الرسالة السابعة عشرة
من الجسمانيات الطبيعيات في علل اختلاف اللغات ورسوم الخطوط والعبارات
بسم الله الرحمن الرحيم
الْحَمْدُ لِلهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ
(١) فصل
اعلم أيها الأخ البار الرحيم، أيدك الله وإيانا بروح منه، أنه لما فرغنا من ذكر اللذات والآلام الجسمانية والروحانية، وذكْر علة كراهية الحيوان للموت، نريد أن نذكر في هذه الرسالة التي في آخر الطبيعيات بيان اختلاف علل اللغات، فنقول:
إن معرفة علل اختلاف اللغات والكلام والأصوات ورسوم الخطوط والكتابات، وكيفية مبادئ المذاهب، واعتقادات الآراء والديانات، وأصل تكوينها ومبدئها وظهورها ومنشئها، وتزيينها ونموها وكثرتها واختلاف أهلها فيها وآرائهم ومنهاجهم، ودثور قوم وكون آخرين منهم قرنًا بعد قرن وأمة بعد أمة؛ لا تكون إلا بعد البيان والإيضاح عن الأصل الذي تفرعت عنه هذه الأمور التي ذكرناها، والإخبار عن كيفية تركيبها وتحليلها وحركتها في مبدئها وكونها بذاتها، وعن اختلاف مجاريها وينبوعاتها في سائر الأجسام، وشدة بيانها عن الحواس وسريانها في الأجناس وإنارتها للحواس وصفة حدوثها بسرعة وانتقال وخروجها بحركة وانفصال وذهابها بعدم واضمحلال وكيفية وجودها في عالم الإنسان، وكيف كانت فيه في مبدئها، وكيفيتها فيما دونه من الحيوان وغير الحيوان، تؤديها إلى حاسَّة السمع من جملتها ومن يحملها، وكيفية حملها، وما السبب الموصل لها إلى الحاسَّة المتحققة بها ولم يدركها من الحواس غير هذه الحاسَّة، وما العلة في ذلك وكيف يعرف الإنسان بخاصة هذه الحاسَّة مفهومها وغير مفهومها بالبرهان.
وهذه أمور غامضة نحتاج فيها إلى بحث دقيق والإخبار بها من غايات الأسرار، ونريد أن نذكر منها في هذه الرسالة طرفًا بحسب التوفيق ليكون مدخلًا إلى علم ذلك ومقدمة بين يديه؛ ليسهل الباقي ويكون بأوجز قول يؤدي إلى الفهم، وأوضح دليل يسهل به العلم، من غير تطويل يشتبه على قارئه، ولا إسهاب يضجر راويَه، ونبدأ من ذلك في ذكر الأصل والعلم في مبادئه، فنقول:
اعلم أن هيولى الحكمة تتَّحد من إرادة الهيئة؛ لأنها هيولى قابلة لجميع الأشياء، وهي مادة سماوية وقوة فلكية وأسباب علوية وقوة عقلية متصلة بجواهر روحانية وأشخاص نفسانية، ترتبط بأفلاك دائرة وتتصل بكواكب سائرة، وتشرق على نجوم طالعة وتضيء بأنوار ساطعة، وترمي إلى ما دونها أنوارها وتودع المصطفين في الأشخاص الإنسانية أسرارها، وتجعل فيهم ودائع الخيرات وتجعلهم مفاتيح البركات، وذلك بما يتخالف إليها ويتعاقب عليها من اتصال وافتراق واختلاف واتفاق، من غير خلل في نظام الابتداء ولا تنقص عن تمام البلوغ والانتهاء، وأن تلك المادة الفاعلة لجميع المكونات لا تدرك إلا بلطائف الحواس، ولا يبلغ تناولها إلا بالالتماس، وكيف لا يكون ذلك كذلك، وهو السبب الذي لا تنقضي عجائب مادته ولا تفني مواد كميته؟! فنقول:
اعلم يا أخي أن المعرفة لها والعلم بها درجة صعبة الارتقاء ومسافة بعيدة الانتهاء؛ وهي درجة العارفين ومقام المستبصرين، الناظرين إلى آثارها العارفين بأخبارها، من طريق العناية عن الحواس الحيوانية والطريق الجرمانية؛ إذ كانت آثارها روحانية ومواردها نفسانية، وعنها صدرت القوة المتصلة بالحكماء وهي روح القدس النازلة على الأنبياء، عليهم السلام، بالوحي من السماء، وعليها معول العلماء، وربما وردت أشياء كثيرة الاختلاف بعيدة الائتلاف، متباينة القوانين مختلفة الموازين.
وذلك أن ما كان منها في هذا المكان الأرضي والمركز السفلي تضعف الحواس عن إدراك معرفتها، وتعجز المشاعر البشرية التي هي من أسباب الهيولى عن بلوغ إدراكها، فإذا كانت الأشياء على هذا المثال منشؤها، وبهذا الترتيب مبدؤها، وكانت القوة التي هي مادة المعرفة بالحس في العالم الإنسي، وسبب القبول في الجسم المجبول يعجزان عن البلوغ ويضعفان عن الوصول، وكانت مدة الزمانية التي هي سبب الحياة الإنسانية تقصر عن الطلب وتفنى قبل بلوغ الأرب، وتضيق عن الإحاطة بمعرفة ذلك السبب.
وإذا كان الأمر على ما وصفنا، كان أول ما قصده العاقل، وتوخاه واعتمد عليه الفاضل، وتحراه معرفة ما طاوعه عليه حسه وساعده على قبوله جوهر نفسه، وتلقاه أيام مدته وأعمل فيه فكرته زادت فيه بصيرته؛ فمن لا حس فيه لا معرفة له، ومن لا معرفة له لا جوهر له، ومن لا جوهر له لا بلوغ له، ومن لا بلوغ له لا مقر له، ومن لا مقر له لا وجود له، ومن لا وجود له فهو العدم.
(٢) فصل
ثم اعلم أن الغرض من اتحاد المركبات كلها هو معرفة السبب الموجب لذاتها، المنشئ لمباديها، المؤلف لكيفياتها، وكيف كان منشأ الابتداء، وإلى أين تئول العاقبة في الانتهاء، وكيف كان التئام التأليف واتفاق اللطيف بالكثيف وازدواج التركيب، وكيف يكون افتراق المجتمع وانفراد المزدوج وانحلال المنعقد، واتحاد منفردها وعدم وجودها، ونفاد أجزائها بعد صحة وجودها، وسلامة معهودها ووثاقة معقودها، فإذا أنت علمته وتصورته وتبينته وتأملته، بان لك إذا ساعدك عليه حسك، وأوصلك إلى معرفة قبول جوهرة نفسك، وتأملته تأمل التحقيق، وبان لك كيفية التأليف والتركيب، واقتران اللطيف بالكثيف الذين بهما وبصحة معرفتهما، وجود مادتهما وإحداهما مادة أرضية وقوة جسمية، والأخرى صورة روحانية وشهوة ملكية، فيا لها من قصة عجيبة ظريفة من اجتماع ما علا مع ما دنا، وارتباط ما لطف بما كثف! جارت في ذلك عقول الحكماء، وتاهت فيه أذهان العقلاء، وانسدت الطرقات، وانطمست العلامات، وتعذرت الدلالات؛ إذ كان من المنكر في هذا العالم على من له حكمة ونظر، أن يقرن العالم بالجاهل، وأن يجمع بين الجوهر والحجر في مقر واحد، اللهم إلا يكون أراد تعذيب العالم بالجاهل؛ جزاءً له بذنب عمله وجرم قدمه، أو مقارنة الجوهر بالحجر وكونهما في مكان واحد ليكون الحجر سترًا على الجوهر وواقيًا له وغطاء عليه وحجابًا بين يديه، لا أن يكون العالم والجاهل عنده في مقام واحد.
وكذلك الحجر والجوهر إذا كانا في مقام من جهة الصورة الجسمانية والهيولى الجرمانية منعكسين في فيء الهيولى، فإنهما لا يعرفان ما اتحد بهما بفيء الظل والجوهر من المواد المضيئة والرتب العلوية، أعني العالم، والحجر عدم ذلك فليس يقال بأنه عالم.
ولما كان ذلك كذلك زالت الشبهة والإنكار لوجود معرفة ذلك السبب الموجب الاجتماع، ووجب للطالب إذا طلب معرفة ذلك السبب، ومن بعد وجود اجتماعها حصول افتراقهما ووجود أحدهما بجملة وعدم الآخر وتفرقته، وإذا عرفت ذلك بانَ لك الفرق بين الجسم والعرض، وأدركت المراد والغرض، وسأبين من ذلك طرفًا يعينك على ذلك، ويبلغك إلى معرفة ما وصفت لك؛ إذ قد فرغنا من ذلك رجعنا إلى الإبانة عن تركيب الأصوات، واختلاف اللغات، ومبادئ الخطوط والكتابات والألفاظ والعبارات، واستخراج الحروف والمؤلفات، ومن أين تخرجت، وعمن أحدثت، وفي أي مكان وجدت، والله ولي التوفيق.
(٣) فصل
ثم اعلم أنه لما سَرَت القوة النفسانية في الجسم، الذي هو العالم بأسره، بعد كونها لا سريان لها، ساكنة في حظيرة القدس في روضة الأنس، حيث سريان القوة العلوية فيها، وإشراقها عليها وكونها مرتبة بحيث رتبها باريها، كما قال تعالى: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى، وهي الكون في وقت الابتداء، فلما امتلأت من الفضائل والخيرات وما بلغ إليها من الإفاضة، وكانت ذات فكر وتخيُّل، فتفكرت ثم تخيلت ثم نظرت، فأرادت أن تكون ذا منة وتفضُّل، وأن تكون رياسة ونفاسة، وأن تكون مفيدة، فبدا لها في ذلك التخيل الذي تخيلته، والمثال الذي مثلته، وانبث السريان فيه والارتباط به من جسم العالم، ومكنها الله تعالى من ذلك، وجعله جسدًا لها وأراها خلاف ما ظنته، فلما دارت أفلاكه، وسارت أملاكه، وزهرت كواكبه، وبدت عجائبه؛ أقبلت تمثل فيه ما كان ممثلًا فيها، وتخرجه من القوة إلى الفعل، ومن المعقول إلى المحسوس، الشيء بعد الشيء، ثم إن جميع الموجودات وسائر المصنوعات لما بدت ووجدت في العالم، وقع الاختلاف فيها، والسؤال عنها من جهة ثلاثة أنواع يحصرها جنس واحد؛ فأول ذلك الترتيب الأول المرتب كان في النفس أولًا بالقوة والأمور العقلية المعقولة، وهي صورة أعياز بسائط المركبات والموجودات بالترتيب، والثاني هي الأمور المحسوسة ثم البرهان يقتضي علتها ويبين معانيها ويعرف الناظر فيها والسائل عنها معرفة كيفيتها معقولة في غاية التجرد النفساني وكونها بعدها محسوسة في العالم الجسماني.
فأما تفصيل ذلك فنقول: أما الصورة العقلية فهي آثار العقل الكلي في النفس الكلي لقبولها منه وكونها بالقرب منه، وهي أنوار مضيئة تخرج عن حد الوصف بالعبارة الجسمانية من حيث التركيب إذ كانت في غاية البساطة والتجريد إلى الأمور المحسوسة، فهي صورة في الهيولى تدركها الحواس بالمباشرة لها، وتنفعل منها بخاصة القوة فيها.
وأما الأمور المبرهنة فهي أشياء لا تدرك إلا بمواد العلم وصحة العقل، وهي أمور يكون مبدؤها من أمور إلهية وأشخاص ملكية، تضطر العقول إلى الإقرار بها والإذعان لصحتها والتمسك بمعرفتها، كما بين في كتب الهندسة، وصحة الدليل على ما قد قال أهلها أن أشكال الأشياء لا يحاط بأطرافها، ولا تدرك أقدارها، ولا ترى أقطارها، ولا يمكن رؤيتها إلا مدورة بأي شكل شكلت، وأي مثال مثلت، كما قال إقليدس في كتابه إن مقدار ظل أي نهاية، جسمًا كان أو سطحًا أو خطًّا، فإنه يمكن أن يوجد منه دائمًا ولا يفنى أبدًا، فهذه حكمة لا تدركها الحواس ولا تتصورها الأوهام البتة من غير تعريف.
وقد تكلم إقليدس أيضًا في مقدمات كتابه عن البرهان وقال: إن البرهان مقدمات الحجة على تحقيق الخبر.
فأما التمام فهو العلم بالمعلوم بجميع ما ذكرنا، قال إقليدس: وإنما النقطة هي التي لا جزء لها، والخط هو طول بلا عرض، وطرفا الخط نقطتان، والخط المستقيم هو الموضوع في مقابلة كل واحدة من نقطتي طرفيه على سمت واحد، فهذا يدل على أن النقطة وهمية لا تتحقق إلا بالبرهان، ولا تعرف إلا بالخبرة، فقد تبين إذَنْ أن الأمور المبرهنة لا تدركها الحواس، ولا تتصورها الأوهام، ولكن البرهان الضروري والحجة القاطعة يضطران العقل إلى الإقرار بهما؛ لأن البرهان ميزان العقل، كما أن الكيل والوزن والذرع ميزان الحواس، فاعرف ما ذكرنا، وتحقق ما وصفنا، وأَدِمْ فيه فكرك، وأعمِل رويتك؛ فإنك بذلك تنال غرضك فتبلغ مرادك وطلبتك.
(٤) فصل في معرفة الأصوات الفلكية
فنقول: اعلم أن الأصوات هي الأعراض الحادثة من الجواهر؛ والجواهر جنسان؛ فما علا ولطف قيل جواهر علوية، وما دنا وكثف قيل جواهر سلفية وأصوات هي أعراض لا يكون حدوثها إلا عن الجواهر، وحدوثها لا يكون إلا من محرك يحركها، تارة يطن الصوت ويتصل بمسمع الحاضرين، وتارة يسكنها فيسكن الصوت.
ولما كان ذلك كذلك، وضح البرهان على أن أصل الحركة هو النفس، وأن الصوت منفعل من حركتها وسريان قواها في الأجسام.
ولما كانت الأفلاك دائرات والكواكب والنجوم متحركات، وجب أن يكون لها أصوات ونغمات.
ولما كانت مستوية في نظامها محفوظة عليها صورة تمامها وكمالها، وجب أن تكون حركاتها منفصلة وأصواتها متصلة، وأقسامها معتدلة، ونغماتها لذيذة، وألحانها بديعة، ومقالتها تسبيحًا وتقديسًا وتكبيرًا وتهليلًا، تفرح بها نفوس المستمعين لها والحافين بها من الملائكة، والنفوس التي تقدم عليها وتصعد إليها، وتلك الحركات والأصوات هي مكيال الدهور والأزمان، التي بها يحكم على عالمها بالبقاء من حيث هي كما أن الأصوات اللذيذة والألحان المطربة والنغمات الحسنة في عالم الأبدان تفرح بها نفوس السامعين لها، وتحن إلى استماع ما كان لذيذًا منها، وتسر بقربها وتسلى عنها الغموم وينجلي عنها الهموم، ويكون منها سكونات فاصلة بين تلك النغمات والحركات، فتصير عند ذلك مكيالًا للزمان وذرعًا له، ومحاكية لحركات الأشخاص الفلكية والأصوات الملكية ومناسبة لها، وتلك هي الأصل في جميعها وهذه فروعها وقد استمعتها النفوس، وهي في عالم الكون والفساد، فتذكرت بها عالم الأفلاك ولذات النفوس التي هناك من فسحة الجنان وروضة الريحان، وعلمت أنها في أحسن الأحوال وأطيب اللذات وأتم الأشكال وأدوم السرور؛ لأن تلك النغمات والأصوات هي أضعاف هذه الألحان، وهي أطيب؛ لأن تلك أحسن ترتيبًا وأصح تأليفًا، وأجود هندامًا وأقوم نظامًا، وأصفى جوهرًا، ومناسبات حركاتها أصح تأليفًا.
فإذا تخيلت النفوس الجزئية التي في عالم الكون والفساد ما في عالم الأفلاك وتيقنت حقيقة ما وصفنا، تشوقت عند ذلك إلى الصعود إلى هناك واللحاق بأبناء جنسها والوصول إلى حظيرة الفلك وروضة الأنس.
ولما بان لنا أن الفلك طبيعة خامسة، وأنها ليست بمخالفة لهذه الأجسام التي دون فلك القمر في كل الصفات؛ وذلك أن منها ما هو مضيء كالنار وهي الكواكب، ومنها صقيل الوجه كوجه المرآة وهو جرم القمر، ومنها ما يقبل النور والظلمة مثل الهواء وهو فلك القمر وفلك عطارد، وهذه كلها أوصاف الأجسام الطبيعية تشاركها الأجسام الفلكية، فقد بان بأن الفلك، وإن كان طبيعة خامسة، فليس بمخالف للأجسام الطبيعية في كل الصفات، بل في بعض دون بعض؛ وذلك أنه ليس بحارٍّ ولا بارد ولا رطب ولا يابس، بل هو صلب أشد صلابة من الياقوت وأشف من البلور وأصقل من المرآة، وأنه يماس بعضه بعضًا ويصطك ويحتك، ويطن كما يطن النحاس، ويكون لنغماته وأصواته مناسبات مؤتلفة وألحان موزونة، كما بيَّنا في رسالة الموسيقى بأكثر من هذا البيان، وأقمنا عليه البرهان من صناعة العود وضرب الأوتار وما يستعمله أهل هذه الصناعة من النسبة، وهي أصح نسبة تكون وأفضلها؛ لأنها نسبة روحانية.
فصل
ثم اعلم أنه لو لم يكن لحركات أشخاص الأفلاك أصوات ونغمات، ولا للملائكة كلام ولا تسبيح ولا تقديس، فليسوا هم إذَنْ أحياءً، فهم أموات؛ لأن الصمت بالموتى أولى، ولربما احتكَّ بعض الأحجار ببعض، فيَحدث من بينهما قرع في الهواء. ولو كان الفلك ومن فيه بغير كلام ولا صوت ولا نطق، لكان ما يكون تحته مشاكلًا له، وكان من يكون ساكنًا بغير حركة.
ولما كان هذا من الأصل في البداية وجب أن يكون ما تحته مناسبًا له، لكن هو الأعلى زيادة عليه؛ إذ كان هو الفاعل وهذا المنفعل، وأيهما الأولى بالنطق والحركة والكلام والتسبيح والتكبير والتقديس والتهليل؛ أهل السموات والأفلاك أم أهل الأرض من عالم الإنسان والحيوان والجمادات؟ وأيهما أولى بالسمع والأبصار والأذهان والأفكار والخواطر والأذكار والعلم والعقل؛ أهل السموات أم أهل الأرض؟ فأهل السموات هم المسبحون المستغفرون لمن في الأرض، لا يفترون عن التسبيح ولا يسكتون عن التقديس بألحان طيبة ونغمات لذيذة، ألذ من نغمات العيدان ونقر الأوتار والطنابير ومجاوبة المزامير في الميادين الفسيحة والأنبوبات القائمة. وإن تلك النغمات والألحان تذكر تلك النفوس البسيطة التي هناك سرور عالم الأرواح ومحل الأشباح التي فوق فلك الأفلاك، التي جواهرها أشرف وألطف من جواهر عالم الأفلاك، الذي هو عالم النفوس ودار الحيوان، الذي نعيمها كله روح وريحان في درجات الجنان؛ ولذلك صارت النفوس الجزئية التي في عالم الكون والفساد إذا سمعت الأصوات الطيبة والنغمات اللذيذة، مثل قراءة الإنجيل وتلاوة القرآن وألحان الداودية وألحان القراء في المجالس، تذكرت رسوم الأفلاك ومحل السموات، وتشوقت إلى ما هناك؛ ولذلك قالت الحكماء إن الموجودات والمعلومات هي التي تحاكي أحوال الموجودات الأولى التي هي علل لها، وقولهم إن الأشخاص الفلكية علل وآلات لهذه الأشخاص التي في عالم الكون والفساد، وإن حركات تلك علة لحركات هذه، وحركات هذه تحاكي حركات تلك؛ فواجب أن تكون أصوات هذه ونغماتها تحاكي ما هو علة لها كمحاكاة الصبيان أصوات آبائهم وأمهاتهم وحركاتهم في لعبهم، فإنهم يحاكون أفعال الآباء والأمهات.
وهكذا التلامذة يحاكون أفعال الأستاذين، وأكثر العقلاء والعلماء من الناس يعلمون أن الأشخاص الفلكية وحركاتها المنتظمة وأصواتها الموزونة على النسبة الفاضلة متقدمة الوجود على الحيوانات التي تحت فلك القمر، وحركاتها علة لحركات هذه، وأن عالم النفوس متقدم الوجود على عالم الأجسام، كما بيَّنا في رسالة المبادئ العقلية، ولما وجد في عالم الكون والفساد حركات وأجسام ذوات أصوات وحيوانات ناطقة.
دل على ذلك أن في عالم السموات أشخاصًا ناطقة ولطائف متحركة، وأن لتلك الحركات نغمات متناسبات مفرحة لنفوسها ومشوقة لها إلى فوقها، كما يوجد في طباع الصبيان اشتياق إلى أحوال الآباء والأمهات، وفي طباع المتعلمين والتلامذة اشتياق إلى أحوال الأستاذين، وفي طباع الجنود والخدم اشتياق إلى أحوال الملوك والرؤساء، وفي طباع العقلاء والفضلاء اشتياق إلى أحوال الملائكة وتشبُّه بهم، كما قيل في حد الفلسفة أنها تشبُّه بالإله بحسب طاقة الإنسان.
وقد قيل إن فيثاغورس سمع، بصفاء جوهره وذكاء قلبه، نغمات حركات الأفلاك وأصوات حركات الكواكب، واستخرج بجودة فكره أصوات نغمات الموسيقى وأوضاع ألحانها المطربة، وهو أول من تكلم في هذا العلم وخبر عن هذا السر من الحكماء، ثم تيقوماخس وبطليموس وإقليدس وغيرهم من الحكماء تصرفوا في ذلك وأتقنوا كما ينبغي.
وقد ذكرنا في هذا المعنى واستقصينا البيان بإقامة الدلالة عليه في رسالة الموسيقى، فقد بان بما ذكرنا وتحقق بما وصفنا أن السموات عامرة بأهلها مسكونة، ولسكانها أصوات ونغمات، والأصوات والنغمات والحركات التي هي أعراض تحدث من حركات الأجسام الحيوانية وغير الحيوانية، إنما تظهر وتبرز بحسب بروز تلك الأصوات في ذلك العالم.
وهكذا أيضًا تتبع هذه الحركات الجزئية تلك الحركات الكلية، وهذه حركات ناقصة وتلك حركات كاملة، وهذه حركات فانية وتلك حركات باقية صالحة، وتلك الحركات والأصوات والنغمات كلها مفهومة وهذه غير مفهومة، وتلك مستوية وهذه غير مستوية.
والعلة في ذلك صفاء هيولى تلك وكدر هيولى هذه، وهيولى هذه فانية فاسدة وتلك باقية صالحة، وتلك الحركات مكائل الدهور النفسانية وهذه مكائل الأوقات الزمانية، وهذه مركبة وتلك بسيطة، وهذه فيها اختلاف وتغيير وتلك لا اختلاف فيها ولا تغيير، والنغمات اللذيذة والأصوات الطيبة في هذا العالم قليلة الوجود معدومة على الحال الأكثر يتخصص بها الملوك والكبار ويتنافسون فيها، ويكثر غير المخصوص بها لشرفها وجلالتها في النفوس.
ولذلك صارت النفوس الجزئية، إذا سمعت نغمة طيبة وصوتًا حسنًا، تنجذب إليه وتصبو نحوه وتنصت إليه أسماعها، لقلته وكثرة أضداده من الأصوات المنكرة.
وهكذا ميلها إلى الصورة الحسنة والأشخاص المليحة لقلتها وكثرة أضدادها؛ فلذلك صارت المستحسنات مرغوبًا فيها محبوبة لكثرة التنافس فيها ولقلة وجودها.
فأما ذلك العلوي فكله روح وريحان ونغمات لذيذة وأحلان طيبة وصور حسَان، وهو مسكن الحور والولدان وسرور وخير معرًّى من الشوائب المنغِّصة والأخلاق الموحشة.
فلذلك قيل إنه لا يصل إلى هناك إلا مَن حسنت أفعاله وزكت أعماله، فيكون ذلك معينًا له على الارتقاء إلى هناك، واللحاق بذلك العالم الفاضل الشريف الكامل؛ ولذلك قيل حُسن الصوت زيادة في الرزق، وقيل سماحة الصوت نصف الزمانية.
فصل
ثم اعلم أن من لدن فلك المحيط إلى منتهى فلك القمر أصواتًا مرتفعة وألحانًا مطربة ونغمات لذيذة ولغات مختلفة وحركات مؤتلفة، ناطقة كلها بالتسبيح والتهليل والتكبير والتحميد؛ فقد بان لك بهذا الوصف معرفة الأصوات الفلكية والحركات السماوية، وسنذكر بعد ذلك الأصواتَ الأرضية والنغمات السفلية.
(٥) فصل في معرفة أصول الأصوات الأرضية
فنقول: اعلم أن أصل الأصوات هو ما حدث من تصادم الأجرام وحركات الأجسام، والصوت قرع يحدث من الهواء إذا صدمت الأجسام بعضُها بعضًا، فتحدث بين ذَيْنك الجسمين حركة عرضية تسمى صوتًا، بأي حركة تحركت ولأي جسم صدمت ومن أي شيء كانت، وهذه الأصوات تنقسم قسمين: حيوانية وغير حيوانية، والحيوانية تنقسم أقسامًا وتتفرق أجناسًا على حسب اختلاف الحيوان في أجناسها وتباينها في أصواتها، وسنأتي على بيان ذلك في موضعه إن شاء الله. والأصوات التي هي غير حيوانية أيضًا تنقسم قسمين وتوجد في نوعين، وذلك أنها طبيعية وآلية؛ فالطبيعية كصوت الرعد والريح والبرق وكصوت الأجسام التي لا أرواح فيها كالجمادات، ومثل صوت الحديد والحجر والخشب وما أشبه ذلك. والآلية هي الأجسام الصناعية كصوت الطبل والبوق والزمر والوتر والمناقر وجميع هذه طبيعية وآلية، لا يحدث فيها صوت ولا يسمع لها حركة إلا مِن تصادم بعضها ببعض وامتزاج بعضها ببعض، فإنه لولا أن الزامر ينفخ في الناي والمغني يحرك الوتر والناقر ينقر الحجر، لم يوجد لذلك صوت ولا يسمع له حس.
وأما أصوات الرعد فقد قالت الحشوية إنه للملك يزجر السحاب ويسوقه ويفرقه يمينًا وشمالًا، وإن الملائكة عن يمينه وشماله يسبحون بتسبيحه ويسكتون بسكوته، سبحانك هذا بهتان عظيم؛ فلم يكن عند علماء هذه الطائفة الحشوية أكثر من هذا العمى ببصيرتهم وقلة عقلهم وتمام جهالتهم.
وقال غيرهم ممن يدعي معرفة علم الهيئة إنه يحدث من تصادم السحاب واصطكاك الغيوم، وهذا خطأ؛ لأن السحاب جسم منعقد من البخار يتصاعد من الأرض لطيفًا ثم يتكاثف من التئام بعضه إلى بعض، وهو جسم لا صوت له.
وقال آخرون هو الريح يخرق السحاب، والريح إذا خرق السحاب فرقه وقطعه ولم يحدث من بينهما صوت.
بقي القول في الصواب وهو أن يطلع البخار بلطافته حتى يتعلق في عنان الهواء، وهو على ضربين: رطب ويابس، فإذا اجتمعا وتكاثفا امتزجا وتعاقدا، فعُقد البخار الرطب مع البخار اليابس بقوة كثافته وشدة رطوبته ولا يكون له منفذ إلا بشدة شديدة، فيجتمع بقوته ويخترق الهواء بلطافته، فيحدث منه ذلك الصوت على قدر كثرته وقلته، وربما طلب العلو فلم يكن له منفذ، فانعكس البخار اليابس فطلب السفل فقدح نارًا أو يحدث منه صوت هائل، وهو الذي يسمى الصاعقة، كما يحدث من الزق المنفوخ إذا وقع عليه حجر ثقيل من شاهق وشقه وخرج منه الهواء الذي كان فيد دفعة واحدة، وحدث منه صوت هائل، وهو الذي يسمى صاعقة يسمعه مَن بقرب تلك البقعة، وربما يتحول ذلك البخار فيصير ريحًا يدور في جوف السحاب ويطلب الخروج منه ويسمع له دوي وقرقرة كما يسمع من أجواف الحيوان والإنسان من الريح التي تحدث في الجوف من جهة المأكول الذي يحدث فيه.
(٦) فصل في أن منتهى كل حاسة إلى القلب
ثم اعلم أنه لولا العناية الإلهية والسياسة الربانية ورحمة الله تعالى بخلقه ورأفته بعباده بأن جعل كرة النسيم عالية عن كرة السحاب، مرتفعة بعيدة من الأرض بمقدار الحاجة، وجعل من شأن السحاب أنه إذا انخرق طلب الصعود إلى فوق، ومن شأن قرع الهواء إذا حدث أن تكون حركته إلى فوق، ولولا ذلك لكانت أصوات الرعد ولمعان البرق تضر بمسامع الحيوان وأبصارها، ولأهلكتها كما يكون ذلك في بعض الأحايين.
وذلك أن السحاب إذ تزاحم ودفع بعضه بعضًا حتى ينضغط، فينتقل من قرب الأرض وتحدث منه الرعود وتنخرق السحب من أسفل، فيحدث من ذلك قرع في الهواء وتدافُع منحط في الأرض، فيكون من ذلك صوت هائل يسمى صاعقة، وتقتل كثيرًا من الحيوان الذي يقرب من ذلك المكان، وربما أحرقت بعض الأجسام الرخوة؛ لأنها نار لطيفة.
وأما الأجسام الصلبة فإنها قل ما تفعل فيها، وقد ذكرنا طرفًا من هذا في رسالة الآثار العلوية، ولولا خروجنا عما له قصدنا، لشرحنا ذلك شرحًا تامًّا كاملًا.
ثم اعلم أنه كما لا يجوز في العقل أن يكون حيوان إلا من مماسة أسباب أو نكاح أجسام كذلك لا توجد الأصوات إلا في الأجسام ولا تصوت الأجسام إلا بحركات.
ثم إن الأصوات أعراض حادثة والجواهر أجسام حاملة لها، فإن زعم زاعم أو اعترض معترض فقال إنه قد توجد أصوات في غير أجسام ومن غير حركات الأجسام؛ وذلك أنه إذا تكلم متكلم في سفح جبل أو صاح في قعر بئر أو نهر، أجابه مجيب بمثل كلامه يسمع المتكلم جوابه من غير جسم ولا حركة جسم.
وقد يُرى أيضًا حيوان يتكون من غير نتاج ولا نكاح مثل دود الخل وسوس التمر وما يتكون من العفونات ومن النداوات وما أشبه ذلك.
فليعلم هذا المعترض وهذا القائل أنه ليس القول كما زعم، فإنه جاهل بهذه الأشياء وبهذه الأسباب الموجبة لحدوثها منها وكونها عنها، فغلط فيما رأى من موجوداتها، وكان قليل المعرفة بمعلوماتها، وأنه لما سمع الصوت من الجبل والبئر ظن بأنه أجابه بجوابه وردَّ عليه بكلامه، إما من حيوان لا يراه وشيء لا يعاينه، أو أن الجبل نطق بجوابه وقعر البئر رد كلامه، فهذا تخيُّل مَن لا عقل له ولا معرفة عنده، فالصوت الذي يسمعه إنما هو صوته والحركة التي بدت منه في الهواء، وذلك إنه صاح في سفح الجبل وقعر البئر إلى جانب الحائط، فخرج من جوف المتكلم شكل كروي ونقش عرضي يأخذه الهواء إلى أن يؤديه إلى ذلك الموضع فيصادفه ما يمنعه من النفوذ والانتشار، فيرتد راجعًا فيسمع منه ذلك الصوت، وهو الصدى، وسنأتي على شرح ذلك كما ينبغي في موضعه.
(٧) فصل في أن الجواهر تحتلف في أنواعها
واعلم أن الأصول في أصوات ذوات الأصوات أن معرفتها تكون بمعرفة الطبائع الأربع؛ التي هي الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، والأركان الأربعة المعلومة وكيفية استحالة بعضها إلى بعض، وامتزاج بعضها ببعض في الأزمان والأماكن، وما يحدث منها في البقاع والمعادن. فمَن بحث عن ذلك بفكره ونافذ بصيرته وجودة تأمله وثاقب نظره، علم أن الأركان الأربعة لها جهات أربع من الشرق والغرب والشمال والجنوب.
ولهذه الجهات أوتاد أربعة؛ وهي الطالع والغارب ووتد تحت الأرض ووتد وسط السماء، وهذه الأسباب الأربعة ممثلة على حدود أربعة ترجع إلى سبب واحد. ولمعرفة هذه الحدود أقوام إذا سألتهم عنها عرفوك وإذا قصدتهم أرشدوك، فإن الكائنات التي هي من استحالة هذه الأركان أربعة أنواع:
فمنها حوادث الجو والتغيرات الهوائية والكائنات منها؛ مثل الرياح والأمطار والرعد والبرق والثلج والهالات والشهب وذوات الأذناب واحمرار الشفق والنيران الحادثة في الأفق.
ومنها الكائنات التي في باطن الأرض؛ كالبخار المحتقن هناك والهواء المنحصر وما يحدث من الزلازل والرجفات والخسف والهدأت، وما قد أحكمته الطبيعة في باطن الأرض وأسخنته ببخارها وطبخته بنارها من مائع وجامد وكاين وفاسد، مثل معادن الذهب والفضة والنحاس والحديد والرصاص والزيبق والكبريت والنفط والملح والشب والزاج، وسائر المعدنيات الذائبة والجامدة، وهذا علم معرفة كثيرة الفائدة.
وقد ذكرنا طرفًا في رسالة المعادن، ومنها الكائنات على وجه الأرض التي تسمى النامية، وهي على ضربين: نامٍ بالقوة وهي سائر النبات، ونامٍ بالحياة وهو جميع الحيوان، وكون جميع الحيوان على ضربين: «نتاج وتكوين»؛ فالنتاج من مُمَاسَّة الأجسام الحيوانية بعضها لبعض.
وقد ذكرنا في رسالة الحيوانات المتكون منها بغير مماسة ما هو من امتزاج الطبائع بعضها ببعض، وهو النكاح الأول، وهو الأصل، فإذا امتزجت الطبائع ونكحت بعضها بعضًا نكاحًا طبيعيًّا، أخذت القوة المنفعلة عن القوة الفاعلة بمقدار هيولى ذلك المكان وما في هيئات ذلك الزمان، مما يسهل قبوله فيحدث من بينهما حيوان، والدليل على ذلك أن ما فيه طبيعة واحدة لا يحدث منه حيوان، وسائر الأجسام الصلبة لا يوجد فيها حيوان؛ لامتناع الهواء أن يتخللها، وكل مكان لا يدخله الهواء لا يوجد فيه حيوان، وإنما الهواء يجمع بين قوى الطبائع ويؤلف بينها ويحركها حركة الاختلاط والامتزاج، ويكسبها النداوة والعفونة والتحليل والتركيب، ويكوِّن الحرارة فيلقح ذلك المكان ويقبل العفونة من الهواء، فتتحد الطبيعة بالطبيعة وتختلط القوتان، فيكون البخار الحار اليابس كالذكر، والبارد الرطب كالأنثى واجتماعهما كالنكاح، فيحدث من بينهما حيوان.
وقد ذكر الله تعالى ذلك في القرآن إذ يقول: وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ الرياح ها هنا فاعلة، والأصل في هذه الكلمة موضوعها في اللغة العربية على ما أجمع عليه النحويون ملاقح، فيصير ها هنا على القلب والتبديل، والعرب تقلب الشيء إلى الشيء وتبدل وتقدم إذا كان المعنى مفهومًا وكان المخاطَب به يفهم مِن المخاطِب، والدليل على أنها ملاقح قولهم في اللغة: لقحت الأرض والنخلة، فهي لاقحة، والجمع لواقح؛ فجعل لفظة الفاعل ها هنا لفظة المفعول على القلب، كما قال تعالى: مَاءٍ دَافِقٍ وإنما هو مدفوق؛ لأن الرباعي الذي اسم الفاعل منه مفعل والثلاثي الذي اسم المفعول منه فعيل، وقد يكون الفعيل مرة للفاعل ومرة للمفعول، والمعنى يدل عليه كقولك: قتيل وجريح وصريع، إذا أردت المفعول، وكريم ورحيم وعليم، إذا أردت الفاعل.
وكذلك تجدها في حكم الطبيعة أن الرياح هي الملقِّحة للشجرة وغيرها، فقد تَبين إذَنْ كيف يكون ذلك من الممازجة والاختلاط، وبطل أن يكون من غير ممازجة، وقولنا نكاحًا طبيعيًّا إنما هو على المجاز، يعني به امتزاج الطبائع بعضها ببعض، فقد أقمنا الدليل على أنه لا حيوان إلا من نكاح، ولا صوت عرضي إلا من جوهر، ثم نرجع إلى الأصل في الأصوات.
فصل
ثم اعلم أن الأصوات على ضربين؛ مفهومة وغير مفهومة؛ فالمفهومة هي الأصوات الحيوانية، وغير المفهومة أصوات سائر الأجسام، مثل الحجر والمدر وسائر المعدنيات. والحيوانات أيضًا على ضربين: منطقية وغير منطقية؛ فغير المنطقية هي أصوات الحيوانات غير الناطقة، وهي نغمات تسمى أصواتًا ولا تسمى منطقًا؛ لأن النطق لا يكون إلا في صوت يخرج من مخرج يمكن تقطيعه بالحروف التي إذا خرجت عن صفة الحروف أمكن اللسان الصحيح نظمها وترتيبها ووزنها، فتخرج مفهومة باللغة المتعارفة بين أهلها، فيكون بذلك النطق الأمرُ والنهي والأخذ والإعطاء والبيع والشراء والتوكيل، وما شاكل ذلك من الأمور المخصوصة بالإنسان دون الحيوان، فهذا فرق ما بين الصوت والنطق.
فأما مخارجها من سائر الحيوان فإنها من الرئة إلى الصدر، ثم إلى الحلق، ثم إلى الفم، ثم يخرج من الفم شكل على قدر عظم الحيوان وقوة رئته وسعة شدقه، وكلما اتسع الحلقوم وانفرج الفكَّان وعظمت الرئة، زاد صوت ذلك الحيوان على قدر قوته وضعفه.
وأما الأصوات الحادثة من الحيوان الذي لا رئة له مثل الزنابير والجنادب والصرصر والجدجد، وما أشبه ذلك من الحيوانات، فإنه يستقبل الهواء ناشرًا جناحيه فاتحًا فاه ويصدم الهواء فيَحدث منه طنين ورنين يشبه صوتًا.
وأما الحيوان الأخرس كالحيات والديدان وما يجرى هذا المجرى، فإنه لا رئة له، وما لا رئة له لا صوت له.
وأما الحيوان الأنسي فأصواته على نوعين: دالة وغير دالة؛ فأما غير الدالة فهي صوت لا هجاء له ولا يتقطع بحروف متميزة يفهم منها شيء؛ مثل البكاء والضحك والسعال والأنين وما أشبه ذلك.
وأما الدالة فهي كالكلام والأقاويل التي لها هجاء في أي لغة كانت وبأي لفظ قيلت.
وكل هذه الأصوات — مفهومها وغير مفهومها، حيوانها وغير حيوانها — إنما هي قرع يَحدث في الهواء من تصادم الأجرام وعصر حلقوم الحيوان، وذلك أن الهواء لشدة لطافته وصفاء جوهره وسرعة حركة أجزائه يتخلل الأجسام كلها، ويسري فيها ويصل إليها ويحرك بعضها إلى بعض، فإذا صدم جسم جسمًا انسل ذلك الهواء من بينهما وتدافع وتموج إلى جميع الجهات، وحدث من حركته شكل كروي يتسع كما تتسع القارورة من نفخ الزجاج.
وكلما اتسع ذلك الشكل ضعفت قوة ذلك الصوت إلى أن يسكن؛ ومثال ذلك إذا رَميت في الماء الهادئ الواقف في مكان واسع حجرًا، فيُحدث في ذلك الماء دائرة من موضع وقْع الحجر، فلا تزال تتسع فوق سطح الماء وتتموج إلى سائر الجهات، وكلما اتسعت ضعفت حركتها حتى تتلاشى وتذهب.
فمن كان حاضرًا في ذلك الموضع أو بالقرب منه من الحيوان، سمع ذلك الصوت فبلغ ذلك التموج الذي جرى في الهواء إلى مسامعه ودخل صماخه وتحرك الهواء المستقر في عمق الأذنين بحسب القوة السامعة بذلك التموج والحركة التي تنتهي إلى مؤخر الدماغ.
ثم يقف فلا يكون له مخرج فيؤديه إلى الدماغ، ثم يؤديه الدماغ إلى القلب، فيفهم القلب من هذه الحاسَّة ما أدته إليه من ذلك الحادث، فإن كان صوتًا مفهومًا يدل على معنًى توجهت المعرفة بذلك، وإن كان غير مفهوم فإنه لا بُدَّ أن يستدل بصفاء جوهره على ذلك الصوت، ومن أي جوهر حدث، وعن أي حركة عرض، وهو يستدل على ذلك من ماهية الصوت وكيفية التموج والقرع والحركة الواصلة إلى حاسَّة السمع.
ومثال ذلك طنين الطاس، فإنه إذا سمعه الإنسان قال هذا طنين الطاس حدث من قرع شيء آخر أصابه، أما من جهة حيوان أو حدوث شيء وقع عليه من غير قصد ولا تعمُّد.
وكذلك صوت الحديد والذهب والفضة وغير ذلك، فإن أصواتها إذا حدثت تكون مختلفة بحسب اختلاف جواهرها وتبايُن طباعها من الصلابة والرخاوة واللين واليبوسة، ومثالها في ذلك مثال أصوات الحيوانات، فكلما كان في نَفَسَه أَمْثَلَ ورئته أقوى، كان صوته أعظم وأبعد مسافة في الهواء لشدة حركته.
وكذلك ما كان من الجواهر المعدنية أشد صلابة وأكثر يبوسة، كان أرفع طنينًا وأشد تصويتًا، فإذا اتفق أن يكون مصنوعًا لذلك والقصد منه التصويت والطنين، مثل الجلاجل والطرجهارات للحصون التي تستعمل على الأسوار والثغور، فإن أصواتها وطنينها يمكث في الهواء على قدر اتساع تلك الأواني وضيقها. وصوت النحاس خفيف صافٍ ليبسه وصلابته وقوة الحرارة فيه، ولا يمكن أن تتخذ من الرصاص آلة الطنين والتصويت كما يتخذ من النحاس. والحديد إذا خالط النحاس كان له أيضًا تصويت وطنين. والذهب له صوت يختص به يشابه طبيعته، وله طنين يسير، وهو معتدل الحرارة لين الطبيعة، قد تساوت فيه أجزاء طبائعه. والفضة دون ذلك، وهي أشف من الذهب وأحسن صوتًا منه إذا نقرت. كذلك الرصاص لا صوت له كصوت النحاس والحديد؛ وذلك لغلبة الأجزاء الأرضية عليه وكثافة جسمه، وصوته يشاكل صوت الحجر وما بينهما، وعلى هذا المثال وجد منطق الإنسان على الاعتدال لا بالجهير الخارج عن الحد، كصوت الأسد وصهيل الفرس ونهيق الحمار وما شاكل ذلك، ولا صامت كصموت السمك، ولا خفيف كخفوت أصوات كثير من الحيوانات، لكنه متوسط بين ذلك.
ومن أراد أن يكون له صوت طويل يمكث في الهواء فليتعمد ذلك ويجتهد في جمع الهواء حتى يكون إرساله بحسب ما اجتمع فيه فيدرك بذلك ما يريد، وإن تأذى وتألم، وإنما كان صوته متوسطًا لتوسط طبائعه واعتدالها، مثل ما اعتدلت طبيعة الذهب وكان أشرف الجواهر الذائبة بالنار.
وكذلك الإنسان أشرف الحيوانات المتحركة بالحياة، وللنبات أصوات؛ منها ما كان أشد صلابة وأكثر اجتماعًا ولا طبيعة لها، كبقية الأصوات إذا قرع انقرع كالساج والأبنوس وما شاكلها، وما كان يتخلل جسمًا ضعيف الحرارة، كخشب التين والجميز وما شاكل ذلك، يكون أضعف صوتًا إذا قرع وتحرك بجسم يحدث في الهواء من قوة حركة المحرك وكون ذلك الصوت عن المصوت وما هو مجبول عليه من طبيعته، وبحسب قوته يكون اتصال ذلك الحادث في الهواء بمسامع الحيوان من الإنسان وغيره. فالإنسان إذا سمع صوت الخشب والحديد والماء والريح أمكنه أن يخبر عن صوت كل واحد منها وينسبه إلى ما حدث عنه وخرج منه، والحيوان لا يعرف ذلك ولا يمكنه أن يعبِّر عنه ويفصل كما عبر الإنسان بقوة النطق والبيان عما سمع؛ وبهذا فضِّل الإنسان على غير من الحيوان. وكذلك يجري حاله في حاسَّة السمع فإنه من جهة الهواء يتصل به ذلك ويخبر عن كل رائحة بما هي به وينسبها إلى الذي فاحت منه. وكذلك يخبر عن حاسَّة اللمس إذا لمست الأجسام، وعرفت الحاسَّة ما كان رطبًا ويابسًا وحارًّا وباردًا ولينًا وخشنًا وما شاكل ذلك.
وأما حاسَّة البصر فإنما تحتاج في معرفة محسوساتها إلى حواس أُخَر؛ لأنها ربما كذبتها محسوساتها مثل ما ترى الكبير صغيرًا لبعد ما بينها وبينه من المسافة، والصغير كبيرًا في الأرض الواسعة، والمستوي معوجًّا كالمجذاف في الماء وما شاكل ذلك.
فصل
ثم اعلم أن منتهى كل حاسَّة إلى القلب مقرها، وعنده موئلها ولكل حاسَّة محسوسة مختصة بها، مجعولة لها، لا تتعداها ولا تتعرض لسواها؛ فالبصر مختص بالنظر، والأذن مختصة بالسمع، والفم مختص بالذوق، والأنف مختص بالشم، وكل حاسَّة من هذه الحواس تؤدي محسوساتها إلى القلب ويفهم منها حساسة القلب.
ثم إن قوة حاسَّة القلب إذا أدركت من الحواس شيئًا وقبلته منها، أدته إلى العقل ليدركه.
ولولا قوة حاسَّة القلب لَبطلتْ هذه الحواس، كما أن الأكمه الذي يولد كذلك لا يمكنه أن يتصور السماء ولا موضعها من الجهات؛ لأنه لم ير جهة فتؤديها الحاسَّة الناظرة إلى حاسَّة القلب المناسبة لها؛ لأن حاسَّة البصر تؤدي آثار محسوساتها إلى قوة عاقلة مناسبة لها حافظة لما يؤدى إليها؛ ولذلك قال تعالى: فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ، وقد بيَّنا في رسالة الحاس والمحسوس شيئًا من هذا بغير هذا الشرح.
ثم اعلم أن القلب في الجسد مصور على صورة الإنسان؛ ولذلك صار أفضل الأعضاء التي في أجسام الحيوان؛ وذلك أن له بصيرة يبصر بها ما غاب من حاسَّة النظر من خارج، وله مسامع يدرك بها الأصوات ويؤدي إلى حاسَّة السمع ما يدركه بها، وله حاسَّة اللمس فهو يتشوق إلى محسوساتها إذا فقدها مثل ما يشتاق العاشق عناق معشوقه والتزامه.
وكذلك الأكمه لا يتصور بقلبه صور الأشياء؛ لأن حاسَّة البصر لم تؤدِّ إلى الحاسَّة المختصة بالقلب شيئًا، فتبقى تلك الحاسَّة فارغة معطلة مغلقة الباب، لا يطرقها طارق فيكون لها به معرفة. ولكل حاسَّة من هذه الحواس مدركات بالذات ومدركات بالعرض، وهي لا تخطئ في المدركات بالعرض.
مثال ذلك البصر؛ فإن المبصرات له بالذات هي: الأنوار والضياء والظلم.
فأما إدراكها الألوان فإن ذلك بتوسُّط النور والضياء، وأما سائر الأجسام وسطوحها وأشكالها وأوضاعها وأبعادها وحركاتها فهي بتوسط الألوان؛ لأن كل جسم لا لون له لا يُرَى ولا يدرَك البتة، والمحسوسات التي له بالذات لا واسطة بينها وبينه في إدراكها؛ لأنه لا يحتاج البصر في إدراك الضياء والنور إلى شيء آخر، ولا في إدراك الظلمة أيضًا، وصار بينه وبين النظر إلى الألوان واسطة واحدة؛ وهي النور، وصار بينه وبين إدراكه كيفيةَ الأجسام وأسبابها النورُ والألوان، وكلما كثرت الوسائط بينه وبين النظر كان الخطأ فيه أكثر، واحتاجت الحاسَّة فيه إلى دليل آخر يحقق نظرها ويصدق خبرها.
من ذلك السراب فإنه آخذ من لون الماء بياضه ومن الضياء إشراقه، فحار فيه النظر وحال البعد فيما بين النظر وبينه عن الحكم عليه بما هو به فظنه ماء، فلما جاءه لم يجده شيئًا. وكالمجذاف الذي هو غائص في الماء فإن البصر لا يدركه إلا معوجًّا؛ لأنه قد زاد فيما بينه وبينه واسطة أخرى وهي الماء، وكذلك ما يكون في الماء من الأشياء فإن البصر لا يدركها على ما هي به.
وكذلك حال الشيء البعيد فإن الوسائط بينه وبين البصر كثيرة، وهي الضياء والهواء، وكلما بعد ازداد في الصغر والتلاشي في البصر إلى أن يغيب.
وأما حاسَّة السمع، فإنها لا تكذب وقلما تخطئ؛ وذلك لأنه ليس بينها وبين محسوساتها إلا واسطة واحدة وهي الهواء، وإنما يكون خطؤها بحسب غلظ الهواء ورقته؛ وذلك أنه ربما كانت الريح عاصفة والهواء متحركًا حركة شديدة، فيصوت المصوت في مكان قريب من المسامع فلا يسمع من شدة حركة الهواء وهيجانه، فتكون حركة ذلك الصوت يسيرة في شدة حركة الهواء وهيجانه، فيضعف عن الوصول إلى الحاسَّة السامعة.
وإذا كان الهواء ساكنًا وصل ذلك الصوت إلى الحاسَّة إذا كان في مكان يمكن أن يتصل به ذلك التموج والحركة الحادثة في الهواء.
فأما إذا كانت المسافة بعيدة فإنها لا تدركه وتتلاشى تلك الحركة وتنفذ قبل وصولها إليها.
وهكذا حاسَّة الشم، فإنها تدرك من ذلك بحسب غلظ الهواء ورقته وسكونه وحركته؛ وذلك أنه إذا كان الهواء غليظًا فإنه قلَّ ما تجد الروائح في الجهات وقلَّ ما تسري فيه، وإذا كان صافيًا رقيقًا والمسافة قريبة فإنها تتصل بمشام الحاضرين، وإذا بعدت تفرقت تلك الروائح في الجهات ولم يدرَك شيء منها، وأما قبول الهواء للأصوات والروائح فإني أشرحه لك بعون الله.
فصل
ثم اعلم أن جميع الجواهر تختلف في أنواعها، وتتباين في عناصرها وتركيبها، وكل جوهر هيولاني يكون ألطف جوهرًا وأشد روحانية وأعم خاصية، وأنه يكون لقبول الصورة وحمل الأعراض أسرع انفعالًا وأسهل قبولًا من غيره.
مثال ذلك الماء العذب لما كان ألطف جوهرًا من الماء المالح وأصفى، صار لِقبول الطعوم والأصباغ أكثر قبولًا، ولا بُدَّ أنه للحيوان أكثر امتزاجًا ومخالطة وأكثر نفعًا وصلاحًا، وبذلك صار حياة الأجسام ومادة الحيوان والنبات.
وهكذا لما كان الضياء ألطف من الهواء، صار قبوله الألوان والأشكال أسرع انفعالًا وأشد روحانية وبساطة وألطف سريانًا.
وكذلك جوهر النفس ألطف وأشد روحانية من جوهر النور والضياء، والدليل على ذلك قبوله رسوم سائر المحسوسات والمعقولات جميعها، فلِهاتين العلتين صار الإنسان يقدر بالقوة المتخيلة أن يتخيل ويتوهم ما لا يقدر عليه بالقوى الحاسَّة؛ لأن هذه روحانية وتلك جسمانية، ولأنها تدرِك سائر محسوساتها في الجواهر الجسمانية من خارج، والقوة المتخيلة إنما تتخيلها وتتصورها في ذاتها، والدليل على ما قلنا أفعال الصناع البشريين.
وذلك أن كل صانع يبتدئ ويفكر ويتخيل ويتصور في وهمه صورة مصنوعة بلا حاجة إلى شيء خارج عنه، فإذا أراد إظهار ما في نفسه إلى الفعل عمد إلى هيولى ما، في مكانٍ ما، في زمانٍ ما، فيتصور فيها ما كان متصورًا في ذاته بأدواتٍ ما وحركاتٍ ما.
وذلك أن كل حيوان لا يبصر فهو لا يتخيل الألوان العرضية والأجسام الجوهرية، وما لا سمع له لا يتصور ولا يتخيل الأصوات الكلامية ولا يتوهم الألفاظ المنطقية.
فأما الإنسان الصحيح التركيب، السالم الحواس، فإنه لما كان يفهم الكلام صار يمكنه أن يتخيل المعنى إذا وصفت. والغرض من الكلام تأدية المعنى، وكل كلام لا معنى له فلا فائدة للسامع منه والمتكلم به، وكل معنًى لا يمكن أن يعبر عنه بلفظٍ ما في لغةٍ ما فلا سبيل إلى معرفته، وكل حيوان ناطق لا يحسن أن يعبِّر عما في نفسه فهو كالعدم الزائل والجماد الصامت.
فصل
ثم اعلم أن المعاني في الكلام كالأرواح، وألفاظها أجساد لها، فلا سبيل إلى قيام الأرواح إلا بالأجساد، والكلام ضربان: مفيد وغير مفيد، والفائدة واقعة في الإخبار من جهة المجهول، والمجهول هو المخبَر عنه، والخبر دالٌّ وغير دالٍّ، والخبر هو كل قول جاز تصديق قائله فيه وتكذيبه لغيبته عن العيان أو لمضيِّه عن الزمان ووصفه أنه مسموع من قائله؛ مثل مخبر أن مدينة كذا عامرة بأهلها، وأن فلانًا الذي مات كان من أمره وصِفته كذا، فقد جاز لمن يسمعه أن يصدقه وأن يكذبه لغيبة ما ذكره من أمر المدينة عن العيان وغيبة المائت في الزمان.
وأيضًا فإن الإخبار على ثلاثة أقسام؛ إما عن ماضٍ من الزمان أو عن غائب عن العيان أو عن موجود في زمان ومكان، وامتحان ذلك بكان ويكون وكائن؛ فكان لزمان ماضٍ، ويكون لزمان آتٍ، وكائن لما هو موجود في الحال. وكل هذه الأقسام تدخلها الموجبة والسالبة والموضوع والمحمول، وهذه أقسام الخبر، وهو أيضًا غير خارج من معانٍ ثلاثة: واجب وجائز وممتنع؛ فالواجب والممتنع معروفان مستغنيان عن الدلالة على أحوالهما في الصحة والفساد.
مثال ذلك: إذا سَمع رجلٌ قائلًا يقول: «الأرض تحتي والسماء فوقي»، فإنه لا يشك في صدقه ولا يحتاج إلى إقامة دليل على ذلك.
وهذا وإن كان كلامًا مستقيمًا لا يستغنى عن الدليل على كذبه، فإنه ما لا يقع منه فائدة، ولا فائدة أيضًا في قوله ولا في سماع ذلك، ولا يعد هذا من المتكلِّم به فضيلة، بل ربما من هجو قوله.
وكذلك لو سمع قائلًا يقول: «إني قد حملت الجبل وخضت النار ورأيت شجرة على سطح البحر نابتة»، فإنه لا يشك في كذبِه وبطلانِ قوله، فهذا القسم الممتنع.
وأما الجائز أن يكون صدقًا وأن يكون كذبًا فهو الذي يجب أن يطلب الدليل عليه، والفائدةُ واقعة فيه، وبه يستفيد السامع، وعنه يسأل السائل، والمعنى الذي به يوصل إلى علم الحقيقة ما كان عند الإخبار ممكنًا أن يكون صدقًا وكذبًا، وهو أن يكون متيقنًا عند مَن بلغه عنه الكذب والصدق يقينًا، ويعلم أن ذلك ثابت بحيث يثبت عليه نظر أهل العقول، كمعرفة من أخبر بعمارة المدينة أو حال الميت بما وصف به المخبر عنه، فقد صار كذب المخبر منفيًّا وعند من تقدمت عنه صحته. وكذلك ما حكمت عليه العقول وقضت به البراهين عند العارفين، فإنهم يعرفون ما غاب كعلم ما حضر ويصير الدليل والبرهان كالمثال؛ لأن المثال صورة المخبر عنها المدلول بصفاتها على معنى الخبر فاعلم ذلك.
(٨) فصل في معرفة أصل الصوت وعن الأجسام التي في الابتداء دون فلك القمر قبل خلق الإنسان والحيوان
فنقول معولين على الله تعالى بأنه لما خلق الله السموات بمشيئة وأتقنها بصنعته ورتبها بحكمته، وجعل الأرض بساطًا تحتها، وخلق الهواء فسحة فيما بين السماء والأرض، ثم أرسله يمينًا وشمالًا على وجه الأرض، ويسري على البحار ويحركها ويموجها، كان كالأرواح السارية في الأجساد، فأقام الهواء على تلك الحال والسريان في الجهات الأربع، يخلط البحار بالتراب ويمزج الطبائع بعضها ببعض، كما ذكر أولًا في هذه الرسالة، فتحدث بحركته أنواع الأصوات والصفير والطنين ومجاوبة الجبال وأصوات أمواج البحار، وهبوب الرياح في الفلوات والقفار، فتكونت المعادن في البقاع المخصوصة بكونها فيها، وانعقد البخار وارتفعت الأنداء وتراكمت الغيوم، وارتفعت إلى آخر كرة النسيم، وتعلقت تحت كرة الزمهرير وعصرها وهيج الأثير، واستولت الكواكب المائية، فأرسلت الأمطار على وجه الأرض، ولحقها الهواء وسرى عليها، وأشرقت الكواكب بأنوارها ولحظتها الشمس وسرت فيها قوة النفس النامية.
وكان أول ما ابتدأ على وجه الأرض بالنمو والزيادة على سطحها صورة النبات، وقامت على تلك الحال والأرض ليس فيها إلا البحار والجبال والنبات والأشجار على ما ذكره بعض العلماء ثلاثة آلاف سنة، والرياح تهب عليها، والأصوات الهوائية تجيب بعضها بعضًا، والنفس سارية في الهواء متصلة بقوة النور والضياء، تدبر الأمور الجسمانية، وتؤلف الطبائع الجرمانية، وروحانيات الكواكب متصلة بعالم الهواء، فهُم سكان الأرض قبل آدم عليه السلام. فلما تمت هذه المدة المقدرة بهذه الصفة وابتدأ الدور الجديد، وأراد الله إنشاء النشأة الثانية وإبراز الصورة الإنسانية؛ خَلَقَ آدم وحواء من الطين، وأسكنهما الجنة الموصوفة وهي الياقوت في ناحية المشرق، وكان من أمرهما ما كان، وقد ذَكر هذه القصة من أولها إلى آخرها رجلٌ من أهل فارس، عالم بحساب النجوم، بكتاب بيَّن فيه هذه الأمور، ولو كان هذا ما قصدنا وإياه ما أردنا لذكرنا منه طرفًا، ولكنا نشير إلى بعض ذلك، فلما فَطَرَ آدم وسوَّاه ونفخ فيه من روحه وأسجَدَ له ملائكته، وكان ظهور آدم وحواء بعد كون الحيوان وعمارة الأرض وظهور الأقوات فيها على تمام أجناسها واستيفاء أنواعها، وكان ظهور الحيوان بعد ظهور النبات وانبساطه على وجه الأرض وعلوِّه عليها، وكان أول بروز النبات بحذاء برج السنبلة، وكان في وسط السماء، والحيوان بحذاء الثور، وآدم وحواء بحذاء الجوزاء من أرض المشرق؛ ولذلك قيل للجوزاء ذات جسدين.
وكانت البداية من الحمل وقد حل فيه زحل وهو هابط، فصار المركز مهيأً من الطين، وكان أكثره مظلمًا وصار ثقيلًا رزينًا، وصارت الجبال راسيات مستقرة، وكان أول معدن انعقد في بطن الأرض الأسرب؛ ولذلك صارت الأرض مقر الثقل ومستقر الكثائف من أجل زحل وكونه في ذلك التقدير بمشيئة الله تعالى، فأقام آدم وحواء والحيوان مدة ما ذكر في الكتاب من غير مماسة ولا التئام، ثم أَلْهَمَ الله تعالى عطارد صاحب المنطق النطقَ ونطقت حواء، وعلَّم آدمَ الأسماءَ كلَّها، فصار يعرفها ويلقي على كل جنس وشكل ونوع وشخص مِن النبات والمعادن والحيوان وجميع المرئيات الأسماءَ والصفاتِ، ثم لم يزالا على ذلك حتى أكلا من الشجرة وأُهبطا من الجنة إلى الأرض مسخوطًا عليهما، فأقاما في الأرض مدة معلومة وكانا مع سائر الحيوانات يأكلان من ثمر الأشجار ويشربان من ماء العيون والأنهار، إلى أن سلم الحمل الدور إلى الثور؛ إذ هو أحد منافع الدنيا وسبب العمارة، وهو بيت الزهرة، وكانت حسنة الحال مستقيمة في مسيرها صاعدة في أوجِها، مشرقة أنوارها.
وكان في هذا الحد اجتماع آدم وحواء ومماسَّتهما فحملت منه، وكان ذلك ابتداء النسل، وجرى حال الحمل على ما ذكرنا في رسالة مسقط النطفة، فلما كثرت أولادهما تولَّى آدم تعليمه وتأديبهم وتهذيبهم، وعلمهم كيفية الحرث والزرع وازدواج الذكور والإناث، وعمروا العالم وعاينوا الحيوانات وما تصنعه بعضها ببعض وما يطلب من منافعها، فاقتدوا بها في أفعالهم، وأيد الله تعالى آدم عليه السلام بوحيه وإلهامه لما تاب عليه بما يكون له به صلاح ولذريته فلاح، وأقام على ذلك مدة ما أراد الله تعالى، ثم نَقَلَه إلى رحمته وخلفه من خلفه في ذريته وأولاده، ولم يزل الأمر على ذلك وبنو آدم مع والدهم يتكلمون بالسريانية، وقال بعضهم بالنبطية، ويفهم بعض عن بعض المعاني وما قصدوا وأرادوا، ووصفوا كل شيء بصفته إلا أنها لم تكن الحروف مجتمعة بعضها إلى بعض ولا مؤلفة بالكتابة، وإنما كان آدم عليه السلام يعلمهم تلك الأسماء تلقينًا وتعريفًا كما يعلم الأشياء ويعرف من لا علم له بالكتابة والهجاء؛ ولذلك يقال لمن لا يكتب ولا يقرأ أميٌّ، وكان الخلق يحفظون تلك الأسماء والصفات عن السلف إلى أن سلم الدور الثور إلى الجوزاء، وظهرت الكتابة من أجل أنه بيت عطارد وشرف الرأس وهبوط الذنب، وصارت الحروف في ذلك أربعة وعشرين حرفًا، وهي الكتابة اليونانية؛ لأنها قسمت لكل برج حرفين، فصارت أربعة وعشرين حرفًا، فقيدت تلك الألفاظ وكتبت الأسماء بالحروف على لغة أهل ذلك العصر.
فانظر أيها الأخ إلى هذه الحكمة الصحيحة والصنعة المحكمة المتقنة كيف تأتي بكل شيء في وقته المقدر وزمانه الميسر.
وانظر كيف سرت هذه القوى التي هي الأصوات والنغمات أولًا في عالم السموات، ثم في حركات الهواء، ثم في حركات النبات، ثم في أجسام الحيوان، ثم في عالم الإنسان.
فالصوت في الحيوان يسمى بأسماء مختلفة، مثل قول القائل: صهيل الفرس، ونهيق الحمار، ونباح الكلب، وخوار الثور، وزئير الأسد، ونعيب الغراب … وغير ذلك.
وأما الصوت المخصوص به الإنسان، فإنه يقال له كلام ولفظ متكلَّم كقول القائل: فلان يتكلم بالعربية والفارسية والرومية وغير ذلك، وسنأتي على شرحه وبيانه ونفرق بين الصوت والكلام.
(٩) فصل في الفرق بين الصوت والكلام
اعلم يا أخي أن الكلام هو صوت بحروف مقطعة دالة على معاني مفهومة من مخارج مختلفة، وأبعد مخارج الحروف أقصى الحلق، وهو مما يلي أعلى الصدر. والصوت من الجسم في الرئة بيت الهواء، كما أن أصل الصوت في العالم الكبير، الذي هو بمنزلة إنسان كبير، الهواء فيما دون فلك القمر والنفس في عالم الأفلاك؛ ولذلك توجد في الإنسان الذي هو عالم صغير في الرئة وفي قوة نفسه معاني ما يدل عليه الصوت، وكذلك الحركات والأصوات التي دون فلك القمر إنما هي مثالات ودلالات على تلك الأصوات الفاضلة والحركات المنتظمة، وتلك أرواح وهذه أجساد، وأصل الأصوات في الرئة هواء يصعد إلى أن يصير إلى الحلق فيديره اللسان على حسب مخارجه، فإن خرج على حروف مقطعة مؤلفة عرف معناه وعلم خبره، وإن خرج على غير حروف لم يفهم كان كالنهاق والرغاء والسعال وما أشبه ذلك، فإن رده اللسان إلى مخرجه المعلوم في حروف مفهومة يسمى كلامًا ونطقًا بأي لفظة كانت، على حسب الموافقة ومساعدة الطبيعة لكل قوم في اتساع حروفهم وسهولة تصرفهم في مخارج كلامهم وخفة لغاتهم بحسب مزاج طبائعهم وأهوية بلدانهم وأغذيتهم، وما أوجبت لهم دلائل مواليدهم وما تولاهم من الكواكب في وضع أصل تلك اللغة في الابتداء الوضعي والمنهاج الشرعي، وما تفرع من ذلك الأصل وما ينقسم من ذلك النوع.
ثم اعلم أن أصل الاختلاف في اللغات إنما هو لما كثرت أولاد بني آدم وانتشروا في جهات الأرض، ونزلت كل طائفة منهم إقليمًا من أقاليمها وقطرًا من أقطارها من الربع المسكون، تولى كل قوم في وقت نزولهم ذلك الإقليم كوكبًا من الكواكب السبعة المدبرات، فعقد لهم عقدًا نشأ عليه صغيرهم ومات عليه كبيرهم.
ثم اعلم أن الكلام الدال على المعاني مخصوص به عالم الإنسان، وهو النطق التام بأي حروف كتب، والحيوان لا يشرك الإنسان فيه من الجهات المنطقية والعبارات اللفظية، لكن من جهة الحركة الحيوانية والآلة الجسمانية والحاجة فيها إلى ذلك؛ لأنك تجد كثيرًا من الحيوانات تريد بأصواتها دفع المضار وجذب المنافع، تارة لأنفسها وتارة لأولادها؛ مثل صياح البهائم إذا احتاجت إلى الأكل ومنعت منه، وإلى شرب الماء وزيدت عنه، ومثل استدعاء أولادها وما غاب عنها وما شاكل ذلك من الطيور التي تحاكي الإنسان، ومحاكاة القرد للإنسان في جميع أفعاله وأكثر أعماله.
فهذه الأشياء لما يريد الحيوان التطريب والتصويت والصياح لها ومن أجلها، فإنه لا يقال لها معانٍ علمية، وإنما يقال لها إرادات طبيعية؛ فأجساد الحيوانات مجبولة عليها، وإنما استدعاؤها إياها بالتصويت في بعض الأوقات إذا عدمتها وحيل بينها وبين ما تريد، وقلَّ ما يكون دالًّا بأصواتها على الأمر الأعم ولا معنى لها، ولا يعرف المراد منها ولا القصد، كصياح الطيور في أكثر أوقاتها.
منها ما يصوت بالليل ومنها ما يصوت بالنهار، وكذلك الحيوانات أكثرها، ولكن المراد بها منها كلها اجتماع الجنس وقيام الشكل إلى الشكل، وبحسب ما في كل شخص من أشخاصها من قوة الحرارة الغريزية وحركة النفس الحيوانية، فإن كل شخص أكثر حرارة وأقوى حركة وأحيى نفسًا، كان أكثر صوتًا وأدوم كلامًا في عموم الأوقات، وما كان دون ذلك كان بحسب ما فيه وما هو مجبول عليه.
وبالجملة إن الصوت الحادث بحركة نفسانية حيوانية فهو مخصوص به الحيوان، وأما ما يسمع من الأصوات من غير الحيوان، فإنما يقال له قرع ووقع وطنين وصفير وزمير ونقر ودق وقرقعة؛ كصوت البوق وضرب الدف والطبول والدبادب وما شاكل ذلك.
فهذه المثالات لهذه الأصوات مخصوصة بما يحدث من حركات الأجساد الصامتة التي لا يَحدث صوت وحس عنها إلا بمحرك من غير جنسها، يرفعها ويضعها وينقرها ويقرع بعضها ببعض. فالمحرك لها إما بعمد وقصد كالإنسان فيما يتخذه من هذه الآلات للتصويت بالحركة، أو كحيوان يُحدث ذلك بغير قصد كاحتكاك الدابة بالباب ودفعها للإناء وغيره، فيحدث من تلك الحركة وذلك الدفع صوت، أو من حركة الرياح والهواء للأجساد والنبات والأشجار وحفيف أوراقها واحتكاك قضبانها، وسلوك الهواء بينها وسريانه بين الحيطان والبنيان، وخرقه منافذ الجبال والغدران والكهوف، فيحدث منه أنواع الصفير والتصويت، وما يحدث من أصوات حوادث الجو ما قد ذكرناه، مثل ما يحدث من حركات المياه إذا انحدرت وتدافعت من أعلى الجبال إلى بطون الأودية، ومثل أصوات الدواليب والأرحية والطواحين والمجاذيف وجريان السفن في البحر وجري العجل في البر، وكل ماء إذا تحرك أو تصرف فيه المحرك ظهر منه الصوت وقرع الهواء.
فهذه كلها أصوات فما كان منها عن أجسام الحيوان قيل أصوات ونغمات، وما كان منها عن حركة الهواء قيل صفير وزمير، وما كان عن حركة الماء قيل دوي وخرير وأمواج، وما كان من المعدنيات والأحجار والخشب قيل وقع وطنين ونقرة وما شاكل ذلك، وما كان من جهة الإنسان قيل كلام ولفظ ومنطق بالجملة، وعند التفصيل والتقسيم فكثرة الألوان والفنون مثل كلام الخطيب وإنشاد العشر وقراءة القرآن وما شاكل ذلك، وينسب ذلك الكلام إلى المعنى المقصود إليه به.
فقد بان، بما ذكرنا، الفرقُ بين الصوت الحيواني والكلام الإنساني، وما يحدث من حركة الهواء وما يظهر من أجسام النبات والمعادن. وإذا تأملت ذلك وميزته بفكرتك وأعملت فيه رويتك، رأيت تلك الحركات وسمعت تلك الأصوات والنغمات والمجاوبات، وتبينت أن العبارات كلها تأدية عن النفوس الجزئية بما أمدتها النفس الكلية.
وكذلك الحركات الكلية العرضية أصلها الحركة الذاتية، وهذه أعراضها وتلك جواهرها، وهذه فانية وتلك الحركات باقية؛ لأن مركز هذه سفلي ومقر تلك علوي، وهذه منها فاضلة ومنها غير فاضلة وتلك فاضلة كلها، وبعض هذه حي وبعضها ميت وتلك كلها حية، وبعض هذه متكلمة ناطقة وبعضها مصوتة وتلك ناطقة كلها، وبعض هذه أصواتها مفهومة وبعضها أصواتها غير مفهومة وتلك أصواتها كلها مفهومة، وبعض هذه الأصوات دال وبعضها غير دال وتلك كلها دالة، ومعاني هذه الأصوات مضمنة في حروفها وتلك كلها معاني، وأهل هذه يحتاجون إلى من يكشف لهم معانيها ويدلهم على مراميها وأولئك لا يحتاجون إلى ذلك، وهؤلاء يضجرون من الكلام ويملون وأولئك لا يضجرون، وهؤلاء أكثرهم غير طيبي النغمة ولا لذيذي الصوت ولا حسني الكلام وأولئك كلهم طيبو النغمة ذوو ألحان لذيذة، وبعض هذه الأصوات معكوس يشبه أصوات أهل جهنم، وزفيرهم وشهيقهم كنعيق الكلاب ونهيق الحمار وزعقات البوم وصياح السباع، وما يحدث في القلوب من الوحشة والنفور والفزع والرعب، وما تضجر منه النفوس، وما شاكل هذه الأصوات والمصوتات.
ثم اعلم أن كل صوت يسمع فإنما يخرج عن هيئة الجسم الذي يصوته بحسب قوته وصفاء طبيعته وغلظها، ونحتاج ها هنا إلى بيانٍ ووضوحِ برهانٍ، ونحن نذكره بشرح مبين.
فصل
ثم اعلم أن اختلاف الناس في كلامهم ولغاتهم على حسب اختلافهم في أجسادهم وتركيباتهم، وأصل الاختلاف في اللغات هو اختلاف مخارج الحروف ونقصها عن تأدية ما يؤديه البليغ منها. وقد زعم بعضهم أن فساد الكلام من فساد التركيب وفساد المزاج، وليس هو كما زعم، وإنما هو من اختلاف مخارج الحروف في قوتها وضعفها، وهو فساد في اللسان يقلب ويعدل الحروف عن مخارجها. ولو كان من فساد المزاج لكانت اللغة كلها في حرف واحد من مخرج واحد، ولكانت ترجع إلى الاستواء عند صلاح المزاج كما يحدث بالفصيح الكلام، وضعف الصوت من فساد المزاج وغلبة بعض الطبائع، وإذا عاد إلى الأمر السالم عاد كلامه إلى المعهود منه أولًا، واللغة ليست كذلك، والناس فيها مختلفون وغير متفقين في الحروف التي يقع الخطأ فيها والعدول بها عن استوائها إلى خلافها، وهي أعراض كثيرة تختص باللسان وتعرض فتفسد الكلام، وهي زمانة لازمة مثل الخلسة والفأفأة والتمتمة والعقلة والحلكة والرثة واللثغة وما أشبه ذلك.
وإذا كان الكلام يثقل على الرجل قيل في لسانه خلسة، وإذا أدخل بعض حروف العرب في بعض حروف العجم قيل في لسانه لكنة، وإذا عجز عن سرعة الكلام قيل في لسانه عقلة، والحلكة إنما هي نقصان آلة المنطق وعجزها عن أداء اللفظ حتى لا يعرف معناه إلا القليل وهو قريب من كلام البهائم والخرس ونحو ذلك.
(١٠) فصل في المعاني
فأما إفهام المعاني فإنها تفهم من الكل من اللكن والفصحاء، وإنما يتفاضل الناس في البلاغة وهو عند الحشوية والعوام والنساء والصبيان حُسن الصوت وحلاوة المنطق وصفاء الكلام.
وليس كلُّ مَن حَسُن صوته وصفا كلامه كان بليغًا في إبانة المعنى وإقامة الدليل والحجة في إزالة الشبهة عن النفس الساهية وانتباه الجاهل عن رقدته وإصحاء السكران من سكرته بالتذكرة والموعظة، فإنَّ صاحب النغمة الطيبة والكلام الصافي ربما استعمل ذلك في الأغاني والملاهي.
وسبب كل ذلك محبة اللذات الدنيَّة والشهوات الحسية وما يتضمن الكلام من السخف والمجون وأمثاله، فإن معانيها لا حقيقة لها، والكلام بها إنما هو تصويت وهذيان لاحِقٌ بأصوات الحيوان والمجانين والسكارى والصبيان والنسوان ومن لا عقل لهم.
وأصل المعاني إنها المقالات المدلول بصحتها في الإخبار بها عن معرفة حقائقها ومقاصد طرائقها، وحد المعنى أنه هو كل كلمة دلَّت على حقيقة وأرشدت إلى منفعة، ويكون وجودها في الإخبار بها صدقًا والقول عليها حقًّا، والإخبار على أربعة أقسام: خبر واستخبار وأمر ونهي.
وقد جعلها قومٌ ستةً، وآخرون عشرةً، وأصلها هذه الأربعة؛ فثلاثة منها ما لا يدخله الصدق والكذب، وواحد منها يدخله الصدق والكذب، وهو الخبر، ويوجد في ذلك السالبة والموجبة والممكن والممتنع.
فصل
ثم اعلم أن جميع هذه المعاني وما يتعاقبها من مدح أو ذم ويدخلها من صدق وكذب وبلاغة وحصر فلا بُدَّ من أن يقع على مسمًّى باسمٍ مِن مدح أو ذم، وكل مسمًّى باسم فيه مدح من سائر المعاني، فهو واقع بين اثنين متضادين؛ عدل بين حاسَّتَي جور؛ فالعلم واقع بين أمرين إما علمُ ما لا يجب أو جهل ما يجب، فصار العدل بين حاستين إفراط وتفريط.
وعلى هذا المثال الفهم عدل بين الاعتراف بما لا يمكن وإنكار ما يمكن.
واللب أيضًا عدل بين الحصر عن التفهيم والتراخي عن التوهم، والعزم عدل بين التهور والجبن، والجود عدل بين التقتير والتبذير، والشجاعة عدل بين الإقدام والإحجام.
وعلى هذا المثال يقع كل اسم من أسماء القصد والحزم وكل وصف يستحق به صاحبه المدح وبإزائه ما يستحق عليه الذم.
واعلم أن حقيقة مطالب معنى العدل بأن تصرف في فنون المسمَّيات، وتقسم في وجوه العبارات، وذلك أن القصد هو الذي لا يجزي ما دونه ولا ينفع ما فوقه فهو راجع إلى معنى العدل الذي ما نقص عنه كان ضعفًا وما زاد عليه كان إسرافًا.
وكذلك الحزم أيضًا ما لم يمِلْ إلى إحدى حاشيتيه اللتين إحداهما الفشل والأخرى التهور، وكذلك الحياء الذي طرفاه الفتور والقحة وكلٌّ يرجع من العدل إلى انقباض بين ازدياد على حدة وانتقاص ويئول إلى انبساط منه وتفريط وإفراط.
فمن طلب العدل في جميع الصفات وجده متوسطًا بين ضدين؛ أحدهما يتطرق دونه إلى بخس ونقصان، والآخر يتطرق فوقه إلى إفراط وعدوان، والعدل في الطلب هو ما لم يمِلْ إلى الإلحاح في المسألة ولا إلى الابتهال والخضوع، والحر لا يكون مَهينًا والكريم لا يكون لجوجًا.
ولهذا قيل القنوع خير من الخضوع، والعدل في السياسة ما لم يمل إلى عبوس موحش ولا ملق مدهش؛ فإن العبوس يشين المودة ويزيل ما في القلب من صفاء المحبة، والملق يذهب برونق المروءة.
ولهذا قيل من كثر ملقه لم يعرف وده، والعدل في البلاغة ما لم يقصر عن درك البغية، وإصابة المعنى وقصد الغرض، ألا ترى أن الهذار في المنطق بعد بلوغ الغاية لا يحتاج إليه، ولو كانت البلاغة هي البلوغ إلى غايات المعاني، لكان العالم كلهم بلغاء، خاصهم وعامهم؛ لأنه ما من أحد إلا وهو إذا عبَّر عما في نفسه بلغ غرضه في إفهام السامع عنه ما يريده منه، على حسب استطاعته وما تساعده عليه آلاته، وإنما البلاغة هي التوصل إلى إفهام المعنى بأوجز مقال وأبلغ كلام؛ ليعرف به المراد بأسهل المسالك وأقرب الطرق بواضح البيان وصادق المقال، والإيجاز في ذلك ما بلغت غاياته بيسير اللفظ، والإطناب ما بلغت غاياته بالتطويل، فصارت البلاغة حينئذ التوسط بين الحالتين والتوصل إلى إدراك الغاية من أقرب الطرق. وقيل البلاغة معرفة مواضع المفاصل المطلوبة بألفاظ مفهومة، والبليغ هو الذي لا يؤتي سامعه من سوء إفهامه، والفهيم الذي لا يأتي بسوء فهمِ مَن يريد إفهامه بتقصير عن البلاغة في خطابه أو كتابه، فيخرق بفهمه وصفاء ذهنه تلك الحجب الحائلة بينه وبين المعنى الذي يقدر على الفهم؛ لأنه يجرده من تلك الشوائب المعوقة له عن البيان والإيضاح. والبلاغة في اللغة مِن بالغت في كذا وكذا، وهي مشتقة من المبالغة؛ يقال بلغت أبلغ بلوغًا، فالمصدر منه بلاغة، فأنا بالغ، وتقول: أبلغت الكلام، وبلغته إلى فلان؛ أيْ أديته إليه.
واعلم أن المعاني تنطق بها أفواه السوقة والعوام في الأسواق والطرق، ولكن قلَّ مَن يُحسن العبارة عنها، وربما أراد المعنى فعبر عن غيره وهو يظن أنه قد عبر عنه، والمعاني هي الأصول وهي الاعتقاد الذي أول ما يتصور في النفس والألفاظ هيولى لها، والمعاني كالنفوس، والألفاظ كالأجسام، والمعاني كالأرواح، والحروف كالأبدان.
فصل
ثم اعلم أن الهيولى إذا قبلت آثار النفس قبولًا تامًّا، ظهرت أفعال النفس في الغرض والمراد مضيئة بهيئتها، وإن عجزت عن القبول كانت دون ذلك، وكذلك الألفاظ إن قبلت التأدية عن المعاني ببلاغة فهمت المعاني ولاحت دلائلها بغير تطويل ولا إسهاب، وإن عجزت الألفاظ عن تلك التأدية احتاجت إلى التطويل؛ والتطويل ذهاب البلاغة، والتقصير هو ضعف الدلالة والحجة. وفي الناس من يجول في قلبه المعنى الصحيح فيعبر عنه باللفظ الركيك فيحيله عن معناه، وإن لم يُرِد الإحالة، ولكنه عجز في اللفظ فيصير اللفظ غير مؤدٍّ عن المعنى، لا لعجز المعنى ولكن لعجز اللفظ، كما أن الطبيعة تفعل أشياء فتعجز عنها الهيولى القابلة فتنقص عن الكمال، لا لعجز الطبيعة بل لعجز الهيولى، فتأمل هذا الكلام فإنه من الأسرار العجيبة والرموز الدقيقة والمعاني، وفيه غرض غامض.
وأنت أيها الأخ، ينبغي لك أن تراجع نفسك النائمة الساهية، فانتبه من نوم غفلتك وأنعِم النظر في جميع ما قلناه وافهم جميع ما بيناه من الإشارات والرموزات، ولا تظن بنا ظن السوء؛ لأن إفشاء سر الربوبية كفر.
(١١) فصل في كيفية إدراك القوة السامعة للأصوات
فنقول: اعلم أن الأصوات نوعان؛ حيوانية وغير حيوانية، وغير الحيوانية قسمان؛ طبيعية وآلية؛ فالطبيعية كالصوت من الحجر والحديد والصفر والخشب والرعد والريح وخرير الماء وسائر الأجسام التي لا روح فيها من الجمادات، والآلية كصوت البوق والطبل والدف والمزمار والأوتاد وما شاكلها. والحيوانية أيضًا نوعان؛ منطقية وغير منطقية؛ فغير المنطقية أصوات سائر الحيوان التي ليست بناطقة.
وأما المنطقية فهي أصوات الناس، منها دالة ومنها غير دالة، فغير الدالة الضحك والبكاء والأنين والأصوات التي لا هجاء لها.
وأما الدالة فهي الكلام والقول الذي له هجاء، وكل هذه الأصوات إنما هو قَرْعٌ يَحدث في الهوام عن تصادم الأجرام.
وذلك أن الهواء بشدة لطافته وخفة جوهره وصفاء طبعه وسرعة حركة أجزائه؛ يتخلل الأجسام كلها، فإذا صَدَمَ جسمٌ جسمًا آخر انسلَّ ذلك الهواء وتدافَع إلى جميع الجهات وحدث منه شكل، كما ذكرنا أولًا، فيَصِل بمسامع الحيوان.
فأما كيفية إدراك الحاسَّة السامعة للصوت الحيواني وغير الحيواني وتمييزها لكل واحد منها، كما تميِّز القوة الذائقة طعومَ الأشياء وتُخبرُ الناطقة عن كل شيء بما يخصه من طعمه، وكذلك القوة الشامَّة.
فأما الذائقة فهي أكثر تأثُّرًا من الشامَّة، وكذلك الحاسَّة السامعة، فإن قواها في تمييزها الأصوات بعضها من بعض ألطفَ وأشرف، والحاسَّة اللامسة أكثف من الجميع، واختلف العلماء في حاسَّة النظر وحاسَّة السمع أيهما ألطف وأشرف، فقال بعضهم حاسَّة السمع أشرف، وكان برهان مَن قال ذلك أن محسوسات السمع كلها روحانية، وأن النفس بطريق السمع تدرك مَن هو غائب بالمكان والزمان، وأن محسوسات البصر كلها جسمانية؛ لأنها لا تدرك إلا ما كان حاضرًا في ذلك الوقت، وقال إن السمع أدق تمييزًا من البصر؛ إذ يعرف جودة الذوق وجودة الحس والكلام الموزون والنغمات المختلفة، والفرق بين السقيم والصحيح، والمستوي والمنزحف، وصوت الطير من صوت الكلب، وصوت الحمار من صوت الجمل، وأصوات الأصدقاء من أصوات الأعداء، وما يحدث من أصوات الأجسام التي لا روح فيها وأصوات الناس على اختلافهم وأشكال كلامهم، فتخبر عن كل صوت بما هو دأبه وتنسبه إلى الذي بدا منه ولا يحتاج إلى البصر في ذلك وفي إدراكه، والبصر يخطئ في أكثر مدركاته؛ فإنه ربما يرى الصغير كبيرًا والكبير صغيرًا، والبعيد قريبًا والقريب بعيدًا، والمتحرك ساكنًا والساكن متحركًا، فصح بهذا القول أن السمع ألطف وأشرف من البصر ولَنعم ما قيل:
الشمس تستصغر الأجسام جثتها
فالذنب للعين لا للشمس في الصغر
فإذا كان كذلك كانت الحواس الخمس الموجودة في الإنسان المستوي البنية التام الخلقة مناسِبةً للطبائع الخمس في جسم العالَم الذي هو الإنسان الكبير. فحاسَّة اللمس مناسِبة لطبيعة الأرض؛ لأن الإنسان يحس بجسمه كله. وحاسَّة الذوق التي هي اللسان مناسبة لطبيعة الماء؛ إذ بالمائية والرطوبة التي في اللسان والفم تدرك طعوم الأشياء، وسنشرحها إذا انتهى بنا القول إلى تفصيل ذلك وبيانه. وحاسَّة الشم مناسبة لطبيعة الهواء؛ لأن القوة الكامنة هوائية، وهي المستنشقة للهواء، وبه تدرك روائح الأشياء. والحاسَّة الباصرة مناسبة لطبيعة النار؛ إذ بها وبالنور تدرك محسوساتها. والحاسَّة السامعة مناسبة لطبيعة الفلك الذي هو مسكن الملائكة، الذين شعارهم وشغلهم ليلهم ونهارهم وكلامهم كله تقديس وتسبيح وتهليل، ويلتذ بعضهم بسماع بعض، ويقوم لهم في ذلك العالم العلوي مقام الغذاء الجسماني في العالم السفلي.
وذلك أن حاسَّة السمع محسوساتها كلها روحانية؛ ولذلك قيل إن فيثاغورس الحكيم سَمِع بصفاء طبيعته وصفاء جوهره نغماتِ الأفلاك، وإنه استخرج الآلة التي تُسمَّى العود، وأنه أول من ألَّف الألحان، ومن بعده من الحكماء الذين اقتدوا به وبان لهم حقيقة ما وصفه، فصدَّ قومه وتابعوه واتسعوا في فعل ذلك كل بقدر ما اتسع له زمانه، وساعده عليه إمكانه.
فصل
ثم إن لكل صوت صفة روحانية تختص به خلاف صوت آخر؛ فإن الهواء مِن شرف جوهره ولطافة عنصره يحمل كل صوت بهيئته وصيغته ويحفظها لئلا يختلط بعضها ببعض، فيفسد هيئاتها إلى أن يبلغها إلى أقصى غاياتها عند القوة السامعة لتؤديها إلى القوة المفكرة، ذلك تقدير العزيز العليم، الذي جعل لكم السمع والأبصار والأفئدة، قليلًا ما تشكرون. فإن قال قائل: ما العلة التي أوجبت للهواء هذه الفضيلة الشريفة والحركة الخفيفة؟ فنقول: لقد سألتَ عن أمر يجب السؤال عنه؛ إذ كان من أكثر الفوائد، فيجب أن تعلم أن جسم الهواء لطيف شريف، وهو متوسط بين الطرفين، فما هو فوقه ألطف منه وهو النور والضياء، وما دونه أكثف وهو الماء والتراب، ولما كان الهواء أصفى من الماء وألطف وأشرف جوهرًا وأخفَّ حركةً صار النور يَسري فيه ويصبغه بصبغته ويودعه روحانيته؛ لأنه قد قاربه وجانسه بما فيه من اللطافة، ولما كان النور والضياء أصلُه ومبدؤه من أشرف الجواهر الغالية صار له اتصال بالنفوس والأرواح وصارت سارية فيه، وهو المعراج الذي تعرج به الأرواح وتنزل به النفوس إلى عالم الكون والفساد ومجاوَرة الأجساد، ولما كان للهواء هذه الفضيلة صار يحفظ لكل شيء صورته تامة، ويحوطه حتى يُبلغه إلى الحال المقصود به بحسب ما جعله فيه باريه، جلت قدرته، بحكمته ليكون بذلك إتقان الصنعة وأحكام الخلقة؛ فلذلك صارت تدركها بما هي به إذا كانت الحاسَّة سالمة والأداة كاملة.
وهكذا حاسَّة الشم تقبل من الهواء ما يحمله من الروائح، فإنه يحفظها ويتبع الإحاطة بما يعرض من الروائح عن كثير من الأجناس، ثم تؤديها إلى حاسَّة الشم فتخبرها عن كل رائحة بما هي به وعما فاحت عنه؛ ولذلك قيل عالَم الأرواح روح وريحان ونغمات وألحان. وكذلك النور يحفظ الألوان على الأجسام ولا يخلط بعضها ببعض، وتدركها القوة بما هي به إذا كانت الحاسَّة سالمة، ثم إنه متى حدث ببعض الحواس حادثٌ أوجب تغيُّر إدراك الحاسَّة، فليس ذلك لفساد في الهواء والضياء، ولكن لفساد المزاج واضطراب البنية، فإذا كانت الحاسَّة سالمة وجاءتها الأشياء بخلاف ما تعْهَد فليس ذلك لفساد فيها، لكن للحادث الذي حدث في الهواء والضياء؛ وذلك أن الهواء يتغير ويتكدر، والضياء يظلم؛ ولذلك صار البصر لا يدرِك بعدَ مغيبِ الشمس ما كان يدركه وقت طلوعها، وكذلك السمع لا يدرك من الأصوات في وقت هيجان الريح وحركة الهواء ما كان يدرك من ذلك في وقت سكون الهواء وهدوء الرياح.
من الجسمانيات الطبيعيات في علل اختلاف اللغات ورسوم الخطوط والعبارات
بسم الله الرحمن الرحيم
الْحَمْدُ لِلهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ
(١) فصل
اعلم أيها الأخ البار الرحيم، أيدك الله وإيانا بروح منه، أنه لما فرغنا من ذكر اللذات والآلام الجسمانية والروحانية، وذكْر علة كراهية الحيوان للموت، نريد أن نذكر في هذه الرسالة التي في آخر الطبيعيات بيان اختلاف علل اللغات، فنقول:
إن معرفة علل اختلاف اللغات والكلام والأصوات ورسوم الخطوط والكتابات، وكيفية مبادئ المذاهب، واعتقادات الآراء والديانات، وأصل تكوينها ومبدئها وظهورها ومنشئها، وتزيينها ونموها وكثرتها واختلاف أهلها فيها وآرائهم ومنهاجهم، ودثور قوم وكون آخرين منهم قرنًا بعد قرن وأمة بعد أمة؛ لا تكون إلا بعد البيان والإيضاح عن الأصل الذي تفرعت عنه هذه الأمور التي ذكرناها، والإخبار عن كيفية تركيبها وتحليلها وحركتها في مبدئها وكونها بذاتها، وعن اختلاف مجاريها وينبوعاتها في سائر الأجسام، وشدة بيانها عن الحواس وسريانها في الأجناس وإنارتها للحواس وصفة حدوثها بسرعة وانتقال وخروجها بحركة وانفصال وذهابها بعدم واضمحلال وكيفية وجودها في عالم الإنسان، وكيف كانت فيه في مبدئها، وكيفيتها فيما دونه من الحيوان وغير الحيوان، تؤديها إلى حاسَّة السمع من جملتها ومن يحملها، وكيفية حملها، وما السبب الموصل لها إلى الحاسَّة المتحققة بها ولم يدركها من الحواس غير هذه الحاسَّة، وما العلة في ذلك وكيف يعرف الإنسان بخاصة هذه الحاسَّة مفهومها وغير مفهومها بالبرهان.
وهذه أمور غامضة نحتاج فيها إلى بحث دقيق والإخبار بها من غايات الأسرار، ونريد أن نذكر منها في هذه الرسالة طرفًا بحسب التوفيق ليكون مدخلًا إلى علم ذلك ومقدمة بين يديه؛ ليسهل الباقي ويكون بأوجز قول يؤدي إلى الفهم، وأوضح دليل يسهل به العلم، من غير تطويل يشتبه على قارئه، ولا إسهاب يضجر راويَه، ونبدأ من ذلك في ذكر الأصل والعلم في مبادئه، فنقول:
اعلم أن هيولى الحكمة تتَّحد من إرادة الهيئة؛ لأنها هيولى قابلة لجميع الأشياء، وهي مادة سماوية وقوة فلكية وأسباب علوية وقوة عقلية متصلة بجواهر روحانية وأشخاص نفسانية، ترتبط بأفلاك دائرة وتتصل بكواكب سائرة، وتشرق على نجوم طالعة وتضيء بأنوار ساطعة، وترمي إلى ما دونها أنوارها وتودع المصطفين في الأشخاص الإنسانية أسرارها، وتجعل فيهم ودائع الخيرات وتجعلهم مفاتيح البركات، وذلك بما يتخالف إليها ويتعاقب عليها من اتصال وافتراق واختلاف واتفاق، من غير خلل في نظام الابتداء ولا تنقص عن تمام البلوغ والانتهاء، وأن تلك المادة الفاعلة لجميع المكونات لا تدرك إلا بلطائف الحواس، ولا يبلغ تناولها إلا بالالتماس، وكيف لا يكون ذلك كذلك، وهو السبب الذي لا تنقضي عجائب مادته ولا تفني مواد كميته؟! فنقول:
اعلم يا أخي أن المعرفة لها والعلم بها درجة صعبة الارتقاء ومسافة بعيدة الانتهاء؛ وهي درجة العارفين ومقام المستبصرين، الناظرين إلى آثارها العارفين بأخبارها، من طريق العناية عن الحواس الحيوانية والطريق الجرمانية؛ إذ كانت آثارها روحانية ومواردها نفسانية، وعنها صدرت القوة المتصلة بالحكماء وهي روح القدس النازلة على الأنبياء، عليهم السلام، بالوحي من السماء، وعليها معول العلماء، وربما وردت أشياء كثيرة الاختلاف بعيدة الائتلاف، متباينة القوانين مختلفة الموازين.
وذلك أن ما كان منها في هذا المكان الأرضي والمركز السفلي تضعف الحواس عن إدراك معرفتها، وتعجز المشاعر البشرية التي هي من أسباب الهيولى عن بلوغ إدراكها، فإذا كانت الأشياء على هذا المثال منشؤها، وبهذا الترتيب مبدؤها، وكانت القوة التي هي مادة المعرفة بالحس في العالم الإنسي، وسبب القبول في الجسم المجبول يعجزان عن البلوغ ويضعفان عن الوصول، وكانت مدة الزمانية التي هي سبب الحياة الإنسانية تقصر عن الطلب وتفنى قبل بلوغ الأرب، وتضيق عن الإحاطة بمعرفة ذلك السبب.
وإذا كان الأمر على ما وصفنا، كان أول ما قصده العاقل، وتوخاه واعتمد عليه الفاضل، وتحراه معرفة ما طاوعه عليه حسه وساعده على قبوله جوهر نفسه، وتلقاه أيام مدته وأعمل فيه فكرته زادت فيه بصيرته؛ فمن لا حس فيه لا معرفة له، ومن لا معرفة له لا جوهر له، ومن لا جوهر له لا بلوغ له، ومن لا بلوغ له لا مقر له، ومن لا مقر له لا وجود له، ومن لا وجود له فهو العدم.
(٢) فصل
ثم اعلم أن الغرض من اتحاد المركبات كلها هو معرفة السبب الموجب لذاتها، المنشئ لمباديها، المؤلف لكيفياتها، وكيف كان منشأ الابتداء، وإلى أين تئول العاقبة في الانتهاء، وكيف كان التئام التأليف واتفاق اللطيف بالكثيف وازدواج التركيب، وكيف يكون افتراق المجتمع وانفراد المزدوج وانحلال المنعقد، واتحاد منفردها وعدم وجودها، ونفاد أجزائها بعد صحة وجودها، وسلامة معهودها ووثاقة معقودها، فإذا أنت علمته وتصورته وتبينته وتأملته، بان لك إذا ساعدك عليه حسك، وأوصلك إلى معرفة قبول جوهرة نفسك، وتأملته تأمل التحقيق، وبان لك كيفية التأليف والتركيب، واقتران اللطيف بالكثيف الذين بهما وبصحة معرفتهما، وجود مادتهما وإحداهما مادة أرضية وقوة جسمية، والأخرى صورة روحانية وشهوة ملكية، فيا لها من قصة عجيبة ظريفة من اجتماع ما علا مع ما دنا، وارتباط ما لطف بما كثف! جارت في ذلك عقول الحكماء، وتاهت فيه أذهان العقلاء، وانسدت الطرقات، وانطمست العلامات، وتعذرت الدلالات؛ إذ كان من المنكر في هذا العالم على من له حكمة ونظر، أن يقرن العالم بالجاهل، وأن يجمع بين الجوهر والحجر في مقر واحد، اللهم إلا يكون أراد تعذيب العالم بالجاهل؛ جزاءً له بذنب عمله وجرم قدمه، أو مقارنة الجوهر بالحجر وكونهما في مكان واحد ليكون الحجر سترًا على الجوهر وواقيًا له وغطاء عليه وحجابًا بين يديه، لا أن يكون العالم والجاهل عنده في مقام واحد.
وكذلك الحجر والجوهر إذا كانا في مقام من جهة الصورة الجسمانية والهيولى الجرمانية منعكسين في فيء الهيولى، فإنهما لا يعرفان ما اتحد بهما بفيء الظل والجوهر من المواد المضيئة والرتب العلوية، أعني العالم، والحجر عدم ذلك فليس يقال بأنه عالم.
ولما كان ذلك كذلك زالت الشبهة والإنكار لوجود معرفة ذلك السبب الموجب الاجتماع، ووجب للطالب إذا طلب معرفة ذلك السبب، ومن بعد وجود اجتماعها حصول افتراقهما ووجود أحدهما بجملة وعدم الآخر وتفرقته، وإذا عرفت ذلك بانَ لك الفرق بين الجسم والعرض، وأدركت المراد والغرض، وسأبين من ذلك طرفًا يعينك على ذلك، ويبلغك إلى معرفة ما وصفت لك؛ إذ قد فرغنا من ذلك رجعنا إلى الإبانة عن تركيب الأصوات، واختلاف اللغات، ومبادئ الخطوط والكتابات والألفاظ والعبارات، واستخراج الحروف والمؤلفات، ومن أين تخرجت، وعمن أحدثت، وفي أي مكان وجدت، والله ولي التوفيق.
(٣) فصل
ثم اعلم أنه لما سَرَت القوة النفسانية في الجسم، الذي هو العالم بأسره، بعد كونها لا سريان لها، ساكنة في حظيرة القدس في روضة الأنس، حيث سريان القوة العلوية فيها، وإشراقها عليها وكونها مرتبة بحيث رتبها باريها، كما قال تعالى: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى، وهي الكون في وقت الابتداء، فلما امتلأت من الفضائل والخيرات وما بلغ إليها من الإفاضة، وكانت ذات فكر وتخيُّل، فتفكرت ثم تخيلت ثم نظرت، فأرادت أن تكون ذا منة وتفضُّل، وأن تكون رياسة ونفاسة، وأن تكون مفيدة، فبدا لها في ذلك التخيل الذي تخيلته، والمثال الذي مثلته، وانبث السريان فيه والارتباط به من جسم العالم، ومكنها الله تعالى من ذلك، وجعله جسدًا لها وأراها خلاف ما ظنته، فلما دارت أفلاكه، وسارت أملاكه، وزهرت كواكبه، وبدت عجائبه؛ أقبلت تمثل فيه ما كان ممثلًا فيها، وتخرجه من القوة إلى الفعل، ومن المعقول إلى المحسوس، الشيء بعد الشيء، ثم إن جميع الموجودات وسائر المصنوعات لما بدت ووجدت في العالم، وقع الاختلاف فيها، والسؤال عنها من جهة ثلاثة أنواع يحصرها جنس واحد؛ فأول ذلك الترتيب الأول المرتب كان في النفس أولًا بالقوة والأمور العقلية المعقولة، وهي صورة أعياز بسائط المركبات والموجودات بالترتيب، والثاني هي الأمور المحسوسة ثم البرهان يقتضي علتها ويبين معانيها ويعرف الناظر فيها والسائل عنها معرفة كيفيتها معقولة في غاية التجرد النفساني وكونها بعدها محسوسة في العالم الجسماني.
فأما تفصيل ذلك فنقول: أما الصورة العقلية فهي آثار العقل الكلي في النفس الكلي لقبولها منه وكونها بالقرب منه، وهي أنوار مضيئة تخرج عن حد الوصف بالعبارة الجسمانية من حيث التركيب إذ كانت في غاية البساطة والتجريد إلى الأمور المحسوسة، فهي صورة في الهيولى تدركها الحواس بالمباشرة لها، وتنفعل منها بخاصة القوة فيها.
وأما الأمور المبرهنة فهي أشياء لا تدرك إلا بمواد العلم وصحة العقل، وهي أمور يكون مبدؤها من أمور إلهية وأشخاص ملكية، تضطر العقول إلى الإقرار بها والإذعان لصحتها والتمسك بمعرفتها، كما بين في كتب الهندسة، وصحة الدليل على ما قد قال أهلها أن أشكال الأشياء لا يحاط بأطرافها، ولا تدرك أقدارها، ولا ترى أقطارها، ولا يمكن رؤيتها إلا مدورة بأي شكل شكلت، وأي مثال مثلت، كما قال إقليدس في كتابه إن مقدار ظل أي نهاية، جسمًا كان أو سطحًا أو خطًّا، فإنه يمكن أن يوجد منه دائمًا ولا يفنى أبدًا، فهذه حكمة لا تدركها الحواس ولا تتصورها الأوهام البتة من غير تعريف.
وقد تكلم إقليدس أيضًا في مقدمات كتابه عن البرهان وقال: إن البرهان مقدمات الحجة على تحقيق الخبر.
فأما التمام فهو العلم بالمعلوم بجميع ما ذكرنا، قال إقليدس: وإنما النقطة هي التي لا جزء لها، والخط هو طول بلا عرض، وطرفا الخط نقطتان، والخط المستقيم هو الموضوع في مقابلة كل واحدة من نقطتي طرفيه على سمت واحد، فهذا يدل على أن النقطة وهمية لا تتحقق إلا بالبرهان، ولا تعرف إلا بالخبرة، فقد تبين إذَنْ أن الأمور المبرهنة لا تدركها الحواس، ولا تتصورها الأوهام، ولكن البرهان الضروري والحجة القاطعة يضطران العقل إلى الإقرار بهما؛ لأن البرهان ميزان العقل، كما أن الكيل والوزن والذرع ميزان الحواس، فاعرف ما ذكرنا، وتحقق ما وصفنا، وأَدِمْ فيه فكرك، وأعمِل رويتك؛ فإنك بذلك تنال غرضك فتبلغ مرادك وطلبتك.
(٤) فصل في معرفة الأصوات الفلكية
فنقول: اعلم أن الأصوات هي الأعراض الحادثة من الجواهر؛ والجواهر جنسان؛ فما علا ولطف قيل جواهر علوية، وما دنا وكثف قيل جواهر سلفية وأصوات هي أعراض لا يكون حدوثها إلا عن الجواهر، وحدوثها لا يكون إلا من محرك يحركها، تارة يطن الصوت ويتصل بمسمع الحاضرين، وتارة يسكنها فيسكن الصوت.
ولما كان ذلك كذلك، وضح البرهان على أن أصل الحركة هو النفس، وأن الصوت منفعل من حركتها وسريان قواها في الأجسام.
ولما كانت الأفلاك دائرات والكواكب والنجوم متحركات، وجب أن يكون لها أصوات ونغمات.
ولما كانت مستوية في نظامها محفوظة عليها صورة تمامها وكمالها، وجب أن تكون حركاتها منفصلة وأصواتها متصلة، وأقسامها معتدلة، ونغماتها لذيذة، وألحانها بديعة، ومقالتها تسبيحًا وتقديسًا وتكبيرًا وتهليلًا، تفرح بها نفوس المستمعين لها والحافين بها من الملائكة، والنفوس التي تقدم عليها وتصعد إليها، وتلك الحركات والأصوات هي مكيال الدهور والأزمان، التي بها يحكم على عالمها بالبقاء من حيث هي كما أن الأصوات اللذيذة والألحان المطربة والنغمات الحسنة في عالم الأبدان تفرح بها نفوس السامعين لها، وتحن إلى استماع ما كان لذيذًا منها، وتسر بقربها وتسلى عنها الغموم وينجلي عنها الهموم، ويكون منها سكونات فاصلة بين تلك النغمات والحركات، فتصير عند ذلك مكيالًا للزمان وذرعًا له، ومحاكية لحركات الأشخاص الفلكية والأصوات الملكية ومناسبة لها، وتلك هي الأصل في جميعها وهذه فروعها وقد استمعتها النفوس، وهي في عالم الكون والفساد، فتذكرت بها عالم الأفلاك ولذات النفوس التي هناك من فسحة الجنان وروضة الريحان، وعلمت أنها في أحسن الأحوال وأطيب اللذات وأتم الأشكال وأدوم السرور؛ لأن تلك النغمات والأصوات هي أضعاف هذه الألحان، وهي أطيب؛ لأن تلك أحسن ترتيبًا وأصح تأليفًا، وأجود هندامًا وأقوم نظامًا، وأصفى جوهرًا، ومناسبات حركاتها أصح تأليفًا.
فإذا تخيلت النفوس الجزئية التي في عالم الكون والفساد ما في عالم الأفلاك وتيقنت حقيقة ما وصفنا، تشوقت عند ذلك إلى الصعود إلى هناك واللحاق بأبناء جنسها والوصول إلى حظيرة الفلك وروضة الأنس.
ولما بان لنا أن الفلك طبيعة خامسة، وأنها ليست بمخالفة لهذه الأجسام التي دون فلك القمر في كل الصفات؛ وذلك أن منها ما هو مضيء كالنار وهي الكواكب، ومنها صقيل الوجه كوجه المرآة وهو جرم القمر، ومنها ما يقبل النور والظلمة مثل الهواء وهو فلك القمر وفلك عطارد، وهذه كلها أوصاف الأجسام الطبيعية تشاركها الأجسام الفلكية، فقد بان بأن الفلك، وإن كان طبيعة خامسة، فليس بمخالف للأجسام الطبيعية في كل الصفات، بل في بعض دون بعض؛ وذلك أنه ليس بحارٍّ ولا بارد ولا رطب ولا يابس، بل هو صلب أشد صلابة من الياقوت وأشف من البلور وأصقل من المرآة، وأنه يماس بعضه بعضًا ويصطك ويحتك، ويطن كما يطن النحاس، ويكون لنغماته وأصواته مناسبات مؤتلفة وألحان موزونة، كما بيَّنا في رسالة الموسيقى بأكثر من هذا البيان، وأقمنا عليه البرهان من صناعة العود وضرب الأوتار وما يستعمله أهل هذه الصناعة من النسبة، وهي أصح نسبة تكون وأفضلها؛ لأنها نسبة روحانية.
فصل
ثم اعلم أنه لو لم يكن لحركات أشخاص الأفلاك أصوات ونغمات، ولا للملائكة كلام ولا تسبيح ولا تقديس، فليسوا هم إذَنْ أحياءً، فهم أموات؛ لأن الصمت بالموتى أولى، ولربما احتكَّ بعض الأحجار ببعض، فيَحدث من بينهما قرع في الهواء. ولو كان الفلك ومن فيه بغير كلام ولا صوت ولا نطق، لكان ما يكون تحته مشاكلًا له، وكان من يكون ساكنًا بغير حركة.
ولما كان هذا من الأصل في البداية وجب أن يكون ما تحته مناسبًا له، لكن هو الأعلى زيادة عليه؛ إذ كان هو الفاعل وهذا المنفعل، وأيهما الأولى بالنطق والحركة والكلام والتسبيح والتكبير والتقديس والتهليل؛ أهل السموات والأفلاك أم أهل الأرض من عالم الإنسان والحيوان والجمادات؟ وأيهما أولى بالسمع والأبصار والأذهان والأفكار والخواطر والأذكار والعلم والعقل؛ أهل السموات أم أهل الأرض؟ فأهل السموات هم المسبحون المستغفرون لمن في الأرض، لا يفترون عن التسبيح ولا يسكتون عن التقديس بألحان طيبة ونغمات لذيذة، ألذ من نغمات العيدان ونقر الأوتار والطنابير ومجاوبة المزامير في الميادين الفسيحة والأنبوبات القائمة. وإن تلك النغمات والألحان تذكر تلك النفوس البسيطة التي هناك سرور عالم الأرواح ومحل الأشباح التي فوق فلك الأفلاك، التي جواهرها أشرف وألطف من جواهر عالم الأفلاك، الذي هو عالم النفوس ودار الحيوان، الذي نعيمها كله روح وريحان في درجات الجنان؛ ولذلك صارت النفوس الجزئية التي في عالم الكون والفساد إذا سمعت الأصوات الطيبة والنغمات اللذيذة، مثل قراءة الإنجيل وتلاوة القرآن وألحان الداودية وألحان القراء في المجالس، تذكرت رسوم الأفلاك ومحل السموات، وتشوقت إلى ما هناك؛ ولذلك قالت الحكماء إن الموجودات والمعلومات هي التي تحاكي أحوال الموجودات الأولى التي هي علل لها، وقولهم إن الأشخاص الفلكية علل وآلات لهذه الأشخاص التي في عالم الكون والفساد، وإن حركات تلك علة لحركات هذه، وحركات هذه تحاكي حركات تلك؛ فواجب أن تكون أصوات هذه ونغماتها تحاكي ما هو علة لها كمحاكاة الصبيان أصوات آبائهم وأمهاتهم وحركاتهم في لعبهم، فإنهم يحاكون أفعال الآباء والأمهات.
وهكذا التلامذة يحاكون أفعال الأستاذين، وأكثر العقلاء والعلماء من الناس يعلمون أن الأشخاص الفلكية وحركاتها المنتظمة وأصواتها الموزونة على النسبة الفاضلة متقدمة الوجود على الحيوانات التي تحت فلك القمر، وحركاتها علة لحركات هذه، وأن عالم النفوس متقدم الوجود على عالم الأجسام، كما بيَّنا في رسالة المبادئ العقلية، ولما وجد في عالم الكون والفساد حركات وأجسام ذوات أصوات وحيوانات ناطقة.
دل على ذلك أن في عالم السموات أشخاصًا ناطقة ولطائف متحركة، وأن لتلك الحركات نغمات متناسبات مفرحة لنفوسها ومشوقة لها إلى فوقها، كما يوجد في طباع الصبيان اشتياق إلى أحوال الآباء والأمهات، وفي طباع المتعلمين والتلامذة اشتياق إلى أحوال الأستاذين، وفي طباع الجنود والخدم اشتياق إلى أحوال الملوك والرؤساء، وفي طباع العقلاء والفضلاء اشتياق إلى أحوال الملائكة وتشبُّه بهم، كما قيل في حد الفلسفة أنها تشبُّه بالإله بحسب طاقة الإنسان.
وقد قيل إن فيثاغورس سمع، بصفاء جوهره وذكاء قلبه، نغمات حركات الأفلاك وأصوات حركات الكواكب، واستخرج بجودة فكره أصوات نغمات الموسيقى وأوضاع ألحانها المطربة، وهو أول من تكلم في هذا العلم وخبر عن هذا السر من الحكماء، ثم تيقوماخس وبطليموس وإقليدس وغيرهم من الحكماء تصرفوا في ذلك وأتقنوا كما ينبغي.
وقد ذكرنا في هذا المعنى واستقصينا البيان بإقامة الدلالة عليه في رسالة الموسيقى، فقد بان بما ذكرنا وتحقق بما وصفنا أن السموات عامرة بأهلها مسكونة، ولسكانها أصوات ونغمات، والأصوات والنغمات والحركات التي هي أعراض تحدث من حركات الأجسام الحيوانية وغير الحيوانية، إنما تظهر وتبرز بحسب بروز تلك الأصوات في ذلك العالم.
وهكذا أيضًا تتبع هذه الحركات الجزئية تلك الحركات الكلية، وهذه حركات ناقصة وتلك حركات كاملة، وهذه حركات فانية وتلك حركات باقية صالحة، وتلك الحركات والأصوات والنغمات كلها مفهومة وهذه غير مفهومة، وتلك مستوية وهذه غير مستوية.
والعلة في ذلك صفاء هيولى تلك وكدر هيولى هذه، وهيولى هذه فانية فاسدة وتلك باقية صالحة، وتلك الحركات مكائل الدهور النفسانية وهذه مكائل الأوقات الزمانية، وهذه مركبة وتلك بسيطة، وهذه فيها اختلاف وتغيير وتلك لا اختلاف فيها ولا تغيير، والنغمات اللذيذة والأصوات الطيبة في هذا العالم قليلة الوجود معدومة على الحال الأكثر يتخصص بها الملوك والكبار ويتنافسون فيها، ويكثر غير المخصوص بها لشرفها وجلالتها في النفوس.
ولذلك صارت النفوس الجزئية، إذا سمعت نغمة طيبة وصوتًا حسنًا، تنجذب إليه وتصبو نحوه وتنصت إليه أسماعها، لقلته وكثرة أضداده من الأصوات المنكرة.
وهكذا ميلها إلى الصورة الحسنة والأشخاص المليحة لقلتها وكثرة أضدادها؛ فلذلك صارت المستحسنات مرغوبًا فيها محبوبة لكثرة التنافس فيها ولقلة وجودها.
فأما ذلك العلوي فكله روح وريحان ونغمات لذيذة وأحلان طيبة وصور حسَان، وهو مسكن الحور والولدان وسرور وخير معرًّى من الشوائب المنغِّصة والأخلاق الموحشة.
فلذلك قيل إنه لا يصل إلى هناك إلا مَن حسنت أفعاله وزكت أعماله، فيكون ذلك معينًا له على الارتقاء إلى هناك، واللحاق بذلك العالم الفاضل الشريف الكامل؛ ولذلك قيل حُسن الصوت زيادة في الرزق، وقيل سماحة الصوت نصف الزمانية.
فصل
ثم اعلم أن من لدن فلك المحيط إلى منتهى فلك القمر أصواتًا مرتفعة وألحانًا مطربة ونغمات لذيذة ولغات مختلفة وحركات مؤتلفة، ناطقة كلها بالتسبيح والتهليل والتكبير والتحميد؛ فقد بان لك بهذا الوصف معرفة الأصوات الفلكية والحركات السماوية، وسنذكر بعد ذلك الأصواتَ الأرضية والنغمات السفلية.
(٥) فصل في معرفة أصول الأصوات الأرضية
فنقول: اعلم أن أصل الأصوات هو ما حدث من تصادم الأجرام وحركات الأجسام، والصوت قرع يحدث من الهواء إذا صدمت الأجسام بعضُها بعضًا، فتحدث بين ذَيْنك الجسمين حركة عرضية تسمى صوتًا، بأي حركة تحركت ولأي جسم صدمت ومن أي شيء كانت، وهذه الأصوات تنقسم قسمين: حيوانية وغير حيوانية، والحيوانية تنقسم أقسامًا وتتفرق أجناسًا على حسب اختلاف الحيوان في أجناسها وتباينها في أصواتها، وسنأتي على بيان ذلك في موضعه إن شاء الله. والأصوات التي هي غير حيوانية أيضًا تنقسم قسمين وتوجد في نوعين، وذلك أنها طبيعية وآلية؛ فالطبيعية كصوت الرعد والريح والبرق وكصوت الأجسام التي لا أرواح فيها كالجمادات، ومثل صوت الحديد والحجر والخشب وما أشبه ذلك. والآلية هي الأجسام الصناعية كصوت الطبل والبوق والزمر والوتر والمناقر وجميع هذه طبيعية وآلية، لا يحدث فيها صوت ولا يسمع لها حركة إلا مِن تصادم بعضها ببعض وامتزاج بعضها ببعض، فإنه لولا أن الزامر ينفخ في الناي والمغني يحرك الوتر والناقر ينقر الحجر، لم يوجد لذلك صوت ولا يسمع له حس.
وأما أصوات الرعد فقد قالت الحشوية إنه للملك يزجر السحاب ويسوقه ويفرقه يمينًا وشمالًا، وإن الملائكة عن يمينه وشماله يسبحون بتسبيحه ويسكتون بسكوته، سبحانك هذا بهتان عظيم؛ فلم يكن عند علماء هذه الطائفة الحشوية أكثر من هذا العمى ببصيرتهم وقلة عقلهم وتمام جهالتهم.
وقال غيرهم ممن يدعي معرفة علم الهيئة إنه يحدث من تصادم السحاب واصطكاك الغيوم، وهذا خطأ؛ لأن السحاب جسم منعقد من البخار يتصاعد من الأرض لطيفًا ثم يتكاثف من التئام بعضه إلى بعض، وهو جسم لا صوت له.
وقال آخرون هو الريح يخرق السحاب، والريح إذا خرق السحاب فرقه وقطعه ولم يحدث من بينهما صوت.
بقي القول في الصواب وهو أن يطلع البخار بلطافته حتى يتعلق في عنان الهواء، وهو على ضربين: رطب ويابس، فإذا اجتمعا وتكاثفا امتزجا وتعاقدا، فعُقد البخار الرطب مع البخار اليابس بقوة كثافته وشدة رطوبته ولا يكون له منفذ إلا بشدة شديدة، فيجتمع بقوته ويخترق الهواء بلطافته، فيحدث منه ذلك الصوت على قدر كثرته وقلته، وربما طلب العلو فلم يكن له منفذ، فانعكس البخار اليابس فطلب السفل فقدح نارًا أو يحدث منه صوت هائل، وهو الذي يسمى الصاعقة، كما يحدث من الزق المنفوخ إذا وقع عليه حجر ثقيل من شاهق وشقه وخرج منه الهواء الذي كان فيد دفعة واحدة، وحدث منه صوت هائل، وهو الذي يسمى صاعقة يسمعه مَن بقرب تلك البقعة، وربما يتحول ذلك البخار فيصير ريحًا يدور في جوف السحاب ويطلب الخروج منه ويسمع له دوي وقرقرة كما يسمع من أجواف الحيوان والإنسان من الريح التي تحدث في الجوف من جهة المأكول الذي يحدث فيه.
(٦) فصل في أن منتهى كل حاسة إلى القلب
ثم اعلم أنه لولا العناية الإلهية والسياسة الربانية ورحمة الله تعالى بخلقه ورأفته بعباده بأن جعل كرة النسيم عالية عن كرة السحاب، مرتفعة بعيدة من الأرض بمقدار الحاجة، وجعل من شأن السحاب أنه إذا انخرق طلب الصعود إلى فوق، ومن شأن قرع الهواء إذا حدث أن تكون حركته إلى فوق، ولولا ذلك لكانت أصوات الرعد ولمعان البرق تضر بمسامع الحيوان وأبصارها، ولأهلكتها كما يكون ذلك في بعض الأحايين.
وذلك أن السحاب إذ تزاحم ودفع بعضه بعضًا حتى ينضغط، فينتقل من قرب الأرض وتحدث منه الرعود وتنخرق السحب من أسفل، فيحدث من ذلك قرع في الهواء وتدافُع منحط في الأرض، فيكون من ذلك صوت هائل يسمى صاعقة، وتقتل كثيرًا من الحيوان الذي يقرب من ذلك المكان، وربما أحرقت بعض الأجسام الرخوة؛ لأنها نار لطيفة.
وأما الأجسام الصلبة فإنها قل ما تفعل فيها، وقد ذكرنا طرفًا من هذا في رسالة الآثار العلوية، ولولا خروجنا عما له قصدنا، لشرحنا ذلك شرحًا تامًّا كاملًا.
ثم اعلم أنه كما لا يجوز في العقل أن يكون حيوان إلا من مماسة أسباب أو نكاح أجسام كذلك لا توجد الأصوات إلا في الأجسام ولا تصوت الأجسام إلا بحركات.
ثم إن الأصوات أعراض حادثة والجواهر أجسام حاملة لها، فإن زعم زاعم أو اعترض معترض فقال إنه قد توجد أصوات في غير أجسام ومن غير حركات الأجسام؛ وذلك أنه إذا تكلم متكلم في سفح جبل أو صاح في قعر بئر أو نهر، أجابه مجيب بمثل كلامه يسمع المتكلم جوابه من غير جسم ولا حركة جسم.
وقد يُرى أيضًا حيوان يتكون من غير نتاج ولا نكاح مثل دود الخل وسوس التمر وما يتكون من العفونات ومن النداوات وما أشبه ذلك.
فليعلم هذا المعترض وهذا القائل أنه ليس القول كما زعم، فإنه جاهل بهذه الأشياء وبهذه الأسباب الموجبة لحدوثها منها وكونها عنها، فغلط فيما رأى من موجوداتها، وكان قليل المعرفة بمعلوماتها، وأنه لما سمع الصوت من الجبل والبئر ظن بأنه أجابه بجوابه وردَّ عليه بكلامه، إما من حيوان لا يراه وشيء لا يعاينه، أو أن الجبل نطق بجوابه وقعر البئر رد كلامه، فهذا تخيُّل مَن لا عقل له ولا معرفة عنده، فالصوت الذي يسمعه إنما هو صوته والحركة التي بدت منه في الهواء، وذلك إنه صاح في سفح الجبل وقعر البئر إلى جانب الحائط، فخرج من جوف المتكلم شكل كروي ونقش عرضي يأخذه الهواء إلى أن يؤديه إلى ذلك الموضع فيصادفه ما يمنعه من النفوذ والانتشار، فيرتد راجعًا فيسمع منه ذلك الصوت، وهو الصدى، وسنأتي على شرح ذلك كما ينبغي في موضعه.
(٧) فصل في أن الجواهر تحتلف في أنواعها
واعلم أن الأصول في أصوات ذوات الأصوات أن معرفتها تكون بمعرفة الطبائع الأربع؛ التي هي الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، والأركان الأربعة المعلومة وكيفية استحالة بعضها إلى بعض، وامتزاج بعضها ببعض في الأزمان والأماكن، وما يحدث منها في البقاع والمعادن. فمَن بحث عن ذلك بفكره ونافذ بصيرته وجودة تأمله وثاقب نظره، علم أن الأركان الأربعة لها جهات أربع من الشرق والغرب والشمال والجنوب.
ولهذه الجهات أوتاد أربعة؛ وهي الطالع والغارب ووتد تحت الأرض ووتد وسط السماء، وهذه الأسباب الأربعة ممثلة على حدود أربعة ترجع إلى سبب واحد. ولمعرفة هذه الحدود أقوام إذا سألتهم عنها عرفوك وإذا قصدتهم أرشدوك، فإن الكائنات التي هي من استحالة هذه الأركان أربعة أنواع:
فمنها حوادث الجو والتغيرات الهوائية والكائنات منها؛ مثل الرياح والأمطار والرعد والبرق والثلج والهالات والشهب وذوات الأذناب واحمرار الشفق والنيران الحادثة في الأفق.
ومنها الكائنات التي في باطن الأرض؛ كالبخار المحتقن هناك والهواء المنحصر وما يحدث من الزلازل والرجفات والخسف والهدأت، وما قد أحكمته الطبيعة في باطن الأرض وأسخنته ببخارها وطبخته بنارها من مائع وجامد وكاين وفاسد، مثل معادن الذهب والفضة والنحاس والحديد والرصاص والزيبق والكبريت والنفط والملح والشب والزاج، وسائر المعدنيات الذائبة والجامدة، وهذا علم معرفة كثيرة الفائدة.
وقد ذكرنا طرفًا في رسالة المعادن، ومنها الكائنات على وجه الأرض التي تسمى النامية، وهي على ضربين: نامٍ بالقوة وهي سائر النبات، ونامٍ بالحياة وهو جميع الحيوان، وكون جميع الحيوان على ضربين: «نتاج وتكوين»؛ فالنتاج من مُمَاسَّة الأجسام الحيوانية بعضها لبعض.
وقد ذكرنا في رسالة الحيوانات المتكون منها بغير مماسة ما هو من امتزاج الطبائع بعضها ببعض، وهو النكاح الأول، وهو الأصل، فإذا امتزجت الطبائع ونكحت بعضها بعضًا نكاحًا طبيعيًّا، أخذت القوة المنفعلة عن القوة الفاعلة بمقدار هيولى ذلك المكان وما في هيئات ذلك الزمان، مما يسهل قبوله فيحدث من بينهما حيوان، والدليل على ذلك أن ما فيه طبيعة واحدة لا يحدث منه حيوان، وسائر الأجسام الصلبة لا يوجد فيها حيوان؛ لامتناع الهواء أن يتخللها، وكل مكان لا يدخله الهواء لا يوجد فيه حيوان، وإنما الهواء يجمع بين قوى الطبائع ويؤلف بينها ويحركها حركة الاختلاط والامتزاج، ويكسبها النداوة والعفونة والتحليل والتركيب، ويكوِّن الحرارة فيلقح ذلك المكان ويقبل العفونة من الهواء، فتتحد الطبيعة بالطبيعة وتختلط القوتان، فيكون البخار الحار اليابس كالذكر، والبارد الرطب كالأنثى واجتماعهما كالنكاح، فيحدث من بينهما حيوان.
وقد ذكر الله تعالى ذلك في القرآن إذ يقول: وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ الرياح ها هنا فاعلة، والأصل في هذه الكلمة موضوعها في اللغة العربية على ما أجمع عليه النحويون ملاقح، فيصير ها هنا على القلب والتبديل، والعرب تقلب الشيء إلى الشيء وتبدل وتقدم إذا كان المعنى مفهومًا وكان المخاطَب به يفهم مِن المخاطِب، والدليل على أنها ملاقح قولهم في اللغة: لقحت الأرض والنخلة، فهي لاقحة، والجمع لواقح؛ فجعل لفظة الفاعل ها هنا لفظة المفعول على القلب، كما قال تعالى: مَاءٍ دَافِقٍ وإنما هو مدفوق؛ لأن الرباعي الذي اسم الفاعل منه مفعل والثلاثي الذي اسم المفعول منه فعيل، وقد يكون الفعيل مرة للفاعل ومرة للمفعول، والمعنى يدل عليه كقولك: قتيل وجريح وصريع، إذا أردت المفعول، وكريم ورحيم وعليم، إذا أردت الفاعل.
وكذلك تجدها في حكم الطبيعة أن الرياح هي الملقِّحة للشجرة وغيرها، فقد تَبين إذَنْ كيف يكون ذلك من الممازجة والاختلاط، وبطل أن يكون من غير ممازجة، وقولنا نكاحًا طبيعيًّا إنما هو على المجاز، يعني به امتزاج الطبائع بعضها ببعض، فقد أقمنا الدليل على أنه لا حيوان إلا من نكاح، ولا صوت عرضي إلا من جوهر، ثم نرجع إلى الأصل في الأصوات.
فصل
ثم اعلم أن الأصوات على ضربين؛ مفهومة وغير مفهومة؛ فالمفهومة هي الأصوات الحيوانية، وغير المفهومة أصوات سائر الأجسام، مثل الحجر والمدر وسائر المعدنيات. والحيوانات أيضًا على ضربين: منطقية وغير منطقية؛ فغير المنطقية هي أصوات الحيوانات غير الناطقة، وهي نغمات تسمى أصواتًا ولا تسمى منطقًا؛ لأن النطق لا يكون إلا في صوت يخرج من مخرج يمكن تقطيعه بالحروف التي إذا خرجت عن صفة الحروف أمكن اللسان الصحيح نظمها وترتيبها ووزنها، فتخرج مفهومة باللغة المتعارفة بين أهلها، فيكون بذلك النطق الأمرُ والنهي والأخذ والإعطاء والبيع والشراء والتوكيل، وما شاكل ذلك من الأمور المخصوصة بالإنسان دون الحيوان، فهذا فرق ما بين الصوت والنطق.
فأما مخارجها من سائر الحيوان فإنها من الرئة إلى الصدر، ثم إلى الحلق، ثم إلى الفم، ثم يخرج من الفم شكل على قدر عظم الحيوان وقوة رئته وسعة شدقه، وكلما اتسع الحلقوم وانفرج الفكَّان وعظمت الرئة، زاد صوت ذلك الحيوان على قدر قوته وضعفه.
وأما الأصوات الحادثة من الحيوان الذي لا رئة له مثل الزنابير والجنادب والصرصر والجدجد، وما أشبه ذلك من الحيوانات، فإنه يستقبل الهواء ناشرًا جناحيه فاتحًا فاه ويصدم الهواء فيَحدث منه طنين ورنين يشبه صوتًا.
وأما الحيوان الأخرس كالحيات والديدان وما يجرى هذا المجرى، فإنه لا رئة له، وما لا رئة له لا صوت له.
وأما الحيوان الأنسي فأصواته على نوعين: دالة وغير دالة؛ فأما غير الدالة فهي صوت لا هجاء له ولا يتقطع بحروف متميزة يفهم منها شيء؛ مثل البكاء والضحك والسعال والأنين وما أشبه ذلك.
وأما الدالة فهي كالكلام والأقاويل التي لها هجاء في أي لغة كانت وبأي لفظ قيلت.
وكل هذه الأصوات — مفهومها وغير مفهومها، حيوانها وغير حيوانها — إنما هي قرع يَحدث في الهواء من تصادم الأجرام وعصر حلقوم الحيوان، وذلك أن الهواء لشدة لطافته وصفاء جوهره وسرعة حركة أجزائه يتخلل الأجسام كلها، ويسري فيها ويصل إليها ويحرك بعضها إلى بعض، فإذا صدم جسم جسمًا انسل ذلك الهواء من بينهما وتدافع وتموج إلى جميع الجهات، وحدث من حركته شكل كروي يتسع كما تتسع القارورة من نفخ الزجاج.
وكلما اتسع ذلك الشكل ضعفت قوة ذلك الصوت إلى أن يسكن؛ ومثال ذلك إذا رَميت في الماء الهادئ الواقف في مكان واسع حجرًا، فيُحدث في ذلك الماء دائرة من موضع وقْع الحجر، فلا تزال تتسع فوق سطح الماء وتتموج إلى سائر الجهات، وكلما اتسعت ضعفت حركتها حتى تتلاشى وتذهب.
فمن كان حاضرًا في ذلك الموضع أو بالقرب منه من الحيوان، سمع ذلك الصوت فبلغ ذلك التموج الذي جرى في الهواء إلى مسامعه ودخل صماخه وتحرك الهواء المستقر في عمق الأذنين بحسب القوة السامعة بذلك التموج والحركة التي تنتهي إلى مؤخر الدماغ.
ثم يقف فلا يكون له مخرج فيؤديه إلى الدماغ، ثم يؤديه الدماغ إلى القلب، فيفهم القلب من هذه الحاسَّة ما أدته إليه من ذلك الحادث، فإن كان صوتًا مفهومًا يدل على معنًى توجهت المعرفة بذلك، وإن كان غير مفهوم فإنه لا بُدَّ أن يستدل بصفاء جوهره على ذلك الصوت، ومن أي جوهر حدث، وعن أي حركة عرض، وهو يستدل على ذلك من ماهية الصوت وكيفية التموج والقرع والحركة الواصلة إلى حاسَّة السمع.
ومثال ذلك طنين الطاس، فإنه إذا سمعه الإنسان قال هذا طنين الطاس حدث من قرع شيء آخر أصابه، أما من جهة حيوان أو حدوث شيء وقع عليه من غير قصد ولا تعمُّد.
وكذلك صوت الحديد والذهب والفضة وغير ذلك، فإن أصواتها إذا حدثت تكون مختلفة بحسب اختلاف جواهرها وتبايُن طباعها من الصلابة والرخاوة واللين واليبوسة، ومثالها في ذلك مثال أصوات الحيوانات، فكلما كان في نَفَسَه أَمْثَلَ ورئته أقوى، كان صوته أعظم وأبعد مسافة في الهواء لشدة حركته.
وكذلك ما كان من الجواهر المعدنية أشد صلابة وأكثر يبوسة، كان أرفع طنينًا وأشد تصويتًا، فإذا اتفق أن يكون مصنوعًا لذلك والقصد منه التصويت والطنين، مثل الجلاجل والطرجهارات للحصون التي تستعمل على الأسوار والثغور، فإن أصواتها وطنينها يمكث في الهواء على قدر اتساع تلك الأواني وضيقها. وصوت النحاس خفيف صافٍ ليبسه وصلابته وقوة الحرارة فيه، ولا يمكن أن تتخذ من الرصاص آلة الطنين والتصويت كما يتخذ من النحاس. والحديد إذا خالط النحاس كان له أيضًا تصويت وطنين. والذهب له صوت يختص به يشابه طبيعته، وله طنين يسير، وهو معتدل الحرارة لين الطبيعة، قد تساوت فيه أجزاء طبائعه. والفضة دون ذلك، وهي أشف من الذهب وأحسن صوتًا منه إذا نقرت. كذلك الرصاص لا صوت له كصوت النحاس والحديد؛ وذلك لغلبة الأجزاء الأرضية عليه وكثافة جسمه، وصوته يشاكل صوت الحجر وما بينهما، وعلى هذا المثال وجد منطق الإنسان على الاعتدال لا بالجهير الخارج عن الحد، كصوت الأسد وصهيل الفرس ونهيق الحمار وما شاكل ذلك، ولا صامت كصموت السمك، ولا خفيف كخفوت أصوات كثير من الحيوانات، لكنه متوسط بين ذلك.
ومن أراد أن يكون له صوت طويل يمكث في الهواء فليتعمد ذلك ويجتهد في جمع الهواء حتى يكون إرساله بحسب ما اجتمع فيه فيدرك بذلك ما يريد، وإن تأذى وتألم، وإنما كان صوته متوسطًا لتوسط طبائعه واعتدالها، مثل ما اعتدلت طبيعة الذهب وكان أشرف الجواهر الذائبة بالنار.
وكذلك الإنسان أشرف الحيوانات المتحركة بالحياة، وللنبات أصوات؛ منها ما كان أشد صلابة وأكثر اجتماعًا ولا طبيعة لها، كبقية الأصوات إذا قرع انقرع كالساج والأبنوس وما شاكلها، وما كان يتخلل جسمًا ضعيف الحرارة، كخشب التين والجميز وما شاكل ذلك، يكون أضعف صوتًا إذا قرع وتحرك بجسم يحدث في الهواء من قوة حركة المحرك وكون ذلك الصوت عن المصوت وما هو مجبول عليه من طبيعته، وبحسب قوته يكون اتصال ذلك الحادث في الهواء بمسامع الحيوان من الإنسان وغيره. فالإنسان إذا سمع صوت الخشب والحديد والماء والريح أمكنه أن يخبر عن صوت كل واحد منها وينسبه إلى ما حدث عنه وخرج منه، والحيوان لا يعرف ذلك ولا يمكنه أن يعبِّر عنه ويفصل كما عبر الإنسان بقوة النطق والبيان عما سمع؛ وبهذا فضِّل الإنسان على غير من الحيوان. وكذلك يجري حاله في حاسَّة السمع فإنه من جهة الهواء يتصل به ذلك ويخبر عن كل رائحة بما هي به وينسبها إلى الذي فاحت منه. وكذلك يخبر عن حاسَّة اللمس إذا لمست الأجسام، وعرفت الحاسَّة ما كان رطبًا ويابسًا وحارًّا وباردًا ولينًا وخشنًا وما شاكل ذلك.
وأما حاسَّة البصر فإنما تحتاج في معرفة محسوساتها إلى حواس أُخَر؛ لأنها ربما كذبتها محسوساتها مثل ما ترى الكبير صغيرًا لبعد ما بينها وبينه من المسافة، والصغير كبيرًا في الأرض الواسعة، والمستوي معوجًّا كالمجذاف في الماء وما شاكل ذلك.
فصل
ثم اعلم أن منتهى كل حاسَّة إلى القلب مقرها، وعنده موئلها ولكل حاسَّة محسوسة مختصة بها، مجعولة لها، لا تتعداها ولا تتعرض لسواها؛ فالبصر مختص بالنظر، والأذن مختصة بالسمع، والفم مختص بالذوق، والأنف مختص بالشم، وكل حاسَّة من هذه الحواس تؤدي محسوساتها إلى القلب ويفهم منها حساسة القلب.
ثم إن قوة حاسَّة القلب إذا أدركت من الحواس شيئًا وقبلته منها، أدته إلى العقل ليدركه.
ولولا قوة حاسَّة القلب لَبطلتْ هذه الحواس، كما أن الأكمه الذي يولد كذلك لا يمكنه أن يتصور السماء ولا موضعها من الجهات؛ لأنه لم ير جهة فتؤديها الحاسَّة الناظرة إلى حاسَّة القلب المناسبة لها؛ لأن حاسَّة البصر تؤدي آثار محسوساتها إلى قوة عاقلة مناسبة لها حافظة لما يؤدى إليها؛ ولذلك قال تعالى: فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ، وقد بيَّنا في رسالة الحاس والمحسوس شيئًا من هذا بغير هذا الشرح.
ثم اعلم أن القلب في الجسد مصور على صورة الإنسان؛ ولذلك صار أفضل الأعضاء التي في أجسام الحيوان؛ وذلك أن له بصيرة يبصر بها ما غاب من حاسَّة النظر من خارج، وله مسامع يدرك بها الأصوات ويؤدي إلى حاسَّة السمع ما يدركه بها، وله حاسَّة اللمس فهو يتشوق إلى محسوساتها إذا فقدها مثل ما يشتاق العاشق عناق معشوقه والتزامه.
وكذلك الأكمه لا يتصور بقلبه صور الأشياء؛ لأن حاسَّة البصر لم تؤدِّ إلى الحاسَّة المختصة بالقلب شيئًا، فتبقى تلك الحاسَّة فارغة معطلة مغلقة الباب، لا يطرقها طارق فيكون لها به معرفة. ولكل حاسَّة من هذه الحواس مدركات بالذات ومدركات بالعرض، وهي لا تخطئ في المدركات بالعرض.
مثال ذلك البصر؛ فإن المبصرات له بالذات هي: الأنوار والضياء والظلم.
فأما إدراكها الألوان فإن ذلك بتوسُّط النور والضياء، وأما سائر الأجسام وسطوحها وأشكالها وأوضاعها وأبعادها وحركاتها فهي بتوسط الألوان؛ لأن كل جسم لا لون له لا يُرَى ولا يدرَك البتة، والمحسوسات التي له بالذات لا واسطة بينها وبينه في إدراكها؛ لأنه لا يحتاج البصر في إدراك الضياء والنور إلى شيء آخر، ولا في إدراك الظلمة أيضًا، وصار بينه وبين النظر إلى الألوان واسطة واحدة؛ وهي النور، وصار بينه وبين إدراكه كيفيةَ الأجسام وأسبابها النورُ والألوان، وكلما كثرت الوسائط بينه وبين النظر كان الخطأ فيه أكثر، واحتاجت الحاسَّة فيه إلى دليل آخر يحقق نظرها ويصدق خبرها.
من ذلك السراب فإنه آخذ من لون الماء بياضه ومن الضياء إشراقه، فحار فيه النظر وحال البعد فيما بين النظر وبينه عن الحكم عليه بما هو به فظنه ماء، فلما جاءه لم يجده شيئًا. وكالمجذاف الذي هو غائص في الماء فإن البصر لا يدركه إلا معوجًّا؛ لأنه قد زاد فيما بينه وبينه واسطة أخرى وهي الماء، وكذلك ما يكون في الماء من الأشياء فإن البصر لا يدركها على ما هي به.
وكذلك حال الشيء البعيد فإن الوسائط بينه وبين البصر كثيرة، وهي الضياء والهواء، وكلما بعد ازداد في الصغر والتلاشي في البصر إلى أن يغيب.
وأما حاسَّة السمع، فإنها لا تكذب وقلما تخطئ؛ وذلك لأنه ليس بينها وبين محسوساتها إلا واسطة واحدة وهي الهواء، وإنما يكون خطؤها بحسب غلظ الهواء ورقته؛ وذلك أنه ربما كانت الريح عاصفة والهواء متحركًا حركة شديدة، فيصوت المصوت في مكان قريب من المسامع فلا يسمع من شدة حركة الهواء وهيجانه، فتكون حركة ذلك الصوت يسيرة في شدة حركة الهواء وهيجانه، فيضعف عن الوصول إلى الحاسَّة السامعة.
وإذا كان الهواء ساكنًا وصل ذلك الصوت إلى الحاسَّة إذا كان في مكان يمكن أن يتصل به ذلك التموج والحركة الحادثة في الهواء.
فأما إذا كانت المسافة بعيدة فإنها لا تدركه وتتلاشى تلك الحركة وتنفذ قبل وصولها إليها.
وهكذا حاسَّة الشم، فإنها تدرك من ذلك بحسب غلظ الهواء ورقته وسكونه وحركته؛ وذلك أنه إذا كان الهواء غليظًا فإنه قلَّ ما تجد الروائح في الجهات وقلَّ ما تسري فيه، وإذا كان صافيًا رقيقًا والمسافة قريبة فإنها تتصل بمشام الحاضرين، وإذا بعدت تفرقت تلك الروائح في الجهات ولم يدرَك شيء منها، وأما قبول الهواء للأصوات والروائح فإني أشرحه لك بعون الله.
فصل
ثم اعلم أن جميع الجواهر تختلف في أنواعها، وتتباين في عناصرها وتركيبها، وكل جوهر هيولاني يكون ألطف جوهرًا وأشد روحانية وأعم خاصية، وأنه يكون لقبول الصورة وحمل الأعراض أسرع انفعالًا وأسهل قبولًا من غيره.
مثال ذلك الماء العذب لما كان ألطف جوهرًا من الماء المالح وأصفى، صار لِقبول الطعوم والأصباغ أكثر قبولًا، ولا بُدَّ أنه للحيوان أكثر امتزاجًا ومخالطة وأكثر نفعًا وصلاحًا، وبذلك صار حياة الأجسام ومادة الحيوان والنبات.
وهكذا لما كان الضياء ألطف من الهواء، صار قبوله الألوان والأشكال أسرع انفعالًا وأشد روحانية وبساطة وألطف سريانًا.
وكذلك جوهر النفس ألطف وأشد روحانية من جوهر النور والضياء، والدليل على ذلك قبوله رسوم سائر المحسوسات والمعقولات جميعها، فلِهاتين العلتين صار الإنسان يقدر بالقوة المتخيلة أن يتخيل ويتوهم ما لا يقدر عليه بالقوى الحاسَّة؛ لأن هذه روحانية وتلك جسمانية، ولأنها تدرِك سائر محسوساتها في الجواهر الجسمانية من خارج، والقوة المتخيلة إنما تتخيلها وتتصورها في ذاتها، والدليل على ما قلنا أفعال الصناع البشريين.
وذلك أن كل صانع يبتدئ ويفكر ويتخيل ويتصور في وهمه صورة مصنوعة بلا حاجة إلى شيء خارج عنه، فإذا أراد إظهار ما في نفسه إلى الفعل عمد إلى هيولى ما، في مكانٍ ما، في زمانٍ ما، فيتصور فيها ما كان متصورًا في ذاته بأدواتٍ ما وحركاتٍ ما.
وذلك أن كل حيوان لا يبصر فهو لا يتخيل الألوان العرضية والأجسام الجوهرية، وما لا سمع له لا يتصور ولا يتخيل الأصوات الكلامية ولا يتوهم الألفاظ المنطقية.
فأما الإنسان الصحيح التركيب، السالم الحواس، فإنه لما كان يفهم الكلام صار يمكنه أن يتخيل المعنى إذا وصفت. والغرض من الكلام تأدية المعنى، وكل كلام لا معنى له فلا فائدة للسامع منه والمتكلم به، وكل معنًى لا يمكن أن يعبر عنه بلفظٍ ما في لغةٍ ما فلا سبيل إلى معرفته، وكل حيوان ناطق لا يحسن أن يعبِّر عما في نفسه فهو كالعدم الزائل والجماد الصامت.
فصل
ثم اعلم أن المعاني في الكلام كالأرواح، وألفاظها أجساد لها، فلا سبيل إلى قيام الأرواح إلا بالأجساد، والكلام ضربان: مفيد وغير مفيد، والفائدة واقعة في الإخبار من جهة المجهول، والمجهول هو المخبَر عنه، والخبر دالٌّ وغير دالٍّ، والخبر هو كل قول جاز تصديق قائله فيه وتكذيبه لغيبته عن العيان أو لمضيِّه عن الزمان ووصفه أنه مسموع من قائله؛ مثل مخبر أن مدينة كذا عامرة بأهلها، وأن فلانًا الذي مات كان من أمره وصِفته كذا، فقد جاز لمن يسمعه أن يصدقه وأن يكذبه لغيبة ما ذكره من أمر المدينة عن العيان وغيبة المائت في الزمان.
وأيضًا فإن الإخبار على ثلاثة أقسام؛ إما عن ماضٍ من الزمان أو عن غائب عن العيان أو عن موجود في زمان ومكان، وامتحان ذلك بكان ويكون وكائن؛ فكان لزمان ماضٍ، ويكون لزمان آتٍ، وكائن لما هو موجود في الحال. وكل هذه الأقسام تدخلها الموجبة والسالبة والموضوع والمحمول، وهذه أقسام الخبر، وهو أيضًا غير خارج من معانٍ ثلاثة: واجب وجائز وممتنع؛ فالواجب والممتنع معروفان مستغنيان عن الدلالة على أحوالهما في الصحة والفساد.
مثال ذلك: إذا سَمع رجلٌ قائلًا يقول: «الأرض تحتي والسماء فوقي»، فإنه لا يشك في صدقه ولا يحتاج إلى إقامة دليل على ذلك.
وهذا وإن كان كلامًا مستقيمًا لا يستغنى عن الدليل على كذبه، فإنه ما لا يقع منه فائدة، ولا فائدة أيضًا في قوله ولا في سماع ذلك، ولا يعد هذا من المتكلِّم به فضيلة، بل ربما من هجو قوله.
وكذلك لو سمع قائلًا يقول: «إني قد حملت الجبل وخضت النار ورأيت شجرة على سطح البحر نابتة»، فإنه لا يشك في كذبِه وبطلانِ قوله، فهذا القسم الممتنع.
وأما الجائز أن يكون صدقًا وأن يكون كذبًا فهو الذي يجب أن يطلب الدليل عليه، والفائدةُ واقعة فيه، وبه يستفيد السامع، وعنه يسأل السائل، والمعنى الذي به يوصل إلى علم الحقيقة ما كان عند الإخبار ممكنًا أن يكون صدقًا وكذبًا، وهو أن يكون متيقنًا عند مَن بلغه عنه الكذب والصدق يقينًا، ويعلم أن ذلك ثابت بحيث يثبت عليه نظر أهل العقول، كمعرفة من أخبر بعمارة المدينة أو حال الميت بما وصف به المخبر عنه، فقد صار كذب المخبر منفيًّا وعند من تقدمت عنه صحته. وكذلك ما حكمت عليه العقول وقضت به البراهين عند العارفين، فإنهم يعرفون ما غاب كعلم ما حضر ويصير الدليل والبرهان كالمثال؛ لأن المثال صورة المخبر عنها المدلول بصفاتها على معنى الخبر فاعلم ذلك.
(٨) فصل في معرفة أصل الصوت وعن الأجسام التي في الابتداء دون فلك القمر قبل خلق الإنسان والحيوان
فنقول معولين على الله تعالى بأنه لما خلق الله السموات بمشيئة وأتقنها بصنعته ورتبها بحكمته، وجعل الأرض بساطًا تحتها، وخلق الهواء فسحة فيما بين السماء والأرض، ثم أرسله يمينًا وشمالًا على وجه الأرض، ويسري على البحار ويحركها ويموجها، كان كالأرواح السارية في الأجساد، فأقام الهواء على تلك الحال والسريان في الجهات الأربع، يخلط البحار بالتراب ويمزج الطبائع بعضها ببعض، كما ذكر أولًا في هذه الرسالة، فتحدث بحركته أنواع الأصوات والصفير والطنين ومجاوبة الجبال وأصوات أمواج البحار، وهبوب الرياح في الفلوات والقفار، فتكونت المعادن في البقاع المخصوصة بكونها فيها، وانعقد البخار وارتفعت الأنداء وتراكمت الغيوم، وارتفعت إلى آخر كرة النسيم، وتعلقت تحت كرة الزمهرير وعصرها وهيج الأثير، واستولت الكواكب المائية، فأرسلت الأمطار على وجه الأرض، ولحقها الهواء وسرى عليها، وأشرقت الكواكب بأنوارها ولحظتها الشمس وسرت فيها قوة النفس النامية.
وكان أول ما ابتدأ على وجه الأرض بالنمو والزيادة على سطحها صورة النبات، وقامت على تلك الحال والأرض ليس فيها إلا البحار والجبال والنبات والأشجار على ما ذكره بعض العلماء ثلاثة آلاف سنة، والرياح تهب عليها، والأصوات الهوائية تجيب بعضها بعضًا، والنفس سارية في الهواء متصلة بقوة النور والضياء، تدبر الأمور الجسمانية، وتؤلف الطبائع الجرمانية، وروحانيات الكواكب متصلة بعالم الهواء، فهُم سكان الأرض قبل آدم عليه السلام. فلما تمت هذه المدة المقدرة بهذه الصفة وابتدأ الدور الجديد، وأراد الله إنشاء النشأة الثانية وإبراز الصورة الإنسانية؛ خَلَقَ آدم وحواء من الطين، وأسكنهما الجنة الموصوفة وهي الياقوت في ناحية المشرق، وكان من أمرهما ما كان، وقد ذَكر هذه القصة من أولها إلى آخرها رجلٌ من أهل فارس، عالم بحساب النجوم، بكتاب بيَّن فيه هذه الأمور، ولو كان هذا ما قصدنا وإياه ما أردنا لذكرنا منه طرفًا، ولكنا نشير إلى بعض ذلك، فلما فَطَرَ آدم وسوَّاه ونفخ فيه من روحه وأسجَدَ له ملائكته، وكان ظهور آدم وحواء بعد كون الحيوان وعمارة الأرض وظهور الأقوات فيها على تمام أجناسها واستيفاء أنواعها، وكان ظهور الحيوان بعد ظهور النبات وانبساطه على وجه الأرض وعلوِّه عليها، وكان أول بروز النبات بحذاء برج السنبلة، وكان في وسط السماء، والحيوان بحذاء الثور، وآدم وحواء بحذاء الجوزاء من أرض المشرق؛ ولذلك قيل للجوزاء ذات جسدين.
وكانت البداية من الحمل وقد حل فيه زحل وهو هابط، فصار المركز مهيأً من الطين، وكان أكثره مظلمًا وصار ثقيلًا رزينًا، وصارت الجبال راسيات مستقرة، وكان أول معدن انعقد في بطن الأرض الأسرب؛ ولذلك صارت الأرض مقر الثقل ومستقر الكثائف من أجل زحل وكونه في ذلك التقدير بمشيئة الله تعالى، فأقام آدم وحواء والحيوان مدة ما ذكر في الكتاب من غير مماسة ولا التئام، ثم أَلْهَمَ الله تعالى عطارد صاحب المنطق النطقَ ونطقت حواء، وعلَّم آدمَ الأسماءَ كلَّها، فصار يعرفها ويلقي على كل جنس وشكل ونوع وشخص مِن النبات والمعادن والحيوان وجميع المرئيات الأسماءَ والصفاتِ، ثم لم يزالا على ذلك حتى أكلا من الشجرة وأُهبطا من الجنة إلى الأرض مسخوطًا عليهما، فأقاما في الأرض مدة معلومة وكانا مع سائر الحيوانات يأكلان من ثمر الأشجار ويشربان من ماء العيون والأنهار، إلى أن سلم الحمل الدور إلى الثور؛ إذ هو أحد منافع الدنيا وسبب العمارة، وهو بيت الزهرة، وكانت حسنة الحال مستقيمة في مسيرها صاعدة في أوجِها، مشرقة أنوارها.
وكان في هذا الحد اجتماع آدم وحواء ومماسَّتهما فحملت منه، وكان ذلك ابتداء النسل، وجرى حال الحمل على ما ذكرنا في رسالة مسقط النطفة، فلما كثرت أولادهما تولَّى آدم تعليمه وتأديبهم وتهذيبهم، وعلمهم كيفية الحرث والزرع وازدواج الذكور والإناث، وعمروا العالم وعاينوا الحيوانات وما تصنعه بعضها ببعض وما يطلب من منافعها، فاقتدوا بها في أفعالهم، وأيد الله تعالى آدم عليه السلام بوحيه وإلهامه لما تاب عليه بما يكون له به صلاح ولذريته فلاح، وأقام على ذلك مدة ما أراد الله تعالى، ثم نَقَلَه إلى رحمته وخلفه من خلفه في ذريته وأولاده، ولم يزل الأمر على ذلك وبنو آدم مع والدهم يتكلمون بالسريانية، وقال بعضهم بالنبطية، ويفهم بعض عن بعض المعاني وما قصدوا وأرادوا، ووصفوا كل شيء بصفته إلا أنها لم تكن الحروف مجتمعة بعضها إلى بعض ولا مؤلفة بالكتابة، وإنما كان آدم عليه السلام يعلمهم تلك الأسماء تلقينًا وتعريفًا كما يعلم الأشياء ويعرف من لا علم له بالكتابة والهجاء؛ ولذلك يقال لمن لا يكتب ولا يقرأ أميٌّ، وكان الخلق يحفظون تلك الأسماء والصفات عن السلف إلى أن سلم الدور الثور إلى الجوزاء، وظهرت الكتابة من أجل أنه بيت عطارد وشرف الرأس وهبوط الذنب، وصارت الحروف في ذلك أربعة وعشرين حرفًا، وهي الكتابة اليونانية؛ لأنها قسمت لكل برج حرفين، فصارت أربعة وعشرين حرفًا، فقيدت تلك الألفاظ وكتبت الأسماء بالحروف على لغة أهل ذلك العصر.
فانظر أيها الأخ إلى هذه الحكمة الصحيحة والصنعة المحكمة المتقنة كيف تأتي بكل شيء في وقته المقدر وزمانه الميسر.
وانظر كيف سرت هذه القوى التي هي الأصوات والنغمات أولًا في عالم السموات، ثم في حركات الهواء، ثم في حركات النبات، ثم في أجسام الحيوان، ثم في عالم الإنسان.
فالصوت في الحيوان يسمى بأسماء مختلفة، مثل قول القائل: صهيل الفرس، ونهيق الحمار، ونباح الكلب، وخوار الثور، وزئير الأسد، ونعيب الغراب … وغير ذلك.
وأما الصوت المخصوص به الإنسان، فإنه يقال له كلام ولفظ متكلَّم كقول القائل: فلان يتكلم بالعربية والفارسية والرومية وغير ذلك، وسنأتي على شرحه وبيانه ونفرق بين الصوت والكلام.
(٩) فصل في الفرق بين الصوت والكلام
اعلم يا أخي أن الكلام هو صوت بحروف مقطعة دالة على معاني مفهومة من مخارج مختلفة، وأبعد مخارج الحروف أقصى الحلق، وهو مما يلي أعلى الصدر. والصوت من الجسم في الرئة بيت الهواء، كما أن أصل الصوت في العالم الكبير، الذي هو بمنزلة إنسان كبير، الهواء فيما دون فلك القمر والنفس في عالم الأفلاك؛ ولذلك توجد في الإنسان الذي هو عالم صغير في الرئة وفي قوة نفسه معاني ما يدل عليه الصوت، وكذلك الحركات والأصوات التي دون فلك القمر إنما هي مثالات ودلالات على تلك الأصوات الفاضلة والحركات المنتظمة، وتلك أرواح وهذه أجساد، وأصل الأصوات في الرئة هواء يصعد إلى أن يصير إلى الحلق فيديره اللسان على حسب مخارجه، فإن خرج على حروف مقطعة مؤلفة عرف معناه وعلم خبره، وإن خرج على غير حروف لم يفهم كان كالنهاق والرغاء والسعال وما أشبه ذلك، فإن رده اللسان إلى مخرجه المعلوم في حروف مفهومة يسمى كلامًا ونطقًا بأي لفظة كانت، على حسب الموافقة ومساعدة الطبيعة لكل قوم في اتساع حروفهم وسهولة تصرفهم في مخارج كلامهم وخفة لغاتهم بحسب مزاج طبائعهم وأهوية بلدانهم وأغذيتهم، وما أوجبت لهم دلائل مواليدهم وما تولاهم من الكواكب في وضع أصل تلك اللغة في الابتداء الوضعي والمنهاج الشرعي، وما تفرع من ذلك الأصل وما ينقسم من ذلك النوع.
ثم اعلم أن أصل الاختلاف في اللغات إنما هو لما كثرت أولاد بني آدم وانتشروا في جهات الأرض، ونزلت كل طائفة منهم إقليمًا من أقاليمها وقطرًا من أقطارها من الربع المسكون، تولى كل قوم في وقت نزولهم ذلك الإقليم كوكبًا من الكواكب السبعة المدبرات، فعقد لهم عقدًا نشأ عليه صغيرهم ومات عليه كبيرهم.
ثم اعلم أن الكلام الدال على المعاني مخصوص به عالم الإنسان، وهو النطق التام بأي حروف كتب، والحيوان لا يشرك الإنسان فيه من الجهات المنطقية والعبارات اللفظية، لكن من جهة الحركة الحيوانية والآلة الجسمانية والحاجة فيها إلى ذلك؛ لأنك تجد كثيرًا من الحيوانات تريد بأصواتها دفع المضار وجذب المنافع، تارة لأنفسها وتارة لأولادها؛ مثل صياح البهائم إذا احتاجت إلى الأكل ومنعت منه، وإلى شرب الماء وزيدت عنه، ومثل استدعاء أولادها وما غاب عنها وما شاكل ذلك من الطيور التي تحاكي الإنسان، ومحاكاة القرد للإنسان في جميع أفعاله وأكثر أعماله.
فهذه الأشياء لما يريد الحيوان التطريب والتصويت والصياح لها ومن أجلها، فإنه لا يقال لها معانٍ علمية، وإنما يقال لها إرادات طبيعية؛ فأجساد الحيوانات مجبولة عليها، وإنما استدعاؤها إياها بالتصويت في بعض الأوقات إذا عدمتها وحيل بينها وبين ما تريد، وقلَّ ما يكون دالًّا بأصواتها على الأمر الأعم ولا معنى لها، ولا يعرف المراد منها ولا القصد، كصياح الطيور في أكثر أوقاتها.
منها ما يصوت بالليل ومنها ما يصوت بالنهار، وكذلك الحيوانات أكثرها، ولكن المراد بها منها كلها اجتماع الجنس وقيام الشكل إلى الشكل، وبحسب ما في كل شخص من أشخاصها من قوة الحرارة الغريزية وحركة النفس الحيوانية، فإن كل شخص أكثر حرارة وأقوى حركة وأحيى نفسًا، كان أكثر صوتًا وأدوم كلامًا في عموم الأوقات، وما كان دون ذلك كان بحسب ما فيه وما هو مجبول عليه.
وبالجملة إن الصوت الحادث بحركة نفسانية حيوانية فهو مخصوص به الحيوان، وأما ما يسمع من الأصوات من غير الحيوان، فإنما يقال له قرع ووقع وطنين وصفير وزمير ونقر ودق وقرقعة؛ كصوت البوق وضرب الدف والطبول والدبادب وما شاكل ذلك.
فهذه المثالات لهذه الأصوات مخصوصة بما يحدث من حركات الأجساد الصامتة التي لا يَحدث صوت وحس عنها إلا بمحرك من غير جنسها، يرفعها ويضعها وينقرها ويقرع بعضها ببعض. فالمحرك لها إما بعمد وقصد كالإنسان فيما يتخذه من هذه الآلات للتصويت بالحركة، أو كحيوان يُحدث ذلك بغير قصد كاحتكاك الدابة بالباب ودفعها للإناء وغيره، فيحدث من تلك الحركة وذلك الدفع صوت، أو من حركة الرياح والهواء للأجساد والنبات والأشجار وحفيف أوراقها واحتكاك قضبانها، وسلوك الهواء بينها وسريانه بين الحيطان والبنيان، وخرقه منافذ الجبال والغدران والكهوف، فيحدث منه أنواع الصفير والتصويت، وما يحدث من أصوات حوادث الجو ما قد ذكرناه، مثل ما يحدث من حركات المياه إذا انحدرت وتدافعت من أعلى الجبال إلى بطون الأودية، ومثل أصوات الدواليب والأرحية والطواحين والمجاذيف وجريان السفن في البحر وجري العجل في البر، وكل ماء إذا تحرك أو تصرف فيه المحرك ظهر منه الصوت وقرع الهواء.
فهذه كلها أصوات فما كان منها عن أجسام الحيوان قيل أصوات ونغمات، وما كان منها عن حركة الهواء قيل صفير وزمير، وما كان عن حركة الماء قيل دوي وخرير وأمواج، وما كان من المعدنيات والأحجار والخشب قيل وقع وطنين ونقرة وما شاكل ذلك، وما كان من جهة الإنسان قيل كلام ولفظ ومنطق بالجملة، وعند التفصيل والتقسيم فكثرة الألوان والفنون مثل كلام الخطيب وإنشاد العشر وقراءة القرآن وما شاكل ذلك، وينسب ذلك الكلام إلى المعنى المقصود إليه به.
فقد بان، بما ذكرنا، الفرقُ بين الصوت الحيواني والكلام الإنساني، وما يحدث من حركة الهواء وما يظهر من أجسام النبات والمعادن. وإذا تأملت ذلك وميزته بفكرتك وأعملت فيه رويتك، رأيت تلك الحركات وسمعت تلك الأصوات والنغمات والمجاوبات، وتبينت أن العبارات كلها تأدية عن النفوس الجزئية بما أمدتها النفس الكلية.
وكذلك الحركات الكلية العرضية أصلها الحركة الذاتية، وهذه أعراضها وتلك جواهرها، وهذه فانية وتلك الحركات باقية؛ لأن مركز هذه سفلي ومقر تلك علوي، وهذه منها فاضلة ومنها غير فاضلة وتلك فاضلة كلها، وبعض هذه حي وبعضها ميت وتلك كلها حية، وبعض هذه متكلمة ناطقة وبعضها مصوتة وتلك ناطقة كلها، وبعض هذه أصواتها مفهومة وبعضها أصواتها غير مفهومة وتلك أصواتها كلها مفهومة، وبعض هذه الأصوات دال وبعضها غير دال وتلك كلها دالة، ومعاني هذه الأصوات مضمنة في حروفها وتلك كلها معاني، وأهل هذه يحتاجون إلى من يكشف لهم معانيها ويدلهم على مراميها وأولئك لا يحتاجون إلى ذلك، وهؤلاء يضجرون من الكلام ويملون وأولئك لا يضجرون، وهؤلاء أكثرهم غير طيبي النغمة ولا لذيذي الصوت ولا حسني الكلام وأولئك كلهم طيبو النغمة ذوو ألحان لذيذة، وبعض هذه الأصوات معكوس يشبه أصوات أهل جهنم، وزفيرهم وشهيقهم كنعيق الكلاب ونهيق الحمار وزعقات البوم وصياح السباع، وما يحدث في القلوب من الوحشة والنفور والفزع والرعب، وما تضجر منه النفوس، وما شاكل هذه الأصوات والمصوتات.
ثم اعلم أن كل صوت يسمع فإنما يخرج عن هيئة الجسم الذي يصوته بحسب قوته وصفاء طبيعته وغلظها، ونحتاج ها هنا إلى بيانٍ ووضوحِ برهانٍ، ونحن نذكره بشرح مبين.
فصل
ثم اعلم أن اختلاف الناس في كلامهم ولغاتهم على حسب اختلافهم في أجسادهم وتركيباتهم، وأصل الاختلاف في اللغات هو اختلاف مخارج الحروف ونقصها عن تأدية ما يؤديه البليغ منها. وقد زعم بعضهم أن فساد الكلام من فساد التركيب وفساد المزاج، وليس هو كما زعم، وإنما هو من اختلاف مخارج الحروف في قوتها وضعفها، وهو فساد في اللسان يقلب ويعدل الحروف عن مخارجها. ولو كان من فساد المزاج لكانت اللغة كلها في حرف واحد من مخرج واحد، ولكانت ترجع إلى الاستواء عند صلاح المزاج كما يحدث بالفصيح الكلام، وضعف الصوت من فساد المزاج وغلبة بعض الطبائع، وإذا عاد إلى الأمر السالم عاد كلامه إلى المعهود منه أولًا، واللغة ليست كذلك، والناس فيها مختلفون وغير متفقين في الحروف التي يقع الخطأ فيها والعدول بها عن استوائها إلى خلافها، وهي أعراض كثيرة تختص باللسان وتعرض فتفسد الكلام، وهي زمانة لازمة مثل الخلسة والفأفأة والتمتمة والعقلة والحلكة والرثة واللثغة وما أشبه ذلك.
وإذا كان الكلام يثقل على الرجل قيل في لسانه خلسة، وإذا أدخل بعض حروف العرب في بعض حروف العجم قيل في لسانه لكنة، وإذا عجز عن سرعة الكلام قيل في لسانه عقلة، والحلكة إنما هي نقصان آلة المنطق وعجزها عن أداء اللفظ حتى لا يعرف معناه إلا القليل وهو قريب من كلام البهائم والخرس ونحو ذلك.
(١٠) فصل في المعاني
فأما إفهام المعاني فإنها تفهم من الكل من اللكن والفصحاء، وإنما يتفاضل الناس في البلاغة وهو عند الحشوية والعوام والنساء والصبيان حُسن الصوت وحلاوة المنطق وصفاء الكلام.
وليس كلُّ مَن حَسُن صوته وصفا كلامه كان بليغًا في إبانة المعنى وإقامة الدليل والحجة في إزالة الشبهة عن النفس الساهية وانتباه الجاهل عن رقدته وإصحاء السكران من سكرته بالتذكرة والموعظة، فإنَّ صاحب النغمة الطيبة والكلام الصافي ربما استعمل ذلك في الأغاني والملاهي.
وسبب كل ذلك محبة اللذات الدنيَّة والشهوات الحسية وما يتضمن الكلام من السخف والمجون وأمثاله، فإن معانيها لا حقيقة لها، والكلام بها إنما هو تصويت وهذيان لاحِقٌ بأصوات الحيوان والمجانين والسكارى والصبيان والنسوان ومن لا عقل لهم.
وأصل المعاني إنها المقالات المدلول بصحتها في الإخبار بها عن معرفة حقائقها ومقاصد طرائقها، وحد المعنى أنه هو كل كلمة دلَّت على حقيقة وأرشدت إلى منفعة، ويكون وجودها في الإخبار بها صدقًا والقول عليها حقًّا، والإخبار على أربعة أقسام: خبر واستخبار وأمر ونهي.
وقد جعلها قومٌ ستةً، وآخرون عشرةً، وأصلها هذه الأربعة؛ فثلاثة منها ما لا يدخله الصدق والكذب، وواحد منها يدخله الصدق والكذب، وهو الخبر، ويوجد في ذلك السالبة والموجبة والممكن والممتنع.
فصل
ثم اعلم أن جميع هذه المعاني وما يتعاقبها من مدح أو ذم ويدخلها من صدق وكذب وبلاغة وحصر فلا بُدَّ من أن يقع على مسمًّى باسمٍ مِن مدح أو ذم، وكل مسمًّى باسم فيه مدح من سائر المعاني، فهو واقع بين اثنين متضادين؛ عدل بين حاسَّتَي جور؛ فالعلم واقع بين أمرين إما علمُ ما لا يجب أو جهل ما يجب، فصار العدل بين حاستين إفراط وتفريط.
وعلى هذا المثال الفهم عدل بين الاعتراف بما لا يمكن وإنكار ما يمكن.
واللب أيضًا عدل بين الحصر عن التفهيم والتراخي عن التوهم، والعزم عدل بين التهور والجبن، والجود عدل بين التقتير والتبذير، والشجاعة عدل بين الإقدام والإحجام.
وعلى هذا المثال يقع كل اسم من أسماء القصد والحزم وكل وصف يستحق به صاحبه المدح وبإزائه ما يستحق عليه الذم.
واعلم أن حقيقة مطالب معنى العدل بأن تصرف في فنون المسمَّيات، وتقسم في وجوه العبارات، وذلك أن القصد هو الذي لا يجزي ما دونه ولا ينفع ما فوقه فهو راجع إلى معنى العدل الذي ما نقص عنه كان ضعفًا وما زاد عليه كان إسرافًا.
وكذلك الحزم أيضًا ما لم يمِلْ إلى إحدى حاشيتيه اللتين إحداهما الفشل والأخرى التهور، وكذلك الحياء الذي طرفاه الفتور والقحة وكلٌّ يرجع من العدل إلى انقباض بين ازدياد على حدة وانتقاص ويئول إلى انبساط منه وتفريط وإفراط.
فمن طلب العدل في جميع الصفات وجده متوسطًا بين ضدين؛ أحدهما يتطرق دونه إلى بخس ونقصان، والآخر يتطرق فوقه إلى إفراط وعدوان، والعدل في الطلب هو ما لم يمِلْ إلى الإلحاح في المسألة ولا إلى الابتهال والخضوع، والحر لا يكون مَهينًا والكريم لا يكون لجوجًا.
ولهذا قيل القنوع خير من الخضوع، والعدل في السياسة ما لم يمل إلى عبوس موحش ولا ملق مدهش؛ فإن العبوس يشين المودة ويزيل ما في القلب من صفاء المحبة، والملق يذهب برونق المروءة.
ولهذا قيل من كثر ملقه لم يعرف وده، والعدل في البلاغة ما لم يقصر عن درك البغية، وإصابة المعنى وقصد الغرض، ألا ترى أن الهذار في المنطق بعد بلوغ الغاية لا يحتاج إليه، ولو كانت البلاغة هي البلوغ إلى غايات المعاني، لكان العالم كلهم بلغاء، خاصهم وعامهم؛ لأنه ما من أحد إلا وهو إذا عبَّر عما في نفسه بلغ غرضه في إفهام السامع عنه ما يريده منه، على حسب استطاعته وما تساعده عليه آلاته، وإنما البلاغة هي التوصل إلى إفهام المعنى بأوجز مقال وأبلغ كلام؛ ليعرف به المراد بأسهل المسالك وأقرب الطرق بواضح البيان وصادق المقال، والإيجاز في ذلك ما بلغت غاياته بيسير اللفظ، والإطناب ما بلغت غاياته بالتطويل، فصارت البلاغة حينئذ التوسط بين الحالتين والتوصل إلى إدراك الغاية من أقرب الطرق. وقيل البلاغة معرفة مواضع المفاصل المطلوبة بألفاظ مفهومة، والبليغ هو الذي لا يؤتي سامعه من سوء إفهامه، والفهيم الذي لا يأتي بسوء فهمِ مَن يريد إفهامه بتقصير عن البلاغة في خطابه أو كتابه، فيخرق بفهمه وصفاء ذهنه تلك الحجب الحائلة بينه وبين المعنى الذي يقدر على الفهم؛ لأنه يجرده من تلك الشوائب المعوقة له عن البيان والإيضاح. والبلاغة في اللغة مِن بالغت في كذا وكذا، وهي مشتقة من المبالغة؛ يقال بلغت أبلغ بلوغًا، فالمصدر منه بلاغة، فأنا بالغ، وتقول: أبلغت الكلام، وبلغته إلى فلان؛ أيْ أديته إليه.
واعلم أن المعاني تنطق بها أفواه السوقة والعوام في الأسواق والطرق، ولكن قلَّ مَن يُحسن العبارة عنها، وربما أراد المعنى فعبر عن غيره وهو يظن أنه قد عبر عنه، والمعاني هي الأصول وهي الاعتقاد الذي أول ما يتصور في النفس والألفاظ هيولى لها، والمعاني كالنفوس، والألفاظ كالأجسام، والمعاني كالأرواح، والحروف كالأبدان.
فصل
ثم اعلم أن الهيولى إذا قبلت آثار النفس قبولًا تامًّا، ظهرت أفعال النفس في الغرض والمراد مضيئة بهيئتها، وإن عجزت عن القبول كانت دون ذلك، وكذلك الألفاظ إن قبلت التأدية عن المعاني ببلاغة فهمت المعاني ولاحت دلائلها بغير تطويل ولا إسهاب، وإن عجزت الألفاظ عن تلك التأدية احتاجت إلى التطويل؛ والتطويل ذهاب البلاغة، والتقصير هو ضعف الدلالة والحجة. وفي الناس من يجول في قلبه المعنى الصحيح فيعبر عنه باللفظ الركيك فيحيله عن معناه، وإن لم يُرِد الإحالة، ولكنه عجز في اللفظ فيصير اللفظ غير مؤدٍّ عن المعنى، لا لعجز المعنى ولكن لعجز اللفظ، كما أن الطبيعة تفعل أشياء فتعجز عنها الهيولى القابلة فتنقص عن الكمال، لا لعجز الطبيعة بل لعجز الهيولى، فتأمل هذا الكلام فإنه من الأسرار العجيبة والرموز الدقيقة والمعاني، وفيه غرض غامض.
وأنت أيها الأخ، ينبغي لك أن تراجع نفسك النائمة الساهية، فانتبه من نوم غفلتك وأنعِم النظر في جميع ما قلناه وافهم جميع ما بيناه من الإشارات والرموزات، ولا تظن بنا ظن السوء؛ لأن إفشاء سر الربوبية كفر.
(١١) فصل في كيفية إدراك القوة السامعة للأصوات
فنقول: اعلم أن الأصوات نوعان؛ حيوانية وغير حيوانية، وغير الحيوانية قسمان؛ طبيعية وآلية؛ فالطبيعية كالصوت من الحجر والحديد والصفر والخشب والرعد والريح وخرير الماء وسائر الأجسام التي لا روح فيها من الجمادات، والآلية كصوت البوق والطبل والدف والمزمار والأوتاد وما شاكلها. والحيوانية أيضًا نوعان؛ منطقية وغير منطقية؛ فغير المنطقية أصوات سائر الحيوان التي ليست بناطقة.
وأما المنطقية فهي أصوات الناس، منها دالة ومنها غير دالة، فغير الدالة الضحك والبكاء والأنين والأصوات التي لا هجاء لها.
وأما الدالة فهي الكلام والقول الذي له هجاء، وكل هذه الأصوات إنما هو قَرْعٌ يَحدث في الهوام عن تصادم الأجرام.
وذلك أن الهواء بشدة لطافته وخفة جوهره وصفاء طبعه وسرعة حركة أجزائه؛ يتخلل الأجسام كلها، فإذا صَدَمَ جسمٌ جسمًا آخر انسلَّ ذلك الهواء وتدافَع إلى جميع الجهات وحدث منه شكل، كما ذكرنا أولًا، فيَصِل بمسامع الحيوان.
فأما كيفية إدراك الحاسَّة السامعة للصوت الحيواني وغير الحيواني وتمييزها لكل واحد منها، كما تميِّز القوة الذائقة طعومَ الأشياء وتُخبرُ الناطقة عن كل شيء بما يخصه من طعمه، وكذلك القوة الشامَّة.
فأما الذائقة فهي أكثر تأثُّرًا من الشامَّة، وكذلك الحاسَّة السامعة، فإن قواها في تمييزها الأصوات بعضها من بعض ألطفَ وأشرف، والحاسَّة اللامسة أكثف من الجميع، واختلف العلماء في حاسَّة النظر وحاسَّة السمع أيهما ألطف وأشرف، فقال بعضهم حاسَّة السمع أشرف، وكان برهان مَن قال ذلك أن محسوسات السمع كلها روحانية، وأن النفس بطريق السمع تدرك مَن هو غائب بالمكان والزمان، وأن محسوسات البصر كلها جسمانية؛ لأنها لا تدرك إلا ما كان حاضرًا في ذلك الوقت، وقال إن السمع أدق تمييزًا من البصر؛ إذ يعرف جودة الذوق وجودة الحس والكلام الموزون والنغمات المختلفة، والفرق بين السقيم والصحيح، والمستوي والمنزحف، وصوت الطير من صوت الكلب، وصوت الحمار من صوت الجمل، وأصوات الأصدقاء من أصوات الأعداء، وما يحدث من أصوات الأجسام التي لا روح فيها وأصوات الناس على اختلافهم وأشكال كلامهم، فتخبر عن كل صوت بما هو دأبه وتنسبه إلى الذي بدا منه ولا يحتاج إلى البصر في ذلك وفي إدراكه، والبصر يخطئ في أكثر مدركاته؛ فإنه ربما يرى الصغير كبيرًا والكبير صغيرًا، والبعيد قريبًا والقريب بعيدًا، والمتحرك ساكنًا والساكن متحركًا، فصح بهذا القول أن السمع ألطف وأشرف من البصر ولَنعم ما قيل:
الشمس تستصغر الأجسام جثتها
فالذنب للعين لا للشمس في الصغر
فإذا كان كذلك كانت الحواس الخمس الموجودة في الإنسان المستوي البنية التام الخلقة مناسِبةً للطبائع الخمس في جسم العالَم الذي هو الإنسان الكبير. فحاسَّة اللمس مناسِبة لطبيعة الأرض؛ لأن الإنسان يحس بجسمه كله. وحاسَّة الذوق التي هي اللسان مناسبة لطبيعة الماء؛ إذ بالمائية والرطوبة التي في اللسان والفم تدرك طعوم الأشياء، وسنشرحها إذا انتهى بنا القول إلى تفصيل ذلك وبيانه. وحاسَّة الشم مناسبة لطبيعة الهواء؛ لأن القوة الكامنة هوائية، وهي المستنشقة للهواء، وبه تدرك روائح الأشياء. والحاسَّة الباصرة مناسبة لطبيعة النار؛ إذ بها وبالنور تدرك محسوساتها. والحاسَّة السامعة مناسبة لطبيعة الفلك الذي هو مسكن الملائكة، الذين شعارهم وشغلهم ليلهم ونهارهم وكلامهم كله تقديس وتسبيح وتهليل، ويلتذ بعضهم بسماع بعض، ويقوم لهم في ذلك العالم العلوي مقام الغذاء الجسماني في العالم السفلي.
وذلك أن حاسَّة السمع محسوساتها كلها روحانية؛ ولذلك قيل إن فيثاغورس الحكيم سَمِع بصفاء طبيعته وصفاء جوهره نغماتِ الأفلاك، وإنه استخرج الآلة التي تُسمَّى العود، وأنه أول من ألَّف الألحان، ومن بعده من الحكماء الذين اقتدوا به وبان لهم حقيقة ما وصفه، فصدَّ قومه وتابعوه واتسعوا في فعل ذلك كل بقدر ما اتسع له زمانه، وساعده عليه إمكانه.
فصل
ثم إن لكل صوت صفة روحانية تختص به خلاف صوت آخر؛ فإن الهواء مِن شرف جوهره ولطافة عنصره يحمل كل صوت بهيئته وصيغته ويحفظها لئلا يختلط بعضها ببعض، فيفسد هيئاتها إلى أن يبلغها إلى أقصى غاياتها عند القوة السامعة لتؤديها إلى القوة المفكرة، ذلك تقدير العزيز العليم، الذي جعل لكم السمع والأبصار والأفئدة، قليلًا ما تشكرون. فإن قال قائل: ما العلة التي أوجبت للهواء هذه الفضيلة الشريفة والحركة الخفيفة؟ فنقول: لقد سألتَ عن أمر يجب السؤال عنه؛ إذ كان من أكثر الفوائد، فيجب أن تعلم أن جسم الهواء لطيف شريف، وهو متوسط بين الطرفين، فما هو فوقه ألطف منه وهو النور والضياء، وما دونه أكثف وهو الماء والتراب، ولما كان الهواء أصفى من الماء وألطف وأشرف جوهرًا وأخفَّ حركةً صار النور يَسري فيه ويصبغه بصبغته ويودعه روحانيته؛ لأنه قد قاربه وجانسه بما فيه من اللطافة، ولما كان النور والضياء أصلُه ومبدؤه من أشرف الجواهر الغالية صار له اتصال بالنفوس والأرواح وصارت سارية فيه، وهو المعراج الذي تعرج به الأرواح وتنزل به النفوس إلى عالم الكون والفساد ومجاوَرة الأجساد، ولما كان للهواء هذه الفضيلة صار يحفظ لكل شيء صورته تامة، ويحوطه حتى يُبلغه إلى الحال المقصود به بحسب ما جعله فيه باريه، جلت قدرته، بحكمته ليكون بذلك إتقان الصنعة وأحكام الخلقة؛ فلذلك صارت تدركها بما هي به إذا كانت الحاسَّة سالمة والأداة كاملة.
وهكذا حاسَّة الشم تقبل من الهواء ما يحمله من الروائح، فإنه يحفظها ويتبع الإحاطة بما يعرض من الروائح عن كثير من الأجناس، ثم تؤديها إلى حاسَّة الشم فتخبرها عن كل رائحة بما هي به وعما فاحت عنه؛ ولذلك قيل عالَم الأرواح روح وريحان ونغمات وألحان. وكذلك النور يحفظ الألوان على الأجسام ولا يخلط بعضها ببعض، وتدركها القوة بما هي به إذا كانت الحاسَّة سالمة، ثم إنه متى حدث ببعض الحواس حادثٌ أوجب تغيُّر إدراك الحاسَّة، فليس ذلك لفساد في الهواء والضياء، ولكن لفساد المزاج واضطراب البنية، فإذا كانت الحاسَّة سالمة وجاءتها الأشياء بخلاف ما تعْهَد فليس ذلك لفساد فيها، لكن للحادث الذي حدث في الهواء والضياء؛ وذلك أن الهواء يتغير ويتكدر، والضياء يظلم؛ ولذلك صار البصر لا يدرِك بعدَ مغيبِ الشمس ما كان يدركه وقت طلوعها، وكذلك السمع لا يدرك من الأصوات في وقت هيجان الريح وحركة الهواء ما كان يدرك من ذلك في وقت سكون الهواء وهدوء الرياح.
تعليق