هي المركز، وهي ليست مجوفة ولكن متخلخلة لكثرة المغارات والكهوف والأهوية، وأما الكوكب فإنه أكريات مصمتات مستديرات كما بيَّن في المجسطي بقياس هندسي.
واعلم يا أخي أن الباري جل ثناؤه جعل شكل العالم كريًّا؛ لأن هذا الشكل أفضل الأشكال الخمسة من المثلثات والمربعات والمخروطات وغيرها، وهو أيضًا أوسعها مساحة وأسرعها حركة وأبعدها من الآفات وأقطارُه متساوية ومركزه في وسطه، ويمكنه أن يدور في مكانه ولا يُماسُّ غيرَه إلا على نقطة وأجزاء متقاربة، ويمكنه أن يتحرك مستديرًا مستقيمًا، ولا يمكن أن توجد هذه الخصال والصفات في غيره، وقسم الفلك اثني عشر قسمًا؛ لأن هذا العدد زائدةٌ أجزاؤه أكثر من كله؛ فقد تبين مما ذكرنا أن هذا الشكل الأكري أفضل الأشكال، وأن الباري عز وجل يفعل الأحكم والأتقن، فنتج من هاتين المقدمتين أن شكل العالم مستدير، وإنما اقتضت الحكمة الإلهية والعناية الربانية أنْ جعل الباري جل ثناؤه شكل العالم كريًّا مستديرًا والأفلاك والكواكب كذلك لِمَا تَبيَّن من فضل هذا الشكل على سائر الأشكال الخمسة، وجعل أيضًا حركات الكواكب والأفلاك كُرِيَّة مستديرة، وذلك أن كل كوكب من السبعة يدور في فلك صغير يسمى أفلاك التداوير، وتلك الأفلاك الخارجة المراكز تدور في سطح فلك البروج المحيط بسائر الأفلاك، وهذا الفلك المحيط أيضًا يدور حول الأرض في كل أربع وعشرين ساعة دورة واحدة من المشرق إلى المغرب فوق الأرض، ومن المغرب إلى المشرق تحت الأرض مثل الدولاب.
فلو لم تكن الأرض والفلك وكواكبه كريات مستديرات لَمَا استوى هذا الدوران ولَمَا استمرتْ حركات كواكبه على ما ذكرنا وبيَّنَّا في هذا الوصف. وإذ قد تبين مما ذكرنا أن العالم كري الشكل مستدير، فنريد أن نبين أيضًا أن تصاريف أموره الجزئيات أيضًا مستديرة؛ فمن ذلك أن الأرض بما عليها من البحار والجبال والبراري والأنهار والعمران والخراب أكرة واحدة، والهواء محيط بها من جميع جوانبها وفلك القمر محيط بالهواء، كذلك أن شكل الجبال على بسيط الأرض كل واحدة قطعة قوس من محيط الدائرة، وكذلك شكل الأنهار والأودية ومحيط الأقاليم كل واحد قطعة قوس من محيط الدائرة، وهكذا حكم جريان مياه الأنهار، فإنها تبتدئ من الأنهار في جريانها نحو البحار وتسقي القرى والسوادات، وينصبُّ الباقي إلى البحار ويختلط بمياهها المالحة، ثم يصير بخارًا ويرتفع في الهواء، ويتركب ويتكاثف ويصير غيومًا وسحابًا تسوقها الرياح إلى رءوس الجبال والبراري والقفار، فتمطر هناك وتسيل منها أودية وأنهار وتجري نحو البحار راجعة من الرأس، ويكون منها البخار والغيوم مثل ما كان عام أول دولاب يدور وذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ وهكذا حكم النبات والحيوان والمعادن، فإنها تتكون من هذه الأركان، وتنشأ وتتم وتكمل ثم تفسد وتبلى وتصير ترابًا كما كانت بديًا، ثم إن الله تعالى ينشئ منها ما يشاء كما بدأ أولًا يعيده مرة أخرى دولابًا يدور، وكذلك إذا نظرتَ وتأملتَ واعتبرتَ وجدتَ أكثر ثمار الأشجار وحبوب النبات وبذورها وأوراقها مستديرات الأشكال أو كريات أو مخروطات قريبة من الاستدارة.
وهكذا الثُّقَب التي في أبدان الحيوان إلى الاستدارة أقرب ما تكون، وهكذا أشكال أواني الناس وأدوات الصناع وأرحيتهم ودواليبهم وآبارهم والكيزان والغضائر والقدور والأقداح والقصاع والخواتم والقلانس والعمائم والحلي والتيجان أقرب إلى التدوير.
فاعلم ذلك أيها الأخ وتَفكَّرْ فيه، أعانك الله على المعرفة بحقائق الأشياء بمَنِّه ولطفه، وصلى الله على النبي الخاتم وعلى الوصي القائم، وعلى أولاده وبنيه وعترته آباء الأئمة المهتدين وأمراء المؤمنين الموحدين وسلم تسليمًا، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
(تمت رسالة المبادئ العقلية وتتلوها رسالة في معنى قول الحكماء: إن العالم إنسان كبير.)