الرسالة الثامنة
من الجسمانيات الطبيعيات في كيفية تكوين الحيوانات وأصنافها
بسم الله الرحمن الرحيم
الْحَمْدُ لِلهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ
(١) فصل
اعلم أيها الأخ البار الرحيم — أيَّدك الله وإيَّانا برُوح منه — أنه لما فرغنا من ذكْر النباتات، وبيَّنَّا طرفًا من كيفية تكوينها ونشوئها ونموها وكمية أجناسها وفنون أنواعها، وخواص طباعها ومنافعها ومضارها في رسالة لنا وبيَّنَّا فيها أيضًا بأن أول مرتبة النبات متصلة بآخر مرتبة الجواهر المعدنية، وأن آخرها متصل بأول مرتبة الحيوان، فنريد أن نذكر في هذه الرسالة أيضًا طرفًا من كيفية تكوين الحيوانات وبدء كونها ونشوئها ونمائها وكمية أجناسها وفنون أنواعها وخواص طباعها واختلاف أخلاقها، ونبيِّن أيضًا بأنَّ آخِر مرتبة الحيوان متصل بأول مرتبة الإنسان، وآخِر مرتبة الإنسان متصل بأول مرتبة الملائكة الذين هم سكان الهواء والأفلاك وأطباق السموات ليكون في ذلك بيان، ودليل لمَن كان له قلب صافٍ ونفس زكية وعقل راجح على كيفية ترتيب الموجودات ونظام الكائنات عن علة واحدة ومبدأ واحد، وأنها كترتيب العدد عن الواحد الذي قبل الاثنين، ونبيِّن أيضًا بأن نسبة صورة الإنسانية إلى صور سائر الحيوانات كنسبة الرأس من الجسد ونفسه كالسائس وأنفسها كالمسوس.
وقد بيَّنَّا في رسالة الأخلاق بأن صورة الإنسانية هي خليفة الله في أرضه، وبيَّنَّا فيها أيضًا كيف ينبغي أن تكون سيرة كل إنسان حتى يستأهل أن يكون من أولياء الله ويستحق الكرامة منه، وبيَّنَّا أيضًا في أكثر رسائلنا فضيلة الإنسان وخصاله المحمودة وأخلاقه المرضية ومعالمه الحقيقية وصنائعه الحكمية وتدابيره المرضية وسياسته الربانية، ونريد أن نذكر في هذه الرسالة طرفًا من فضائل الحيوانات وخصالها المحمودة وطبائعها المرضية وشمائلها السليمة، ونبيِّن أيضًا طرفًا من طغيان الإنسان وبغيه وتعدِّيه على ما سواه ممَّا سُخِّر له من الأنعام والحيوانات أجمع، وكفرانه النِّعَم وغفلته عمَّا يجب عليه من أداء الشكر، وأن الإنسان إذا كان فاضلًا خيِّرًا فهو مَلَك كريم خير البرية، وإن كان شرِّيرًا فهو شيطان رجيم شر البرية، وجعلنا بيان ذلك على ألسنة الحيوانات؛ ليكون أبلغ في المواعظ وأبْيَن في الخطاب وأعجب في الحكايات وأظرف في المسامع وأطرف في المنافع وأغوص في الأفكار وأحسن في الاعتبار.
فصل
واعلم أيها الأخ — أيَّدك الله وإيَّانا برُوح منه — بأن الجواهر المعدنية هي في أدون مراتب المولدات من الكائنات، وهي كل جسم متكوِّن منعقِد من أجزاء الأركان الأربعة التي هي النار والهواء والماء والأرض، وأن النبات يُشارك الجواهر في كونها من الأركان ويزيد عليها وينفصل منها بأنه كل جسم يتغذَّى من الأركان وينمو ويزيد في أقطارها الثلاثة طولًا وعرضًا وعمقًا، وأن الحيوان أيضًا يُشارك النبات في الغذاء والنمو، ويزيد عليه وينفصل عنه بأنه جسم متحرك حساس، والإنسان يشارك النبات والحيوان في أوصافها ويزيد عليها وينفصل عنها بأنه ناطق مميِّز جامع لهذه الأوصاف كلها.
فصل
ثم اعلم يا أخي بأن النبات متقدِّم الكون والوجود على الحيوان بالزمان؛ لأنه مادة لها كلها وهَيُولَى لصورها وغذاء لأجسادها، وهو كالوالدة للحيوان — أعني النبات — وذلك أنه يمتص رطوبات الماء ولطائف أجزاء الأرض بعروقه إلى أصوله، ثم يُحيلها إلى ذاته ويجعل من فضائل تلك المواد ورقًا وثمارًا وحبوبًا نضيجًا ويتناول الحيوان غذاءً صافيًا هنيئًا مريئًا كما تفعل الوالدة بالولد فإنها تأكل الطعام نضيجًا ونِيئًا وتُناوِل ولدَها لبنًا خالصًا سائغًا للشاربين، فلو لم يكن النبات يفعل ذلك من الأركان لكان يحتاج الحيوان إلى أن يتغذَّى من الطين صرفًا، ومن التراب سفًّا، ويكون منغَّصًا في غذائه وملاذِّه، فانظر يا أخي — أيَّدك الله وإيَّانا برُوح منه — إلى معرفة حكمة الباري — جلَّ ثناؤه — كيف جعل النبات واسطة بين الحيوان وبين الأركان حتى يتناول بعروقه لطائف الأركان وعصاراتها ويهضمها وينضجها ويصفِّيها ويُناوِل الحيوان من لطائف لبابها وحبوبها وقشورها وورقها وثمارها وصموغها ونَوْرها وأزهارها لطفًا من الله — تعالى — بخلْقه وعناية منه ببريَّتِه، فتبارك الله أحسن الخالقين، وأحكم الحاكمين، وأرحم الراحمين.
فصل
ثم اعلم يا أخي — أيَّدك الله وإيَّانا برُوح منه — بأن من الحيوان ما هو تام الخلقة كامل الصورة، كالتي تَنْزُو وتَحبَل وتَلِد وتُرضِع، ومنها ما هو ناقص الخلقة، كالتي يتكوَّن من العفونات، ومنها ما هو كالحشرات والهوامِّ بين ذلك كالتي تنفذ وتبيض وتحضن وتربِّي.
ثم اعلم بأن الحيوانات الناقصة الخِلْقة متقدِّمة الوجود على التامة الخلقة بالزمان في بدء الخلق؛ وذلك أنها تتكون في زمان قصير، والتي هي تامة الخلقة تتكون في زمان طويل لأسباب وعلل يطول شرحها، وقد ذكرنا طرفًا منها في رسالة مسقط النطفة ورسالة الأفعال الروحانية، ونقول أيضًا إن حيوان الماء وجوده قبل وجود حيوان البر بزمان؛ لأن الماء قبل التراب، والبحر قبل البَرِّ في بدء الخلق.
فصل
واعلم يا أخي بأن الحيوانات التامة الخِلْقة كلها كان بدء كونها من الطين أولًا من ذكر وأنثى، توالدت وتناسلت وانتشرت في الأرض سهلًا وجبلًا وبرًّا وبحرًا من تحت خط الاستواء حيث يكون الليل والنهار متساويين والزمان أبدًا معتدلًا هناك بين الحر والبرد والمواد المتهيئة لقبول الصورة موجودة دائمًا، وهناك أيضًا تكوَّن أبونا آدم أبو البشر وزوجته، ثم توالد وتناسلت أولادهما وامتلأت الأرض منهم سهلًا وجبلًا وبرًّا أو بحرًا إلى يومنا هذا.
ثم اعلم يا أخي بأن الحيوانات كلها متقدِّمة الوجود على الإنسان بالزمان؛ لأنها له ولأجله، وكل شيء هو من أجْل شيء آخر فهو متقدِّم الوجود عليه، هذه الحكمة في أولية العقل لا تحتاج إلى دليل من المقدمات ونتائجها؛ لأنه لو لم يتقدَّم وجود هذه الحيوانات على وجود الإنسان لما كان للإنسان عيش هنيء ولا مروَّة كاملة، ولا نعمة سائغة؛ بل كان يعيش عيشًا نكدًا فقيرًا بائسًا بسوء الحال كما سنبيِّن بعد هذا في فصل آخَر عند فراغ زعيم أهل المدن من خطابهم وكيفية أحوالهم كيف تكون عند فقدان الحيوانات.
فصل
واعلم يا أخي — أيَّدك الله وإيَّانا برُوح منه — بأن صور النبات منكوسة الانتصاب إلى أسفل؛ لأن رءوسها نحو مركز الأرض ومؤخرها نحو محيط الأفلاك، والإنسان بالعكس من ذلك؛ لأن رأسه مما يلي الفلك ورجليه مما يلي مركز الأرض في أي موضع وقف على بسيطها شرقًا وغربًا وجنوبًا وشمالًا من الجوانب كلها، ومن هذا الجانب ومن ذلك الجانب والحيوانات متوسِّطة بين ذلك لا منكوسة كالنبات ولا منتصبة كالإنسان، بل رءوسها إلى الآفاق ومؤخَّرها إلى ما يُقابله من الأفق الآخر، كيفما دارتْ وتصرفت في جميع أحوالها، وهذا الوضْع والترتيب الذي ذكرنا من أمرِ النبات والحيوانات والإنسان أمر إلهي بواجب الحكمة الإلهية والعناية الربانية ليكون في ذلك دلالة وبيان لأولي الأبصار والناظرين في أسرار الخِلْقة والباحثين عن حقائق الأشياء والمعتبرين بما في الأرض من الآيات والعلامات والدلالات بأن قُوَى النفس الكلية المنبثَّة في العالَم من أعلى فلك المحيط إلى منتهى مركز الأرض بعضها منتصب نحو المركز، وبعضها منصرف إلى المركز المحيط، وبعضها منبثٌّ متوجِّه نحو الآفاق على المركز، في كل فجٍّ منها جنود الله منصرفين لحفظ العالم وتدبير الخلائق والسياسة الكلية ومآرب أخرى لا يعرف كنه معرفتها أحد إلا الله عزَّ وجلَّ.
وقد بيَّنَّا في رسالة لنا بأن قوى النفس الكلية أول ما تبتدئ تسري في قعر الأجسام من أعلى سطح فلك المحيط إلى نحو مركز الأرض، فإذا سَرَتْ في الأفلاك والكواكب والأركان والمولدات، وبلغتْ إلى مركز الأرض من أقصى مدى غايتها ومنتهى نهاياتها عطفتْ عند ذلك راجعة نحو المحيط وهو المعراج والبعث والقيامة الكبرى.
فانظر الآن يا أخي — أيَّدك الله وإيَّانا برُوح منه — كيف يكون انصراف نفسك من هذا العالم إلى هناك، فإنها هي إحدى تلك القوى المنبثَّة من النفس الكلية السارية في العالم، وقد بلغتْ إلى المركز وانصرفتْ ونَجَتْ من الكون في المعادن أو في النبات أو في الحيوان، وقد جاوزتِ الصراط المنكوس والصراط المقوس، وهي الآن على صراط مستقيم آخِر درجات جهنم، وهي الصورة الإنسانية، فإن جاوزتْ وسلمتْ من هذه دخلت الجنة في أحد أبوابها، وهي الصورة الملكية التي تكسبها بأعمالك الصالحة وأخلاقك الجميلة وآرائك الصحيحة ومعارفك الحقيقية وبحسن اختيارك، فاجتهد يا أخي قبل الفوت وفناء العمر وتقارب الأجل، واركب مع إخوانك في سفينة النجاة يرحمك الله برحمته، ولا تكن مع المغرقين وإخوان الشياطين.
فصل
واعلم يا أخي بأن الحيوان هو جسم متحرِّك حساس يتغذَّى وينمو ويحس ويتحرك حركة مكان وأن من الحيوان ما هو في أشرف المراتب مما يلي رتبة الإنسانية، وهو ما كانت له الحواس الخمس والتمييز الدقيق وقبول التعليم، ومنه ما هو في أدون رتبة مما يلي النبات، وهو كل حيوان ليس له إلا حاسة اللمس حسب، كالأصداف وما كان كأجناس الديدان كلها، تتكوَّن في الطين أو في الماء أو في الخلِّ أو في الثلج أو في لبِّ الثَّمَر أو في الحبِّ أو لبِّ النبات والشجر أو في أجواف الحيوانات الكبار الجثة وما أشبهها.
وهذا النوع من الحيوانات أجسامه لحمية وبدنه متخلخل وجلده رقيق، وهو يمتص المادة بجميع بدنه بالقوة الجاذبة، ويحس اللمس، وليس له حاسة أخرى لا الذوق ولا الشم ولا السمع ولا البصر غير اللمس وحسب، وهو سريع التكوُّن وسريع الهلاك والفساد والبِلَى، ومنها ما هو أتمُّ بنية وأكمل صورة، وهو كل دودة تتكوَّن وتدبُّ على ورق الشجر والنبات ونَوْرها وزهرها، ولها ذوق ولمس، ومنها ما هو أتم وأكمل وهو كل حيوان له لمس وذوق وشم وليس له سمع ولا بصر، وهي الحيوانات التي تعيش في قعر البحار والمياه والمواضع المُظلِمة، ومنها ما هو أتم وأكمل وهو كل حيوان من الهوامِّ والحشرات التي تدبُّ في المواضع المُظلِمة، له لمس وذوق وسمع وشم، وليس له بصر مثل الحلمة، فباللمس قوام جثته وبالذوق يميِّز الغذاء من غيره، وبالشم يعرف مواضع الغذاء والقوت، وبالسمع يعرف وطأ المؤذيات له، فيحترَّز قبل الورود والهجوم عليه، ولم يجعل له البصر؛ لأنه يعيش في المواضع المظلمة، ولا يحتاج إلى البصر ولو كان له بصر لكان ذلك وبالًا عليه من حفظه، ففي إغماض العين من القذي ضرورة؛ لأن الحكمة الإلهية لم تُعطِ الحيوان عضوًا ولا حاسة لا يحتاج إليها، ولا ينتفع بها، ومنه ما هو أتم بنية وأكمل صورة وهو ما له خمس حواس كاملة، وهي اللمس والذوق والشم والسمع والبصر ثم يتفاضل في الجودة والدون.
فصل
ومن الحيوانات ما يتدحرج كدودة الثلج، ومنها ما يزحف كدودة الصدف، ومنها ما ينساب كالحية، ومنها ما يدبُّ كالعقارب، ومنها ما يعدو كالفأر، ومنها ما يطير كالذباب والبقِّ، ومما يدبُّ ويمشي ما له رجلان، ومنها ما له أربع أرجل، ومنها ما له ست أرجل، ومنها ما له أكثر كالدخال، ومما يطير من الحشرات ما له جناحان، ومنها ما له أربعة أجنحة، ومنها ما له ست أرجل وأربعة أجنحة ومشفر ومخالب وقرون كالجراد، ومنها ما له خرطوم كالبقِّ والذباب، ومنها ما له مشفر وحُمَة كالزنابير، ومن الهوام والحشرات ما له فِكْر وروية وتمييز وتدبير وسياسة مثل النمل والنحل، يجتمع جماعة منهم ويتعاونون على أمر المعيشة واتخاذ المنازل والبيوت والقُرَى وجمع الذخائر والقُوت للشتاء، ويعيش حولًا وربما زاد، وما كان غير هذين من الهوامِّ والحشرات مثل البقِّ والبراغيث والذباب والجراد وما شاكلها فإنها لا تعيش حولًا كاملًا؛ لأنه يُهلِكها الحرُّ والبرد المفرطان، ثم يتكون في العام القابل مثلها.
فصل
ومن الحيوان ما هو أتم بنية مما ذكرنا، وأكمل صورة منها، وهو كل حيوان بدنه مؤلَّف من أعضاء مختلفة الأشكال، وكل عضو مركب من عدة قطعات من العظام، وكل قطعة منها مفننة الهيئات من الطول والقصر والدقة والغلظ والاستقامة والاعوجاج، ومؤلَّفة كلها بمفاصل مهندمة التركيب مشدودة الأعصاب والرباطات، محشوة الخلل باللحم، منسوجة بالعروق، محصنة بالجلدة، مغطاة بالشعر والوبر والصوف والريش أو الصَّدَف أو الفلوس، وفي باطن أجسادها أعضاء رئيسية كالدماغ والرئة والقلب والكبد والطحال والكليتين والمثانة والأمعاء والمصارين والأوراد والمعدة والكرش والحوصلة والقانصة وما شاكلها.
وفي ظاهر البدن أرجل وأيد وأجنحة وذنب ومخالب ومناقير وحافر وظلف وخفٌّ وما شاكلها، كل ذلك لمآرب وخصال عدة ومنافع جمَّة، لا يعلمها إلا الذي خلقها وصوَّرها وأنشأها وأتمَّها وأكملها وبلَّغها إلى أقصى غاياتها وتمام نهاياتها.
وهذه كلها أوصاف الأنعام والبهائم والسباع والوحوش والطيور والجوارح وبعض حيوان الماء وبعض الهوام كالحيات، والأنعام وهو كل ما له ظلف مشقوق.
والبهائم ما كان لها حافر، والسباع ما كان لها أنياب ومخالب، الوحوش ما كان مركبًا بين ذلك.
والطيور ما كان لها أجنحة وريش ومنقار، والجوارح ما كان لها أجنحة ومنقار مقوس ومخالب معقفة معقربة.
وحيوان الماء ما يُقيم فيه ويعيش، والحشرات ما يطير وليس لها ريش، والهوام ما يدبُّ على رجلين أو أربعة أو يزحف أو ينساب على بطنه أو يتدحرج على جنبيه.
فصل
ثم اعلم يا أخي — أيَّدك الله وإيَّانا برُوح منه — بأن الحيوانات الكبيرة الجثة العظيمة البنية التي لها عظام كبار وجلود ثخان وأعصاب غلاظ وعروق واسعة وأعضاء كبيرة مثل الفيل والجمل والجاموس، وغيرها تحتاج أن تمكث في الرحم زمانًا طويلًا إلى أن تَلِد لعلَّتين اثنتين؛ إحداهما: كيما تجتمع في الرحم تلك المواد التي تحتاج إليها الطبيعة في تتميم البنية وتكميل الصورة.
والعلة الأخرى: كيما تدور الشمس في الفلك وتقطع البروج المثلثات المشاكلات الطباع وتحط من هناك قوى روحانيات الكواكب إلى عالم الكون والفساد التي تحتاج إليها في تتميم قوى النفس النامية النباتية وقوى النفس الحيوانية الحاسة ليَقبَل مِن كل جنس من الكائنات المولَّدات ما له أن يَقبَل مِن تلك القُوَى، كما بيَّنَّا طرفًا من ذلك في رسالة مسقط النطفة.
ثم اعلم يا أخي — أيَّدك الله وإيَّانا برُوح منه — بأن الحيوانات التامة الخلقة الكبيرة الجثة العظيمة الصورة كلها كُوِّنتْ في بدء الخلق ذكرًا وأنثى من الطين تحت خط الاستواء؛ حيث يكون الليل والنهار هناك متساويين، والحر والبرد معتدلين، والمواضع الكنينة من تصاريف الرياح موجودة هناك، والمواد كثيرة متهيئة لقبول الصورة.
ولمَّا لم يكن في الأرض مواضع موجودة بهذه الأوصاف جُعلتْ أرحام إناث هذه الحيوانات على هذه الأوصاف من اعتدال الطباع لكيما إذا انتشرتْ في الأرض تناسلتْ وتوالدتْ حيث كانوا، وأكثر الناس يتعجَّبون من كون الحيوانات من الطين ولا يتعجبون من كونها في الرَّحِم من ماء مهين، وهي أعجب في الخلقة، وأعظم في القدرة؛ لأن من الناس مَن يَقدِر أن يصوِّر حيوانًا من الطين أو من الخشب أو من الحديد أو من النحاس كما هي موجودة مشاهدة في أيدي الناس من خلقة الأصنام.
ولا يمكن لأحد أن يصوِّر حيوانًا من الماء؛ لأن الماء جسم سيَّال لا تتماسك فيه الصورة، فتكون هذه الحيوانات في الأرحام أو في البيض من ماء مهين أعجب في الخلقة، وأعظم في القدرة من كونها من الطين.
وأيضًا إن أكثر الناس يتعجبون من خِلْقة الفيل أكثر من خِلْقة البقَّة، وهي أعجب خلقة وأظرف صورة؛ لأن الفيل من كبر جثته له أربع أرجل وخرطوم ونابان خارجيان، والبقة مع صغر جثتها لها ست أرجل وخرطوم وأربعة أجنحة وذنب وفم وحلقوم وجوف ومصارين وأمعاء وأعضاء أخرى لا يُدرِكها البصر، وهي مع صِغَر جثَّتها مسلَّطة على الفيل بالأذيَّة، ولا يقدر عليها، ولا يمتنع بالتحرُّز منها، وأيضًا فإن الصانع البشري يقدر على أن يصوِّر فيلًا من الخشب أو من الحديد أو من غيرها بكماله ولا يقدر أحدٌ من الصناع أن يصور بقَّة لا من الخشب ولا من الحديد بكمالها.
وأيضًا فإن كون الإنسان من النطفة بديئًا، ثم في الرحم جنينًا، ثم في المهد رضيعًا، ثم في المكتب صبيًّا، ثم في تصاريف أمور الدنيا رجلًا حكيمًا أعجب أحوالًا وأعظم اقتدارًا من كونه يُبعَث من تراب قبره يوم القيامة وخروج الناس كأنهم جراد منتشر.
وهكذا أيضًا مشاهدة خروج عشرين فرخة من تحت حضن دجاجة واحدة أو ثلاث دراجات من تحت حضن دراجة واحدة ينفضُّ عنها قشور بيضها في ساعة واحدة وعَدْو كل واحدة في طلب الحَبِّ وفرارها وهربها من الطالب لها، حتى ربما لا يقدر عليها أعجب من خروج الناس من قبورهم يوم القيامة، فما الذي منع المنكرين من الإقرار بذلك، وهم يشاهدون مثل هذه التي أعجب هي منها وأعظم في القدرة لولا جريان العادة بها.
فصل
اعلم يا أخي — أيَّدك الله وإيَّانا برُوح منه — بأن مشاهدة جريان الأمور دائمًا إذا صارت عادة قلَّ تعجب الناس منها والفكر فيها، والاعتبار لها ويعرض لهم من ذلك سهو وغفلة ونوم النفس وموت الجهالة.
فاحذر من هذا الباب يا أخي، ولا تكن من الغافلين، وكن من الذين ذكرهم الله في كتابه ومدحهم بقوله: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، وذمَّ الذين بخلافهم بقوله: وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ.
فصل
واعلم يا أخي — أيَّدك الله وإيَّانا برُوح منه — بأن أبدان الحيوانات التامة الخلقة والناقصة الخلقة جميعًا مؤلَّفة ومركبة من أعضاء مختلفة الأشكال والمفاصل مفننة الهيئات كالرأس واليد والرِّجْل والظهر والبطن والقلب والكبد والرئة وغيرها، كل ذلك لأسبابٍ وعلل وأغراض لا يعلم كنه معرفتها إلا الله الذي خلقها وصوَّرها كما شاء وكيف شاء.
ولكن نذكر منها طرفًا ليتبيَّن صحة ما قلنا وحقيقة ما وصفنا؛ وذلك أنه ما من عضو في أبدان الحيوانات صغيرًا كان أو كبيرًا إلا وهو خادم لعضو آخر ومعين له، إما في بقائه وتتميمه أو في أفعاله ومنافعه، مثال ذلك الدماغ في بدن الإنسان، فإنه مَلِك الجسد ومَنشَأ الحواس ومعدن الفكْر وبيت الرويَّة وخزانة الحفظ ومسكن النفس ومجلس محل العقل.
وإن القلب خادم للدماغ ومعينه في أفعاله، وإن كان هو أمير الجسد ومدبِّر البدن ومنشأ العروق الضوارب وينبوع الحرارة الغريزية، وخادم القلب ومعينه في أفعاله ثلاثة أعضاء أخرى وهي الكبد والعروق الضوارب والرئة.
وهكذا حكم الكبد بيت الشراب يخدمه ويُعينه في أفعاله خمسة أعضاء أخرى، وهي المعدة والأوراد والطحال والمرارة والكليتان.
وهكذا أيضًا حكم الرئة بيت الريح يخدمها ويُعينها في أفعالها أربعة أعضاء أخرى وهي الصدر والحجاب والحلقوم والمنخران؛ وذلك أن من المنخرين يُدخل الهواء المستنشق إلى الحلقوم، ويعتدل فيه مزاجه، ويصل إلى الرئة، ويتصفَّى فيها ثم يدخل إلى القلب ويروح الحرارة الغريزية هناك وينفذ من القلب إلى العروق الضوارب، ويبلغ إلى سائر أطراف البدن الذي يسمَّى النبض، ويخرج من القلب الهواء المحترق إلى الرئة، ومن الرئة إلى الحلقوم، ومن الحلقوم إلى المنخرين، أو إلى الفم، والصدر يخدم الرئة في فتحه لها عند استنشاق الهواء وضمِّه إياها عند خروج النفس، والحجب تحفظ الرئة من الآفات العارضة لها عند الصدمات والدفعات واضطراب أحوال البدن.
وهكذا حكم الكبد تخدمه المعدة بإنضاج الكيموس قبل وصوله إليه، وتخدمه الأوراد بمصِّها وإيصالها إليه بحال يجذب عكر الكيموس من الأخلاط الغليظة المحترقة منها إلى نفسها، وتخدمه المرارة بجذب المرة الصفراء إلى نفسها وتصفية الدم منها، وتخدمه الكليتان بجذب الرطوبة الرقيقة اللينة منها إلى نفسها، وهو الذي يكون منه البول، وتخدمه العروق المجوفة بجذب الدم إليها وإيصاله إلى سائر أطراف الجسد الذي هو مادة لجميع أجزاء البدن.
وهكذا يخدم المريء والأسنان والفم المعدة؛ وذلك أن الفم هو باب الجسد الذي يدخل منه الطعام والشراب إلى عمق الجسد، والأسنان تخدمها بالطحن أو الدقِّ، والمريء يَزْدَرِد ويبْلَع ويوصلها إلى المعدة، والأمعاء تجذب الثقل وتخرجه من الجسد.
وعلى هذا المثال والقياس ما من عضو في بدن الحيوان إلا وهو يخدم البدن في أفعاله ويخدمه عضو آخر ويُعينه في أفعاله، والغرض الأقصى منها كلها هو بقاء الشخص وتتميمه وتبليغه إلى أكمل حالاته، إما بذاته أو ببقاء نسله أطول ما يمكن في جنس جنس، ونوع نوع، وشخص شخص.
فصل
واعلم يا أخي — أيَّدك الله وإيَّانا برُوح منه — بأن من الحيوانات ما هو أخرس لا منطق له ولا صوت كالسرطان والسلاحف والسمك، وبالجملة أكثر حيوان الماء إلا القليل منها مثل الضفدع والراديا، ومنها ما له صوت، وهو كل حيوان يستنشق الهواء ويُسمَع له دويٌّ وزَمْر كالبقِّ والذباب والزنابير والصراصير والجراد وما شاكلها، ويكون ذلك من تحريك أجنحتها.
واعلم بأن أصوات الحيوانات المتنفسة متفننة كثيرة الاختلاف من الطول والقصر والغلظ والعظم والصغر والجهير والخفيف وفنون الطنين والزمير والألحان والنغم، كل ذلك بحسب طول أعناقها وقصرها وسعة مناخيرها وحلاقيمها وضيقها وصفاء طبائعها وغلظها وشدة قوة استنشاقها الهواء وإرسالها وتعديل أنفاسها بعد ترويح الحرارة الغريزية التي في قلوبها أو في عمق أجسادها.
والعلة في أن حيوانات الماء أكثرها لا أصوات لها؛ لأنها لا رئات لها، ولا تستنشق الهواء، ولم يجعل لها ذلك؛ لأنها لا تحتاج إليها؛ وذلك أن الحكمة الإلهية والعناية الربانية جعلتْ لكل حيوان من الأعضاء والمفاصل والعروق والأعصاب والغشاوات والأوعية بحسب حاجته إليه في جر المنفعة أو دفع المضرة في بقاء شخصها وتتميمه وتكميله وبلوغه إلى أقصى مدى غاياته، ولسبب بقاء نسلها من آلات السفاد واللقاح وتربية الأولاد، وكل حيوان هو أتم بنية وأكمل صورة فهو أكثر حاجة إلى أعضاء كثيرة وآلات مختلفة وأدوات مُعِينة في بقاء شخصه ونتاج نسله، وكل حيوان أنقص بنية وأدون صورة، فهو أقل حاجة إلى أعضاء مختلفة وأدوات مفننة في بقاء شخصه ودوام نسله.
بيان ذلك أن الحيوانات ثلاثة أنواع: فمنها ما هو أتم وأكمل، وهو كل حيوان ينزو ويَحبَل ويُرضِع ويُربِّي الأولاد، ومنها ما دون ذلك وهو كل حيوان يسفد ويبيض ويفرخ، ومنها دون ذلك وهو كل حيوان لا يسفد ولا يبيض ولا يلد، بل يتكون في العفونات ولا يعيش سنة كاملة؛ لأن الحر والبرد المفرطين يُهلِكانِها؛ لأن أجسادها متخلخلة مفتحة المسامِّ، وليس لها جلد ثخين ولا صوف ولا شعر ولا وبر ولا صدف ولا عظام ولا عصب ولا فلوس، فهي لا تحتاج إلى الرئة ولا الطحال ولا المرارة ولا الكلى ولا المثانة ولا استنشاق الهواء لترويح الحرارة الغريزية، إذ كان نسيم الهواء يتصل إلى عمق أبدانها لصغر جثتها وفتح مسامِّها ويحفظ الحرارة الغريزية التي في مزاج أبدانها وتركيب طبائعها.
وأما الحيوانات الكبيرة الجثة، العظيمة البنية، التي عليها جلود ثخان، ولحوم كثيرة، وغشاوات وعروق وأعصاب وعظام مصمتة ومجوفة، وأضلاع ومصارين وأمعاء وكروش ومعدة وقلب ورئة وطحال وكليتان ومثانة وقحف الرأس والشعر والوبر والصوف والريش والصدف وما شاكلها، مما يمنع وصول نسيم الهواء إلى عمق أبدانها وترويح الحرارة الغريزية فيها، فقد جعل لبعضها رئة وحلقوم ومجارٍ للنفس لكيما يصل نسيم الهواء إلى عمق أبدانها ومحابس قعر أجسادها، ويروِّح الحرارة الغريزية فيها ويحفظ الحياة عليها إلى وقت معلوم، فهذا الذي ذكرناه هو حكم الحيوانات التامة الخِلْقة الكاملة الصورة، التي تستنشق الهواء وتتنفس منه وتعيش فيه.
وأما أجناس الحيوانات التي تعيش في المياه ولا تخرج منها فإنها لا تحتاج إلى استنشاق الهواء ولا التنفس منه؛ لأن البارئ الحكيم — جلَّ ثناؤه — لمَّا خلقها في الماء وجعل حياتها منه وفيه جعلها على طبيعة واحدة، وهي طبيعة الماء، وركَّب أبدانَها تركيبًا يصل برد الماء ورطوبته إلى قعر أبدانها وعمق أجسادها، وتروح الحرارة الغريزية التي في طباع تركيبها وتنوب عن استنشاقها الهواء وتنفسها منه، وجعل لكل نوع منها أعضاء مشاكِلة لبدنه ومفاصل مناسبة لجثته، وجعل على أبدانها من أنواع الصدف وفنون الفلوس وما شاكلها لباسًا لها ودثارًا من الحر والبرد وغطاء ووطاء ووقاية لها من الآفات العارضة، وجعل لبعضها أجنحة وأذنابًا تسبح بها في الماء مثل الطيور في الهواء، وجعل بعضها آكِلًا، وبعضها مأكولًا، وجعل نسل مأكولها أكثر عددًا من نسل آكِلها، كل ذلك غرضًا لبقاء أشخاصها ودوام نسلها زمانًا طويلًا أطول ما يمكن في حياتها وطبائعها.
وأما أجناس الطيور التي هي سكان الهواء وقاطنوه، فإن الباري الحكيم — جلَّ ثناؤه — جعل أبدانها مختصرة من أعضاء كثيرة مما في أبدان الحيوان البري الذي يَحبَل ويَلِد ويُرضِع ليخفِّف عليها النهوض في الهواء والطيران فيه، وذلك أن الباري لم يجعل للطير أسنانًا ولا أذنًا بيِّنة ولا معدة ولا كرشًا ولا مثانة ولا خرزات الظهر ولا جلدًا ثخينًا ولا على أبدانها شعرًا ولا صوفًا ولا وبرًا؛ بل جعل بدل ذلك ريشًا لباسًا لها ودثارًا من الحر والبرد وغطاءًا ووطاء ووقاية من الآفات العارضة ويُعينها على النهوض والطيران، وبدل الأسنان منقارًا، وبدل المعدة حوصلة وبدل الكرش قانصة.
وعلى هذا القياس بدل كل عضو عدم منه عضوًا آخر مشاكِلًا لأبدانها ومناسبًا لأجسادها بحسب مآربها ومنافعها ودفع المضارِّ عنها، كل ذلك أسباب وعلل لبقاء أشخاصها ودوام نسلها مدة ما أطول ما يمكن في طبائعها وجِبِلَّتها.
وأما أجناس الحيوانات البرِّيَّة الآكِلة منها العشب فإن الباري الحكيم جعل لها أفواهًا واسعة تتمكَّن من القبض على الحشيش والكلأ في الرعي، وجعل لها أسنانًا حِدَادًا تَقطَع بها وأضراسًا صِلابًا تَطحَن بها الصلب من العشب والحب والورق والقشر والنوى، وجعل مريًّا واسعًا زلقًا تزدرد به ما تمضغه، وكروشًا واسعة محملة تملؤها وتحمل فيها زادَها، فإذا اكتفتْ رجعتْ إلى أماكنها ومرابطها وبركتْ واستراحتْ.
ومنها ما تَجتَرُّ وتسترجع ما بلعتْه وتطحنه ثانية وتبلع وتزدرد إلى مواضع أُخَر من كروشها خِلْقتها غير خِلْقة الأولى متهيِّئة لطَبْخ الحرارة الغريزية لها والتمكُّن من نضجها؛ لكيما تستمرئ بها الطبيعية، وتميِّز ثقلها من لطيفها، وتدفع الثقل إلى الأمعاء والمصارين، ويخرج من الثقب والمواضع المُعَدَّة لذلك، وترد اللطيف الصافي إلى الكبد لتطبخها ثانية وتصفِّيها وتفيض أخلاطها على الأوعية المُعدَّة لقبولها مثل الطحال والمرارة والقلب والكليتين والعروق المجوفة التي هي كالأنهار والجداول في أبدانها ليجري ذلك الدم الصافي فيها إلى سائر أطراف أجسادها، وتخلف بدلًا عمَّا تحلَّل من أبدانها إذ كانتْ أجساد الحيوانات كلها في الذوبان والسيلان من أسباب داخلة، ومن أسباب خارجة.
وما يفضل من تلك المواد في أبدان الذَّكَر فقد جعل الباري الحكيم لها أعضاء وأوعية ومجاريَ يحصل فيها وهي النطفة تجري منها إلى أرحام الإناث عند السفاد والنزو والجماع.
وجُعل في أبدان الإناث أعضاء وأوعية ومجارٍ يحصل فيها وينضاف إليها ما يفضل في أبدان الإناث من الرطوبات المشاكِلات لها على ممر الأيام والشهور، وتجتمع وتكثر ويخلق الباري الحكيم منها صورة مثل أحد الزوجين كما شاء، وكيف شاء كما بيَّنَّا طرفًا من ذلك في رسالة مسقط النطفة، وكل هذه الأسباب والعلل عناية من الباري الحكيم — جلَّ ثناؤه — لبقاء أشخاصها ودوام نسلها زمانًا طويلًا أطول ما يمكن، ويتهيَّأ في ذلك النوع من الحيوان، تبارك الله أحسن الخالقين وأحكم الحاكمين وأرحم الراحمين.
فصل
وأما السباع الآكِلة اللحمان، فإن خِلْقتها وطباعها وتركيب بعض أعضائها الظاهرة والباطنة وأمزجتها وشهواتها مخالِفة لما عليه الحيوانات الآكلة العشب؛ وذلك أن الباري لمَّا خَلَقها، وجعل غذاءها من أكل اللحمان ومادة أبدانها من جثة الحيوانات جعل لها أنيابًا صِلابًا ومَخَالب مقوَّسة قويَّة وزندات متينة ووَثَبَات خفيفة وقَفَزات بعيدة شديدة تستعين بها على قبض الحيوانات وضبطها وخرق جلودها وشق أجوافها وكسر عظامها ونَهْش لحومها من غير رحمة لها ولا شفقة عليها.
وقد تحيَّر أكثر العقلاء وتاه أكثر العلماء والفلاسفة الحكماء من المحقِّقين بفكرتهم في هذا وبحثهم عن عِلَلها، وما وَجْه الحكمة والصواب في هذا؟ وقد بيَّنَّا نحن ما الحكمة وما الصواب في ذلك في رسالة العِلَل والمعلولات وسنذكر طرفًا منه في هذه الرسالة في فصل آخر إن شاء تعالى.
فصل
اعلم يا أخي — أيَّدك الله وإيَّانا برُوح منه — بأن الباري الحكيم لمَّا خلق أجناس الحيوانات المختلفة الصُّوَر والطِّباع والمتصرفات قسَّمها أربعةَ أقسام: فمنها سكان الهواء، وهي أنواع الطيور أكثرها والحشرات جميعها.
ومنها سكان الماء، وهو كل حيوان يسبح في الماء كالسمك والسرطان والضفادع والصدف ونحو ذلك.
ومنها سكان البر، وهي البهائم والأنعام والسباع، ومنها سكان التراب وهي الهوام، وجعل في كل قسم منها بعضًا آكِلًا وبعضًا مأكولًا.
وذلك أن من الطير ما يأكل الحبَّ والثَّمَر، ومنها ما يأكل اللحم وهي الجوارح وكل ما له مخلب ومنقار مقوس لا يقدر أن يلتقط الحَبَّ أو يأكل الثمر.
وهكذا حكم حيوان الماء، بعضه آكِلٌ وبعضه مأكول، وهكذا حكم حيوان التراب من الهوام كالحيات والضبِّ والقَطَايا وأشباهها.
فصل
واعلم يا أخي — أيَّدك الله وإيَّانا برُوح منه — أن الباري الحكيم لمَّا خلق الحيوانات التامَّة البنية، قسَّم بنية أجسادها نصفين اثنين يمنة ويسرة، ليكون مطابقًا لأول العدد وللأمور المثنوية العنصرية التي ذكرناها في رسالة المبادئ، وجعلها ثلاث طبقات؛ وسطًا وطرفين؛ ليكون مطابقًا لأول عدد فرد وللأمور ذوات الأوساط والطرفين، وجعل مزاج أبدانها من أربعة أخلاط مطابقًا لأول عدد مجذور، ومطابقًا أيضًا لأربع طبائع بعدد الأركان الأربعة، وجعل لها خمس حواس درَّاكة لصور المحسوسات ومطابقًا لأول عدد دائر ولعدد الطبائع الأربع والخامسة الطبيعة الفلكية، وجعل فيها قوة تتحرك بها إلى ست جهات مطابقًا لأول عدد تام، ولعدد سطوح المكعب وجعل في أبدانها سبع قوًى فعَّالة مطابقًا لأول عدد كامل ولعدد الكواكب السيارة، وجعل في أبدانها ثماني مزاجات؛ أربعة مفردة وأربعة مزدوجة مطابقًا لأول عدد مكعب ولعدد مناسبات الموسيقى، وجعل تركيب أبدانها وتأليف أجسادها من تسع طبقات مطابقًا لأول عدد فرد مجذور، ولعدد طبقات الأفلاك المحيطات، وجعل في أبدانها اثني عشر ثقبًا أبوابًا لحواسها ومآربها مطابقًا لأول عدد زائد ولعدد بروج الفلك، وأسَّس بناء أجسادها على أعمدة ظهورها ثمانٍ وعشرون خرزة مطابقًا لعدد تام ولمنازل القمر، وجعل في أبدانها ثلاثمائة وستين عرقًا لجريان الدم إلى سائر أطراف أبدانها مطابقًا لعدد درج بروج الفلك ولعدد أيام السنة، وعلى هذا القياس والمثال إذا عد واعتبر وجد عدد كل عضو مطابقًا لعدد جنس من الموجودات، فقد تبيَّن بما ذكرنا معنى قول الحكماء الفيثاغوريين إن الموجودات بحسب طبيعة العدد، وذلك تقدير العزيز العليم.
(٢) فصل
في ذكر تصانيف أحوال الطيور وأوقات الطيور وأوقات هيجانها وسفادها، وكيفية اتخاذها أعشاشها، وإصلاح أوكارها، وكمية بيضها ومدة حضانتها، وكيفية تربيتها لأولادها.
فنقول: اعلم يا أخي — أيَّدك الله وإيَّانا برُوح منه — بأن مِن الطيور ما يتزاوج ويتعاشق ويهيج ويسفد في سائر فصول السنة ويعاون الذكر منها الأنثى في تحضين البيض وفي تربية الأولاد كالحمام، ومنها ما لا يعاون لا في الحضانة ولا في تربية الأولاد كالديك، ومنها ما لا يهيج في السنة إلا مرتين عند الفصلين المعتدلين — الربيع والخريف — وفي الصيف، وأكثر الطيور لا تهيج ولا تسفد إلا في آخر الشتاء عند استقبال الربيع، وتبيض فيه وتحضن وتربِّي أولادها لعلمها بطيب الزمان واعتدال الهواء وكثرة الريف والقوت الموجود في أكثر الأماكن.
ومن الطيور ما تتخذ عشاشها بين أغصان الشجر وأوراقها، ومنها ما تتخذه في الأرضين الدغلة بين الحشيش والشوك كالقيج والدُّرَّاج والطَّيْهوج، ومنها في ثقب الحيطان أو في أصول الأشجار، ومنا تحت السقوف، ومنها على رءوس الحيطان والخرابات، ومنها على رءوس الجبال والتلال، ومنها على شطوط الأنهار وسواحل البحار، ومنها ما تتخذ في البراري والقفار وبين الأحجار، ومن طيور الماء ما يأخذ بيضها بإحدى رجليه على صدره ويسبح بالأخرى إلى أن تحضن وتخرج فراخها.
ومن الطيور ما يبيض ويحضن بيضتين، ومنها أربع، ومنها ست، ومنها ثماني، ومنها عشرة، واثنتي عشرة وعشرين وثلاثين.
ومن الطيور ما يربِّي فراخه مما في حوصلته من الحب المنقوع، ومنها ما تُلقِم أفراخَها بمنقارها من الصيد والحب والثمر، ومنها ما تفقص من بيضها بعضًا وتُحسِّيه أفراخَها كالنعامة، ومنها ما يبحث في الأرض ويُلقِي إلى أفراخه الحب والدبيب كالدراج والدَّجَاج.
ومن الطيور ما هو سريع الطيران دائمًا طول النهار كالخطاف، ومنها ما هو ثقيل الطيران قليلًا كالسمان، ومنها بعيد الورد كالقَطَا، ومنها بعيد الأسفار كالغراب، ومنها ما لا يفارق الموطن كالعصافير، ومنها ما تطير في أسفارها قطارًا كقطار الجمال كالكُرْكِيِّ، ومنها ما يطير مصطفًّا متحاذيًا كصف المصلِّين، ومنها ما يطير جماعات مختلطات ملتئمة، ومنها ما يطير مستقبلًا للريح، ومنها ما يطير مستدبرًا لها، ومنها ما يطير موربًا على الجانب، ومنها ما يطير متوهجًا قاصدًا، ومنها ما يطير مرتفعًا ومنخفضًا ويمنة ويسرة، ومنها ما يطير مستقيمًا قاصدًا، ومنها ما إذا نهض للطيران عدا على وجه الأرض خطوات ثم استعلى في الجو، ومنها ما ينهض منتصبًا دفعة واحدة، ومنا ما يرتقي في جو الهواء مختلفًا مستديرًا كالصاعد إلى المنابر، ومنها ما إذا استقل استقل منعرجًا منعطفًا كالصاعد للعقبة، ومنها ما إذا استقل في جو الهواء أمسك عن تحريك جناحيه، ومنها ما يمسكها تارةً ويحركها تارةً أخرى، ومنها ما إذا أراد النزول إلى الأرض نكس رأسه وزجَّ نفسه منقضًّا ومصوبًا كالمطر يوم الريح، ومنها ما ينزل برفق ملويًّا كما ينزل من المنارة، ومنها ما ينزل منعطفًا يمنة ويسرة كما تنزل الدواب من العقبة، ومنها ما ينزل مدليًا رجليه ضامًّا جناحيه أو مدليًا مرسلًا، وكل واحد من الطيور متناسب الجناحين من الطول والعرض والوزن والعدد، وفي كل جناح أربع عشرة طاقة ريش صلبة قصباتها مجوفة خفاف مصطفَّة من جانب ومتوازية من جانب، وتمامها طاقات أُخَر أقصر منها موفور الدثار من الجانبين يسد خللها طاقات، وعلى أبدان الطائر طاقات من الريش أقصر من ذلك، وهو لباس لها، وفي خللها طاقات أخرى صغار لينة الزيبر بينة الريف هي دثار لها، ووطاء وغطاء من الحر والبرد وزينة لها.
وأيضًا أكثر الطير ذنبه مناسب لجناحيه وعدده اثنتا عشرة طاقة أو أنقص.
ومن الطير ما ذنبه أوفر من جناحية كالطاووس، ومنها ما جناحاه وافران طويلان، وذنبه قصير كالكراكي.
ومن الطير ما ينقض عن فرخه البيض، وهو موفَّر عليه ريشه كالدُّرَّاج والدَّجاج، ومنها ما يكون معرًّى من الريش، ثم يخرج ريشه في أيام التربية كفراخ الحمام.
ومن الطير ما على ريشه دهن فلا يبتلُّ كطير الماء، ومنها ما يرمي بريشه في كل سنة ويخرج له غيره، ومنه ما بين أصابع رجليه غشاوات.
ومن طير الماء ما ينهض من الماء في طيرانه، ومنها ما يخرج من الماء إلى الأرض ثم يطير.
ومن الطير ما هو طويل الرجلين والجناحين والعنق والمنقار، ومنها قصير الرقبة طويل المنقار، وأكثر الطيور في طيرانه يجمع رجليه إلى صدره، ومنها ما يمدُّها إلى خلفه مع ذنبه كالكراكي واللقالق.
ومن الطير ما يكون طويل العنق يطوي عنقه في طيرانه، ومنها ما هو يمدُّه إلى قدَّامِه كمَالِك الحَزِين.
ومن الجوارح من الطير ما يقبض على الطيور في جو الهواء ويأخذها في طيرانها، ومنها ما إذا لحفها في طيرانها دخل من تحتها مستلقيًا على ظهره وقبض عليها فقَلَبَها، ومنها ما ينحطُّ عليها ويخطفها من وجه الأرض، ومنها ما يقع على رءوس الغزلان وحمير الوحش، وينشب مخالبه فيها ويرفرف بجناحيه على أعينها ويقتلها، والحمام الهادي يَعرِف سمت البلد المقصود بالنظر في جو الهواء إلى جريان الأنهار وميل الأودية ثم ينحو السوادات ويتيامن عن الجبال ويتياسر عنها وعن مهبِّ الرياح في تصاريفها.
وهكذا تَعرِف الطيور التي تشتي في البلاد الدفيئة وتصيف في البلدان الباردة مواقعَها، وأكثر الطيور لها جودة البصر والشم والذوق والسمع، وأما اللمس فدون ذلك من أجْل الريش الذي على جلودها والجوارح من الطيور كلها وافية الجناحين عريضة الأذناب شديدة الطيران قصيرة الرجلين والرقبة طويلة الأفخاذ قوية المخاليب معقربة المناقير، لا تقدر على الْتِقاط الحبوب، بل تأكل اللحمان وتصطاد غيرها.
ومن الطيور ما يلقط الحب ويأكل الثمر، أو يصطاد الحشرات والهوامَّ ويأكل النبت والحشيش.
ومن الطيور ما يطير بالليل والنهار ويسافر ويتعيش.
ومن الطيور ما يطير بالليل دون النهار، وأما أكثرها فبالنهار دون الليل.
ومن الطيور ما يأوي بالليل إلى رءوس الأشجار وبين أغصانها وأوراقها، ومنها ما يأوي إلى رءوس الجبال والتلال والحيطان والقلاع، ومنها ما يأوي إلى الآجام والدغل، ومنها ما يأوي إلى الثقب والأعشاش والأجحرة وتحت السقوف، ومنها ما يأوي إلى الجزائر بين الأنهار والمياه، ومنها ما يبيت في الصحاري وعلى الشطوط ويتحارس بالنُّوَب وعلى السواحل، ومنها ما يبيت في الجو.
ومن الطيور ما ينتبه بالأسحار ويترنَّم ويسبح، ومنها ما يُبكِّر في طلب القُوت، ومنها ما يُسفِر ويتصبَّح ويُضحِي، ثم يمرُّ وينصرف في طلب القوت «تغدو خماصًا وتروح بطانًا.»
ومن الطيور ما يفرِّخ وينشر بالغدوات، ومنها بالعشيات، ومنها في أنصاف النهار، ومنها في يوم الغيم، ومنها في يوم الصحو، ومنها في يوم المطر، ومنها في شدة الحر، ومنها في شدة البرد، ومنها في يوم الريح.
فصل
واعلم يا أخي — أيَّدك اللهُ وإيَّانا برُوحٍ منه — أن من الطيور ما إذا نهض واستقلَّ في جو الهواء في طيرانه يكون كشكل المثلث يبسط بجناحين وافيين منشورَيْن وذنب مثل ذلك مناسب لهما مثل الزرازير والخطاطيف، ومنها ما يكون كشكل المربع بجناحين وافيين منشورين وعنق طويل ممتد من قدام ورجلين طويلتين ممتدتين من خلف وذنب قصير مثل الكراكي واللقالق، ومن الحشرات ما يكون في طيرانه كشكل المسدَّس له أربعة أجنحة من الجانبين ورأس قدام وذنب خلف كالجراد والبقِّ والزنابير.
واعلم يا أخي بأنك إذا تأملتَ واعتبرتَ أبدان الطيور والحشرات وجدتَها كلَّها متزنة الجانبين طولًا وعرضًا، خفَّة وثقلًا، يمنة ويسرة، وخلفًا وقدامًا، ومن أجل هذا إذا نُتف من إحدى جناحيه طاقات ريش اضطرب في طيرانه كرَجُل أعرج في مِشْيَتِه إذا كانت إحدى رجلَيْه أطول والأخرى أقصر، ومن أجْل ذلك أيضًا متى نُتف من ذنبه طاقات ريش اضطرب في طيرانه مكبوبًا على رأسه كمثال زورق أو سمارية في الماء في ثقل صدرها وخفَّة كوائلها، ومن أجْل هذا صار بعض الطيور إذا مدَّ رقبته إلى قدَّام مدَّ رجلَيْه إلى خلف ليتوازن ثقل رجليه بثقل رقبته كالكراكي، ومن الطير ما يطوي رقبته إلى صدره ويجمع رجليه تحت بطنه في طيرانه كمَالِك الحزين، وعلى هذا المثال حكم سائر الطيور والحشرات في طيرانها.
(٣) فصل في بيان بدء الخلق
يُقال إنه لما توالدت أولاد بني آدم وكثرت وانتشرت في الأرض برًّا وبحرًا وسهلًا وجبلًا متصرِّفين فيها في مآربهم آمنين بعدما كانوا قَلِقِين خائفين مستوحشين من كثرة السباع والوحوش في الأرض، وكانوا يأوون في رءوس الجبال والتلال متحصِّنين فيها، وفي المغارات والكهوف ويأكلون من ثمر الأشجار وبُقُول الأرض وحب النبات، وكانوا يستترون بأوراق الشجر من الحر والبرد ويشتون في البلدان الدفيئة، ويصيفون في البلدان الباردة، ثم بَنَوْا في سهول الأرض الحصون والقرى والمدن وسكنوها.
ثم سخَّروا من الأنعام البقر والغنم والجِمَال، ومن البهائم الخيل والبغال والحمير وقيَّدوها وألْجَموها وصرَّفوها في مآربهم من الركوب والحمل والحرس والدراس وأتْعَبوها في استخدامها وكلَّفوها أكثر من طاقتها ومنعوها من التصرف في مآربها بعدما كانت مخلَّيات في البراري والآجام والغياض تذهب وتجيء حيث أرادت في طلب مراعيها ومشاربها ومصالحها، ونَفَرَتْ منهم بقيَّتُها من حُمُر الوحوش والغزلان والسباع والوحوش والطيور، بعدما كانت مستأنِسة متوالِفة مطمئِنَّة في أوطانها وأماكنها، وهربتْ من ديار بني آدم إلى البراري البعيدة والآجام والدحال ورءوس الجبال، وشمَّر بنو آدم في طلبها بأنواع من الحِيَل والقَنْص والشِّباك والفِخَاخ، واعتقد بنو آدم فيها أنها عبيد لهم، هربتْ وخلعتِ الطاعة وعصَتْ، ثم مضتِ السنون والأيام على ذلك إلى أن بعث الله محمدًا — صلَّى الله عليه وآله — ودَعَا الإنس والجن إلى الله ودِين الإسلام، فأجابتْه طائفة من الجن وحسُنَ إسلامُها، ومضتْ على ذلك مدة من الزمان.
ثم إنه وَلِيَ على بَنِي الجانِّ مَلِك منها يُقال له بيراست الحكيم لقبه شاه مردان، وكانت دار مملكته مردان في جزيرة يُقال لها صاغون في وسط البحر الأخضر مما يلي خط الاستواء، وهي طيِّبة الهواء والتربة فيها أنهار عذْبة وعيون جارية، وهي كثيرة الريف والمرافق وفنون الأشجار وألوان الثمار والرياض والأنهار والرياحين والأنوار، ثم إنه طرحتِ الرياح العاصفة في وقت من الزمان مركبًا من سفن البحر إلى ساحل تلك الجزيرة، وكان فيها قوم من التجار والصُّنَّاع وأهل العِلْم وسائر أغنياء الناس، فخرجوا إلى تلك الجزيرة وطافوا فيها، فوجدوها كثيرة الأشجار والفواكه والثمار والمياه العذبة والهواء الطيب والتربة الحسنة والبقول والرياحين وأنواع الزرع والحبوب مما تنبته أمطار السماء، ورأَوْا فيها أصناف الحيوانات من البهائم والأنعام والطيور والسباع والوحوش والهوامِّ والحشرات أجمع، وهي كلها متآلِفة بعضها في بعض مستأنِسة غير متنافِرة.
ثم إن أولئك القوم استطابوا ذلك المقام، واستوطنوا وبنَوْا هنالك البنيان وسكنوا، ثم إنهم أخذوا يتعرَّضون لتلك البهائم والأنعام التي هناك يُسخِّرونها ليركبوها ويحملوا عليها أثقالَهم على المنوال الذي كانوا يفعلون في بلدانهم، فنفرت منهم تلك البهائم والأنعام التي كانت هناك، وهربتْ وشمَّروا في طلبها بأنواع من الحِيَل في أخذها، واعتقدوا فيها أنها عَبِيد لهم، هربتْ وخلعتِ الطاعة وعصتْ، فلمَّا علمتْ تلك البهائم والأنعام هذا الاعتقاد منهم فيها جمعتْ زعماءَها وخطباءَها، وذهبتْ إلى بيراست الحكيم مَلِك الجن وشكَتْ إليه ما لَقِيَتْ من جَوْر بني آدَمَ وتعدِّيهم عليها واعتقادهم فيها، فبعث ملك الجن رسولًا إلى أولئك القوم ودعاهم إلى حضرته، فذهب طائفة من أهل ذلك المركب إلى هناك، وكانوا نحوًا من سبعين رجلًا من بلدان شتَّى، فلما بلغه قدومُهم أمَرَ لهم بطرح الإنزال والإكرام، ثم أوصلهم إلى مجلسه بعد ثلاثة أيام.
وكان بيراست الحكيم عادلًا كريمًا منصفًا سمحًا يَقرِي الأضياف ويؤْوِي الغُرَباء ويَرحَم المُبتَلَى ويمنع الظلم ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ولا يبتغي بذلك غير وجه الله — تعالى — ومرضاته، فلما وصلوا إليه ورأَوْه على سرير ملكه حيَّوْه بالتحية والسلام، فقال لهم الملك على لسان الترجمان: ما الذي جاء بكم إلى بلادنا؟ وما دعاكم إلى جزيرتنا من غير مُراسَلة قبلَ ذلك؟
قال قائل من الإنس: دعانا ما سمعنا من فضائل المَلِك، وما بلغنا من مناقبه الحِسَان ومكارم أخلاقه الجِسَام، وعدله وإنصافه في الأحكام، فجئناه ليسمع كلامنا ويتبيَّن حجَّتَنا، ويحكم بيننا وبين عبيدنا الآبقين، وخَوَلِنا المُنكِرين وِلايتَنا، والله يوفِّق المَلِك للصواب ويسدِّده للرشاد، وهو أحكم الحاكمين.
فقال الملك: قولوا ما تريدون، وبيِّنوا ما تقولون، قال زعيم الإنس: نعم أيها الملك، نقول: إن هذه البهائم والأنعام والسباع والوحوش أجمع عبيد لنا، ونحن أربابها وهي خَوَلٌ لنا ونحن مواليها، فمنها هاربٌ آبِقٌ عاصٍ، ومنها مُطيعٌ كارِهٌ منكِر للعبودية، قال المَلِك للإنسي: ما الدليل والحجة على ما زعمتَ وادَّعَيْتَ؟ قال الإنسي: نعم أيها الملك، لنا دلائل شرعية سمعية على ما قُلْنا، وحُجَج عقلية على ما ادَّعَيْنا، فقال الملك: هاتِ، أوْرِدْها، فقام الخطيب من الإنس من أولاد العباس، ورَقِيَ المنبر وخطب الخطبة وقال: الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلَّى الله على سيدنا محمد خاتم النبيِّين وإمام المرسلين وصاحب الشفاعة يوم الدِّين، وصلوات الله على ملائكته المقرَّبين، وعلى عباده الصالحين من أهل السموات والأرضين من المؤمنين والمسلمين، وجعلنا وإياكم منهم برحمته وهو أرحم الراحمين.
الحمد لله الذي خلق من الماء بَشَرًا، فجعله نسبًا وصهرًا، وخلق منه زوجة، وبثَّ منهما رجالًا كثيرًا ونساءً، وأكرم ذريَّتَهما وحمَلَهم في البرِّ والبحر، ورزقهم من الطيبات، قال الله عزَّ وجلَّ: وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ، وقال تعالى: وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ، وقال: وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ، وقال: وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً، وقال: لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ، وآيات كثيرة في القرآن والتوراة والإنجيل تدل على أنها خُلقتْ لنا ومن أجلنا، وهي عبيد لنا، ونحن أربابها، وأستغفر الله لي ولكم.
فقال الملك: قد سمِعْتُم يا معشر البهائم والأنعام ما قال الإنسي من آيات القرآن، فاستدلَّ بها على دعواه، فأيُّ شيءٍ لكم وعندكم فيما قال؟ فقام عند ذلك زعيمُها وهو البغل، فقال: الحمد لله الواحد الأحد الفرد الصمد القديم السرمد الذي كان قبل الأكوان بلا زمان ولا مكان، ثم قال: كن، فكان نورًا ساطعًا أظهره من مكنون غيبه، ثم خلق من النور بحرًا من النار أُجَاجًا، وبحرًا من الماء رجراجًا، ذا أمواج ثم خلق من الماء والنار أفلاكا ذوات أبراج وشهابًا وهَّاجًا، والسماء بناها والأرض دحاها والجبال أرساها وجعل أطباق السموات مسكن العليين وفسحة الأفلاك مسكن الملائكة المقربين، والأرض وضعها للأنام وهو النبات والحيوان، ثم خلق الجان من نار السموم، وخلق الإنسان من طين، ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين في قرار مكين، وجعل ذريته في الأرض يخلفون ليعمروها ولا يُخرِّبوها ويحفظون الحيوانات وينتفعون بها ولا يظلمونها ولا يجورون عليها، أستغفر الله لي ولكم.
ثم قال: ليس في شيء مما قرأ هذا الإنسي من آيات القرآن أيها الملك دلالة على ما زعم أنهم أرباب ونحن عبيد لهم، إنما هي آيات تذكار بإنعام الله عليهم وإحسانه، فقال لهم: سَخَّرَهَا لَكُمْ كما قال سخَّر الشمس والقمر والسحاب والرياح، أفترى أيها الملك بأنها عبيد لهم ومماليك وأنهم أربابها؟
واعلم أيها الملك بأن الله خلق كل ما في السموات والأرض، وجعلها مسخَّرة بعضها لبعض، إما لجَرِّ منفعتِها إليها أو دفْع مضرَّتِها، فسخَّر الله الحيوان للإنسان بما هو لإيصال المنفعة إليها ودفع المضرة عنها، كما سنبيِّن بعد هذا الفصل، لا كما ظنوا وتوهَّموا، وما قالوه من الزور والبهتان بأنهم أرباب لنا ونحن عبيد لهم.
فصل
ثم قال زعيم البهائم: أيها الملك، كنا نحن وآباؤنا سكان الأرض قبل خلق آدم أبي البشر قاطنين في أرجائها، ظاعنين في فِجَاجِها، تذهب وتجيء كل طائفة منَّا في بلاد الله في طلب معائشها، وتتصرف في صلاح أمورها، كل واحد مقبل على شأنه في مكان موافق لمآربه من برية أو أجمة أو جبل أو ساحل أو تلال أو غياض أو رمال، كل جنس منَّا مؤالِف لأبناء جنسه مشتغلين باتخاذ نتاجنا وتربية الأولاد في طيب من العيش بما قدَّر الله لنا من المآكل والمشارب والتمتُّع آمنين في أوطاننا معافَيْنَ في أبداننا نسبِّح الله ونقدِّسه ونوحِّده ليلًا ونهارًا، ولا نعصيه ولا نشرك به شيئًا، ومضتْ على ذلك الدهور والأزمان.
ثم إن الله — جلَّ ثناؤه — خلق آدم أبا البشر، وجعله خليفة في الأرض وتوالد أولاده، وكثرت ذريته وانتشرت في الأرض برًّا وبحرًا وسهلًا وجبلًا، وضيَّقوا علينا الأماكن والأوطان، وأُخذ منَّا مَن أُخذ أسيرًا من الغَنَم والبَقَر والخَيْل والبِغَال والحَمِير، وسخَّروها واستخدموها وأتْعَبوها بالكدِّ والعَنَاء في الأعمال الشاقَّة من الحمل والركوب في السفر والحضر والشدِّ في الفدن والدواليب والطواحين بالقَهْر والغَلَبة والضرب والهوان وألوان من العذاب طول أعمارنا، فهرب منَّا مَن هرب في البراري والقفار ورءوس الجبال، وشمَّر بنو آدم في طلبنا بأنواع من الحِيَل، فمَن وقع منَّا في أيديهم شدُّوه بالغلِّ والقَيْد والقنص والذبح والسلخ وشقِّ الأجواف، وقطع المفاصل ونتف الريش وجزِّ الشعر والوبر، ثم نار الطبخ والوقد والتشوية وألوان من العذاب ما لا يبلغ الوصف كنهها.
ومع هذه الأحوال كلها لا يَرضَى منَّا هؤلاء الآدميون حتى ادَّعَوْا علينا أن هذا حق واجب لهم علينا، وأنهم أرباب لنا ونحن عبيد لهم، فمَن هرب منَّا فهو آبقٌ عاصٍ تارك الطاعة، كل هذا بلا حجة لهم علينا، ولا بيان ولا برهان إلا القهر والغلبة.
فلما سمع الملك هذا الكلام وفهم هذا الخطاب أمر مناديًا فنادى في مملكته، ودعا الجنود والأعوان من قبائل الجن من بني ساسان وبني خاقان وأولاد شيصبان والقضاة العدول والفقهاء من آل إدريس وبني بلقيس وقعد لفصل القضاء بين زعماء الحيوانات والجدليين من الإنس، ثم قال لزعماء الإنس: ما تقولون فيما تحكي هذه البهائم والأنعام من الجَوْر وما يشكون من الظلم والتعدِّي منكم؟
فقال زعيم الإنس: نقول: إن هؤلاء عبيدٌ لنا، ونحن مواليها، ولنا أن نتحكَّم عليها تحكُّم الأرباب ونتصرَّف فيها تصرُّف المُلَّاك كيف شاء، فمَن أطاعنا طاعتُه لله، ومَن عصانا وهَرب فمعصيتُه لله، فقال الملك للإنسي: إن الدَّعاوَى لا تصحُّ عند الحكام إلا بالبيِّنات، ولا تُقبل إلا بالحجَّة الواضحة فيما قلتَ وادَّعَيْتَ، فقال الإنسي: إن لنا حججًا عقلية ودلائل فلسفية تدل على صحة ما قلنا، قال الملك: ما هي؟ بيِّنْها لنعلمها! قال: نعم؛ حُسْن صورتنا، وتقويم بنية هيكلنا وانتصاب قامتنا وجَوْدة حواسِّنا ودقة تمييزنا وذكاء نفوسنا ورجحان عقولنا، كل هذا يدل على أنَّا أرباب وهم عبيد لنا، فقال الملك لزعيم البهائم: ما تقولون فيما قال الإنسي؟ قال: ليس شيء مما قال بدليل على ما ادَّعى هذا الإنسي، قال الملك: أليس انتصاب القيام واستواء الجلوس من شِيَم الملوك؟ وانحناء الأصلاب والانكباب على الوجوه من صفات العبيد؟! قال الزعيم: وفقك الله أيها الملك للصواب، وصرف عنك سوء الأمور، استمع لما أقول.
اعلم بأن الله — جلَّ ثناؤه — ما خلقهم على تلك الصورة ولا سوَّاهم على هذه البنية لتكون دلالة على أنهم أرباب، ولا خلقنا على هذه الصورة وسوَّانا على هذه البنية لتكون دلالة على أننا عبيد، ولكن لعلمه واقتضاء حكمته بأن تلك البنية هي أصلح لهم، وهذه أصلح لنا.
(٤) فصل في بيان علة اختلاف صور الحيوانات
بيان ذلك أن الله — عزَّ وجلَّ — لما خلق آدم وأولاده عُرَاةً بلا ريش على أبدانهم ولا وَبَر ولا صوف على جلودهم يَقِيهم من الحر والبرد، وجعل أرزاقهم من ثمر الأشجار ودثارهم من أوراقها، وكانت الأشجار منتصبة في جو الهواء، جعل أيضًا قامتهم منتصبة ليسهل عليهم تناول الثمر والورق منها، وهكذا لما جعل أرزاقنا من حشيش الأرض جعل بنية أبداننا منحنية ليسهل علينا تناول العشب من الأرض، فلهذه العلة جعل صورهم منتصبة، وصورنا منحنية، لا كما توهَّموا، فقال الملك: ما تقولون في قول الله عزَّ وجلَّ: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ؟ قال الزعيم: إن للكتب النبوية تأويلات وتفسيرات غير ما يدل عليه ظاهر ألفاظها، يعرفها العلماء الراسخون في العلم، فليسأل الملك أهل الذكر، قال الملك لحكيم الجن: ما معنى قوله: فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ؟ قال: في اليوم الذي خُلق فيه آدم كانت الكواكب في إشراقها وأوتاد البروج قائمة، والزمان معتدلًا كثير المواد، وكانت متهيِّئة لقبول الصور، فجاءت بنيته في أحسن صورة وأكمل هيئة، قال الملك: وكفى بهذه الفصيلة كرامة وافتخارًا. قال الحكيم: إن لها معنًى غير ما ذُكر وتبين ذلك بقوله: فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ، يعني لم يجعلك طويلًا دقيقًا ولا قصيرًا لزيقًا؛ بل ما بين ذلك، فقال زعيم البهائم: ونحن كذلك فُعل بنا أيضًا، لم يجعلنا طوالًا ولا دقافًا ولا قصارًا ولا صغارًا؛ بل بين ذلك، فنحن وهم في هذه الصورة والفضيلة والكرامة بالسوية، فقال الإنسي لزعيم البهائم: مِن أين لكم اعتدال القامة واستواء البنية وتناسب الصورة وقد نرى الجَمَل عظيم الجثة طويل الرقبة صغير الأذنين قصير الذنب، ونرى الفيل عظيم الخلقة طويل النابين واسع الأذنين صغير العينين، ونرى البقر والجاموس طويل الذنب غليظ القرون ليس له أنياب من فوق، ونرى الكبش عظيم القرنين كبير الألية ليس له لحية، والتيس طويل اللحية ليس له ألية مكشوف العورة، ونرى الأرنب صغير الجثة كبير الأذنين؟ وعلى هذا المثال والقياس نجد الحيوانات والسباع والوحوش والطيور والهوام مضطربات البنية غير متناسبة الأعضاء.
فقال زعيم البهائم: هيهات، ذهب عليك أيها الإنسي أحسنها، وخفي عليك أحكمها، أما علمتَ أنك لمَّا عِبْتَ المصنوعَ فقد عِبتَ الصانع؟! أولا ترى وتعلم بأن هذه كلها مصنوعات الباري الحكيم، خلقها بحكمته لعلل وأسباب وأغراض لجر المنفعة إليها ودفع المضرة عنها، ولا يعلم ذلك إلا هو والراسخون في العلم؟ قال الإنسي: فخبِّرْنا أيها الزعيم إذا كنتَ حكيمَ البهائم وخطيبها، ما العلة في طول رقبة الجمل؟ قال: ليكون مناسبًا لطول قوائمه لينال الحشيش من الأرض ويستعين به على النهوض بحمله، وليبلغ مشفره إلى سائر أطراف بدنه فيحكَّها.
وأما خرطوم الفيل فعِوَض عن طول الرقبة وكبر أذنيه ليذبَّ البقَّ والذباب عمَّا في عينيه وفمه؛ إذ كان فمه مفتوحًا أبدًا لا يمكنه ضم شفتيه لخروج أنيابه منه، وأنيابه سلاح له يمنع بها السباع عن نفسه.
وأما كبر أذن الأرنب فهو من أجْل أن تكون دثارًا لها ووطاءً وغطاءً في الشتاء والصيف؛ لأنه رقيق الجلد تَرِف البدن، وعلى هذا القياس نجد كل حيوان جعل الله — عزَّ وجلَّ — له من الأعضاء والمفاصل والأدوات بحسب حاجته إليه لجر المنفعة أو دفع المضرة، وإلى هذا المعنى أشار موسى — عليه السلام — بقوله: رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى.
وأما الذي ذكرتَ أيها الإنسيُّ من حسن الصورة وافتخرتَ به علينا، فليس فيه شيء من الدلالة على ما زعمتَ بأنكم أرباب، ونحن عبيد، فإذا كان حسن الصورة شيئًا مرغوبًا فيه عند أبناء الجنس من الذكور والإناث ليدعوهم ذلك إلى الجماع والسفاد والنتاج والتناسل لبقاء النسل، فإننا لا نرغب في محاسن إناثنا ولا إناثنا في محاسن ذكراننا، كما لا يرغب السود في محاسن البيض، ولا البيض في محاسن السود، وكما لا يرغب اللُّوَّاط في محاسن الجواري ولا الزُّناة في محاسن الغلمان، فلا فخرَ لكم علينا بمحاسن الصور أيها الإنسي.
(٥) فصل في بيان جودة الحواس في الحيوانات
وأما الذي ذكرتَه من جودة حواسكم ودقة تمييزكم وافتخرتم به علينا، فليس ذلك لكم خاصة دون غيركم من الحيوانات؛ لأن فيها ما هو أجود حاسة منكم وأدق تمييزًا، فمن ذلك الجَمَل فإنه مع طول قوائمه ورقبته وارتفاع رأسه من الأرض في الهواء يُبصِر ويرى موضع قدَمَيْه في الطرقات الوعرة والمسالك الصعبة في ظُلَم الليل ما لا يرى ولا يبصر أحدكم إلا بسراج أو مشعل أو شموع، وترى الفرس الجواد يَسمَع وطء الماشي من البعد في ظلمة الليل، حتى إنه ربما نبَّه صاحبه من نَومِه بركضة رجليه حذرًا عليه مِن عدوٍّ أو سبع، وهكذا نجد كثيرًا من الحَمِير والبقر إذا سلك بها صاحبها طريقًا لم يسلكها قبلُ خلاها، ثم رجعتْ إلى مكانها ومعقلها وموضعها المألوف، فلا تَتِيه، وقد يوجد من الإنس مَن قد يسلك طريقًا دفعات ثم إنه يضلُّ فيه ويَتِيه، ونجد من الغنم والشاء ما يَلِد منها في ليلة واحدة عددًا كثيرًا وتسرح من الغد إلى الرعي وتروح بالعشي وتُخلى من الوثاق مائة من البهائم وأكثر، فيذهب كل واحد إلى أمه لا يُشكِل عليها أمهاتها ولا تشتبه، وكذلك أولادها على أمهاتها، والإنسي ربما يمرُّ به الشهر والشهران أو أكثر وهو لا يعرف والدته من أخته، ولا والده من أخيه، فأين وجود الحاسة ودقة التمييز الذي ذكرتَه وافتخرتَ به علينا أيها الإنسي؟!
وأما الذي ذكرتَه من رجحان العقول، فلسنا نرى له أثرًا أو علامة؛ لأنه لو كان لكم عقول راجحة لما افتخرتُم علينا بشيء ليس هو من أفعالكم ولا اكتساب منكم، بل هي مواهب من الله — جلَّ ذِكْرُه — لتعرفوا مواقع النعم وتشكروا له، ولا تعصوه، وإنما العقلاء يفتخرون بأشياء هي مِن أفعالهم من الصنائع المحكمة والآراء الصحيحة والعلوم الحقيقية والمذاهب المرضية والسُّنَن العادلة والطرق المستقيمة، ولسنا نراكم تفتخرون بشيء منها غير دعوى بلا حجة وخصومة بلا بينة.
(٦) فصل في بيان شكاية الحيوان من جَوْر الإنس
قال الملك للإنس: قد سمعتَ الجواب، فهل عندك شيء غير ما ذكرت؟ قال: نعم أيها الملك، هنالك مسائل أُخَر ومناقب غير ما ذكرتُ تدل على أنَّا أرباب وهم عبيد لنا؛ فمن ذلك بَيْعُنا وشراؤنا لها وإطعامنا وسقيانا لها، ونكسوها ونكفيها من الحر والبرد، وندفع عنها السباع أن تفترسها ونداويها إذا مرضت وننفق عليها إذا اعتلَّتْ، ونعلِّمها إذا جَهِلَتْ ونُخليها إذا أَعْيَتْ، ونُعرِض عنها إذا جُنَّتْ، كل ذلك إشفاقًا عليها ورحمة لها، وتحننًا عليها، وكل هذا من أفعال الأرباب بعبيدها والموالي بخولها.
قال الملك للزعيم: قد سمعتَ ما ذكر، فأيُّ شيءٍ عندك؟ أجب! قال زعيم البهائم: أما قوله: إنَّا نبيعها ونشتريها، فهكذا يفعل أبناء فارس بأبناء الروم، وأبناء الروم بأبناء فارس إذا ظَفِر بعضهم ببعض، أفترى أيهم العبيد وأيهم الموالي والأرباب؟! وكذلك يفعل أبناء الهند بأبناء السند، وأبناء السند بأبناء الهند، فأيهم الموالي وأيهم العبيد؟! وهكذا يفعل أبناء الحبشة بأبناء النوبة، وأبناء النوبة بأبناء الحبشة، وكذلك يفعل أبناء الأعراب والأكراد والأتراك بعضهم ببعض، فأيهم — ليتَ شِعرِي! — العبيدُ وأيهم الموالي بالحقيقة؟! وهل هي أيها الملك العادل إلا دُوَل ونُوَب تدور بين الناس بموجبات أحكام النجوم والقرانات كما ذكر الله تعالى ذلك: وتلك الأيام نداولها بين الناس وما يعقلها إلا العالمون، وأما الذي ذكر بأنَّا نطعمها ونسقيها ونكسوها، وما ذكره من سائر ما يفعلون بنا، فليس ذلك شفقة علينا منهم ولا رحمة لنا، ولا تحننًا علينا ولا رأفةً بنا؛ بل مخافة أن نَهلِك فيخسرون أثماننا وتفوتهم المنافع منَّا من شرب ألباننا ودثارهم من أصوافنا وأوبارنا وأشعارنا وركوبهم ظهورنا وحملهم أثقالهم علينا، لا شفقةً ولا رحمةً كما ذكر، ثم تكلم الحمار، فقال الحمار: أيها الملك، لو رأيتَنا ونحن أُسارَى في أيدي بني آدم موقرة ظهورنا بأثقالهم من الحجارة والآجرِّ والتراب والخشب والحديد وغيرها، ونحن نمشي تحتها ونجهد بكدٍّ وعناء شديد وبأيديهم العصا والمقارع يضربون وجوهنا وأدبارنا بحنق وعنف وضجر وصخب، لرَحِمْتَنا ورَثَيْتَ لنا وبكيتَ علينا. أيها الملك، فأين الرحمة؟ وأين الشفقة والرأفة منهم علينا كما زعم هذا الإنسي؟! ثم تكلم الثور فقال: لو رأيتَنا أيها الملك ونحن أُسارَى في أيدي بني آدم مقرَّنين في فدانهم مشدودين في دواليبهم وأرحيتهم مغطَّاة وجوهنا مشدودة أعيننا وهم يضربوننا مع ذلك لرحمْتَنا ورثيتَ لنا وبكيتَ علينا، فأين الرحمة والشفقة والرأفة منهم علينا كما زعم هذا الإنسي؟!
ثم تكلم الكبش فقال: أيها الملك لو رأيتَنَا ونحن أُسارَى في أيدي بني آدم يأخذون صغار أولادنا من الجدي والحملان فيفرِّقون بينها وبين أمهاتها ليستأثروا بألباننا لأولادهم ويجعلوا أولادَنا مشدودة أرجلها وأيديها محمولة إلى المذابح والمسالخ جائعة عطشانة تَصِيح فلا تُرحم، وتصرخ وتستغيث فلا تُغاث، ثم نراها مذبوحة مسلوخة مشقوقة أجوافها مفرَّقة أعضاؤها ورءوسها وكروشها ومصارينها وأكبادها في دكاكين القصَّابين مقطَّعة بالسواطير مطبوخة في القُدُور مشوية في التَّنُّور، ونحن سكوت ولا نبكي ولا نشكو، وإنْ شَكَوْنا أو بكَيْنا لم نُرحَم، فأية رحمة وأية رأفة لهم علينا كما زعم هذا الإنسي؟!
ثم تكلم الجمل فقال: أيها الملك، لو رأيتَنا ونحن أُسارى في أيدي بني آدم مخزومة أنوفنا، بأيدي جمَّاليهم خطامنا، يجرُّوننا على كُرْه منَّا محمَّلة ظهورنا بأثقالهم نُقاد ونُساق في ظلم الليل في القفار والفلوات والمسالك الوعرة والحيوانات قائمة في أوطانها، ونحن نمشي بأثقالهم نصدم الصخور والحجارة والدكادك بأخفافنا مقرَّحة جنوبنا وظهورنا من احتكاك أقتابنا، ونحن جِيَاع عِطَاش لرحمتَنا ورثيتَ لنا وبكيتَ علينا أيها الملك، فأين الرحمة والرأفة علينا كما زعم هذا الإنسي؟!
ثم تكلم الفيل فقال: لو رأيتَنا أيها الملك ونحن أُسارَى في أيدي بني آدم والقيود في أرجلنا والقلوس في رقابنا وكلاليب الحديد في أيديهم يضربون بها في أدمغتنا، يضربوننا يمنة ويسرة على كُرْه منَّا، مع كبر جثَّتنا وعظم خلقتنا وطول أنيابنا وشدة قوانا لا نقدر على دفْع ما نَكْرَه لرحمتَنا ورثيتَ لنا وبكيتَ علينا أيها الملك، فأين الرحمة؟ وأين الرأفة لهم علينا كما زعم هذا الإنسي؟!
ثم تكلم الفرس فقال: أيها الملك، لو رأيتَنا ونحن أسارى في أيدي بني آدم واللجم في أفواهنا والسروج على ظهورنا والبطرنجات والحزم مشدودة على أوساطنا والفرسان المدرعة على ظهورنا تزجُّ وتهجم بنا في الغبار عواري جياعًا وعطاشًا، والسيوف في وجوهنا والسهام في نحورنا والرماح في صدورنا، نخوض المياه ونسبح الدماء لرحمْتَنا ورثيتَ لنا وبكيتَ علينا أيها الملك.
ثم تكلم البغل فقال: لو رأيتنا أيها الملك ونحن أسارى في أيدي بني آدم والشكال في أرجلنا واللجم في أفواهنا والحكمات في أحناكنا والأقفال على فروجنا ممنوعين عن شهوات نتاجنا، والأكف على ظهورنا، وسفهاء الإنس من الساسة والركابة فوق ذلك، وبأيديهم العصي والمقارع يضربون وجوهنا وأدبارنا ويشتمونا بأقبح ما يقدرون عليه من الشتم والفحشاء بحنق وغيظ وسفاهة، حتى إنه ربما بلغ به السفه منهم أن يشتموا أنفسهم وأخَوَاتهم وأمَّهاتهم وبناتهم ويقولون: أَيْر الحمار في است مَن باعه واشتراه أو ملكه، يعني به صاحبه، كل ذلك راجع إليهم وهم به أولى.
فإذا فكَّرتَ أيها الملك فيما هم فيه من هذه الأوصاف من السفاهة والجهالة والفحشاء والقبيح من الكلام رأيتَ منهم عجبًا من قلة التحصيل لما هم فيه من الأحوال المذمومة والصفات القبيحة والأخلاق الرديئة والأعمال السيئة والجهالة المتراكمة، والآراء الفاسدة والمذاهب المختلفة، ثم لا يتوبون ولا هم يذَّكَّرون، ولا يتعظون بمواعظ أنبيائهم، ولا يأتمرون بوصية ربهم حيث يقول: وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ، وقوله تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ، وقوله تعالى: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ، وقوله تعالى: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأرْض إلا على الله رزقها، وقوله تعالى: لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ.
فلما فرغ البغل من كلامه الْتَفَتَ الجمل إلى الخنزير فقال له: قُمْ وتكلَّم واذكر ما تَلقَوْن معشر الخنازير من جور بني آدم، واشكُ إلى الملك الرحيم، فلعله يرقُّ لنا ويرحمنا ويفك أسرنا من أيدي بني آدم، فإنكم من الأنعام.
فقال حكيم من حكماء الجن: لا لعمري، ليس الخنزير من الأنعام، بل من السباع؛ ألا ترى أن له أنيابًا ويأكل الجِيَف؟
وقال قائل آخَر من الجن: بل هو من الأنعام، ألا ترى أن له ظلفًا، ويأكل العشب والعلف؟ وقال الآخَر: لا، بل هو مركَّب من السباع والأنعام والبهائم، مثل الفيل والزرافة مركبة من الحمار والجمل.
ثم قال الخنزير للجمل: والله، ما أدري ما أقول! وعمَّن أشكو من كثرة اختلاف القائلين في أمرنا!
أما حُكَماء الجن فقد سمعتَ ما قالوا، وأما الإنس فهم أكثر اختلافًا في أمرنا وأبعد رأيًا ومذهبًا؛ وذلك أن المسلمين يقولون إنَّا ممسوخون ملعونون، ويستقبِحُون صورتَنَا ويستثقلون أرواحنا ويستقذرون لحومنا، ويتشاءمون من ذِكْرِنا، وأما أبناء الروم فيتنافسون في أكل لحومنا في قرابينهم ويتبرَّكون بها إلى الله.
أما اليهود فيُغضبوننا ويشتموننا ويلعنوننا من غير ذنب منَّا إليهم، ولا جنايةً عليهم، لكنْ لعداوة بينهم وبين النصارى، وأبناء الروم وأبناء الأرمن، فحُكْمنا عندهم كحكم البقر والغنم عند غيرهم يتبرَّكون بنا من خصب أبداننا وسمن لحومنا وكثرة نتاجنا وغزارة ألباننا.
وأما الأطباء من اليونانيين، فيتداوَوْن بشحومنا ويتواصفونها في أدويتهم وعلاجاتهم.
وأما ساسة الدواب فيُخالطوننا بدوابِّهم وعلفها؛ لأن حالها يصلح عندهم بمخالطتنا وشمِّها روائحَنا.
وأما الأساكفة والجرازون فيتنافسون في شعر أعرافنا ويتبادرون في نتْف أسلتنا في شدة حاجتنا إليها، فقد تحيَّرنا، لا ندري لمَن نشكر وممَّن نشكو وممَّن نتظلم؟!
فلما فرغ الخنزير من كلامه التفتَ الحمار إلى الأرنب، وكان واقفًا بين قوائم الجمل، فقال له: قمْ فتكلَّم، واذكر ما تلقَوْن معشر الأرانب من جور بني آدم! واشكُ إلى الملك الرحيم؛ لعله يرحمنا وينظر في أمرنا ويفك أسرنا من أيدي بني آدم!
فقال الأرنب: أمَّا نحن فقد هربنا من بني آدم وتركنا دخول ديارهم وأوينا إلى الدِّحال والغِياض، وسلِمْنا من شرورهم، ولكنَّا بُلِينا بالكلاب والخيل والجوارح ومعاونتهم لبني آدم علينا، وحملهم إلينا وطلبهم لنا ولإخواننا من الغزلان وحُمْر الوحوش وبقرها وإبلها والوعول الساكنة في الجبال اعتصامًا بها.
ثم قال الأرنب: أما الكلاب والجوارح وتعاونهم لبني آدم فهم معذورون في معاونة الإنس علينا، لما لها من النصيب في أكل لحومنا؛ لأنها ليست من أبناء جنسنا، بل من السباع.
أما الخيل فلأنها منَّا، معاشِرَ البهائم، وليس لها نصيب في أكل لحومنا، فما لها ومعاونة الإنس علينا لولا الجهالة وقلة المعرفة وقلة التحصيل للأمور والحقائق؟
فصل في بيان تفضيل الخيل على سائر البهائم وغيرها
قال الإنسي للأرنب: أقصِرْ! فقد أكثرتَ اللَّوْم والذمَّ للخيل، ولو علمتَ أنها خير حيوان سخَّرتْه الإنس لما تكلَّمتَ بهذا الكلام، قال الملك للإنسي: وما تلك الخيرية التي قلتَها؟ اذكرها! قال: خصال محمودة، وأخلاق مَرْضِيَّة، وسيرة عجيبة، من ذلك حُسْن صورتها وتناسُب أعضاء أبدانها، وبنية هيكلها، وصفاء لونها، وحسن شعرها، وسرعة عَدْوِها، وطاعتها لفارسها، كيف شاء وكيف أراد صرفَها انقادتْ له يمنة ويسرة وقدامًا وخلفًا في الطلب والهرب، وذكاء نفسها وجودة حواسِّها، وحُسْن آدابها، ربما لا تبول ولا تروث مادام راكبها عليها، ولا تحرِّك ذنَبَها إذا ابتلَّ شعر ذنبها؛ لئلا يصيب صاحبها، ولها قوة الفيل وتحمِل راكبها بخوذته وجوشنه وسلاحه، مع ما لها من السرج واللجام والتجافيف وآلة الحديد نحو ألف رطل عند سرعة العدو، ولها صبر الحمار عند اختلاف الطعن في صدرها ونحْرِها في الهيجاء وسرعة عدوها في الغارات والطلب كحملات السرحان، وتمشي كمشي السِّنَّوْر في التبختُر، وهرولة كذئب يتنقل، وعطفات أيضًا كعطفات جلمود الصخر إذا حطَّه السيل، ومبادرة للعَدْو في الرِّهان كمَن يطلب الحلبة، قال الأرنب: نعم، ولكنْ لها مع هذه الخصال المحمودة والأخلاق الجميلة عيبٌ كبير يغطِّي هذه الخصال كلها.
فقال الملك: ما هو؟ بيِّن لي! قال: الجهالة، وقلَّة معرفة بالحقيقة؛ وذلك أنه يعدو تحت صاحبه الذي لم يَرَهُ قطُّ في الهرب مثل ما يعدو تحت صاحبه الذي وُلِد في داره وتربَّى في منزله في الطَّلَب، ويحمل عدوَّ صاحبه إليه في طلَبِه كما يحمل صاحبه في طلب عدوِّه، وما مثله في هذه الخصال إلا كمثل السيف الذي لا روح فيه ولا حس ولا شعور ولا معرفة، فإنه يقطع عنق صيقله كما يقطع عنق مَن أراد كسرَه وتعويجه وعيبه أنه لا يعرف الفرق بينهما.
ثم قال الأرنب: ومثل هذه الخصال موجودة في بني آدم، وذلك أن أحدهم ربما يُعادي والدَّيْه وصاحبَه وإخوانه وأقرباءه، ويكيدهم ويسيء إليهم مثل ما يفعله بالعدوِّ البعيد الذي لم يَرَ منه برًّا ولا إحسانًا قط، وذلك أن هؤلاء الإنس يشربون ألبان هذه الأنعام كما يشربون ألبان أمَّهاتهم، ويركبون ظهور هذه البهائم كما يركبون أكتاف آبائهم صغارًا، وينتفعون بأصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثًا ومتاعًا إلى حين، ثم آخِرَ الأمْرِ يذبحونها ويسلخونها، أو يشقون أجوافها ويقطعون مفاصلها ويذيقونها نار الطبخ والشَّيِّ، ولا يرحمونها ولا يذكرون إحسانها إليهم، وما نالوا من فضلها وبركتها.
فلما فرغ الأرنب من لَوْمه الإنس والخيل وما ذكر من عيوبهم، قال الحمار: لا تُكثِر من اللوم، فإنه ما من أحد من الخلق أُعطِيَ فضائل ومواهب جمَّة إلا وقد حُرم ما هو أكثر منها، وما من أحد حُرم مواهب إلا وقد أُعطِيَ شيئًا لم يُعطَه غيره؛ لأن مواهب الله كثيرة لا يستوفيها كلها شخص واحد، ولا نوع ولا جنس واحد؛ بل فُرِّقت على الخلق طرًّا، فمُكثِر ومُقِلٌّ، وما مِن شخص آثار الربوبية فيه أظْهَر إلا ورقُّ العبودية عليه أبْيَن، مثل ذلك نَيِّرا الفلك وهما الشمس والقمر، فإنهما لما أُعطِيا من مواهب الله حظًّا جزيلًا من النور والعظمة والظهور والجلالة حتى إنه ربما توهَّم قوم أنهما ربان إلهان لبيان آثار الربوبية فيهما حُرِما بدلَ ذلك التحرُّز من الكسوف ليكون دليلًا لأولي الألباب على أنهما لو كانا إلهين لما انكسفا، وهكذا حكم سائر الكواكب الفلكية لمَّا أُعطِيَت الأنوار الساطعة والأفلاك الدائرة والأعمار الطويلة، حرمت التحرُّز من الاحتراق والرجوع والهبوط لتكون آثار العبودية عليها ظاهرة، وهكذا حكم سائر الخلق من الجن والإنس والملائكة، فما منها أحد أُعطِيَ فضائل جمَّة ومواهب جزيلة إلا وقد حُرم ما هو أكبر وأجلُّ، وإنما الكمال لله الواحد القهار العزيز الغفار الشديد العقاب، ومن أجْل ما ذكرنا قيل:
ولستَ بمُسْتَبْقٍ أخًا لا تَلُمُّه
على شعثٍ أيُّ الرِّجالِ المُهَذَّبُ؟
فلما فرغ الحمار من كلامه تكلم الثور وقال: لكن ينبغي لمَن وفر حظُّه من مواهب الله — تعالى — أن يؤدِّي شكرَها، وهو أن يتصدَّق من فضل ما أُعطِي على مَن قد حُرم ولم يُرزَق منها شيئًا.
أما ترى الشمس لما وفر حظُّها جزيلًا من النور كيف تفيض من نورها على الخلق ولا تمُنُّ عليهم، وكذلك القمر والكواكب، كل واحد على قدره، وكان سبيل هؤلاء الإنس لما أعطوا من مواهب الله — تعالى — ما قد حُرم غيرهم من الحيوان أن يتصدَّقوا عليها ولا يمنون.
ولما فرغ الثور من كلامه ضجَّتِ البهائم والأنعام وقالت جميعًا: ارحمنا أيها الملك العادل الكريم، وخذْ بأيدينا وخلِّصْنا من جور هؤلاء الإنس الآدميين الظلمة، فالْتَفَتَ الملك عند ذلك إلى جماعة ممَّن حضر من حكماء الجن وعلمائهم فقال: ألا تسمعون شكاية هذه البهائم والأنعام وما يصفون من جور بني آدم عليها وظلمهم لها وتعدِّيهم عليها وقلة رحمتهم بها؟!
قالوا: قد سَمِعْنا كلَّ ما قالوا، وهو حقٌّ وصدق، ومُشاهَد منهم ليلًا ونهارًا لا يَخفَى على العقلاء ذلك، ومن أجْل ذلك هربتْ بنو الجان من بين أيديهم وظهرانَيْهِم إلى البراري والقفار والمفاوز والفلوات ورءوس الجبال والتلال وبطون الأودية وسواحل البحار لما رأَوْا من قبيح أفعالهم وسوء أعمالهم ورداءة أخلاقهم، وتركت أن تأوي ديار بني آدم، ومع هذه الخصال كلها لا يتخلَّصون من سوء ظنهم ورداءة أخلاقهم واعتقادهم في الجن، وذلك أنهم يقولون ويعتقدون أن للجن في الإنس نزغات وخبطات وفزعات في صبيانهم ونسائهم وجُهَّالهم، حتى إنهم يتعوَّذون من شر الجن بالتعاويذ والرُّقَى والأحراز والتمائم وما شاكلها، ولم يَرَوْا قط جنيًّا قتل إنسيًّا أو جرحه أو أخذ ثيابه أو سرق متاعه أو نقب داره أو فتق جيبه أو بتر كمَّه أو فشَّ قفل دكَّانه أو قطع على مسافر أو خرج على السلطان أو أغار غارة أو أخذ أسيرًا، وكل هذه الخصال توجد فيهم، ومنهم بعضًا لبعض ليلًا ونهارًا، ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون.
فلما فرغ القائل من كلامه نادى منادٍ: ألا أيها الملأ، أمسيتم! فانصرفوا إلى مساكنكم مكرمين، لتعودوا غدًا آمنين.
(٧) فصل في بيان منفعة المشاورة لذوي الرأي
ثم إن الملك لما قام من المجلس خلا بوزيره بيراز، وكان رجلًا عاقلًا رزينًا فيلسوفًا حكيمًا، فقال له الملك: قد شاهدتَ المجلس وسمعتَ ما جرى من هؤلاء الطوائف الوافدين من الكلام والأقاويل، وعلمتَ فيما جاءوا له، فبماذا تُشِير أن نفعل بهم؟ وما الرأي الصواب الذي عندك؟
قال الوزير: أيَّد الله الملك وسدَّده وهداه الرشاد، الرأي الصواب عندي أن يأمر الملك قُضاة الجن وفقهاءها وحكماءها وأهل الرأي أن يجتمعوا عنده ويستشيرهم في هذا الأمر، فإن هذه قصة عظيمة وخطب جليل وخصومة طويلة، والأمر فيها مُشكِل جدًّا، والرأي مشترك، والمشاورة تزيد ذوي الرأي الرصين بصيرة، وتُفيد المتحيِّر رشدًا، والحازم اللبيب معرفة ويقينًا.
فقال الملك: نِعْمَ ما رأيتَ، وصوابٌ ما قلت، ثم أمر الملك بعد ذلك بإحضار قضاة الجن من آل جرجيس والفقهاء من بني ناهيد، وأهل الرأي من بني بيران الحكيم، والحكماء من آل لقمان، وأهل التجارب من بني هامان، والحكام والفلاسفة من بني كيوان، وأهل الصرامة والعزيمة من آل بهرام، فلما اجتمعوا عنده خلا بهم، ثم قال لهم: قد علمتم وُرُود هذه الطوائف إلى بلادنا، ونزولهم بساحتنا، ورأيتم حضورهم مجلسنا، وسمعتم أقاويلهم ومناظراتهم وشكاية هذه البهائم الأسيرة من جور بني آدم، وقد استجاروا بنا واستذمُّوا بذمامنا، وتحرَّموا بطعامنا، فماذا ترون؟ وما الذي تشيرون أن نفعل بهم؟ قال رأس الفقهاء من أهل ناهيد: بسط الله يد الملك بالقدرة، ووفقه للصواب، أما الرأي عندي أن يأمر الملك هذه البهائم أن يكتبوا قصتهم، ويذكروا فيها ما يَلْقَوْن من جور بني آدم ويأخذون فيها فتاوى الفقهاء، فإن في هذا خلاصًا لهم ونجاة من الظلم، فإن القاضي سيحكم لهم إمَّا بالبيع أو بالعتق أو بالتخفيف والإحسان إليهم، فإن لم يفعل بنو آدم ما حكم به، وهربت هذه البهائم منهم، فلا وِزْرَ عليها، فقال الملك للجماعة: ماذا تَرَوْن فيما قال وأشار؟ فقالوا: صوابًا ورشادًا، ثم أشار غير صاحب العزيمة من آل بهرام، فإنه قال: أرأيتم إنِ استباعتْ هذه البهائم وأجابتْها بنو آدَم إلى ذلك، مَن ذا الذي يَزِن أثمانها؟ قال الفقيه: المَلِك، قال: مِن أين؟ قال: مِن بيت مال المسلمين من الجن، قال صاحب الرأي: ليس في بيت المال ما يَفِي بأثمان هذه البهائم، وخصلة أخرى: أن كثيرًا من بني آدم لا يرغبون في بيعها لشدة حاجتهم إليها واستغنائهم عن أثمانها؛ مثل الملوك والأشراف والأغنياء، وهذا أمر لا يتم، فلا تُتعِبوا أفكارَكم في هذا، فقال الملك: فما الرأي الصواب عندك؟ قل لنا. قال: الصواب عندي أن يأمر الملك هذه البهائم والأنعام الأسيرة في أيدي بني آدم أن تُجمِع رأيَها وتهرب كلها في ليلة واحدة، وتبعد من ديار بني آدم كما فعلت حُمُر الوحْش والغزلان والوحوش والسباع وغيرها، فإن بني آدم إذا أصبحوا لم يجدوا ما يركبون ولا ما تحمل أثقالهم امتنعوا عن طلبها لبُعْد المسافة ومشقَّة الطريق، فيكون هذا نجاةً لها وخلاصًا من جور بني آدم، فعزم الملك على هذا الرأي، ثم قال لمَن كان حاضرًا: ماذا تَرَوْن فيما قال وأشار؟ قال رئيس الحكماء من آل لقمان: هذا عندي أمرٌ لا يتم، فلا تُتعِبوا أنفسَكم، فهو بعيد المرام؛ لأن أكثر هذه البهائم لا تكون بالليل إلا مقيدة أو مُغلَّلة، والأبواب عليها مغلقة، فكيف يتسنَّى لها الهرب في ليلة واحدة؟!
قال صاحب العزيمة: يبعث الملك تلك الليلة قبائل الجن يفتحون لها الأبواب ويحلُّون عُقُلَها وأوثاقها، ويُخبِلون حرَّاسها إلى أن تبعد البهائم، واعلم أيها الملك بأن لك في هذا أجرًا عظيمًا، وقد محضتُ لك النصيحة لما أدركني من الرحمة لها، وإن الله — تعالى — لما علم من الملك حسن النية وصحة العزيمة، فإنه يُعينه ويؤيِّده وينصره إذا شكر نعمته بمعاونة المظلومين، وتخليص المكروبين، فإن في بعض كتب الأنبياء — عليهم السلام — مكتوبًا يقول الله عز وجل: أيها الملك، إنِّي لم أسلِّطْك لتجمع المال وتتمتع وتشتغل بالشهوات واللذات، ولكن لتردَّ عني دعوة المظلوم، فإني لا أردُّها ولو كانت من كافر، فعزم الملك إلى ما أشار به صاحب الرأي، ثم قال لمَن حوله من الحضور: ماذا تَرَوْن فيما قال؟ قالوا: محَّض النصيحة وبذل المجهود، فصدَّقوا رأيَه جميعًا غير حكيم من آل كيوان، فإنه قال: بصَّرك الله أيها الملك خفِيَّات الأمور، وكشف عن بصرك مشكلات الأسباب والدهور، إن في هذه الأسباب والعمل خَطْبًا جليلًا لا تؤمن غائلة عاقبته، ولا يُستدرَك إصلاح ما فات منه، ولا ما فرط، فقال الملك: عرِّفنا يا حكيم ما الرأي؟ وما الذي يُخاف ويُحذر؟ بيِّن لنا لنكون على علم وبصيرة، قال: نعم، أرأيتَ أيها الملك إن تمَّ ما أُشير به عليك من وجْه نجاة هذه البهائم من أيدي بني آدم وهربها من أيديهم، أليس بنو آدم من الغد يُصبِحون وقد رَأَوْا حادثًا عظيمًا من فرار هذه البهائم وهربها من ديارهم فيعلمون يقينًا بأن ذلك ليس من فعل البهائم ولا من تدبير الإنس، بل لا يشكُّون بأن ذلك من فعل الجن وحيلتهم! قال الملك: لا شك فيه، قال: أليس بعد ذلك كلما فكَّر بنو آدم فيما فاتها من المنافع والمرافق بهربها منهم امتلأت حزنًا وغيظًا وغمًّا وأسفًا على ما فاتها وحقدت على بني الجان عداوة وبغضًا، وأضمرت لهم حيلًا ومكائد ويطلبونهم كل مطلب، ويرصدونهم كل مرصد، ويقع بنو الجان عند ذلك في شغل وعداوة ووَجَل كانوا في غنًى عنه.
وقد قالت الحكماء: إن اللبيب العاقل هو الذي يُصلِح بين الأعداء، ولا يَجلِب إلى نفسه عداوة، ويجر المنافع إلى غيره ولا يضر نفسه، قالت الجماعة: صدق الحكيم الفيلسوف الفاضل، ثم قال القائل من الحكماء: ما الذي يُخاف ويُحذر من عداوة الإنس لبني الجان أيها الحكيم أنْ ينالوهم من المكاره، وقد علمتَ بأن الجان أرواح خفيفة نارية تتحرك علوًّا طبعًا، وبنو آدم أجساد أرضية ثقيلة تتحرك بالطبيعة سفلًا، ونحن نراهم ولا يَرَوْنا، ونسير فيهم ولا يُحِسُّون بنا، ونحن نُحيطهم وهم لا يمسوننا، فأي شيء يُخاف منهم علينا أيها الحكيم؟ فقال له الحكيم: هيهات، ذهب عنك عظامها، وخفي عليك أجسامها، أما علمتَ أن بني آدم وإن كانت لهم أجساد أرضية ثقيلة؛ فإن لهم أرواحًا فلكية ونفوسًا ناطقة ملكية بها يفضلون عليكم ويمتازون عنكم؟! واعلموا أن لكم فيما مضى من أخبار القرون الأولى معتبرًا ومختبرًا، وفيما جرى بين بني آدم وبين بني الجان في الدهور السالفة دليلًا واضحًا، فقال الملك: أخبرنا أيها الحكيم كيف كان؟ وحدِّثْنا بما جرى من الخطوب، وكيف تم ذلك؟
(٨) فصل في بيان العداوة بين بني الجان وبين بني آدم وكيف كانت
قال الحكيم: نعم، إنَّ بين بني آدم وبني الجان عداوة طبيعية، وعصبية جاهلية، وطباعًا متنافرة يطول شرحها، قال الملك: اذكرْ منها طرفًا، وابتدِئ من أوَّله، قال الحكيم: فاعلم أن بني الجان كانتْ في قديم الأيام والأزمان قبل آدم أبي البشر — عليه السلام — سكان الأرض وقاطنيها، وكانوا قد طبَّقوا الأرض برًّا وبحرًا، سهلًا وجبلًا، فطالَتْ أعمارُهم وكثرت النعمة لديهم، وكان فيهم المُلْك والنُّبُوَّة والدِّين والشريعة، فطَغَتْ وبَغَتْ وتركتْ وصية أنبيائها وأكثرتْ في الأرض الفساد، فضجَّتِ الأرض ومَن عليها من جورهم، فلما انقضى الدور واستؤنف القِرَان أرسل الله — تعالى — جندًا من الملائكة نزلت من السماء فسكنتِ الأرض، وطردتْ بني الجان إلى أطراف الأرض منهزمة، وأخذت سبيًا كثيرًا منها، وكان فيمن أُخذ أسيرًا عزازيل إبليس اللعين فرعون آدم، وهو إذ ذاك صبيٌّ لم يُدرِك.
فلما نشأ مع الملائكة تعلَّم من علمها وتشبَّه بها في ظاهر الأمر، وأخذ من رسومه وجوهره غير رسومها وجوهرها، ولما طالتِ الأيام صار رئيسًا فيها آمرًا ناهيًا متبوعًا حينًا ودهرًا من الزمان والدهر، فلما انقضى الدور واستؤنف القِرَان أوْحَى الله إلى أولئك الملائكة الذين كانوا في الأرض فقال لهم: إني جاعلٌ في الأرض خليفة من غيركم، وأرفعكم إلى السماء»، فكرهَتِ الملائكة الذين كانوا في الأرض مفارقة الوطن المألوف، وقالتْ في مراجعة الجواب: أتجعلُ فيها مَن يُفسِد فيها ويسفك الدماء كما كانت بنو الجان، ونحن نسبِّح بحمدك ونقدس لك؟! قال: «إني أعلم ما لا تعلمون؛ لأنِّي آلَيْتُ على نفسي أنْ لا أترك على وجه الأرض أحدًا من الملائكة، ولا من الإنس ولا من سائر الحيوان»، ولهذا اليمين سرٌّ قد بينَّاه في موضع آخَر، فلما خلق الله — تعالى — آدم وسوَّاه ونفخ فيه من روحه، وخلق زوجته حواء أمَرَ الملائكة الذين كانوا في الأرض بالطاعة، فانقادتْ لهما جميعًا ما عدا عزازيل، فإنه أنِفَ وتكبَّر وأخذتْه الحَمِيَّة حميَّة الجاهلية والحسد لما رأى أن رياسته قد زالتْ ويحتاج أن يكون تابعًا بعدما كان متبوعًا، ومرءوسًا بعدما كان رئيسًا، فأمر أولئك الملائكة أن يصعدوا بآدم عليه السلام فأدخلوه الجنة، وهي بستان من الشرق على رأس جبل الياقوت الذي لا يقدر أحد من البشر أن يصعد هنالك وهي طيبة التربة معتدلة الهواء شتاءً وصيفًا، ليلًا ونهارًا كثيرة الأنهار مخضرة الأشجار مفننة الثمار والفواكه والرياض والرياحين والأنهار والأزهار كثيرة الحيوانات غير المؤذية والطيور الطيبة الأصوات اللذيذة الألحان والنغمات، وكان على رأس آدم وحواء شعر طويل مدلًّى كأحسن ما يكون على الجواري والأبكار، يبلغ قدميهما ويستر عورتيهما، وكان دثارًا لهما وسترًا لهما وزينة وجمالًا، وكانا يمشيان على حافات تلك الأنهار، ويشمَّان من الرياحين والأزهار، ويأكلان من ثمار تلك الأشجار ويشربان من مياه تلك الأنهار بلا تعبٍ من الأبدان، ولا عناءٍ من النفوس، ولا مشقة من كدِّ الحرث والنسل والزرع والسقي والحصاد والدراس والطحن، والخبر والغزل والنسج والخياطة والغسل، وما اليوم أولادهما به مبتلَوْن من شقاوة أسباب المعاش في هذه الدنيا، وكان حكمهما في تلك الجنة حكم الحيوانات التي هناك مستودعين مستريحين متلذِّذين، وكان الله — تعالى — ألْهَمَ آدم أسماء تلك الأشجار والثمار والرياحين وأسماء تلك الحيوانات التي هناك.
فلما نطق آدم سأل الملائكة عنها، فلم يكن عندها جواب، فغدا عند ذلك آدم معلِّمًا يُعرِّفها أسماءها ومنافعها ومضارَّها، فانقادت الملائكة لأمره ونهيه لما تبيَّن لها فضله عليها.
ولمَّا علم عزازيل ذلك ازْداد بُغْضًا وحسدًا لهما بالمكر والخديعة والحِيَل والدغل والغِشِّ، ثم أتاهما بصورة الناصح فقال لهما: لقد فضَّلَكما ربكما بما أنعم به عليكما من الفصاحة والبيان، ولو أكلتما من هذه الشجرة، لازددتما علمًا وبقيتما ها هنا خالدين آمنين لا تموتان، فاغترَّا بقوله لمَّا حلف لهما: إني لكما لمن الناصحين، وحملهما الحِرصُ، فتسابقا وتناولا ما كان منهيَّيْن عنه.
فلما أكلا منها تناثرتْ شعورهما وانكشفتْ عوراتهما وبقيا عريانين، وأصابهما حر الشمس فاسودَّتْ أبدانهما وتغيَّرتْ ألوان وجوههما، ورأتِ الحيوان حالهما فأنكرتْهما ونفرَتْ منهما واستوحشَتْ من سوء حالهما، وأمر الله — تعالى — الملائكة أنْ أخرِجوهما من هناك، فرَمَوْهما إلى أسفل الجبل، فوقعا في برِّيَّة قفراء، لا نبت فيها ولا ثمر، وبقيا هناك زمانًا طويلًا يبكيان وينوحان حزنًا وأسفًا على ما فاتهما نادمين على ما كان منهما.
ثم إن رحمة الله — تعالى — تداركتْهما، فتاب الله — تعالى — عليهما، وأرسل ملكًا يعلِّمهما الحَرْث والزَّرْع والدِّرَاس والحَصَاد والطَّحْن والخَبْز والغَزْل والطَّبْخ والخياطة واتخاذ اللباس.
ثم لمَّا توالدا وتناسلا وكثرت ذريتهما خالَطَهم أولاد بني الجان، وعلَّموهم الصنائع والحرث والغرس والبنيان والمنافع والمضارَّ وصادقوهم، وتودَّدوا إليهم وعاشروهم مدة من الزمان بالحُسْنى، ولكن كلما ذكر بنو آدم ما جرى على أبيهم من كيد عزازيل وعداوته لهم امتلأتْ قلوب بني آدم غيظًا وحقدًا على بني الجان، فلما قتل قابيل هابيل اعتقدتْ أولاد هابيل بأن ذلك من تعليم بني الجان، فازدادوا غيظًا وعداوة، وطلبوهم كل مطلب واحتالوا عليهم بكل حيلة من العزائم والرُّقَى والمَنَادِل والدخن ودخان النفط والكبريت والحبس في القوارير والعذاب بألوان الدخان والبخارات المؤذية لأولاد بني الجان المنفِّرة لهم، المُشَتِّتة لأغراضهم، فكان ذلك دأبهم إلى أن بعث الله إدريس النبي — عليه السلام — وهو هرمس بلغة الحكماء، فأصلح بين بني الجان وبين أولاد آدم — عليه السلام — بالدِّين والشريعة والإسلام والملة وتراجعت بنو الجان إلى ديار بني آدم وخالطوهم وعاشوا فيها معهم بخير إلى أيام الطوفان، وبعد ذلك إلى أيام إبراهيم، فلما طُرح في النار اعتقد بنو آدم بأن تعليم المنجنيق كان من بني الجان لنمرود الجبار، فلما طرح إخوة يوسف — عليه السلام — أخاهم في الجُبِّ نُسب ذلك إلى نزغات الشيطان من أولاد الجان.
فلما بعث الله موسى — عليه السلام — أصلح بين بني الجان وبني إسرائيل بالدِّين والشريعة، ودخل كثير من الجن في دين موسى عليه السلام.
فلما كان أيام سليمان بن داود — عليهما السلام — شيَّد الله ملكه وسخَّر له الجن والشياطين، وغلب سليمان — عليه السلام — على ملوك الأرض، افتخرت الجن على الإنس بأن ذلك كان من معاونة الجن لسليمان وقالت: لولا معاونة الجن لسليمان كان حكمه حكم أحد ملوك بني آدم، وكانت الجن تُوهِم الإنس أنها تعلم الغيب.
فلما كان موت سليمان — عليه السلام — والجن في العذاب المُهِين لم تشعر بموته، فتبيَّن أنها لو كانتْ تعلم الغيب ما لبثوا في العذاب المهين.
وأيضًا لما جاء الهدهد بخبر بلقيس وقال سليمان — عليه السلام — ما قال للملأ من الجن والإنس: أيكم يأتيني بعرشها؟ افتخرتِ الجن، قال عفريتٌ من الجن وهو أضطر بن مايان من آل كيوان: أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك؛ أي مجلس الحكمة، قال سليمان: أريد أسرع من هذا، قال الذي عنده علم من الكتاب: «أنا آتيك به قبل أن يرتدَّ إليك طرفك»، وهو آصف بن برخيا.
فلما رآه مستقرًّا عنده خرَّ سليمان — عليه السلام — ساجدًا لله — تعالى — وتبيَّن فضْل الإنس على الجن، وانقضى المجلس وانصرفت الجن من المجلس من هناك خجلين منكِّسين رءوسهم وغوغاء الإنس يتغطغطون في أثرهم، ويستقفون أثرهم شامتين بهم.
فلما جرى ما ذكرتُه هربتْ طائفة من الجن من سليمان، وخرج عليهم خارج منهم، فوجَّه سليمان — عليه السلام — في طلبهم من جنوده، وعلَّمهم كيف يأخذونهم بالرُّقَى والعزائم والكلمات والآيات المنزَّلات، وكيف يحسبونهم بالمنادل، وعمل في ذلك كتابًا وُجد في خزانته بعد موته، وشغل سليمانُ — عليه السلام — طغاة الجن بالأعمال الشاقَّة إلى أن مات.
ثم لما بُعث المسيح — عليه السلام — دعي الخلق من الجن والإنس إلى الله — تعالى عزَّ وجلَّ — ورغَّبهم في لقائه، وبيَّن لهم طريق الهدى، وعلَّمهم كيف الصعود إلى ملكوت السموات، فدخل في دينه طوائف من الجن وترهَّبتْ وارتقتْ إلى هناك، واستمعتْ من الملأ الأعلى الأخبار، وألقتْ إلى الكهنة.
فلما بعث الله محمدًا — صلى الله عليه وآله — مُنعتْ من استراق السمع، وقالت: «لا ندري أشرٌّ أُريد بمَن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدًا؟» ودخلت قبائل من الجن في دينه وحسن إسلامُها وانصلح الأمر بين بني الجان وبين المسلمين من أولاد آدم — عليه السلام — إلى يومنا هذا.
ثم قال الحكيم: يا معشر الجن! لا تتعرَّضوا لهم ولا تفسدوا الحال بينكم وبينهم، ولا تحرِّكوا الأحقاد الساكنة، ولا تثيروا الأضغان الكامنة والبغضاء والعداوة القديمة المركوزة في الطباع، والجِبِلَّة، فإنها كالنار الكامنة في الأحجار تَظهَر عند احتكاكها، فتشتعل بالكباريت، فتحترق المنازل والأسواق، ونعوذ بالله من ظفر الأشرار ودولة الفُجَّار والعار والبوار، فلما سمع الملك والجماعة هذه القصة العجيبة أطرقتْ مفكِّرة فيما سمعتْ.
ثم قال الملك الحكيم: فما الرأي الصواب عندك في أمر هذه الطوائف الواردة المستجيرة بنا؟ وعلى أي حال نصرفهم من بلادنا راضين بالحكم الصواب؟
قال الحكيم: الرأي الصواب لا يسنح إلا بعد التثبُّت والتأنِّي بالفكْر والروِيَّة والاعتبار بالأمور الماضية، والرأي عندي أن يجلس الملك غدًا في مجلس النظر ويحضر الخصوم ويسمع عنهم ما يقولون من الحجة والبيان، ليتبيَّن له على مَن يتوجَّه الحُكْم، ثم يدبِّر الرأي بعد ذلك.
قال صاحب العزيمة: أرأيتم إنْ عجزتْ هذه البهائم عن مقاومة الإنس في الخطاب بقصورها عن الفصاحة والبيان، واستظهرت الإنس عليها بذرابة ألسنتها وجودة عبارتها وفصاحتها، أترى أن تبقَى هذه البهائم أسيرة في أيديهم ليسوموها سوء العذاب دائمًا؟ قال: لا، ولكن تَصِير هذه البهائم في الأسْر والعبودية إلى أن ينقضي دور القِرَان، ويُستَأْنَف نشوء آخَر، ويأتي الله لها بالفرج والخلاص كما نجَّى آل إسرائيل من عذاب فرعون، وكما نجَّى آل داود من عذاب بختَ نصر، وكما نجَّى آل حِمْيَر من عذاب آل تُبَّع، وكما نجَّى آل ساسان من عذاب اليونان، وكما نجَّى آل عمران من عذاب أزدشير.
فإن أيام هذه الدنيا دُوَل بين أهلها، تدور بإذن الله — تعالى — وسابِق علمه ونفاذ مشيئته بموجبات أحكام القرانات والأدوار في كل ألف سنة مرة، أو في كل اثنتي عشر ألف سنة مرة، أو في كل ستة وثلاثين ألف سنة مرة، أو في كل ثلاثمائة ألف وستين ألف سنة مرة، أو في كل يوم مقداره خمسين ألف سنة مرة، فاعلم جميع ذلك.
من الجسمانيات الطبيعيات في كيفية تكوين الحيوانات وأصنافها
بسم الله الرحمن الرحيم
الْحَمْدُ لِلهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ
(١) فصل
اعلم أيها الأخ البار الرحيم — أيَّدك الله وإيَّانا برُوح منه — أنه لما فرغنا من ذكْر النباتات، وبيَّنَّا طرفًا من كيفية تكوينها ونشوئها ونموها وكمية أجناسها وفنون أنواعها، وخواص طباعها ومنافعها ومضارها في رسالة لنا وبيَّنَّا فيها أيضًا بأن أول مرتبة النبات متصلة بآخر مرتبة الجواهر المعدنية، وأن آخرها متصل بأول مرتبة الحيوان، فنريد أن نذكر في هذه الرسالة أيضًا طرفًا من كيفية تكوين الحيوانات وبدء كونها ونشوئها ونمائها وكمية أجناسها وفنون أنواعها وخواص طباعها واختلاف أخلاقها، ونبيِّن أيضًا بأنَّ آخِر مرتبة الحيوان متصل بأول مرتبة الإنسان، وآخِر مرتبة الإنسان متصل بأول مرتبة الملائكة الذين هم سكان الهواء والأفلاك وأطباق السموات ليكون في ذلك بيان، ودليل لمَن كان له قلب صافٍ ونفس زكية وعقل راجح على كيفية ترتيب الموجودات ونظام الكائنات عن علة واحدة ومبدأ واحد، وأنها كترتيب العدد عن الواحد الذي قبل الاثنين، ونبيِّن أيضًا بأن نسبة صورة الإنسانية إلى صور سائر الحيوانات كنسبة الرأس من الجسد ونفسه كالسائس وأنفسها كالمسوس.
وقد بيَّنَّا في رسالة الأخلاق بأن صورة الإنسانية هي خليفة الله في أرضه، وبيَّنَّا فيها أيضًا كيف ينبغي أن تكون سيرة كل إنسان حتى يستأهل أن يكون من أولياء الله ويستحق الكرامة منه، وبيَّنَّا أيضًا في أكثر رسائلنا فضيلة الإنسان وخصاله المحمودة وأخلاقه المرضية ومعالمه الحقيقية وصنائعه الحكمية وتدابيره المرضية وسياسته الربانية، ونريد أن نذكر في هذه الرسالة طرفًا من فضائل الحيوانات وخصالها المحمودة وطبائعها المرضية وشمائلها السليمة، ونبيِّن أيضًا طرفًا من طغيان الإنسان وبغيه وتعدِّيه على ما سواه ممَّا سُخِّر له من الأنعام والحيوانات أجمع، وكفرانه النِّعَم وغفلته عمَّا يجب عليه من أداء الشكر، وأن الإنسان إذا كان فاضلًا خيِّرًا فهو مَلَك كريم خير البرية، وإن كان شرِّيرًا فهو شيطان رجيم شر البرية، وجعلنا بيان ذلك على ألسنة الحيوانات؛ ليكون أبلغ في المواعظ وأبْيَن في الخطاب وأعجب في الحكايات وأظرف في المسامع وأطرف في المنافع وأغوص في الأفكار وأحسن في الاعتبار.
فصل
واعلم أيها الأخ — أيَّدك الله وإيَّانا برُوح منه — بأن الجواهر المعدنية هي في أدون مراتب المولدات من الكائنات، وهي كل جسم متكوِّن منعقِد من أجزاء الأركان الأربعة التي هي النار والهواء والماء والأرض، وأن النبات يُشارك الجواهر في كونها من الأركان ويزيد عليها وينفصل منها بأنه كل جسم يتغذَّى من الأركان وينمو ويزيد في أقطارها الثلاثة طولًا وعرضًا وعمقًا، وأن الحيوان أيضًا يُشارك النبات في الغذاء والنمو، ويزيد عليه وينفصل عنه بأنه جسم متحرك حساس، والإنسان يشارك النبات والحيوان في أوصافها ويزيد عليها وينفصل عنها بأنه ناطق مميِّز جامع لهذه الأوصاف كلها.
فصل
ثم اعلم يا أخي بأن النبات متقدِّم الكون والوجود على الحيوان بالزمان؛ لأنه مادة لها كلها وهَيُولَى لصورها وغذاء لأجسادها، وهو كالوالدة للحيوان — أعني النبات — وذلك أنه يمتص رطوبات الماء ولطائف أجزاء الأرض بعروقه إلى أصوله، ثم يُحيلها إلى ذاته ويجعل من فضائل تلك المواد ورقًا وثمارًا وحبوبًا نضيجًا ويتناول الحيوان غذاءً صافيًا هنيئًا مريئًا كما تفعل الوالدة بالولد فإنها تأكل الطعام نضيجًا ونِيئًا وتُناوِل ولدَها لبنًا خالصًا سائغًا للشاربين، فلو لم يكن النبات يفعل ذلك من الأركان لكان يحتاج الحيوان إلى أن يتغذَّى من الطين صرفًا، ومن التراب سفًّا، ويكون منغَّصًا في غذائه وملاذِّه، فانظر يا أخي — أيَّدك الله وإيَّانا برُوح منه — إلى معرفة حكمة الباري — جلَّ ثناؤه — كيف جعل النبات واسطة بين الحيوان وبين الأركان حتى يتناول بعروقه لطائف الأركان وعصاراتها ويهضمها وينضجها ويصفِّيها ويُناوِل الحيوان من لطائف لبابها وحبوبها وقشورها وورقها وثمارها وصموغها ونَوْرها وأزهارها لطفًا من الله — تعالى — بخلْقه وعناية منه ببريَّتِه، فتبارك الله أحسن الخالقين، وأحكم الحاكمين، وأرحم الراحمين.
فصل
ثم اعلم يا أخي — أيَّدك الله وإيَّانا برُوح منه — بأن من الحيوان ما هو تام الخلقة كامل الصورة، كالتي تَنْزُو وتَحبَل وتَلِد وتُرضِع، ومنها ما هو ناقص الخلقة، كالتي يتكوَّن من العفونات، ومنها ما هو كالحشرات والهوامِّ بين ذلك كالتي تنفذ وتبيض وتحضن وتربِّي.
ثم اعلم بأن الحيوانات الناقصة الخِلْقة متقدِّمة الوجود على التامة الخلقة بالزمان في بدء الخلق؛ وذلك أنها تتكون في زمان قصير، والتي هي تامة الخلقة تتكون في زمان طويل لأسباب وعلل يطول شرحها، وقد ذكرنا طرفًا منها في رسالة مسقط النطفة ورسالة الأفعال الروحانية، ونقول أيضًا إن حيوان الماء وجوده قبل وجود حيوان البر بزمان؛ لأن الماء قبل التراب، والبحر قبل البَرِّ في بدء الخلق.
فصل
واعلم يا أخي بأن الحيوانات التامة الخِلْقة كلها كان بدء كونها من الطين أولًا من ذكر وأنثى، توالدت وتناسلت وانتشرت في الأرض سهلًا وجبلًا وبرًّا وبحرًا من تحت خط الاستواء حيث يكون الليل والنهار متساويين والزمان أبدًا معتدلًا هناك بين الحر والبرد والمواد المتهيئة لقبول الصورة موجودة دائمًا، وهناك أيضًا تكوَّن أبونا آدم أبو البشر وزوجته، ثم توالد وتناسلت أولادهما وامتلأت الأرض منهم سهلًا وجبلًا وبرًّا أو بحرًا إلى يومنا هذا.
ثم اعلم يا أخي بأن الحيوانات كلها متقدِّمة الوجود على الإنسان بالزمان؛ لأنها له ولأجله، وكل شيء هو من أجْل شيء آخر فهو متقدِّم الوجود عليه، هذه الحكمة في أولية العقل لا تحتاج إلى دليل من المقدمات ونتائجها؛ لأنه لو لم يتقدَّم وجود هذه الحيوانات على وجود الإنسان لما كان للإنسان عيش هنيء ولا مروَّة كاملة، ولا نعمة سائغة؛ بل كان يعيش عيشًا نكدًا فقيرًا بائسًا بسوء الحال كما سنبيِّن بعد هذا في فصل آخَر عند فراغ زعيم أهل المدن من خطابهم وكيفية أحوالهم كيف تكون عند فقدان الحيوانات.
فصل
واعلم يا أخي — أيَّدك الله وإيَّانا برُوح منه — بأن صور النبات منكوسة الانتصاب إلى أسفل؛ لأن رءوسها نحو مركز الأرض ومؤخرها نحو محيط الأفلاك، والإنسان بالعكس من ذلك؛ لأن رأسه مما يلي الفلك ورجليه مما يلي مركز الأرض في أي موضع وقف على بسيطها شرقًا وغربًا وجنوبًا وشمالًا من الجوانب كلها، ومن هذا الجانب ومن ذلك الجانب والحيوانات متوسِّطة بين ذلك لا منكوسة كالنبات ولا منتصبة كالإنسان، بل رءوسها إلى الآفاق ومؤخَّرها إلى ما يُقابله من الأفق الآخر، كيفما دارتْ وتصرفت في جميع أحوالها، وهذا الوضْع والترتيب الذي ذكرنا من أمرِ النبات والحيوانات والإنسان أمر إلهي بواجب الحكمة الإلهية والعناية الربانية ليكون في ذلك دلالة وبيان لأولي الأبصار والناظرين في أسرار الخِلْقة والباحثين عن حقائق الأشياء والمعتبرين بما في الأرض من الآيات والعلامات والدلالات بأن قُوَى النفس الكلية المنبثَّة في العالَم من أعلى فلك المحيط إلى منتهى مركز الأرض بعضها منتصب نحو المركز، وبعضها منصرف إلى المركز المحيط، وبعضها منبثٌّ متوجِّه نحو الآفاق على المركز، في كل فجٍّ منها جنود الله منصرفين لحفظ العالم وتدبير الخلائق والسياسة الكلية ومآرب أخرى لا يعرف كنه معرفتها أحد إلا الله عزَّ وجلَّ.
وقد بيَّنَّا في رسالة لنا بأن قوى النفس الكلية أول ما تبتدئ تسري في قعر الأجسام من أعلى سطح فلك المحيط إلى نحو مركز الأرض، فإذا سَرَتْ في الأفلاك والكواكب والأركان والمولدات، وبلغتْ إلى مركز الأرض من أقصى مدى غايتها ومنتهى نهاياتها عطفتْ عند ذلك راجعة نحو المحيط وهو المعراج والبعث والقيامة الكبرى.
فانظر الآن يا أخي — أيَّدك الله وإيَّانا برُوح منه — كيف يكون انصراف نفسك من هذا العالم إلى هناك، فإنها هي إحدى تلك القوى المنبثَّة من النفس الكلية السارية في العالم، وقد بلغتْ إلى المركز وانصرفتْ ونَجَتْ من الكون في المعادن أو في النبات أو في الحيوان، وقد جاوزتِ الصراط المنكوس والصراط المقوس، وهي الآن على صراط مستقيم آخِر درجات جهنم، وهي الصورة الإنسانية، فإن جاوزتْ وسلمتْ من هذه دخلت الجنة في أحد أبوابها، وهي الصورة الملكية التي تكسبها بأعمالك الصالحة وأخلاقك الجميلة وآرائك الصحيحة ومعارفك الحقيقية وبحسن اختيارك، فاجتهد يا أخي قبل الفوت وفناء العمر وتقارب الأجل، واركب مع إخوانك في سفينة النجاة يرحمك الله برحمته، ولا تكن مع المغرقين وإخوان الشياطين.
فصل
واعلم يا أخي بأن الحيوان هو جسم متحرِّك حساس يتغذَّى وينمو ويحس ويتحرك حركة مكان وأن من الحيوان ما هو في أشرف المراتب مما يلي رتبة الإنسانية، وهو ما كانت له الحواس الخمس والتمييز الدقيق وقبول التعليم، ومنه ما هو في أدون رتبة مما يلي النبات، وهو كل حيوان ليس له إلا حاسة اللمس حسب، كالأصداف وما كان كأجناس الديدان كلها، تتكوَّن في الطين أو في الماء أو في الخلِّ أو في الثلج أو في لبِّ الثَّمَر أو في الحبِّ أو لبِّ النبات والشجر أو في أجواف الحيوانات الكبار الجثة وما أشبهها.
وهذا النوع من الحيوانات أجسامه لحمية وبدنه متخلخل وجلده رقيق، وهو يمتص المادة بجميع بدنه بالقوة الجاذبة، ويحس اللمس، وليس له حاسة أخرى لا الذوق ولا الشم ولا السمع ولا البصر غير اللمس وحسب، وهو سريع التكوُّن وسريع الهلاك والفساد والبِلَى، ومنها ما هو أتمُّ بنية وأكمل صورة، وهو كل دودة تتكوَّن وتدبُّ على ورق الشجر والنبات ونَوْرها وزهرها، ولها ذوق ولمس، ومنها ما هو أتم وأكمل وهو كل حيوان له لمس وذوق وشم وليس له سمع ولا بصر، وهي الحيوانات التي تعيش في قعر البحار والمياه والمواضع المُظلِمة، ومنها ما هو أتم وأكمل وهو كل حيوان من الهوامِّ والحشرات التي تدبُّ في المواضع المُظلِمة، له لمس وذوق وسمع وشم، وليس له بصر مثل الحلمة، فباللمس قوام جثته وبالذوق يميِّز الغذاء من غيره، وبالشم يعرف مواضع الغذاء والقوت، وبالسمع يعرف وطأ المؤذيات له، فيحترَّز قبل الورود والهجوم عليه، ولم يجعل له البصر؛ لأنه يعيش في المواضع المظلمة، ولا يحتاج إلى البصر ولو كان له بصر لكان ذلك وبالًا عليه من حفظه، ففي إغماض العين من القذي ضرورة؛ لأن الحكمة الإلهية لم تُعطِ الحيوان عضوًا ولا حاسة لا يحتاج إليها، ولا ينتفع بها، ومنه ما هو أتم بنية وأكمل صورة وهو ما له خمس حواس كاملة، وهي اللمس والذوق والشم والسمع والبصر ثم يتفاضل في الجودة والدون.
فصل
ومن الحيوانات ما يتدحرج كدودة الثلج، ومنها ما يزحف كدودة الصدف، ومنها ما ينساب كالحية، ومنها ما يدبُّ كالعقارب، ومنها ما يعدو كالفأر، ومنها ما يطير كالذباب والبقِّ، ومما يدبُّ ويمشي ما له رجلان، ومنها ما له أربع أرجل، ومنها ما له ست أرجل، ومنها ما له أكثر كالدخال، ومما يطير من الحشرات ما له جناحان، ومنها ما له أربعة أجنحة، ومنها ما له ست أرجل وأربعة أجنحة ومشفر ومخالب وقرون كالجراد، ومنها ما له خرطوم كالبقِّ والذباب، ومنها ما له مشفر وحُمَة كالزنابير، ومن الهوام والحشرات ما له فِكْر وروية وتمييز وتدبير وسياسة مثل النمل والنحل، يجتمع جماعة منهم ويتعاونون على أمر المعيشة واتخاذ المنازل والبيوت والقُرَى وجمع الذخائر والقُوت للشتاء، ويعيش حولًا وربما زاد، وما كان غير هذين من الهوامِّ والحشرات مثل البقِّ والبراغيث والذباب والجراد وما شاكلها فإنها لا تعيش حولًا كاملًا؛ لأنه يُهلِكها الحرُّ والبرد المفرطان، ثم يتكون في العام القابل مثلها.
فصل
ومن الحيوان ما هو أتم بنية مما ذكرنا، وأكمل صورة منها، وهو كل حيوان بدنه مؤلَّف من أعضاء مختلفة الأشكال، وكل عضو مركب من عدة قطعات من العظام، وكل قطعة منها مفننة الهيئات من الطول والقصر والدقة والغلظ والاستقامة والاعوجاج، ومؤلَّفة كلها بمفاصل مهندمة التركيب مشدودة الأعصاب والرباطات، محشوة الخلل باللحم، منسوجة بالعروق، محصنة بالجلدة، مغطاة بالشعر والوبر والصوف والريش أو الصَّدَف أو الفلوس، وفي باطن أجسادها أعضاء رئيسية كالدماغ والرئة والقلب والكبد والطحال والكليتين والمثانة والأمعاء والمصارين والأوراد والمعدة والكرش والحوصلة والقانصة وما شاكلها.
وفي ظاهر البدن أرجل وأيد وأجنحة وذنب ومخالب ومناقير وحافر وظلف وخفٌّ وما شاكلها، كل ذلك لمآرب وخصال عدة ومنافع جمَّة، لا يعلمها إلا الذي خلقها وصوَّرها وأنشأها وأتمَّها وأكملها وبلَّغها إلى أقصى غاياتها وتمام نهاياتها.
وهذه كلها أوصاف الأنعام والبهائم والسباع والوحوش والطيور والجوارح وبعض حيوان الماء وبعض الهوام كالحيات، والأنعام وهو كل ما له ظلف مشقوق.
والبهائم ما كان لها حافر، والسباع ما كان لها أنياب ومخالب، الوحوش ما كان مركبًا بين ذلك.
والطيور ما كان لها أجنحة وريش ومنقار، والجوارح ما كان لها أجنحة ومنقار مقوس ومخالب معقفة معقربة.
وحيوان الماء ما يُقيم فيه ويعيش، والحشرات ما يطير وليس لها ريش، والهوام ما يدبُّ على رجلين أو أربعة أو يزحف أو ينساب على بطنه أو يتدحرج على جنبيه.
فصل
ثم اعلم يا أخي — أيَّدك الله وإيَّانا برُوح منه — بأن الحيوانات الكبيرة الجثة العظيمة البنية التي لها عظام كبار وجلود ثخان وأعصاب غلاظ وعروق واسعة وأعضاء كبيرة مثل الفيل والجمل والجاموس، وغيرها تحتاج أن تمكث في الرحم زمانًا طويلًا إلى أن تَلِد لعلَّتين اثنتين؛ إحداهما: كيما تجتمع في الرحم تلك المواد التي تحتاج إليها الطبيعة في تتميم البنية وتكميل الصورة.
والعلة الأخرى: كيما تدور الشمس في الفلك وتقطع البروج المثلثات المشاكلات الطباع وتحط من هناك قوى روحانيات الكواكب إلى عالم الكون والفساد التي تحتاج إليها في تتميم قوى النفس النامية النباتية وقوى النفس الحيوانية الحاسة ليَقبَل مِن كل جنس من الكائنات المولَّدات ما له أن يَقبَل مِن تلك القُوَى، كما بيَّنَّا طرفًا من ذلك في رسالة مسقط النطفة.
ثم اعلم يا أخي — أيَّدك الله وإيَّانا برُوح منه — بأن الحيوانات التامة الخلقة الكبيرة الجثة العظيمة الصورة كلها كُوِّنتْ في بدء الخلق ذكرًا وأنثى من الطين تحت خط الاستواء؛ حيث يكون الليل والنهار هناك متساويين، والحر والبرد معتدلين، والمواضع الكنينة من تصاريف الرياح موجودة هناك، والمواد كثيرة متهيئة لقبول الصورة.
ولمَّا لم يكن في الأرض مواضع موجودة بهذه الأوصاف جُعلتْ أرحام إناث هذه الحيوانات على هذه الأوصاف من اعتدال الطباع لكيما إذا انتشرتْ في الأرض تناسلتْ وتوالدتْ حيث كانوا، وأكثر الناس يتعجَّبون من كون الحيوانات من الطين ولا يتعجبون من كونها في الرَّحِم من ماء مهين، وهي أعجب في الخلقة، وأعظم في القدرة؛ لأن من الناس مَن يَقدِر أن يصوِّر حيوانًا من الطين أو من الخشب أو من الحديد أو من النحاس كما هي موجودة مشاهدة في أيدي الناس من خلقة الأصنام.
ولا يمكن لأحد أن يصوِّر حيوانًا من الماء؛ لأن الماء جسم سيَّال لا تتماسك فيه الصورة، فتكون هذه الحيوانات في الأرحام أو في البيض من ماء مهين أعجب في الخلقة، وأعظم في القدرة من كونها من الطين.
وأيضًا إن أكثر الناس يتعجبون من خِلْقة الفيل أكثر من خِلْقة البقَّة، وهي أعجب خلقة وأظرف صورة؛ لأن الفيل من كبر جثته له أربع أرجل وخرطوم ونابان خارجيان، والبقة مع صغر جثتها لها ست أرجل وخرطوم وأربعة أجنحة وذنب وفم وحلقوم وجوف ومصارين وأمعاء وأعضاء أخرى لا يُدرِكها البصر، وهي مع صِغَر جثَّتها مسلَّطة على الفيل بالأذيَّة، ولا يقدر عليها، ولا يمتنع بالتحرُّز منها، وأيضًا فإن الصانع البشري يقدر على أن يصوِّر فيلًا من الخشب أو من الحديد أو من غيرها بكماله ولا يقدر أحدٌ من الصناع أن يصور بقَّة لا من الخشب ولا من الحديد بكمالها.
وأيضًا فإن كون الإنسان من النطفة بديئًا، ثم في الرحم جنينًا، ثم في المهد رضيعًا، ثم في المكتب صبيًّا، ثم في تصاريف أمور الدنيا رجلًا حكيمًا أعجب أحوالًا وأعظم اقتدارًا من كونه يُبعَث من تراب قبره يوم القيامة وخروج الناس كأنهم جراد منتشر.
وهكذا أيضًا مشاهدة خروج عشرين فرخة من تحت حضن دجاجة واحدة أو ثلاث دراجات من تحت حضن دراجة واحدة ينفضُّ عنها قشور بيضها في ساعة واحدة وعَدْو كل واحدة في طلب الحَبِّ وفرارها وهربها من الطالب لها، حتى ربما لا يقدر عليها أعجب من خروج الناس من قبورهم يوم القيامة، فما الذي منع المنكرين من الإقرار بذلك، وهم يشاهدون مثل هذه التي أعجب هي منها وأعظم في القدرة لولا جريان العادة بها.
فصل
اعلم يا أخي — أيَّدك الله وإيَّانا برُوح منه — بأن مشاهدة جريان الأمور دائمًا إذا صارت عادة قلَّ تعجب الناس منها والفكر فيها، والاعتبار لها ويعرض لهم من ذلك سهو وغفلة ونوم النفس وموت الجهالة.
فاحذر من هذا الباب يا أخي، ولا تكن من الغافلين، وكن من الذين ذكرهم الله في كتابه ومدحهم بقوله: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، وذمَّ الذين بخلافهم بقوله: وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ.
فصل
واعلم يا أخي — أيَّدك الله وإيَّانا برُوح منه — بأن أبدان الحيوانات التامة الخلقة والناقصة الخلقة جميعًا مؤلَّفة ومركبة من أعضاء مختلفة الأشكال والمفاصل مفننة الهيئات كالرأس واليد والرِّجْل والظهر والبطن والقلب والكبد والرئة وغيرها، كل ذلك لأسبابٍ وعلل وأغراض لا يعلم كنه معرفتها إلا الله الذي خلقها وصوَّرها كما شاء وكيف شاء.
ولكن نذكر منها طرفًا ليتبيَّن صحة ما قلنا وحقيقة ما وصفنا؛ وذلك أنه ما من عضو في أبدان الحيوانات صغيرًا كان أو كبيرًا إلا وهو خادم لعضو آخر ومعين له، إما في بقائه وتتميمه أو في أفعاله ومنافعه، مثال ذلك الدماغ في بدن الإنسان، فإنه مَلِك الجسد ومَنشَأ الحواس ومعدن الفكْر وبيت الرويَّة وخزانة الحفظ ومسكن النفس ومجلس محل العقل.
وإن القلب خادم للدماغ ومعينه في أفعاله، وإن كان هو أمير الجسد ومدبِّر البدن ومنشأ العروق الضوارب وينبوع الحرارة الغريزية، وخادم القلب ومعينه في أفعاله ثلاثة أعضاء أخرى وهي الكبد والعروق الضوارب والرئة.
وهكذا حكم الكبد بيت الشراب يخدمه ويُعينه في أفعاله خمسة أعضاء أخرى، وهي المعدة والأوراد والطحال والمرارة والكليتان.
وهكذا أيضًا حكم الرئة بيت الريح يخدمها ويُعينها في أفعالها أربعة أعضاء أخرى وهي الصدر والحجاب والحلقوم والمنخران؛ وذلك أن من المنخرين يُدخل الهواء المستنشق إلى الحلقوم، ويعتدل فيه مزاجه، ويصل إلى الرئة، ويتصفَّى فيها ثم يدخل إلى القلب ويروح الحرارة الغريزية هناك وينفذ من القلب إلى العروق الضوارب، ويبلغ إلى سائر أطراف البدن الذي يسمَّى النبض، ويخرج من القلب الهواء المحترق إلى الرئة، ومن الرئة إلى الحلقوم، ومن الحلقوم إلى المنخرين، أو إلى الفم، والصدر يخدم الرئة في فتحه لها عند استنشاق الهواء وضمِّه إياها عند خروج النفس، والحجب تحفظ الرئة من الآفات العارضة لها عند الصدمات والدفعات واضطراب أحوال البدن.
وهكذا حكم الكبد تخدمه المعدة بإنضاج الكيموس قبل وصوله إليه، وتخدمه الأوراد بمصِّها وإيصالها إليه بحال يجذب عكر الكيموس من الأخلاط الغليظة المحترقة منها إلى نفسها، وتخدمه المرارة بجذب المرة الصفراء إلى نفسها وتصفية الدم منها، وتخدمه الكليتان بجذب الرطوبة الرقيقة اللينة منها إلى نفسها، وهو الذي يكون منه البول، وتخدمه العروق المجوفة بجذب الدم إليها وإيصاله إلى سائر أطراف الجسد الذي هو مادة لجميع أجزاء البدن.
وهكذا يخدم المريء والأسنان والفم المعدة؛ وذلك أن الفم هو باب الجسد الذي يدخل منه الطعام والشراب إلى عمق الجسد، والأسنان تخدمها بالطحن أو الدقِّ، والمريء يَزْدَرِد ويبْلَع ويوصلها إلى المعدة، والأمعاء تجذب الثقل وتخرجه من الجسد.
وعلى هذا المثال والقياس ما من عضو في بدن الحيوان إلا وهو يخدم البدن في أفعاله ويخدمه عضو آخر ويُعينه في أفعاله، والغرض الأقصى منها كلها هو بقاء الشخص وتتميمه وتبليغه إلى أكمل حالاته، إما بذاته أو ببقاء نسله أطول ما يمكن في جنس جنس، ونوع نوع، وشخص شخص.
فصل
واعلم يا أخي — أيَّدك الله وإيَّانا برُوح منه — بأن من الحيوانات ما هو أخرس لا منطق له ولا صوت كالسرطان والسلاحف والسمك، وبالجملة أكثر حيوان الماء إلا القليل منها مثل الضفدع والراديا، ومنها ما له صوت، وهو كل حيوان يستنشق الهواء ويُسمَع له دويٌّ وزَمْر كالبقِّ والذباب والزنابير والصراصير والجراد وما شاكلها، ويكون ذلك من تحريك أجنحتها.
واعلم بأن أصوات الحيوانات المتنفسة متفننة كثيرة الاختلاف من الطول والقصر والغلظ والعظم والصغر والجهير والخفيف وفنون الطنين والزمير والألحان والنغم، كل ذلك بحسب طول أعناقها وقصرها وسعة مناخيرها وحلاقيمها وضيقها وصفاء طبائعها وغلظها وشدة قوة استنشاقها الهواء وإرسالها وتعديل أنفاسها بعد ترويح الحرارة الغريزية التي في قلوبها أو في عمق أجسادها.
والعلة في أن حيوانات الماء أكثرها لا أصوات لها؛ لأنها لا رئات لها، ولا تستنشق الهواء، ولم يجعل لها ذلك؛ لأنها لا تحتاج إليها؛ وذلك أن الحكمة الإلهية والعناية الربانية جعلتْ لكل حيوان من الأعضاء والمفاصل والعروق والأعصاب والغشاوات والأوعية بحسب حاجته إليه في جر المنفعة أو دفع المضرة في بقاء شخصها وتتميمه وتكميله وبلوغه إلى أقصى مدى غاياته، ولسبب بقاء نسلها من آلات السفاد واللقاح وتربية الأولاد، وكل حيوان هو أتم بنية وأكمل صورة فهو أكثر حاجة إلى أعضاء كثيرة وآلات مختلفة وأدوات مُعِينة في بقاء شخصه ونتاج نسله، وكل حيوان أنقص بنية وأدون صورة، فهو أقل حاجة إلى أعضاء مختلفة وأدوات مفننة في بقاء شخصه ودوام نسله.
بيان ذلك أن الحيوانات ثلاثة أنواع: فمنها ما هو أتم وأكمل، وهو كل حيوان ينزو ويَحبَل ويُرضِع ويُربِّي الأولاد، ومنها ما دون ذلك وهو كل حيوان يسفد ويبيض ويفرخ، ومنها دون ذلك وهو كل حيوان لا يسفد ولا يبيض ولا يلد، بل يتكون في العفونات ولا يعيش سنة كاملة؛ لأن الحر والبرد المفرطين يُهلِكانِها؛ لأن أجسادها متخلخلة مفتحة المسامِّ، وليس لها جلد ثخين ولا صوف ولا شعر ولا وبر ولا صدف ولا عظام ولا عصب ولا فلوس، فهي لا تحتاج إلى الرئة ولا الطحال ولا المرارة ولا الكلى ولا المثانة ولا استنشاق الهواء لترويح الحرارة الغريزية، إذ كان نسيم الهواء يتصل إلى عمق أبدانها لصغر جثتها وفتح مسامِّها ويحفظ الحرارة الغريزية التي في مزاج أبدانها وتركيب طبائعها.
وأما الحيوانات الكبيرة الجثة، العظيمة البنية، التي عليها جلود ثخان، ولحوم كثيرة، وغشاوات وعروق وأعصاب وعظام مصمتة ومجوفة، وأضلاع ومصارين وأمعاء وكروش ومعدة وقلب ورئة وطحال وكليتان ومثانة وقحف الرأس والشعر والوبر والصوف والريش والصدف وما شاكلها، مما يمنع وصول نسيم الهواء إلى عمق أبدانها وترويح الحرارة الغريزية فيها، فقد جعل لبعضها رئة وحلقوم ومجارٍ للنفس لكيما يصل نسيم الهواء إلى عمق أبدانها ومحابس قعر أجسادها، ويروِّح الحرارة الغريزية فيها ويحفظ الحياة عليها إلى وقت معلوم، فهذا الذي ذكرناه هو حكم الحيوانات التامة الخِلْقة الكاملة الصورة، التي تستنشق الهواء وتتنفس منه وتعيش فيه.
وأما أجناس الحيوانات التي تعيش في المياه ولا تخرج منها فإنها لا تحتاج إلى استنشاق الهواء ولا التنفس منه؛ لأن البارئ الحكيم — جلَّ ثناؤه — لمَّا خلقها في الماء وجعل حياتها منه وفيه جعلها على طبيعة واحدة، وهي طبيعة الماء، وركَّب أبدانَها تركيبًا يصل برد الماء ورطوبته إلى قعر أبدانها وعمق أجسادها، وتروح الحرارة الغريزية التي في طباع تركيبها وتنوب عن استنشاقها الهواء وتنفسها منه، وجعل لكل نوع منها أعضاء مشاكِلة لبدنه ومفاصل مناسبة لجثته، وجعل على أبدانها من أنواع الصدف وفنون الفلوس وما شاكلها لباسًا لها ودثارًا من الحر والبرد وغطاء ووطاء ووقاية لها من الآفات العارضة، وجعل لبعضها أجنحة وأذنابًا تسبح بها في الماء مثل الطيور في الهواء، وجعل بعضها آكِلًا، وبعضها مأكولًا، وجعل نسل مأكولها أكثر عددًا من نسل آكِلها، كل ذلك غرضًا لبقاء أشخاصها ودوام نسلها زمانًا طويلًا أطول ما يمكن في حياتها وطبائعها.
وأما أجناس الطيور التي هي سكان الهواء وقاطنوه، فإن الباري الحكيم — جلَّ ثناؤه — جعل أبدانها مختصرة من أعضاء كثيرة مما في أبدان الحيوان البري الذي يَحبَل ويَلِد ويُرضِع ليخفِّف عليها النهوض في الهواء والطيران فيه، وذلك أن الباري لم يجعل للطير أسنانًا ولا أذنًا بيِّنة ولا معدة ولا كرشًا ولا مثانة ولا خرزات الظهر ولا جلدًا ثخينًا ولا على أبدانها شعرًا ولا صوفًا ولا وبرًا؛ بل جعل بدل ذلك ريشًا لباسًا لها ودثارًا من الحر والبرد وغطاءًا ووطاء ووقاية من الآفات العارضة ويُعينها على النهوض والطيران، وبدل الأسنان منقارًا، وبدل المعدة حوصلة وبدل الكرش قانصة.
وعلى هذا القياس بدل كل عضو عدم منه عضوًا آخر مشاكِلًا لأبدانها ومناسبًا لأجسادها بحسب مآربها ومنافعها ودفع المضارِّ عنها، كل ذلك أسباب وعلل لبقاء أشخاصها ودوام نسلها مدة ما أطول ما يمكن في طبائعها وجِبِلَّتها.
وأما أجناس الحيوانات البرِّيَّة الآكِلة منها العشب فإن الباري الحكيم جعل لها أفواهًا واسعة تتمكَّن من القبض على الحشيش والكلأ في الرعي، وجعل لها أسنانًا حِدَادًا تَقطَع بها وأضراسًا صِلابًا تَطحَن بها الصلب من العشب والحب والورق والقشر والنوى، وجعل مريًّا واسعًا زلقًا تزدرد به ما تمضغه، وكروشًا واسعة محملة تملؤها وتحمل فيها زادَها، فإذا اكتفتْ رجعتْ إلى أماكنها ومرابطها وبركتْ واستراحتْ.
ومنها ما تَجتَرُّ وتسترجع ما بلعتْه وتطحنه ثانية وتبلع وتزدرد إلى مواضع أُخَر من كروشها خِلْقتها غير خِلْقة الأولى متهيِّئة لطَبْخ الحرارة الغريزية لها والتمكُّن من نضجها؛ لكيما تستمرئ بها الطبيعية، وتميِّز ثقلها من لطيفها، وتدفع الثقل إلى الأمعاء والمصارين، ويخرج من الثقب والمواضع المُعَدَّة لذلك، وترد اللطيف الصافي إلى الكبد لتطبخها ثانية وتصفِّيها وتفيض أخلاطها على الأوعية المُعدَّة لقبولها مثل الطحال والمرارة والقلب والكليتين والعروق المجوفة التي هي كالأنهار والجداول في أبدانها ليجري ذلك الدم الصافي فيها إلى سائر أطراف أجسادها، وتخلف بدلًا عمَّا تحلَّل من أبدانها إذ كانتْ أجساد الحيوانات كلها في الذوبان والسيلان من أسباب داخلة، ومن أسباب خارجة.
وما يفضل من تلك المواد في أبدان الذَّكَر فقد جعل الباري الحكيم لها أعضاء وأوعية ومجاريَ يحصل فيها وهي النطفة تجري منها إلى أرحام الإناث عند السفاد والنزو والجماع.
وجُعل في أبدان الإناث أعضاء وأوعية ومجارٍ يحصل فيها وينضاف إليها ما يفضل في أبدان الإناث من الرطوبات المشاكِلات لها على ممر الأيام والشهور، وتجتمع وتكثر ويخلق الباري الحكيم منها صورة مثل أحد الزوجين كما شاء، وكيف شاء كما بيَّنَّا طرفًا من ذلك في رسالة مسقط النطفة، وكل هذه الأسباب والعلل عناية من الباري الحكيم — جلَّ ثناؤه — لبقاء أشخاصها ودوام نسلها زمانًا طويلًا أطول ما يمكن، ويتهيَّأ في ذلك النوع من الحيوان، تبارك الله أحسن الخالقين وأحكم الحاكمين وأرحم الراحمين.
فصل
وأما السباع الآكِلة اللحمان، فإن خِلْقتها وطباعها وتركيب بعض أعضائها الظاهرة والباطنة وأمزجتها وشهواتها مخالِفة لما عليه الحيوانات الآكلة العشب؛ وذلك أن الباري لمَّا خَلَقها، وجعل غذاءها من أكل اللحمان ومادة أبدانها من جثة الحيوانات جعل لها أنيابًا صِلابًا ومَخَالب مقوَّسة قويَّة وزندات متينة ووَثَبَات خفيفة وقَفَزات بعيدة شديدة تستعين بها على قبض الحيوانات وضبطها وخرق جلودها وشق أجوافها وكسر عظامها ونَهْش لحومها من غير رحمة لها ولا شفقة عليها.
وقد تحيَّر أكثر العقلاء وتاه أكثر العلماء والفلاسفة الحكماء من المحقِّقين بفكرتهم في هذا وبحثهم عن عِلَلها، وما وَجْه الحكمة والصواب في هذا؟ وقد بيَّنَّا نحن ما الحكمة وما الصواب في ذلك في رسالة العِلَل والمعلولات وسنذكر طرفًا منه في هذه الرسالة في فصل آخر إن شاء تعالى.
فصل
اعلم يا أخي — أيَّدك الله وإيَّانا برُوح منه — بأن الباري الحكيم لمَّا خلق أجناس الحيوانات المختلفة الصُّوَر والطِّباع والمتصرفات قسَّمها أربعةَ أقسام: فمنها سكان الهواء، وهي أنواع الطيور أكثرها والحشرات جميعها.
ومنها سكان الماء، وهو كل حيوان يسبح في الماء كالسمك والسرطان والضفادع والصدف ونحو ذلك.
ومنها سكان البر، وهي البهائم والأنعام والسباع، ومنها سكان التراب وهي الهوام، وجعل في كل قسم منها بعضًا آكِلًا وبعضًا مأكولًا.
وذلك أن من الطير ما يأكل الحبَّ والثَّمَر، ومنها ما يأكل اللحم وهي الجوارح وكل ما له مخلب ومنقار مقوس لا يقدر أن يلتقط الحَبَّ أو يأكل الثمر.
وهكذا حكم حيوان الماء، بعضه آكِلٌ وبعضه مأكول، وهكذا حكم حيوان التراب من الهوام كالحيات والضبِّ والقَطَايا وأشباهها.
فصل
واعلم يا أخي — أيَّدك الله وإيَّانا برُوح منه — أن الباري الحكيم لمَّا خلق الحيوانات التامَّة البنية، قسَّم بنية أجسادها نصفين اثنين يمنة ويسرة، ليكون مطابقًا لأول العدد وللأمور المثنوية العنصرية التي ذكرناها في رسالة المبادئ، وجعلها ثلاث طبقات؛ وسطًا وطرفين؛ ليكون مطابقًا لأول عدد فرد وللأمور ذوات الأوساط والطرفين، وجعل مزاج أبدانها من أربعة أخلاط مطابقًا لأول عدد مجذور، ومطابقًا أيضًا لأربع طبائع بعدد الأركان الأربعة، وجعل لها خمس حواس درَّاكة لصور المحسوسات ومطابقًا لأول عدد دائر ولعدد الطبائع الأربع والخامسة الطبيعة الفلكية، وجعل فيها قوة تتحرك بها إلى ست جهات مطابقًا لأول عدد تام، ولعدد سطوح المكعب وجعل في أبدانها سبع قوًى فعَّالة مطابقًا لأول عدد كامل ولعدد الكواكب السيارة، وجعل في أبدانها ثماني مزاجات؛ أربعة مفردة وأربعة مزدوجة مطابقًا لأول عدد مكعب ولعدد مناسبات الموسيقى، وجعل تركيب أبدانها وتأليف أجسادها من تسع طبقات مطابقًا لأول عدد فرد مجذور، ولعدد طبقات الأفلاك المحيطات، وجعل في أبدانها اثني عشر ثقبًا أبوابًا لحواسها ومآربها مطابقًا لأول عدد زائد ولعدد بروج الفلك، وأسَّس بناء أجسادها على أعمدة ظهورها ثمانٍ وعشرون خرزة مطابقًا لعدد تام ولمنازل القمر، وجعل في أبدانها ثلاثمائة وستين عرقًا لجريان الدم إلى سائر أطراف أبدانها مطابقًا لعدد درج بروج الفلك ولعدد أيام السنة، وعلى هذا القياس والمثال إذا عد واعتبر وجد عدد كل عضو مطابقًا لعدد جنس من الموجودات، فقد تبيَّن بما ذكرنا معنى قول الحكماء الفيثاغوريين إن الموجودات بحسب طبيعة العدد، وذلك تقدير العزيز العليم.
(٢) فصل
في ذكر تصانيف أحوال الطيور وأوقات الطيور وأوقات هيجانها وسفادها، وكيفية اتخاذها أعشاشها، وإصلاح أوكارها، وكمية بيضها ومدة حضانتها، وكيفية تربيتها لأولادها.
فنقول: اعلم يا أخي — أيَّدك الله وإيَّانا برُوح منه — بأن مِن الطيور ما يتزاوج ويتعاشق ويهيج ويسفد في سائر فصول السنة ويعاون الذكر منها الأنثى في تحضين البيض وفي تربية الأولاد كالحمام، ومنها ما لا يعاون لا في الحضانة ولا في تربية الأولاد كالديك، ومنها ما لا يهيج في السنة إلا مرتين عند الفصلين المعتدلين — الربيع والخريف — وفي الصيف، وأكثر الطيور لا تهيج ولا تسفد إلا في آخر الشتاء عند استقبال الربيع، وتبيض فيه وتحضن وتربِّي أولادها لعلمها بطيب الزمان واعتدال الهواء وكثرة الريف والقوت الموجود في أكثر الأماكن.
ومن الطيور ما تتخذ عشاشها بين أغصان الشجر وأوراقها، ومنها ما تتخذه في الأرضين الدغلة بين الحشيش والشوك كالقيج والدُّرَّاج والطَّيْهوج، ومنها في ثقب الحيطان أو في أصول الأشجار، ومنا تحت السقوف، ومنها على رءوس الحيطان والخرابات، ومنها على رءوس الجبال والتلال، ومنها على شطوط الأنهار وسواحل البحار، ومنها ما تتخذ في البراري والقفار وبين الأحجار، ومن طيور الماء ما يأخذ بيضها بإحدى رجليه على صدره ويسبح بالأخرى إلى أن تحضن وتخرج فراخها.
ومن الطيور ما يبيض ويحضن بيضتين، ومنها أربع، ومنها ست، ومنها ثماني، ومنها عشرة، واثنتي عشرة وعشرين وثلاثين.
ومن الطيور ما يربِّي فراخه مما في حوصلته من الحب المنقوع، ومنها ما تُلقِم أفراخَها بمنقارها من الصيد والحب والثمر، ومنها ما تفقص من بيضها بعضًا وتُحسِّيه أفراخَها كالنعامة، ومنها ما يبحث في الأرض ويُلقِي إلى أفراخه الحب والدبيب كالدراج والدَّجَاج.
ومن الطيور ما هو سريع الطيران دائمًا طول النهار كالخطاف، ومنها ما هو ثقيل الطيران قليلًا كالسمان، ومنها بعيد الورد كالقَطَا، ومنها بعيد الأسفار كالغراب، ومنها ما لا يفارق الموطن كالعصافير، ومنها ما تطير في أسفارها قطارًا كقطار الجمال كالكُرْكِيِّ، ومنها ما يطير مصطفًّا متحاذيًا كصف المصلِّين، ومنها ما يطير جماعات مختلطات ملتئمة، ومنها ما يطير مستقبلًا للريح، ومنها ما يطير مستدبرًا لها، ومنها ما يطير موربًا على الجانب، ومنها ما يطير متوهجًا قاصدًا، ومنها ما يطير مرتفعًا ومنخفضًا ويمنة ويسرة، ومنها ما يطير مستقيمًا قاصدًا، ومنها ما إذا نهض للطيران عدا على وجه الأرض خطوات ثم استعلى في الجو، ومنها ما ينهض منتصبًا دفعة واحدة، ومنا ما يرتقي في جو الهواء مختلفًا مستديرًا كالصاعد إلى المنابر، ومنها ما إذا استقل استقل منعرجًا منعطفًا كالصاعد للعقبة، ومنها ما إذا استقل في جو الهواء أمسك عن تحريك جناحيه، ومنها ما يمسكها تارةً ويحركها تارةً أخرى، ومنها ما إذا أراد النزول إلى الأرض نكس رأسه وزجَّ نفسه منقضًّا ومصوبًا كالمطر يوم الريح، ومنها ما ينزل برفق ملويًّا كما ينزل من المنارة، ومنها ما ينزل منعطفًا يمنة ويسرة كما تنزل الدواب من العقبة، ومنها ما ينزل مدليًا رجليه ضامًّا جناحيه أو مدليًا مرسلًا، وكل واحد من الطيور متناسب الجناحين من الطول والعرض والوزن والعدد، وفي كل جناح أربع عشرة طاقة ريش صلبة قصباتها مجوفة خفاف مصطفَّة من جانب ومتوازية من جانب، وتمامها طاقات أُخَر أقصر منها موفور الدثار من الجانبين يسد خللها طاقات، وعلى أبدان الطائر طاقات من الريش أقصر من ذلك، وهو لباس لها، وفي خللها طاقات أخرى صغار لينة الزيبر بينة الريف هي دثار لها، ووطاء وغطاء من الحر والبرد وزينة لها.
وأيضًا أكثر الطير ذنبه مناسب لجناحيه وعدده اثنتا عشرة طاقة أو أنقص.
ومن الطير ما ذنبه أوفر من جناحية كالطاووس، ومنها ما جناحاه وافران طويلان، وذنبه قصير كالكراكي.
ومن الطير ما ينقض عن فرخه البيض، وهو موفَّر عليه ريشه كالدُّرَّاج والدَّجاج، ومنها ما يكون معرًّى من الريش، ثم يخرج ريشه في أيام التربية كفراخ الحمام.
ومن الطير ما على ريشه دهن فلا يبتلُّ كطير الماء، ومنها ما يرمي بريشه في كل سنة ويخرج له غيره، ومنه ما بين أصابع رجليه غشاوات.
ومن طير الماء ما ينهض من الماء في طيرانه، ومنها ما يخرج من الماء إلى الأرض ثم يطير.
ومن الطير ما هو طويل الرجلين والجناحين والعنق والمنقار، ومنها قصير الرقبة طويل المنقار، وأكثر الطيور في طيرانه يجمع رجليه إلى صدره، ومنها ما يمدُّها إلى خلفه مع ذنبه كالكراكي واللقالق.
ومن الطير ما يكون طويل العنق يطوي عنقه في طيرانه، ومنها ما هو يمدُّه إلى قدَّامِه كمَالِك الحَزِين.
ومن الجوارح من الطير ما يقبض على الطيور في جو الهواء ويأخذها في طيرانها، ومنها ما إذا لحفها في طيرانها دخل من تحتها مستلقيًا على ظهره وقبض عليها فقَلَبَها، ومنها ما ينحطُّ عليها ويخطفها من وجه الأرض، ومنها ما يقع على رءوس الغزلان وحمير الوحش، وينشب مخالبه فيها ويرفرف بجناحيه على أعينها ويقتلها، والحمام الهادي يَعرِف سمت البلد المقصود بالنظر في جو الهواء إلى جريان الأنهار وميل الأودية ثم ينحو السوادات ويتيامن عن الجبال ويتياسر عنها وعن مهبِّ الرياح في تصاريفها.
وهكذا تَعرِف الطيور التي تشتي في البلاد الدفيئة وتصيف في البلدان الباردة مواقعَها، وأكثر الطيور لها جودة البصر والشم والذوق والسمع، وأما اللمس فدون ذلك من أجْل الريش الذي على جلودها والجوارح من الطيور كلها وافية الجناحين عريضة الأذناب شديدة الطيران قصيرة الرجلين والرقبة طويلة الأفخاذ قوية المخاليب معقربة المناقير، لا تقدر على الْتِقاط الحبوب، بل تأكل اللحمان وتصطاد غيرها.
ومن الطيور ما يلقط الحب ويأكل الثمر، أو يصطاد الحشرات والهوامَّ ويأكل النبت والحشيش.
ومن الطيور ما يطير بالليل والنهار ويسافر ويتعيش.
ومن الطيور ما يطير بالليل دون النهار، وأما أكثرها فبالنهار دون الليل.
ومن الطيور ما يأوي بالليل إلى رءوس الأشجار وبين أغصانها وأوراقها، ومنها ما يأوي إلى رءوس الجبال والتلال والحيطان والقلاع، ومنها ما يأوي إلى الآجام والدغل، ومنها ما يأوي إلى الثقب والأعشاش والأجحرة وتحت السقوف، ومنها ما يأوي إلى الجزائر بين الأنهار والمياه، ومنها ما يبيت في الصحاري وعلى الشطوط ويتحارس بالنُّوَب وعلى السواحل، ومنها ما يبيت في الجو.
ومن الطيور ما ينتبه بالأسحار ويترنَّم ويسبح، ومنها ما يُبكِّر في طلب القُوت، ومنها ما يُسفِر ويتصبَّح ويُضحِي، ثم يمرُّ وينصرف في طلب القوت «تغدو خماصًا وتروح بطانًا.»
ومن الطيور ما يفرِّخ وينشر بالغدوات، ومنها بالعشيات، ومنها في أنصاف النهار، ومنها في يوم الغيم، ومنها في يوم الصحو، ومنها في يوم المطر، ومنها في شدة الحر، ومنها في شدة البرد، ومنها في يوم الريح.
فصل
واعلم يا أخي — أيَّدك اللهُ وإيَّانا برُوحٍ منه — أن من الطيور ما إذا نهض واستقلَّ في جو الهواء في طيرانه يكون كشكل المثلث يبسط بجناحين وافيين منشورَيْن وذنب مثل ذلك مناسب لهما مثل الزرازير والخطاطيف، ومنها ما يكون كشكل المربع بجناحين وافيين منشورين وعنق طويل ممتد من قدام ورجلين طويلتين ممتدتين من خلف وذنب قصير مثل الكراكي واللقالق، ومن الحشرات ما يكون في طيرانه كشكل المسدَّس له أربعة أجنحة من الجانبين ورأس قدام وذنب خلف كالجراد والبقِّ والزنابير.
واعلم يا أخي بأنك إذا تأملتَ واعتبرتَ أبدان الطيور والحشرات وجدتَها كلَّها متزنة الجانبين طولًا وعرضًا، خفَّة وثقلًا، يمنة ويسرة، وخلفًا وقدامًا، ومن أجل هذا إذا نُتف من إحدى جناحيه طاقات ريش اضطرب في طيرانه كرَجُل أعرج في مِشْيَتِه إذا كانت إحدى رجلَيْه أطول والأخرى أقصر، ومن أجْل ذلك أيضًا متى نُتف من ذنبه طاقات ريش اضطرب في طيرانه مكبوبًا على رأسه كمثال زورق أو سمارية في الماء في ثقل صدرها وخفَّة كوائلها، ومن أجْل هذا صار بعض الطيور إذا مدَّ رقبته إلى قدَّام مدَّ رجلَيْه إلى خلف ليتوازن ثقل رجليه بثقل رقبته كالكراكي، ومن الطير ما يطوي رقبته إلى صدره ويجمع رجليه تحت بطنه في طيرانه كمَالِك الحزين، وعلى هذا المثال حكم سائر الطيور والحشرات في طيرانها.
(٣) فصل في بيان بدء الخلق
يُقال إنه لما توالدت أولاد بني آدم وكثرت وانتشرت في الأرض برًّا وبحرًا وسهلًا وجبلًا متصرِّفين فيها في مآربهم آمنين بعدما كانوا قَلِقِين خائفين مستوحشين من كثرة السباع والوحوش في الأرض، وكانوا يأوون في رءوس الجبال والتلال متحصِّنين فيها، وفي المغارات والكهوف ويأكلون من ثمر الأشجار وبُقُول الأرض وحب النبات، وكانوا يستترون بأوراق الشجر من الحر والبرد ويشتون في البلدان الدفيئة، ويصيفون في البلدان الباردة، ثم بَنَوْا في سهول الأرض الحصون والقرى والمدن وسكنوها.
ثم سخَّروا من الأنعام البقر والغنم والجِمَال، ومن البهائم الخيل والبغال والحمير وقيَّدوها وألْجَموها وصرَّفوها في مآربهم من الركوب والحمل والحرس والدراس وأتْعَبوها في استخدامها وكلَّفوها أكثر من طاقتها ومنعوها من التصرف في مآربها بعدما كانت مخلَّيات في البراري والآجام والغياض تذهب وتجيء حيث أرادت في طلب مراعيها ومشاربها ومصالحها، ونَفَرَتْ منهم بقيَّتُها من حُمُر الوحوش والغزلان والسباع والوحوش والطيور، بعدما كانت مستأنِسة متوالِفة مطمئِنَّة في أوطانها وأماكنها، وهربتْ من ديار بني آدم إلى البراري البعيدة والآجام والدحال ورءوس الجبال، وشمَّر بنو آدم في طلبها بأنواع من الحِيَل والقَنْص والشِّباك والفِخَاخ، واعتقد بنو آدم فيها أنها عبيد لهم، هربتْ وخلعتِ الطاعة وعصَتْ، ثم مضتِ السنون والأيام على ذلك إلى أن بعث الله محمدًا — صلَّى الله عليه وآله — ودَعَا الإنس والجن إلى الله ودِين الإسلام، فأجابتْه طائفة من الجن وحسُنَ إسلامُها، ومضتْ على ذلك مدة من الزمان.
ثم إنه وَلِيَ على بَنِي الجانِّ مَلِك منها يُقال له بيراست الحكيم لقبه شاه مردان، وكانت دار مملكته مردان في جزيرة يُقال لها صاغون في وسط البحر الأخضر مما يلي خط الاستواء، وهي طيِّبة الهواء والتربة فيها أنهار عذْبة وعيون جارية، وهي كثيرة الريف والمرافق وفنون الأشجار وألوان الثمار والرياض والأنهار والرياحين والأنوار، ثم إنه طرحتِ الرياح العاصفة في وقت من الزمان مركبًا من سفن البحر إلى ساحل تلك الجزيرة، وكان فيها قوم من التجار والصُّنَّاع وأهل العِلْم وسائر أغنياء الناس، فخرجوا إلى تلك الجزيرة وطافوا فيها، فوجدوها كثيرة الأشجار والفواكه والثمار والمياه العذبة والهواء الطيب والتربة الحسنة والبقول والرياحين وأنواع الزرع والحبوب مما تنبته أمطار السماء، ورأَوْا فيها أصناف الحيوانات من البهائم والأنعام والطيور والسباع والوحوش والهوامِّ والحشرات أجمع، وهي كلها متآلِفة بعضها في بعض مستأنِسة غير متنافِرة.
ثم إن أولئك القوم استطابوا ذلك المقام، واستوطنوا وبنَوْا هنالك البنيان وسكنوا، ثم إنهم أخذوا يتعرَّضون لتلك البهائم والأنعام التي هناك يُسخِّرونها ليركبوها ويحملوا عليها أثقالَهم على المنوال الذي كانوا يفعلون في بلدانهم، فنفرت منهم تلك البهائم والأنعام التي كانت هناك، وهربتْ وشمَّروا في طلبها بأنواع من الحِيَل في أخذها، واعتقدوا فيها أنها عَبِيد لهم، هربتْ وخلعتِ الطاعة وعصتْ، فلمَّا علمتْ تلك البهائم والأنعام هذا الاعتقاد منهم فيها جمعتْ زعماءَها وخطباءَها، وذهبتْ إلى بيراست الحكيم مَلِك الجن وشكَتْ إليه ما لَقِيَتْ من جَوْر بني آدَمَ وتعدِّيهم عليها واعتقادهم فيها، فبعث ملك الجن رسولًا إلى أولئك القوم ودعاهم إلى حضرته، فذهب طائفة من أهل ذلك المركب إلى هناك، وكانوا نحوًا من سبعين رجلًا من بلدان شتَّى، فلما بلغه قدومُهم أمَرَ لهم بطرح الإنزال والإكرام، ثم أوصلهم إلى مجلسه بعد ثلاثة أيام.
وكان بيراست الحكيم عادلًا كريمًا منصفًا سمحًا يَقرِي الأضياف ويؤْوِي الغُرَباء ويَرحَم المُبتَلَى ويمنع الظلم ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ولا يبتغي بذلك غير وجه الله — تعالى — ومرضاته، فلما وصلوا إليه ورأَوْه على سرير ملكه حيَّوْه بالتحية والسلام، فقال لهم الملك على لسان الترجمان: ما الذي جاء بكم إلى بلادنا؟ وما دعاكم إلى جزيرتنا من غير مُراسَلة قبلَ ذلك؟
قال قائل من الإنس: دعانا ما سمعنا من فضائل المَلِك، وما بلغنا من مناقبه الحِسَان ومكارم أخلاقه الجِسَام، وعدله وإنصافه في الأحكام، فجئناه ليسمع كلامنا ويتبيَّن حجَّتَنا، ويحكم بيننا وبين عبيدنا الآبقين، وخَوَلِنا المُنكِرين وِلايتَنا، والله يوفِّق المَلِك للصواب ويسدِّده للرشاد، وهو أحكم الحاكمين.
فقال الملك: قولوا ما تريدون، وبيِّنوا ما تقولون، قال زعيم الإنس: نعم أيها الملك، نقول: إن هذه البهائم والأنعام والسباع والوحوش أجمع عبيد لنا، ونحن أربابها وهي خَوَلٌ لنا ونحن مواليها، فمنها هاربٌ آبِقٌ عاصٍ، ومنها مُطيعٌ كارِهٌ منكِر للعبودية، قال المَلِك للإنسي: ما الدليل والحجة على ما زعمتَ وادَّعَيْتَ؟ قال الإنسي: نعم أيها الملك، لنا دلائل شرعية سمعية على ما قُلْنا، وحُجَج عقلية على ما ادَّعَيْنا، فقال الملك: هاتِ، أوْرِدْها، فقام الخطيب من الإنس من أولاد العباس، ورَقِيَ المنبر وخطب الخطبة وقال: الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلَّى الله على سيدنا محمد خاتم النبيِّين وإمام المرسلين وصاحب الشفاعة يوم الدِّين، وصلوات الله على ملائكته المقرَّبين، وعلى عباده الصالحين من أهل السموات والأرضين من المؤمنين والمسلمين، وجعلنا وإياكم منهم برحمته وهو أرحم الراحمين.
الحمد لله الذي خلق من الماء بَشَرًا، فجعله نسبًا وصهرًا، وخلق منه زوجة، وبثَّ منهما رجالًا كثيرًا ونساءً، وأكرم ذريَّتَهما وحمَلَهم في البرِّ والبحر، ورزقهم من الطيبات، قال الله عزَّ وجلَّ: وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ، وقال تعالى: وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ، وقال: وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ، وقال: وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً، وقال: لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ، وآيات كثيرة في القرآن والتوراة والإنجيل تدل على أنها خُلقتْ لنا ومن أجلنا، وهي عبيد لنا، ونحن أربابها، وأستغفر الله لي ولكم.
فقال الملك: قد سمِعْتُم يا معشر البهائم والأنعام ما قال الإنسي من آيات القرآن، فاستدلَّ بها على دعواه، فأيُّ شيءٍ لكم وعندكم فيما قال؟ فقام عند ذلك زعيمُها وهو البغل، فقال: الحمد لله الواحد الأحد الفرد الصمد القديم السرمد الذي كان قبل الأكوان بلا زمان ولا مكان، ثم قال: كن، فكان نورًا ساطعًا أظهره من مكنون غيبه، ثم خلق من النور بحرًا من النار أُجَاجًا، وبحرًا من الماء رجراجًا، ذا أمواج ثم خلق من الماء والنار أفلاكا ذوات أبراج وشهابًا وهَّاجًا، والسماء بناها والأرض دحاها والجبال أرساها وجعل أطباق السموات مسكن العليين وفسحة الأفلاك مسكن الملائكة المقربين، والأرض وضعها للأنام وهو النبات والحيوان، ثم خلق الجان من نار السموم، وخلق الإنسان من طين، ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين في قرار مكين، وجعل ذريته في الأرض يخلفون ليعمروها ولا يُخرِّبوها ويحفظون الحيوانات وينتفعون بها ولا يظلمونها ولا يجورون عليها، أستغفر الله لي ولكم.
ثم قال: ليس في شيء مما قرأ هذا الإنسي من آيات القرآن أيها الملك دلالة على ما زعم أنهم أرباب ونحن عبيد لهم، إنما هي آيات تذكار بإنعام الله عليهم وإحسانه، فقال لهم: سَخَّرَهَا لَكُمْ كما قال سخَّر الشمس والقمر والسحاب والرياح، أفترى أيها الملك بأنها عبيد لهم ومماليك وأنهم أربابها؟
واعلم أيها الملك بأن الله خلق كل ما في السموات والأرض، وجعلها مسخَّرة بعضها لبعض، إما لجَرِّ منفعتِها إليها أو دفْع مضرَّتِها، فسخَّر الله الحيوان للإنسان بما هو لإيصال المنفعة إليها ودفع المضرة عنها، كما سنبيِّن بعد هذا الفصل، لا كما ظنوا وتوهَّموا، وما قالوه من الزور والبهتان بأنهم أرباب لنا ونحن عبيد لهم.
فصل
ثم قال زعيم البهائم: أيها الملك، كنا نحن وآباؤنا سكان الأرض قبل خلق آدم أبي البشر قاطنين في أرجائها، ظاعنين في فِجَاجِها، تذهب وتجيء كل طائفة منَّا في بلاد الله في طلب معائشها، وتتصرف في صلاح أمورها، كل واحد مقبل على شأنه في مكان موافق لمآربه من برية أو أجمة أو جبل أو ساحل أو تلال أو غياض أو رمال، كل جنس منَّا مؤالِف لأبناء جنسه مشتغلين باتخاذ نتاجنا وتربية الأولاد في طيب من العيش بما قدَّر الله لنا من المآكل والمشارب والتمتُّع آمنين في أوطاننا معافَيْنَ في أبداننا نسبِّح الله ونقدِّسه ونوحِّده ليلًا ونهارًا، ولا نعصيه ولا نشرك به شيئًا، ومضتْ على ذلك الدهور والأزمان.
ثم إن الله — جلَّ ثناؤه — خلق آدم أبا البشر، وجعله خليفة في الأرض وتوالد أولاده، وكثرت ذريته وانتشرت في الأرض برًّا وبحرًا وسهلًا وجبلًا، وضيَّقوا علينا الأماكن والأوطان، وأُخذ منَّا مَن أُخذ أسيرًا من الغَنَم والبَقَر والخَيْل والبِغَال والحَمِير، وسخَّروها واستخدموها وأتْعَبوها بالكدِّ والعَنَاء في الأعمال الشاقَّة من الحمل والركوب في السفر والحضر والشدِّ في الفدن والدواليب والطواحين بالقَهْر والغَلَبة والضرب والهوان وألوان من العذاب طول أعمارنا، فهرب منَّا مَن هرب في البراري والقفار ورءوس الجبال، وشمَّر بنو آدم في طلبنا بأنواع من الحِيَل، فمَن وقع منَّا في أيديهم شدُّوه بالغلِّ والقَيْد والقنص والذبح والسلخ وشقِّ الأجواف، وقطع المفاصل ونتف الريش وجزِّ الشعر والوبر، ثم نار الطبخ والوقد والتشوية وألوان من العذاب ما لا يبلغ الوصف كنهها.
ومع هذه الأحوال كلها لا يَرضَى منَّا هؤلاء الآدميون حتى ادَّعَوْا علينا أن هذا حق واجب لهم علينا، وأنهم أرباب لنا ونحن عبيد لهم، فمَن هرب منَّا فهو آبقٌ عاصٍ تارك الطاعة، كل هذا بلا حجة لهم علينا، ولا بيان ولا برهان إلا القهر والغلبة.
فلما سمع الملك هذا الكلام وفهم هذا الخطاب أمر مناديًا فنادى في مملكته، ودعا الجنود والأعوان من قبائل الجن من بني ساسان وبني خاقان وأولاد شيصبان والقضاة العدول والفقهاء من آل إدريس وبني بلقيس وقعد لفصل القضاء بين زعماء الحيوانات والجدليين من الإنس، ثم قال لزعماء الإنس: ما تقولون فيما تحكي هذه البهائم والأنعام من الجَوْر وما يشكون من الظلم والتعدِّي منكم؟
فقال زعيم الإنس: نقول: إن هؤلاء عبيدٌ لنا، ونحن مواليها، ولنا أن نتحكَّم عليها تحكُّم الأرباب ونتصرَّف فيها تصرُّف المُلَّاك كيف شاء، فمَن أطاعنا طاعتُه لله، ومَن عصانا وهَرب فمعصيتُه لله، فقال الملك للإنسي: إن الدَّعاوَى لا تصحُّ عند الحكام إلا بالبيِّنات، ولا تُقبل إلا بالحجَّة الواضحة فيما قلتَ وادَّعَيْتَ، فقال الإنسي: إن لنا حججًا عقلية ودلائل فلسفية تدل على صحة ما قلنا، قال الملك: ما هي؟ بيِّنْها لنعلمها! قال: نعم؛ حُسْن صورتنا، وتقويم بنية هيكلنا وانتصاب قامتنا وجَوْدة حواسِّنا ودقة تمييزنا وذكاء نفوسنا ورجحان عقولنا، كل هذا يدل على أنَّا أرباب وهم عبيد لنا، فقال الملك لزعيم البهائم: ما تقولون فيما قال الإنسي؟ قال: ليس شيء مما قال بدليل على ما ادَّعى هذا الإنسي، قال الملك: أليس انتصاب القيام واستواء الجلوس من شِيَم الملوك؟ وانحناء الأصلاب والانكباب على الوجوه من صفات العبيد؟! قال الزعيم: وفقك الله أيها الملك للصواب، وصرف عنك سوء الأمور، استمع لما أقول.
اعلم بأن الله — جلَّ ثناؤه — ما خلقهم على تلك الصورة ولا سوَّاهم على هذه البنية لتكون دلالة على أنهم أرباب، ولا خلقنا على هذه الصورة وسوَّانا على هذه البنية لتكون دلالة على أننا عبيد، ولكن لعلمه واقتضاء حكمته بأن تلك البنية هي أصلح لهم، وهذه أصلح لنا.
(٤) فصل في بيان علة اختلاف صور الحيوانات
بيان ذلك أن الله — عزَّ وجلَّ — لما خلق آدم وأولاده عُرَاةً بلا ريش على أبدانهم ولا وَبَر ولا صوف على جلودهم يَقِيهم من الحر والبرد، وجعل أرزاقهم من ثمر الأشجار ودثارهم من أوراقها، وكانت الأشجار منتصبة في جو الهواء، جعل أيضًا قامتهم منتصبة ليسهل عليهم تناول الثمر والورق منها، وهكذا لما جعل أرزاقنا من حشيش الأرض جعل بنية أبداننا منحنية ليسهل علينا تناول العشب من الأرض، فلهذه العلة جعل صورهم منتصبة، وصورنا منحنية، لا كما توهَّموا، فقال الملك: ما تقولون في قول الله عزَّ وجلَّ: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ؟ قال الزعيم: إن للكتب النبوية تأويلات وتفسيرات غير ما يدل عليه ظاهر ألفاظها، يعرفها العلماء الراسخون في العلم، فليسأل الملك أهل الذكر، قال الملك لحكيم الجن: ما معنى قوله: فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ؟ قال: في اليوم الذي خُلق فيه آدم كانت الكواكب في إشراقها وأوتاد البروج قائمة، والزمان معتدلًا كثير المواد، وكانت متهيِّئة لقبول الصور، فجاءت بنيته في أحسن صورة وأكمل هيئة، قال الملك: وكفى بهذه الفصيلة كرامة وافتخارًا. قال الحكيم: إن لها معنًى غير ما ذُكر وتبين ذلك بقوله: فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ، يعني لم يجعلك طويلًا دقيقًا ولا قصيرًا لزيقًا؛ بل ما بين ذلك، فقال زعيم البهائم: ونحن كذلك فُعل بنا أيضًا، لم يجعلنا طوالًا ولا دقافًا ولا قصارًا ولا صغارًا؛ بل بين ذلك، فنحن وهم في هذه الصورة والفضيلة والكرامة بالسوية، فقال الإنسي لزعيم البهائم: مِن أين لكم اعتدال القامة واستواء البنية وتناسب الصورة وقد نرى الجَمَل عظيم الجثة طويل الرقبة صغير الأذنين قصير الذنب، ونرى الفيل عظيم الخلقة طويل النابين واسع الأذنين صغير العينين، ونرى البقر والجاموس طويل الذنب غليظ القرون ليس له أنياب من فوق، ونرى الكبش عظيم القرنين كبير الألية ليس له لحية، والتيس طويل اللحية ليس له ألية مكشوف العورة، ونرى الأرنب صغير الجثة كبير الأذنين؟ وعلى هذا المثال والقياس نجد الحيوانات والسباع والوحوش والطيور والهوام مضطربات البنية غير متناسبة الأعضاء.
فقال زعيم البهائم: هيهات، ذهب عليك أيها الإنسي أحسنها، وخفي عليك أحكمها، أما علمتَ أنك لمَّا عِبْتَ المصنوعَ فقد عِبتَ الصانع؟! أولا ترى وتعلم بأن هذه كلها مصنوعات الباري الحكيم، خلقها بحكمته لعلل وأسباب وأغراض لجر المنفعة إليها ودفع المضرة عنها، ولا يعلم ذلك إلا هو والراسخون في العلم؟ قال الإنسي: فخبِّرْنا أيها الزعيم إذا كنتَ حكيمَ البهائم وخطيبها، ما العلة في طول رقبة الجمل؟ قال: ليكون مناسبًا لطول قوائمه لينال الحشيش من الأرض ويستعين به على النهوض بحمله، وليبلغ مشفره إلى سائر أطراف بدنه فيحكَّها.
وأما خرطوم الفيل فعِوَض عن طول الرقبة وكبر أذنيه ليذبَّ البقَّ والذباب عمَّا في عينيه وفمه؛ إذ كان فمه مفتوحًا أبدًا لا يمكنه ضم شفتيه لخروج أنيابه منه، وأنيابه سلاح له يمنع بها السباع عن نفسه.
وأما كبر أذن الأرنب فهو من أجْل أن تكون دثارًا لها ووطاءً وغطاءً في الشتاء والصيف؛ لأنه رقيق الجلد تَرِف البدن، وعلى هذا القياس نجد كل حيوان جعل الله — عزَّ وجلَّ — له من الأعضاء والمفاصل والأدوات بحسب حاجته إليه لجر المنفعة أو دفع المضرة، وإلى هذا المعنى أشار موسى — عليه السلام — بقوله: رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى.
وأما الذي ذكرتَ أيها الإنسيُّ من حسن الصورة وافتخرتَ به علينا، فليس فيه شيء من الدلالة على ما زعمتَ بأنكم أرباب، ونحن عبيد، فإذا كان حسن الصورة شيئًا مرغوبًا فيه عند أبناء الجنس من الذكور والإناث ليدعوهم ذلك إلى الجماع والسفاد والنتاج والتناسل لبقاء النسل، فإننا لا نرغب في محاسن إناثنا ولا إناثنا في محاسن ذكراننا، كما لا يرغب السود في محاسن البيض، ولا البيض في محاسن السود، وكما لا يرغب اللُّوَّاط في محاسن الجواري ولا الزُّناة في محاسن الغلمان، فلا فخرَ لكم علينا بمحاسن الصور أيها الإنسي.
(٥) فصل في بيان جودة الحواس في الحيوانات
وأما الذي ذكرتَه من جودة حواسكم ودقة تمييزكم وافتخرتم به علينا، فليس ذلك لكم خاصة دون غيركم من الحيوانات؛ لأن فيها ما هو أجود حاسة منكم وأدق تمييزًا، فمن ذلك الجَمَل فإنه مع طول قوائمه ورقبته وارتفاع رأسه من الأرض في الهواء يُبصِر ويرى موضع قدَمَيْه في الطرقات الوعرة والمسالك الصعبة في ظُلَم الليل ما لا يرى ولا يبصر أحدكم إلا بسراج أو مشعل أو شموع، وترى الفرس الجواد يَسمَع وطء الماشي من البعد في ظلمة الليل، حتى إنه ربما نبَّه صاحبه من نَومِه بركضة رجليه حذرًا عليه مِن عدوٍّ أو سبع، وهكذا نجد كثيرًا من الحَمِير والبقر إذا سلك بها صاحبها طريقًا لم يسلكها قبلُ خلاها، ثم رجعتْ إلى مكانها ومعقلها وموضعها المألوف، فلا تَتِيه، وقد يوجد من الإنس مَن قد يسلك طريقًا دفعات ثم إنه يضلُّ فيه ويَتِيه، ونجد من الغنم والشاء ما يَلِد منها في ليلة واحدة عددًا كثيرًا وتسرح من الغد إلى الرعي وتروح بالعشي وتُخلى من الوثاق مائة من البهائم وأكثر، فيذهب كل واحد إلى أمه لا يُشكِل عليها أمهاتها ولا تشتبه، وكذلك أولادها على أمهاتها، والإنسي ربما يمرُّ به الشهر والشهران أو أكثر وهو لا يعرف والدته من أخته، ولا والده من أخيه، فأين وجود الحاسة ودقة التمييز الذي ذكرتَه وافتخرتَ به علينا أيها الإنسي؟!
وأما الذي ذكرتَه من رجحان العقول، فلسنا نرى له أثرًا أو علامة؛ لأنه لو كان لكم عقول راجحة لما افتخرتُم علينا بشيء ليس هو من أفعالكم ولا اكتساب منكم، بل هي مواهب من الله — جلَّ ذِكْرُه — لتعرفوا مواقع النعم وتشكروا له، ولا تعصوه، وإنما العقلاء يفتخرون بأشياء هي مِن أفعالهم من الصنائع المحكمة والآراء الصحيحة والعلوم الحقيقية والمذاهب المرضية والسُّنَن العادلة والطرق المستقيمة، ولسنا نراكم تفتخرون بشيء منها غير دعوى بلا حجة وخصومة بلا بينة.
(٦) فصل في بيان شكاية الحيوان من جَوْر الإنس
قال الملك للإنس: قد سمعتَ الجواب، فهل عندك شيء غير ما ذكرت؟ قال: نعم أيها الملك، هنالك مسائل أُخَر ومناقب غير ما ذكرتُ تدل على أنَّا أرباب وهم عبيد لنا؛ فمن ذلك بَيْعُنا وشراؤنا لها وإطعامنا وسقيانا لها، ونكسوها ونكفيها من الحر والبرد، وندفع عنها السباع أن تفترسها ونداويها إذا مرضت وننفق عليها إذا اعتلَّتْ، ونعلِّمها إذا جَهِلَتْ ونُخليها إذا أَعْيَتْ، ونُعرِض عنها إذا جُنَّتْ، كل ذلك إشفاقًا عليها ورحمة لها، وتحننًا عليها، وكل هذا من أفعال الأرباب بعبيدها والموالي بخولها.
قال الملك للزعيم: قد سمعتَ ما ذكر، فأيُّ شيءٍ عندك؟ أجب! قال زعيم البهائم: أما قوله: إنَّا نبيعها ونشتريها، فهكذا يفعل أبناء فارس بأبناء الروم، وأبناء الروم بأبناء فارس إذا ظَفِر بعضهم ببعض، أفترى أيهم العبيد وأيهم الموالي والأرباب؟! وكذلك يفعل أبناء الهند بأبناء السند، وأبناء السند بأبناء الهند، فأيهم الموالي وأيهم العبيد؟! وهكذا يفعل أبناء الحبشة بأبناء النوبة، وأبناء النوبة بأبناء الحبشة، وكذلك يفعل أبناء الأعراب والأكراد والأتراك بعضهم ببعض، فأيهم — ليتَ شِعرِي! — العبيدُ وأيهم الموالي بالحقيقة؟! وهل هي أيها الملك العادل إلا دُوَل ونُوَب تدور بين الناس بموجبات أحكام النجوم والقرانات كما ذكر الله تعالى ذلك: وتلك الأيام نداولها بين الناس وما يعقلها إلا العالمون، وأما الذي ذكر بأنَّا نطعمها ونسقيها ونكسوها، وما ذكره من سائر ما يفعلون بنا، فليس ذلك شفقة علينا منهم ولا رحمة لنا، ولا تحننًا علينا ولا رأفةً بنا؛ بل مخافة أن نَهلِك فيخسرون أثماننا وتفوتهم المنافع منَّا من شرب ألباننا ودثارهم من أصوافنا وأوبارنا وأشعارنا وركوبهم ظهورنا وحملهم أثقالهم علينا، لا شفقةً ولا رحمةً كما ذكر، ثم تكلم الحمار، فقال الحمار: أيها الملك، لو رأيتَنا ونحن أُسارَى في أيدي بني آدم موقرة ظهورنا بأثقالهم من الحجارة والآجرِّ والتراب والخشب والحديد وغيرها، ونحن نمشي تحتها ونجهد بكدٍّ وعناء شديد وبأيديهم العصا والمقارع يضربون وجوهنا وأدبارنا بحنق وعنف وضجر وصخب، لرَحِمْتَنا ورَثَيْتَ لنا وبكيتَ علينا. أيها الملك، فأين الرحمة؟ وأين الشفقة والرأفة منهم علينا كما زعم هذا الإنسي؟! ثم تكلم الثور فقال: لو رأيتَنا أيها الملك ونحن أُسارَى في أيدي بني آدم مقرَّنين في فدانهم مشدودين في دواليبهم وأرحيتهم مغطَّاة وجوهنا مشدودة أعيننا وهم يضربوننا مع ذلك لرحمْتَنا ورثيتَ لنا وبكيتَ علينا، فأين الرحمة والشفقة والرأفة منهم علينا كما زعم هذا الإنسي؟!
ثم تكلم الكبش فقال: أيها الملك لو رأيتَنَا ونحن أُسارَى في أيدي بني آدم يأخذون صغار أولادنا من الجدي والحملان فيفرِّقون بينها وبين أمهاتها ليستأثروا بألباننا لأولادهم ويجعلوا أولادَنا مشدودة أرجلها وأيديها محمولة إلى المذابح والمسالخ جائعة عطشانة تَصِيح فلا تُرحم، وتصرخ وتستغيث فلا تُغاث، ثم نراها مذبوحة مسلوخة مشقوقة أجوافها مفرَّقة أعضاؤها ورءوسها وكروشها ومصارينها وأكبادها في دكاكين القصَّابين مقطَّعة بالسواطير مطبوخة في القُدُور مشوية في التَّنُّور، ونحن سكوت ولا نبكي ولا نشكو، وإنْ شَكَوْنا أو بكَيْنا لم نُرحَم، فأية رحمة وأية رأفة لهم علينا كما زعم هذا الإنسي؟!
ثم تكلم الجمل فقال: أيها الملك، لو رأيتَنا ونحن أُسارى في أيدي بني آدم مخزومة أنوفنا، بأيدي جمَّاليهم خطامنا، يجرُّوننا على كُرْه منَّا محمَّلة ظهورنا بأثقالهم نُقاد ونُساق في ظلم الليل في القفار والفلوات والمسالك الوعرة والحيوانات قائمة في أوطانها، ونحن نمشي بأثقالهم نصدم الصخور والحجارة والدكادك بأخفافنا مقرَّحة جنوبنا وظهورنا من احتكاك أقتابنا، ونحن جِيَاع عِطَاش لرحمتَنا ورثيتَ لنا وبكيتَ علينا أيها الملك، فأين الرحمة والرأفة علينا كما زعم هذا الإنسي؟!
ثم تكلم الفيل فقال: لو رأيتَنا أيها الملك ونحن أُسارَى في أيدي بني آدم والقيود في أرجلنا والقلوس في رقابنا وكلاليب الحديد في أيديهم يضربون بها في أدمغتنا، يضربوننا يمنة ويسرة على كُرْه منَّا، مع كبر جثَّتنا وعظم خلقتنا وطول أنيابنا وشدة قوانا لا نقدر على دفْع ما نَكْرَه لرحمتَنا ورثيتَ لنا وبكيتَ علينا أيها الملك، فأين الرحمة؟ وأين الرأفة لهم علينا كما زعم هذا الإنسي؟!
ثم تكلم الفرس فقال: أيها الملك، لو رأيتَنا ونحن أسارى في أيدي بني آدم واللجم في أفواهنا والسروج على ظهورنا والبطرنجات والحزم مشدودة على أوساطنا والفرسان المدرعة على ظهورنا تزجُّ وتهجم بنا في الغبار عواري جياعًا وعطاشًا، والسيوف في وجوهنا والسهام في نحورنا والرماح في صدورنا، نخوض المياه ونسبح الدماء لرحمْتَنا ورثيتَ لنا وبكيتَ علينا أيها الملك.
ثم تكلم البغل فقال: لو رأيتنا أيها الملك ونحن أسارى في أيدي بني آدم والشكال في أرجلنا واللجم في أفواهنا والحكمات في أحناكنا والأقفال على فروجنا ممنوعين عن شهوات نتاجنا، والأكف على ظهورنا، وسفهاء الإنس من الساسة والركابة فوق ذلك، وبأيديهم العصي والمقارع يضربون وجوهنا وأدبارنا ويشتمونا بأقبح ما يقدرون عليه من الشتم والفحشاء بحنق وغيظ وسفاهة، حتى إنه ربما بلغ به السفه منهم أن يشتموا أنفسهم وأخَوَاتهم وأمَّهاتهم وبناتهم ويقولون: أَيْر الحمار في است مَن باعه واشتراه أو ملكه، يعني به صاحبه، كل ذلك راجع إليهم وهم به أولى.
فإذا فكَّرتَ أيها الملك فيما هم فيه من هذه الأوصاف من السفاهة والجهالة والفحشاء والقبيح من الكلام رأيتَ منهم عجبًا من قلة التحصيل لما هم فيه من الأحوال المذمومة والصفات القبيحة والأخلاق الرديئة والأعمال السيئة والجهالة المتراكمة، والآراء الفاسدة والمذاهب المختلفة، ثم لا يتوبون ولا هم يذَّكَّرون، ولا يتعظون بمواعظ أنبيائهم، ولا يأتمرون بوصية ربهم حيث يقول: وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ، وقوله تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ، وقوله تعالى: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ، وقوله تعالى: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأرْض إلا على الله رزقها، وقوله تعالى: لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ.
فلما فرغ البغل من كلامه الْتَفَتَ الجمل إلى الخنزير فقال له: قُمْ وتكلَّم واذكر ما تَلقَوْن معشر الخنازير من جور بني آدم، واشكُ إلى الملك الرحيم، فلعله يرقُّ لنا ويرحمنا ويفك أسرنا من أيدي بني آدم، فإنكم من الأنعام.
فقال حكيم من حكماء الجن: لا لعمري، ليس الخنزير من الأنعام، بل من السباع؛ ألا ترى أن له أنيابًا ويأكل الجِيَف؟
وقال قائل آخَر من الجن: بل هو من الأنعام، ألا ترى أن له ظلفًا، ويأكل العشب والعلف؟ وقال الآخَر: لا، بل هو مركَّب من السباع والأنعام والبهائم، مثل الفيل والزرافة مركبة من الحمار والجمل.
ثم قال الخنزير للجمل: والله، ما أدري ما أقول! وعمَّن أشكو من كثرة اختلاف القائلين في أمرنا!
أما حُكَماء الجن فقد سمعتَ ما قالوا، وأما الإنس فهم أكثر اختلافًا في أمرنا وأبعد رأيًا ومذهبًا؛ وذلك أن المسلمين يقولون إنَّا ممسوخون ملعونون، ويستقبِحُون صورتَنَا ويستثقلون أرواحنا ويستقذرون لحومنا، ويتشاءمون من ذِكْرِنا، وأما أبناء الروم فيتنافسون في أكل لحومنا في قرابينهم ويتبرَّكون بها إلى الله.
أما اليهود فيُغضبوننا ويشتموننا ويلعنوننا من غير ذنب منَّا إليهم، ولا جنايةً عليهم، لكنْ لعداوة بينهم وبين النصارى، وأبناء الروم وأبناء الأرمن، فحُكْمنا عندهم كحكم البقر والغنم عند غيرهم يتبرَّكون بنا من خصب أبداننا وسمن لحومنا وكثرة نتاجنا وغزارة ألباننا.
وأما الأطباء من اليونانيين، فيتداوَوْن بشحومنا ويتواصفونها في أدويتهم وعلاجاتهم.
وأما ساسة الدواب فيُخالطوننا بدوابِّهم وعلفها؛ لأن حالها يصلح عندهم بمخالطتنا وشمِّها روائحَنا.
وأما الأساكفة والجرازون فيتنافسون في شعر أعرافنا ويتبادرون في نتْف أسلتنا في شدة حاجتنا إليها، فقد تحيَّرنا، لا ندري لمَن نشكر وممَّن نشكو وممَّن نتظلم؟!
فلما فرغ الخنزير من كلامه التفتَ الحمار إلى الأرنب، وكان واقفًا بين قوائم الجمل، فقال له: قمْ فتكلَّم، واذكر ما تلقَوْن معشر الأرانب من جور بني آدم! واشكُ إلى الملك الرحيم؛ لعله يرحمنا وينظر في أمرنا ويفك أسرنا من أيدي بني آدم!
فقال الأرنب: أمَّا نحن فقد هربنا من بني آدم وتركنا دخول ديارهم وأوينا إلى الدِّحال والغِياض، وسلِمْنا من شرورهم، ولكنَّا بُلِينا بالكلاب والخيل والجوارح ومعاونتهم لبني آدم علينا، وحملهم إلينا وطلبهم لنا ولإخواننا من الغزلان وحُمْر الوحوش وبقرها وإبلها والوعول الساكنة في الجبال اعتصامًا بها.
ثم قال الأرنب: أما الكلاب والجوارح وتعاونهم لبني آدم فهم معذورون في معاونة الإنس علينا، لما لها من النصيب في أكل لحومنا؛ لأنها ليست من أبناء جنسنا، بل من السباع.
أما الخيل فلأنها منَّا، معاشِرَ البهائم، وليس لها نصيب في أكل لحومنا، فما لها ومعاونة الإنس علينا لولا الجهالة وقلة المعرفة وقلة التحصيل للأمور والحقائق؟
فصل في بيان تفضيل الخيل على سائر البهائم وغيرها
قال الإنسي للأرنب: أقصِرْ! فقد أكثرتَ اللَّوْم والذمَّ للخيل، ولو علمتَ أنها خير حيوان سخَّرتْه الإنس لما تكلَّمتَ بهذا الكلام، قال الملك للإنسي: وما تلك الخيرية التي قلتَها؟ اذكرها! قال: خصال محمودة، وأخلاق مَرْضِيَّة، وسيرة عجيبة، من ذلك حُسْن صورتها وتناسُب أعضاء أبدانها، وبنية هيكلها، وصفاء لونها، وحسن شعرها، وسرعة عَدْوِها، وطاعتها لفارسها، كيف شاء وكيف أراد صرفَها انقادتْ له يمنة ويسرة وقدامًا وخلفًا في الطلب والهرب، وذكاء نفسها وجودة حواسِّها، وحُسْن آدابها، ربما لا تبول ولا تروث مادام راكبها عليها، ولا تحرِّك ذنَبَها إذا ابتلَّ شعر ذنبها؛ لئلا يصيب صاحبها، ولها قوة الفيل وتحمِل راكبها بخوذته وجوشنه وسلاحه، مع ما لها من السرج واللجام والتجافيف وآلة الحديد نحو ألف رطل عند سرعة العدو، ولها صبر الحمار عند اختلاف الطعن في صدرها ونحْرِها في الهيجاء وسرعة عدوها في الغارات والطلب كحملات السرحان، وتمشي كمشي السِّنَّوْر في التبختُر، وهرولة كذئب يتنقل، وعطفات أيضًا كعطفات جلمود الصخر إذا حطَّه السيل، ومبادرة للعَدْو في الرِّهان كمَن يطلب الحلبة، قال الأرنب: نعم، ولكنْ لها مع هذه الخصال المحمودة والأخلاق الجميلة عيبٌ كبير يغطِّي هذه الخصال كلها.
فقال الملك: ما هو؟ بيِّن لي! قال: الجهالة، وقلَّة معرفة بالحقيقة؛ وذلك أنه يعدو تحت صاحبه الذي لم يَرَهُ قطُّ في الهرب مثل ما يعدو تحت صاحبه الذي وُلِد في داره وتربَّى في منزله في الطَّلَب، ويحمل عدوَّ صاحبه إليه في طلَبِه كما يحمل صاحبه في طلب عدوِّه، وما مثله في هذه الخصال إلا كمثل السيف الذي لا روح فيه ولا حس ولا شعور ولا معرفة، فإنه يقطع عنق صيقله كما يقطع عنق مَن أراد كسرَه وتعويجه وعيبه أنه لا يعرف الفرق بينهما.
ثم قال الأرنب: ومثل هذه الخصال موجودة في بني آدم، وذلك أن أحدهم ربما يُعادي والدَّيْه وصاحبَه وإخوانه وأقرباءه، ويكيدهم ويسيء إليهم مثل ما يفعله بالعدوِّ البعيد الذي لم يَرَ منه برًّا ولا إحسانًا قط، وذلك أن هؤلاء الإنس يشربون ألبان هذه الأنعام كما يشربون ألبان أمَّهاتهم، ويركبون ظهور هذه البهائم كما يركبون أكتاف آبائهم صغارًا، وينتفعون بأصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثًا ومتاعًا إلى حين، ثم آخِرَ الأمْرِ يذبحونها ويسلخونها، أو يشقون أجوافها ويقطعون مفاصلها ويذيقونها نار الطبخ والشَّيِّ، ولا يرحمونها ولا يذكرون إحسانها إليهم، وما نالوا من فضلها وبركتها.
فلما فرغ الأرنب من لَوْمه الإنس والخيل وما ذكر من عيوبهم، قال الحمار: لا تُكثِر من اللوم، فإنه ما من أحد من الخلق أُعطِيَ فضائل ومواهب جمَّة إلا وقد حُرم ما هو أكثر منها، وما من أحد حُرم مواهب إلا وقد أُعطِيَ شيئًا لم يُعطَه غيره؛ لأن مواهب الله كثيرة لا يستوفيها كلها شخص واحد، ولا نوع ولا جنس واحد؛ بل فُرِّقت على الخلق طرًّا، فمُكثِر ومُقِلٌّ، وما مِن شخص آثار الربوبية فيه أظْهَر إلا ورقُّ العبودية عليه أبْيَن، مثل ذلك نَيِّرا الفلك وهما الشمس والقمر، فإنهما لما أُعطِيا من مواهب الله حظًّا جزيلًا من النور والعظمة والظهور والجلالة حتى إنه ربما توهَّم قوم أنهما ربان إلهان لبيان آثار الربوبية فيهما حُرِما بدلَ ذلك التحرُّز من الكسوف ليكون دليلًا لأولي الألباب على أنهما لو كانا إلهين لما انكسفا، وهكذا حكم سائر الكواكب الفلكية لمَّا أُعطِيَت الأنوار الساطعة والأفلاك الدائرة والأعمار الطويلة، حرمت التحرُّز من الاحتراق والرجوع والهبوط لتكون آثار العبودية عليها ظاهرة، وهكذا حكم سائر الخلق من الجن والإنس والملائكة، فما منها أحد أُعطِيَ فضائل جمَّة ومواهب جزيلة إلا وقد حُرم ما هو أكبر وأجلُّ، وإنما الكمال لله الواحد القهار العزيز الغفار الشديد العقاب، ومن أجْل ما ذكرنا قيل:
ولستَ بمُسْتَبْقٍ أخًا لا تَلُمُّه
على شعثٍ أيُّ الرِّجالِ المُهَذَّبُ؟
فلما فرغ الحمار من كلامه تكلم الثور وقال: لكن ينبغي لمَن وفر حظُّه من مواهب الله — تعالى — أن يؤدِّي شكرَها، وهو أن يتصدَّق من فضل ما أُعطِي على مَن قد حُرم ولم يُرزَق منها شيئًا.
أما ترى الشمس لما وفر حظُّها جزيلًا من النور كيف تفيض من نورها على الخلق ولا تمُنُّ عليهم، وكذلك القمر والكواكب، كل واحد على قدره، وكان سبيل هؤلاء الإنس لما أعطوا من مواهب الله — تعالى — ما قد حُرم غيرهم من الحيوان أن يتصدَّقوا عليها ولا يمنون.
ولما فرغ الثور من كلامه ضجَّتِ البهائم والأنعام وقالت جميعًا: ارحمنا أيها الملك العادل الكريم، وخذْ بأيدينا وخلِّصْنا من جور هؤلاء الإنس الآدميين الظلمة، فالْتَفَتَ الملك عند ذلك إلى جماعة ممَّن حضر من حكماء الجن وعلمائهم فقال: ألا تسمعون شكاية هذه البهائم والأنعام وما يصفون من جور بني آدم عليها وظلمهم لها وتعدِّيهم عليها وقلة رحمتهم بها؟!
قالوا: قد سَمِعْنا كلَّ ما قالوا، وهو حقٌّ وصدق، ومُشاهَد منهم ليلًا ونهارًا لا يَخفَى على العقلاء ذلك، ومن أجْل ذلك هربتْ بنو الجان من بين أيديهم وظهرانَيْهِم إلى البراري والقفار والمفاوز والفلوات ورءوس الجبال والتلال وبطون الأودية وسواحل البحار لما رأَوْا من قبيح أفعالهم وسوء أعمالهم ورداءة أخلاقهم، وتركت أن تأوي ديار بني آدم، ومع هذه الخصال كلها لا يتخلَّصون من سوء ظنهم ورداءة أخلاقهم واعتقادهم في الجن، وذلك أنهم يقولون ويعتقدون أن للجن في الإنس نزغات وخبطات وفزعات في صبيانهم ونسائهم وجُهَّالهم، حتى إنهم يتعوَّذون من شر الجن بالتعاويذ والرُّقَى والأحراز والتمائم وما شاكلها، ولم يَرَوْا قط جنيًّا قتل إنسيًّا أو جرحه أو أخذ ثيابه أو سرق متاعه أو نقب داره أو فتق جيبه أو بتر كمَّه أو فشَّ قفل دكَّانه أو قطع على مسافر أو خرج على السلطان أو أغار غارة أو أخذ أسيرًا، وكل هذه الخصال توجد فيهم، ومنهم بعضًا لبعض ليلًا ونهارًا، ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون.
فلما فرغ القائل من كلامه نادى منادٍ: ألا أيها الملأ، أمسيتم! فانصرفوا إلى مساكنكم مكرمين، لتعودوا غدًا آمنين.
(٧) فصل في بيان منفعة المشاورة لذوي الرأي
ثم إن الملك لما قام من المجلس خلا بوزيره بيراز، وكان رجلًا عاقلًا رزينًا فيلسوفًا حكيمًا، فقال له الملك: قد شاهدتَ المجلس وسمعتَ ما جرى من هؤلاء الطوائف الوافدين من الكلام والأقاويل، وعلمتَ فيما جاءوا له، فبماذا تُشِير أن نفعل بهم؟ وما الرأي الصواب الذي عندك؟
قال الوزير: أيَّد الله الملك وسدَّده وهداه الرشاد، الرأي الصواب عندي أن يأمر الملك قُضاة الجن وفقهاءها وحكماءها وأهل الرأي أن يجتمعوا عنده ويستشيرهم في هذا الأمر، فإن هذه قصة عظيمة وخطب جليل وخصومة طويلة، والأمر فيها مُشكِل جدًّا، والرأي مشترك، والمشاورة تزيد ذوي الرأي الرصين بصيرة، وتُفيد المتحيِّر رشدًا، والحازم اللبيب معرفة ويقينًا.
فقال الملك: نِعْمَ ما رأيتَ، وصوابٌ ما قلت، ثم أمر الملك بعد ذلك بإحضار قضاة الجن من آل جرجيس والفقهاء من بني ناهيد، وأهل الرأي من بني بيران الحكيم، والحكماء من آل لقمان، وأهل التجارب من بني هامان، والحكام والفلاسفة من بني كيوان، وأهل الصرامة والعزيمة من آل بهرام، فلما اجتمعوا عنده خلا بهم، ثم قال لهم: قد علمتم وُرُود هذه الطوائف إلى بلادنا، ونزولهم بساحتنا، ورأيتم حضورهم مجلسنا، وسمعتم أقاويلهم ومناظراتهم وشكاية هذه البهائم الأسيرة من جور بني آدم، وقد استجاروا بنا واستذمُّوا بذمامنا، وتحرَّموا بطعامنا، فماذا ترون؟ وما الذي تشيرون أن نفعل بهم؟ قال رأس الفقهاء من أهل ناهيد: بسط الله يد الملك بالقدرة، ووفقه للصواب، أما الرأي عندي أن يأمر الملك هذه البهائم أن يكتبوا قصتهم، ويذكروا فيها ما يَلْقَوْن من جور بني آدم ويأخذون فيها فتاوى الفقهاء، فإن في هذا خلاصًا لهم ونجاة من الظلم، فإن القاضي سيحكم لهم إمَّا بالبيع أو بالعتق أو بالتخفيف والإحسان إليهم، فإن لم يفعل بنو آدم ما حكم به، وهربت هذه البهائم منهم، فلا وِزْرَ عليها، فقال الملك للجماعة: ماذا تَرَوْن فيما قال وأشار؟ فقالوا: صوابًا ورشادًا، ثم أشار غير صاحب العزيمة من آل بهرام، فإنه قال: أرأيتم إنِ استباعتْ هذه البهائم وأجابتْها بنو آدَم إلى ذلك، مَن ذا الذي يَزِن أثمانها؟ قال الفقيه: المَلِك، قال: مِن أين؟ قال: مِن بيت مال المسلمين من الجن، قال صاحب الرأي: ليس في بيت المال ما يَفِي بأثمان هذه البهائم، وخصلة أخرى: أن كثيرًا من بني آدم لا يرغبون في بيعها لشدة حاجتهم إليها واستغنائهم عن أثمانها؛ مثل الملوك والأشراف والأغنياء، وهذا أمر لا يتم، فلا تُتعِبوا أفكارَكم في هذا، فقال الملك: فما الرأي الصواب عندك؟ قل لنا. قال: الصواب عندي أن يأمر الملك هذه البهائم والأنعام الأسيرة في أيدي بني آدم أن تُجمِع رأيَها وتهرب كلها في ليلة واحدة، وتبعد من ديار بني آدم كما فعلت حُمُر الوحْش والغزلان والوحوش والسباع وغيرها، فإن بني آدم إذا أصبحوا لم يجدوا ما يركبون ولا ما تحمل أثقالهم امتنعوا عن طلبها لبُعْد المسافة ومشقَّة الطريق، فيكون هذا نجاةً لها وخلاصًا من جور بني آدم، فعزم الملك على هذا الرأي، ثم قال لمَن كان حاضرًا: ماذا تَرَوْن فيما قال وأشار؟ قال رئيس الحكماء من آل لقمان: هذا عندي أمرٌ لا يتم، فلا تُتعِبوا أنفسَكم، فهو بعيد المرام؛ لأن أكثر هذه البهائم لا تكون بالليل إلا مقيدة أو مُغلَّلة، والأبواب عليها مغلقة، فكيف يتسنَّى لها الهرب في ليلة واحدة؟!
قال صاحب العزيمة: يبعث الملك تلك الليلة قبائل الجن يفتحون لها الأبواب ويحلُّون عُقُلَها وأوثاقها، ويُخبِلون حرَّاسها إلى أن تبعد البهائم، واعلم أيها الملك بأن لك في هذا أجرًا عظيمًا، وقد محضتُ لك النصيحة لما أدركني من الرحمة لها، وإن الله — تعالى — لما علم من الملك حسن النية وصحة العزيمة، فإنه يُعينه ويؤيِّده وينصره إذا شكر نعمته بمعاونة المظلومين، وتخليص المكروبين، فإن في بعض كتب الأنبياء — عليهم السلام — مكتوبًا يقول الله عز وجل: أيها الملك، إنِّي لم أسلِّطْك لتجمع المال وتتمتع وتشتغل بالشهوات واللذات، ولكن لتردَّ عني دعوة المظلوم، فإني لا أردُّها ولو كانت من كافر، فعزم الملك إلى ما أشار به صاحب الرأي، ثم قال لمَن حوله من الحضور: ماذا تَرَوْن فيما قال؟ قالوا: محَّض النصيحة وبذل المجهود، فصدَّقوا رأيَه جميعًا غير حكيم من آل كيوان، فإنه قال: بصَّرك الله أيها الملك خفِيَّات الأمور، وكشف عن بصرك مشكلات الأسباب والدهور، إن في هذه الأسباب والعمل خَطْبًا جليلًا لا تؤمن غائلة عاقبته، ولا يُستدرَك إصلاح ما فات منه، ولا ما فرط، فقال الملك: عرِّفنا يا حكيم ما الرأي؟ وما الذي يُخاف ويُحذر؟ بيِّن لنا لنكون على علم وبصيرة، قال: نعم، أرأيتَ أيها الملك إن تمَّ ما أُشير به عليك من وجْه نجاة هذه البهائم من أيدي بني آدم وهربها من أيديهم، أليس بنو آدم من الغد يُصبِحون وقد رَأَوْا حادثًا عظيمًا من فرار هذه البهائم وهربها من ديارهم فيعلمون يقينًا بأن ذلك ليس من فعل البهائم ولا من تدبير الإنس، بل لا يشكُّون بأن ذلك من فعل الجن وحيلتهم! قال الملك: لا شك فيه، قال: أليس بعد ذلك كلما فكَّر بنو آدم فيما فاتها من المنافع والمرافق بهربها منهم امتلأت حزنًا وغيظًا وغمًّا وأسفًا على ما فاتها وحقدت على بني الجان عداوة وبغضًا، وأضمرت لهم حيلًا ومكائد ويطلبونهم كل مطلب، ويرصدونهم كل مرصد، ويقع بنو الجان عند ذلك في شغل وعداوة ووَجَل كانوا في غنًى عنه.
وقد قالت الحكماء: إن اللبيب العاقل هو الذي يُصلِح بين الأعداء، ولا يَجلِب إلى نفسه عداوة، ويجر المنافع إلى غيره ولا يضر نفسه، قالت الجماعة: صدق الحكيم الفيلسوف الفاضل، ثم قال القائل من الحكماء: ما الذي يُخاف ويُحذر من عداوة الإنس لبني الجان أيها الحكيم أنْ ينالوهم من المكاره، وقد علمتَ بأن الجان أرواح خفيفة نارية تتحرك علوًّا طبعًا، وبنو آدم أجساد أرضية ثقيلة تتحرك بالطبيعة سفلًا، ونحن نراهم ولا يَرَوْنا، ونسير فيهم ولا يُحِسُّون بنا، ونحن نُحيطهم وهم لا يمسوننا، فأي شيء يُخاف منهم علينا أيها الحكيم؟ فقال له الحكيم: هيهات، ذهب عنك عظامها، وخفي عليك أجسامها، أما علمتَ أن بني آدم وإن كانت لهم أجساد أرضية ثقيلة؛ فإن لهم أرواحًا فلكية ونفوسًا ناطقة ملكية بها يفضلون عليكم ويمتازون عنكم؟! واعلموا أن لكم فيما مضى من أخبار القرون الأولى معتبرًا ومختبرًا، وفيما جرى بين بني آدم وبين بني الجان في الدهور السالفة دليلًا واضحًا، فقال الملك: أخبرنا أيها الحكيم كيف كان؟ وحدِّثْنا بما جرى من الخطوب، وكيف تم ذلك؟
(٨) فصل في بيان العداوة بين بني الجان وبين بني آدم وكيف كانت
قال الحكيم: نعم، إنَّ بين بني آدم وبني الجان عداوة طبيعية، وعصبية جاهلية، وطباعًا متنافرة يطول شرحها، قال الملك: اذكرْ منها طرفًا، وابتدِئ من أوَّله، قال الحكيم: فاعلم أن بني الجان كانتْ في قديم الأيام والأزمان قبل آدم أبي البشر — عليه السلام — سكان الأرض وقاطنيها، وكانوا قد طبَّقوا الأرض برًّا وبحرًا، سهلًا وجبلًا، فطالَتْ أعمارُهم وكثرت النعمة لديهم، وكان فيهم المُلْك والنُّبُوَّة والدِّين والشريعة، فطَغَتْ وبَغَتْ وتركتْ وصية أنبيائها وأكثرتْ في الأرض الفساد، فضجَّتِ الأرض ومَن عليها من جورهم، فلما انقضى الدور واستؤنف القِرَان أرسل الله — تعالى — جندًا من الملائكة نزلت من السماء فسكنتِ الأرض، وطردتْ بني الجان إلى أطراف الأرض منهزمة، وأخذت سبيًا كثيرًا منها، وكان فيمن أُخذ أسيرًا عزازيل إبليس اللعين فرعون آدم، وهو إذ ذاك صبيٌّ لم يُدرِك.
فلما نشأ مع الملائكة تعلَّم من علمها وتشبَّه بها في ظاهر الأمر، وأخذ من رسومه وجوهره غير رسومها وجوهرها، ولما طالتِ الأيام صار رئيسًا فيها آمرًا ناهيًا متبوعًا حينًا ودهرًا من الزمان والدهر، فلما انقضى الدور واستؤنف القِرَان أوْحَى الله إلى أولئك الملائكة الذين كانوا في الأرض فقال لهم: إني جاعلٌ في الأرض خليفة من غيركم، وأرفعكم إلى السماء»، فكرهَتِ الملائكة الذين كانوا في الأرض مفارقة الوطن المألوف، وقالتْ في مراجعة الجواب: أتجعلُ فيها مَن يُفسِد فيها ويسفك الدماء كما كانت بنو الجان، ونحن نسبِّح بحمدك ونقدس لك؟! قال: «إني أعلم ما لا تعلمون؛ لأنِّي آلَيْتُ على نفسي أنْ لا أترك على وجه الأرض أحدًا من الملائكة، ولا من الإنس ولا من سائر الحيوان»، ولهذا اليمين سرٌّ قد بينَّاه في موضع آخَر، فلما خلق الله — تعالى — آدم وسوَّاه ونفخ فيه من روحه، وخلق زوجته حواء أمَرَ الملائكة الذين كانوا في الأرض بالطاعة، فانقادتْ لهما جميعًا ما عدا عزازيل، فإنه أنِفَ وتكبَّر وأخذتْه الحَمِيَّة حميَّة الجاهلية والحسد لما رأى أن رياسته قد زالتْ ويحتاج أن يكون تابعًا بعدما كان متبوعًا، ومرءوسًا بعدما كان رئيسًا، فأمر أولئك الملائكة أن يصعدوا بآدم عليه السلام فأدخلوه الجنة، وهي بستان من الشرق على رأس جبل الياقوت الذي لا يقدر أحد من البشر أن يصعد هنالك وهي طيبة التربة معتدلة الهواء شتاءً وصيفًا، ليلًا ونهارًا كثيرة الأنهار مخضرة الأشجار مفننة الثمار والفواكه والرياض والرياحين والأنهار والأزهار كثيرة الحيوانات غير المؤذية والطيور الطيبة الأصوات اللذيذة الألحان والنغمات، وكان على رأس آدم وحواء شعر طويل مدلًّى كأحسن ما يكون على الجواري والأبكار، يبلغ قدميهما ويستر عورتيهما، وكان دثارًا لهما وسترًا لهما وزينة وجمالًا، وكانا يمشيان على حافات تلك الأنهار، ويشمَّان من الرياحين والأزهار، ويأكلان من ثمار تلك الأشجار ويشربان من مياه تلك الأنهار بلا تعبٍ من الأبدان، ولا عناءٍ من النفوس، ولا مشقة من كدِّ الحرث والنسل والزرع والسقي والحصاد والدراس والطحن، والخبر والغزل والنسج والخياطة والغسل، وما اليوم أولادهما به مبتلَوْن من شقاوة أسباب المعاش في هذه الدنيا، وكان حكمهما في تلك الجنة حكم الحيوانات التي هناك مستودعين مستريحين متلذِّذين، وكان الله — تعالى — ألْهَمَ آدم أسماء تلك الأشجار والثمار والرياحين وأسماء تلك الحيوانات التي هناك.
فلما نطق آدم سأل الملائكة عنها، فلم يكن عندها جواب، فغدا عند ذلك آدم معلِّمًا يُعرِّفها أسماءها ومنافعها ومضارَّها، فانقادت الملائكة لأمره ونهيه لما تبيَّن لها فضله عليها.
ولمَّا علم عزازيل ذلك ازْداد بُغْضًا وحسدًا لهما بالمكر والخديعة والحِيَل والدغل والغِشِّ، ثم أتاهما بصورة الناصح فقال لهما: لقد فضَّلَكما ربكما بما أنعم به عليكما من الفصاحة والبيان، ولو أكلتما من هذه الشجرة، لازددتما علمًا وبقيتما ها هنا خالدين آمنين لا تموتان، فاغترَّا بقوله لمَّا حلف لهما: إني لكما لمن الناصحين، وحملهما الحِرصُ، فتسابقا وتناولا ما كان منهيَّيْن عنه.
فلما أكلا منها تناثرتْ شعورهما وانكشفتْ عوراتهما وبقيا عريانين، وأصابهما حر الشمس فاسودَّتْ أبدانهما وتغيَّرتْ ألوان وجوههما، ورأتِ الحيوان حالهما فأنكرتْهما ونفرَتْ منهما واستوحشَتْ من سوء حالهما، وأمر الله — تعالى — الملائكة أنْ أخرِجوهما من هناك، فرَمَوْهما إلى أسفل الجبل، فوقعا في برِّيَّة قفراء، لا نبت فيها ولا ثمر، وبقيا هناك زمانًا طويلًا يبكيان وينوحان حزنًا وأسفًا على ما فاتهما نادمين على ما كان منهما.
ثم إن رحمة الله — تعالى — تداركتْهما، فتاب الله — تعالى — عليهما، وأرسل ملكًا يعلِّمهما الحَرْث والزَّرْع والدِّرَاس والحَصَاد والطَّحْن والخَبْز والغَزْل والطَّبْخ والخياطة واتخاذ اللباس.
ثم لمَّا توالدا وتناسلا وكثرت ذريتهما خالَطَهم أولاد بني الجان، وعلَّموهم الصنائع والحرث والغرس والبنيان والمنافع والمضارَّ وصادقوهم، وتودَّدوا إليهم وعاشروهم مدة من الزمان بالحُسْنى، ولكن كلما ذكر بنو آدم ما جرى على أبيهم من كيد عزازيل وعداوته لهم امتلأتْ قلوب بني آدم غيظًا وحقدًا على بني الجان، فلما قتل قابيل هابيل اعتقدتْ أولاد هابيل بأن ذلك من تعليم بني الجان، فازدادوا غيظًا وعداوة، وطلبوهم كل مطلب واحتالوا عليهم بكل حيلة من العزائم والرُّقَى والمَنَادِل والدخن ودخان النفط والكبريت والحبس في القوارير والعذاب بألوان الدخان والبخارات المؤذية لأولاد بني الجان المنفِّرة لهم، المُشَتِّتة لأغراضهم، فكان ذلك دأبهم إلى أن بعث الله إدريس النبي — عليه السلام — وهو هرمس بلغة الحكماء، فأصلح بين بني الجان وبين أولاد آدم — عليه السلام — بالدِّين والشريعة والإسلام والملة وتراجعت بنو الجان إلى ديار بني آدم وخالطوهم وعاشوا فيها معهم بخير إلى أيام الطوفان، وبعد ذلك إلى أيام إبراهيم، فلما طُرح في النار اعتقد بنو آدم بأن تعليم المنجنيق كان من بني الجان لنمرود الجبار، فلما طرح إخوة يوسف — عليه السلام — أخاهم في الجُبِّ نُسب ذلك إلى نزغات الشيطان من أولاد الجان.
فلما بعث الله موسى — عليه السلام — أصلح بين بني الجان وبني إسرائيل بالدِّين والشريعة، ودخل كثير من الجن في دين موسى عليه السلام.
فلما كان أيام سليمان بن داود — عليهما السلام — شيَّد الله ملكه وسخَّر له الجن والشياطين، وغلب سليمان — عليه السلام — على ملوك الأرض، افتخرت الجن على الإنس بأن ذلك كان من معاونة الجن لسليمان وقالت: لولا معاونة الجن لسليمان كان حكمه حكم أحد ملوك بني آدم، وكانت الجن تُوهِم الإنس أنها تعلم الغيب.
فلما كان موت سليمان — عليه السلام — والجن في العذاب المُهِين لم تشعر بموته، فتبيَّن أنها لو كانتْ تعلم الغيب ما لبثوا في العذاب المهين.
وأيضًا لما جاء الهدهد بخبر بلقيس وقال سليمان — عليه السلام — ما قال للملأ من الجن والإنس: أيكم يأتيني بعرشها؟ افتخرتِ الجن، قال عفريتٌ من الجن وهو أضطر بن مايان من آل كيوان: أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك؛ أي مجلس الحكمة، قال سليمان: أريد أسرع من هذا، قال الذي عنده علم من الكتاب: «أنا آتيك به قبل أن يرتدَّ إليك طرفك»، وهو آصف بن برخيا.
فلما رآه مستقرًّا عنده خرَّ سليمان — عليه السلام — ساجدًا لله — تعالى — وتبيَّن فضْل الإنس على الجن، وانقضى المجلس وانصرفت الجن من المجلس من هناك خجلين منكِّسين رءوسهم وغوغاء الإنس يتغطغطون في أثرهم، ويستقفون أثرهم شامتين بهم.
فلما جرى ما ذكرتُه هربتْ طائفة من الجن من سليمان، وخرج عليهم خارج منهم، فوجَّه سليمان — عليه السلام — في طلبهم من جنوده، وعلَّمهم كيف يأخذونهم بالرُّقَى والعزائم والكلمات والآيات المنزَّلات، وكيف يحسبونهم بالمنادل، وعمل في ذلك كتابًا وُجد في خزانته بعد موته، وشغل سليمانُ — عليه السلام — طغاة الجن بالأعمال الشاقَّة إلى أن مات.
ثم لما بُعث المسيح — عليه السلام — دعي الخلق من الجن والإنس إلى الله — تعالى عزَّ وجلَّ — ورغَّبهم في لقائه، وبيَّن لهم طريق الهدى، وعلَّمهم كيف الصعود إلى ملكوت السموات، فدخل في دينه طوائف من الجن وترهَّبتْ وارتقتْ إلى هناك، واستمعتْ من الملأ الأعلى الأخبار، وألقتْ إلى الكهنة.
فلما بعث الله محمدًا — صلى الله عليه وآله — مُنعتْ من استراق السمع، وقالت: «لا ندري أشرٌّ أُريد بمَن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدًا؟» ودخلت قبائل من الجن في دينه وحسن إسلامُها وانصلح الأمر بين بني الجان وبين المسلمين من أولاد آدم — عليه السلام — إلى يومنا هذا.
ثم قال الحكيم: يا معشر الجن! لا تتعرَّضوا لهم ولا تفسدوا الحال بينكم وبينهم، ولا تحرِّكوا الأحقاد الساكنة، ولا تثيروا الأضغان الكامنة والبغضاء والعداوة القديمة المركوزة في الطباع، والجِبِلَّة، فإنها كالنار الكامنة في الأحجار تَظهَر عند احتكاكها، فتشتعل بالكباريت، فتحترق المنازل والأسواق، ونعوذ بالله من ظفر الأشرار ودولة الفُجَّار والعار والبوار، فلما سمع الملك والجماعة هذه القصة العجيبة أطرقتْ مفكِّرة فيما سمعتْ.
ثم قال الملك الحكيم: فما الرأي الصواب عندك في أمر هذه الطوائف الواردة المستجيرة بنا؟ وعلى أي حال نصرفهم من بلادنا راضين بالحكم الصواب؟
قال الحكيم: الرأي الصواب لا يسنح إلا بعد التثبُّت والتأنِّي بالفكْر والروِيَّة والاعتبار بالأمور الماضية، والرأي عندي أن يجلس الملك غدًا في مجلس النظر ويحضر الخصوم ويسمع عنهم ما يقولون من الحجة والبيان، ليتبيَّن له على مَن يتوجَّه الحُكْم، ثم يدبِّر الرأي بعد ذلك.
قال صاحب العزيمة: أرأيتم إنْ عجزتْ هذه البهائم عن مقاومة الإنس في الخطاب بقصورها عن الفصاحة والبيان، واستظهرت الإنس عليها بذرابة ألسنتها وجودة عبارتها وفصاحتها، أترى أن تبقَى هذه البهائم أسيرة في أيديهم ليسوموها سوء العذاب دائمًا؟ قال: لا، ولكن تَصِير هذه البهائم في الأسْر والعبودية إلى أن ينقضي دور القِرَان، ويُستَأْنَف نشوء آخَر، ويأتي الله لها بالفرج والخلاص كما نجَّى آل إسرائيل من عذاب فرعون، وكما نجَّى آل داود من عذاب بختَ نصر، وكما نجَّى آل حِمْيَر من عذاب آل تُبَّع، وكما نجَّى آل ساسان من عذاب اليونان، وكما نجَّى آل عمران من عذاب أزدشير.
فإن أيام هذه الدنيا دُوَل بين أهلها، تدور بإذن الله — تعالى — وسابِق علمه ونفاذ مشيئته بموجبات أحكام القرانات والأدوار في كل ألف سنة مرة، أو في كل اثنتي عشر ألف سنة مرة، أو في كل ستة وثلاثين ألف سنة مرة، أو في كل ثلاثمائة ألف وستين ألف سنة مرة، أو في كل يوم مقداره خمسين ألف سنة مرة، فاعلم جميع ذلك.
تعليق