إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

رسائل إخوان الصفاء وخِلَّان الوفاء (الجزء الثاني- الرسالة الخامسة)

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • رسائل إخوان الصفاء وخِلَّان الوفاء (الجزء الثاني- الرسالة الخامسة)

    الرسالة الخامسة

    من الجسمانيات الطبيعيات في بيان تكوين المعادن




    بسم الله الرحمن الرحيم

    الْحَمْدُ لِلهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ

    (١) فصل


    واعلم أيها الأخ البار الرحيم — أيَّدك الله وإيانا بروح منه — أنَّا قد بينَّا في رسالة الآراء والمذاهب بأن العالم مُحدَث مُبدَع مُختَرَع كائنٌ بعدَ أنْ لم يكن، وأن مُبدِعَه ومُختَرِعه ومُحدِثه وخالِقه ومصوِّره هو الباري — جلَّ جلالُه — أبدعه كما شاء وكيف شاء بقوله تعالى: كُنْ فكان، كما بينَّا في رسالة المبادئ العقلية، فنزيد أنْ نذكر في هذه الرسالة طرفًا من الحوادث والكائنات التي تتكوَّن وتفسد تحت فلك القمر بطول الأزمان والدهور والأدوار، كما بينَّا أيضًا كيفية فناء العالَم وكيفية نشء الآخرة والحشر والحساب والميزان والجواز على الصراط والنجاة من النيران والوصول إلى الجنان، وكيفية مجاورة الرحمن في رسالة البعث والقيامة؛ إذ قد تبيَّن ببراهين منطقية ودلائل عقلية بأن عالم الأفلاك وجواهر أشخاصها لا تمتزج بعضها ببعض، ولا تختلط أجزاؤها، ولا يتكوَّن منها شيء غيرها، بل هي باقية بما هي عليه الآن بطول الأزمان والدهور، وأنها أيضًا لا تتغير ولا تفسد ولا تستحيل ما دامت لها هذه الحركة الدورية والأشكال الكروية، إلا أنْ يشاء باريها ومبدِعُها وخالقها أن يُبطِلها دفعة واحدة أو على التدريج أو يوقفها عن الدوران وهو أهون عليه: وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.

    واعلم أن وقوف الأفلاك عن الدوران هو موت العالم وبطلان حياة الكل ومفارقة النفس الكلية الفلكية عن الأجسام كلها دفعة واحدة، وتلك هي القيامة الكبرى والبوار الكلي وبطلان الجملة؛ لأن موت كل شخص من أشخاص الحيوانات هو مفارقة نفسه جسده، وهي قيامته كما قال رسول الله — صلَّى الله عليه وآله: «مَن مَاتَ فقد قَامتْ قيامتُه.» وقد بينَّا في رسالة لنا أن العالم إنسانٌ كبير ذو جسم ونفس وحياة وعلم، فاعرف حقيقة ما ذكرناه من هناك.

    ثم اعلم يا أخي أن استحالة الكائنات الفاسدات التي تحت فلك القمر هي خمسة أنواع، فمنها: استحالة الأركان الأربعة بعضها إلى بعض، كما بينَّا طرفًا من كيفية ذلك في رسالة الكون والفساد، ومنها حوادث الجو وتغييرات الهواء، كما بينَّا طرفًا منها في رسالة الآثار العلوية، ومنها استحالة الكائنات الفاسدات التي تتكوَّن وتنعقد في باطن الأرض وعمق البحار وجوف الجبال، وهي الجواهر المعدنية كما سنبين طرفًا من كيفيتها في هذه الرسالة، ومنها استحالة النبات والأشجار، وهو كل جسم يتغذى وينمو كما بينَّا طرفًا منها في رسالة النبات، ومنها استحالة الحيوان، وهو كل جسم متحرك حساس كما بينَّا طرفًا منها في رسالة الحيوانات بعد ذكر النبات.

    واعلم أن هذه الأشياء التي ذكرنا أنها تتكون وتحدث وتتغير وتفسد بطول الزمان والدهور وتناوب الليل والنهار وتعاقب الشتاء والصيف على الأركان الأربعة التي هي الأرض والماء والهواء والنار، إنما يكون باختلاف أحوالها بحسب موجبات أحكام النجوم في القِرانات والألوف والأدوار، وبحسب أشكال الفلك ومسيرات الكواكب ومطارح شعاعاتها من الأوتاد والآفاق، ونريد أن نبيِّن كيفية تكوين المعادن وأسرار اختلاف جواهرها وأنواعها وخواصها ومنافعها ومضارِّها.

    وإذ قد فرغنا من ذكر أدوار الأفلاك وحركات الكواكب وقرانها في السنين والدهور، وكم هي، وكيف هي، وكيف يكون ذلك في رسالة لنا، فاعلم أن لكل كائن وحادث تحت فلك القمر أربع علل: علة فاعلية، وعلة هيولانية، وعلة صورية، وعلة تمامية.

    فالعلة الفاعلية للجواهر المعدنية بإذن باريها — جلَّ جلالُه — هي الطبيعة، وقد بيَّنَّا ماهية الطبيعة وكيفية أفعالها في رسالة لنا.

    وأما العلة الهيولانية للجواهر المعدنية فهي الزئبق والكبريت كما سنبيِّن في هذه الرسالة.

    والعلة الصورية: هي دوران الأفلاك وحركات الكواكب حول الأركان الأربعة التي هي النار والهواء والماء والأرض.

    وأما العلة التمامية: فهي المنافع التي ينالها الإنسان والحيوانات جميعًا من هذه الجواهر المعدنية بإذن الله جلَّ جلالُه.


    فصل


    اعلم يا أخي أن الجواهر المعدنية مختلفة في طباعها وطعومها وألوانها وروائحها، كل ذلك بحسب اختلاف تُرَب بقاع معادنها ومياهها، وتغييرات أهويتها؛ وذلك أن كرة الأرض بجملتها وجميع أجزائها، عمقها وظاهرها وباطنها طبقات سافٌ فوق سافٍ متلبِّدة منعقدة مختلفة التركيب والخِلْقة؛ فمنها صخور وجبال صلبة وأحجار وجلامد صلدة وحصاة ملس ورمال جريشة وطين رخو وتراب لين وسباخ وشورج بعضها مختلط ببعض أو متجاورة كما وصفها الله — تعالى — بقوله: وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ، وهي مختلفة الألوان والطعوم والروائح، فمِن ترابِها وطينها وأحجارها حُمْر وبِيض وسُود وخُضْر وزُرْق وصُفْر، كما ذكر الله — تعالى — بقوله: وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ، ومِن ترابِها وطينِها ما هو عذْب مذاقُه ومرٌّ طعْمُه أو مالح أو عفص أو حامض أو حلو، ومنه ما هو طيب شمُّه ومنتِن رائحته، فإن الأرض بجملتها كثيرة التخلخل والثقب والتجاويف والعروق والجداول والأنهار داخلها وخارجها كثيرة الأهوية والمغارات والكهوف، وكل هذه مملوءة من المياه والبخارات، وتكون طعوم تلك المياه وروائحها وغلظها ولطافتها وثقلها وخفتها بحسب تربة بقاعها وطين مكانها وأجوافها وقرارات مستنقعاتها.


    فصل


    واعلم بأن الجواهر المعدنية ثلاثة أنواع؛ فمنها ما يتكون في التراب والطين والأرض السبخة، ويتم نضجه في السنة أو أقل منها كالكبريت والأملاح والشبوب والزاجات وما شَاكَلَها، ومنها ما يتكون في قعْر البحار وقرار المياه ولا يتم نضجه إلا في سنة أو أكثر منها كالدرِّ والمرجان، فإن أحدهما نباتي وهو المرجان، والآخر حيواني وهو الدُّرُّ، ومنها ما يتكون في كهوف الجبال وجوف الأحجار وخلل الرمال، ولا يتم نضجه إلا في سنين كالذهب والفضة والنحاس والحديد والرصاص وما شاكلها، ومنها ما لا يتم نضجه إلا في عدد سنين كالياقوت والزبرجد والعقيق وما شاكلها، ونريد أن نبيِّن ونَصِف طرقًا من كيفية تكوين كل نوع من هذه ليكون دلالة على سائرها، ولكن نحتاج قبل وصفنا هذه الأشياء أن نذكر صورة الأرض وكيفية قسمة أرباعها وصفات تلك الأرباع كيف تتغير أحوالها، وكيف تتبدَّل صفاتُها في الدهور والأزمان الطوال فنقول: إن الأرض بجميع ما عليها من البحار والجبال والبراري والأنهار والعمران والخراب هي كرة واحدة معلَّقة في الهواء في مركز العالَم بإذن الله — جلَّ جلالُه — كما بيَّنَّا في رسالة الجغرافيا، فنقول إن الأرض بجملتها نصفان؛ نصف شمالي ونصف جنوبي، وظاهر كل قسم منها ينقسم إلى نصفين؛ فتكون جملته أربعة أرباع، كل ربع منها موصوف بأربعة أنواع، فمنها مواضع براري وقفار وفلوات وخراب، ومنها مواضع البحار والأنهار والآجام والغدران، ومنها مواضع الجبال والتلال والارتفاع والانخفاض، ومنها مواضع المراعي والقرى والمدن والعمران.

    واعلم يا أخي أن هذه المواضع تتغير وتتبدل على طول الدهور والأزمان، وتصير مواضع الجبال براري وفلوات، وتصير مواضع البراري بحارًا وغدرانًا وأنهارًا، ويصير مواضع البحار جبالًا وتلالًا وسباخًا وآجامًا ورمالًا، وتصير مواضع العمران خرابًا، ومواضع الخراب عمرانًا، فوجب أن نذكر طرفًا من هذه الأوصاف؛ إذ كان هذا الفن من العلوم الغريبة البعيدة عن أفكار كثير من أهل العلم المرتاضين فضلًا عن غيرهم.

    واعلم بأن في كل ثلاثة آلاف سنة تنتقل الكواكب الثابتة وأوجات الكواكب السيارة وجو زهرانها في البروج ودرجاتها، وفي كل تسعة آلاف سنة تنتقل إلى ربع من أرباع الفلك، وفي كل ستة وثلاثين ألف سنة تدور في البروج الاثني عشر دورة واحدة، فبهذا السبب تختلف مسامتات الكواكب ومطارح شعاعاتها على بقاع الأرض وأهوية البلاد، ويختلف تعاقب الليل والنهار والشتاء والصيف عليها، إما باعتدالٍ واستواءٍ أو بزيادة ونقص وإفراط من الحرارات والبرودات واعتدال منهما، وتكون هذه أسبابًا وعللًا لاختلاف أحوال الأرباع من الأرض وتغييرات أهوية البلاد والبقاع وتبديلها بالصفات من حال إلى حال.

    ويَعرِف حقيقةَ ما قلنا الناظرون في علم المَجَسْطي وعلوم الطبيعيات، فتصير بهذه العلل والأسباب مواضع العمران خرابًا، ومواضع الخراب عمرانًا، ومواضع البراري بحارًا، ومواضع البحار براري وجبالًا، ويَعرِف حقيقةَ ما قلناه وصحة ما ذكرناه الناظرون في علم الطبيعيات والإلهيات، الباحثون عن علل الكائنات الفاسدات التي تحت مقعد فلك القمر وكيفية تغييراتها، ولكن نريد أن نَصِف طرفًا من كيفية تكوين الجبال في البحار، وكيف يَصِير الطين اللين أحجارًا، وكيف تنكسر الأحجار فتصير منها حصًى ورملًا، وكيف تحملها سيول الأمطار إلى البحار في جريان الأودية والأنهار، وكيف ينعقد من ذلك الطين والرمال في قعور البحار حجارة وجبالًا.

    واعلم يا أخي أن البحار هي كالمستنقعات على وجه الأرض، فإن الجبال منها كالمسنات والبريدات لها، لتفصل البحار بعضها عن بعض، ولئلا يكون وجه الأرض كله مغطًّى بالماء، وذلك أنه لو لم تَكُنِ الجبال على وجه الأرض وكان وجهها مستديرًا ملسًا لكانت مياه البحار تنبسط على وجهها، وتغطِّيها من جميع جهاتها، وتحيط بها كإحاطة كرة الهواء بالأرض كلها، وكان وجه الأرض كله بحرًا واحدًا، ولكن العناية الإلهية والحكمة الربانية قد قضتْ أن يكون وجه الأرض بعضه مكشوفًا ليكون مسكنًا لحيوان البر، وبعضه لمنابت العشب والأشجار والزروع، إذ كانت هذه غذاء الحيوانات ومادة لأجسادها: ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ.

    واعلم يا أخي أن الأودية والأنهار كلها تبتدئ من الجبال والتلال وتمر في مسيلها وجريانها نحو البحار والآجام والغدران، وأن الجبال من شدة إشراق الشمس والقمر والكواكب عليها بطول الأزمان والدهور، تنشف رطوباتها وتزداد جفافًا ويبسًا، وتنقطع وتنكسر، وخاصة عند انقضاض الصواعق، وتصير أحجارًا وصخورًا أو حصًى ورمالًا، ثم إن الأمطار والسيول تحط تلك الصخور والرمال إلى بطون الأودية والأنهار، ويحمل ذلك شدة جريانها إلى البحار والغدران والآجام، وإن البحار لشدة أمواجها وشدة اضطرابها وفورانها تبسط تلك الرمال والطين والحصى في قعرها سافًا على ساف بطول الزمان والدهور، ويتلبَّد بعضها فوق بعض، وينعقد وينبت في قعور البحار جبالًا وتلالًا، كما تتلبَّد من هبوب الرياح دِعَاص الرمال في البراري والقفار.

    واعلم يا أخي أنه كلما انطمت قعور البحار من هذه الجبال والتلال التي ذكرنا أنها تنبت، فإن الماء يرتفع ويطلب الاتساع وينبسط على سواحلها نحو البراري والقفار، ويغطِّيها الماء، فلا يزال ذلك دأبه بطول الزمان حتى تصير مواضع البراري بحارًا ومواضع البحار يبسًا وقفارًا، وهكذا لا تزال الجبال تنكسر وتصير أحجارًا وحصًى ورمالًا تحطُّها سيول الأمطار، وتحملها إلى الأودية والأنهار بجريانها حتى البحار، وتنعقد هناك كما وصفنا، وتنخفض الجبال الشامخة وتنقص وتقصر حتى تستوي مع وجه الأرض، وهكذا لا يزال ذلك الطين والرمال تنبسط في قعر البحار وتتلبَّد وتنبت عنها التلال والروابي والجبال، وينصبُّ من ذلك المكان الماء حتى تظهر تلك الجبال وتنكشف هذه التلال، وتصير جزائر وبراري، ويصير ما يبقى من الماء في وهادها وقعورها بحيرات أو آجامًا أو غدرانًا، وينبت فيها القصب والوحال، فلا تزول السيول تحمل إلى هناك الطين والرمال والوحول حتى تجفَّ تلك المواضع، وتنبت هناك الأشجار والعكرش والعشب، وتصير مواضع للسباع والوحوش، ثم يقصدها الناس لطلب المنافع والمرافق من الحطب والصيد وغيرها، وتصير مواضع الزروع والغروس والنبات بلدانًا وقرًى ومدنًا يسكنها الناس.

    واعلم يا أخي أن هذه البحار التي ذكرنا أنها كالمستنقعات على وجه الأرض وبينها جبال شامخة، وهي كالمسنيات لها، وهي متصلة بعضها ببعض، إما بخلجان بينها على ظاهر الأرض، وإما بمنافذ لها وعروق في باطن الأرض، وإن في وسط هذه البحار جزائرَ كثيرة صغارًا وكبارًا وأنهارًا، ومنها عامرة بالناس فيها مزارع وقرًى ومدن وممالك، ومنها براري وقفار فيها جبال وآجام تسكنها سباع ووحوش وأنعام وأنواع من الحيوانات لا يعلم كثرتها إلا الله، وفي وسط تلك الجزائر بحيرات صغار وكبار، وأنهار وغدران وآجام، ومنها ما مياهها عذبة ومنها مالحة شديدة الملوحة، ومنها دون ذلك مختلفة أحوالها وأوصافها، فلنذكر طرفًا من عللها ليُعلَم حقيقة ما قلنا وصحة ما وصفنا.

    أما علة هيجان البحار وارتفاع مياهها وبروزها على سواحلها وشدة تلاطم أمواجها وهبوب الرياح في وقت هيجانها إلى الجهات الخمس في أوقات مختلفة من الشتاء والصيف والربيع والخريف، أوائل الشهور وأواخرها، وساعات الليل والنهار، فهي من أجل أن مياهها إذا حميت في قرارها، وسخنتْ لطفتْ وتحلَّلتْ وطلبتْ مكانًا أوْسَعَ ممَّا كانتْ فيه قبلُ، فيتدافع فيه بعض أجزائها إلى الجهات الخمس فوقًا وشرقًا وجنوبًا وشمالًا وغربًا للاتساع، فيكون في الوقت الواحد على سواحلها رياح مختلفة في جهات مختلفة، وأما علة هَيَجَانِها في وقت دون وقت فهو بحسب شكل الفلك ومطارح شعاعاته على سطوح تلك البحار من الآفاق والأوتاد الأربعة واتصالات القمر بها عند حلوله في منازله الثمانية والعشرين، كما هو مذكور في كتب أحكام النجوم، وأما علة مدود بعض البحار في وقت طلوعات القمر ومغيبه دون غيرها من البحار فهي من أجْل أن تلك البحار في قرارها صخور صلبة، فإذا أشرق القمر على سطح ذلك البحر وصلت مطارح شعاعاته إلى تلك الصخور والأحجار التي في قرارها، ثم انعكست من هناك راجعة فسخنت تلك المياه وحميت ولطفت وطلبت مكانًا أوسع وارتفعت إلى فوق ودفع بعضها بعضًا إلى فوق، وتموَّجت إلى سواحله وفاضتْ على سطوحها، وأرجعتْ مياه تلك الأنهار التي كانت تنصبُّ إليها إلى خلف، فلا يزال ذلك دأبها ما دام القمر مرتفعًا إلى وتد سمائه، فإذا انتهى إلى هناك وأخذ ينحطُّ سكن عند ذلك غليان تلك المياه، وبردت وانضمَّتْ تلك الأجزاء، وغلظت ورجعتْ إلى قرارها وجَرَتِ الأنهار على عاداتها، فلا يزال ذلك دأبها إلى أن يبلغ القمر إلى أفق تلك البحار الغربي منها، ثم يبتدئ المدُّ على مثل عادته، وهو في الأفق الشرقي، ولا يزال ذلك دأبه حتى يبلغ القمر إلى وتد الأرض، فينتهي المد من الرأس، ثم إذا زال القمر من وتد الأرض أخذ المدُّ راجعًا إلى أن يبلغ القمر إلى أفقه الشرقي من الرأس وذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ، فإن قيل: لِمَ لا يكون المد والجزر عند طلوع الشمس وإشراقها على سطوح هذه البحار؟ فقد بيَّنَّا علة ذلك في رسالة العلل والمعلول، فاطلُبْها من هناك إن شاء الله تعالى.

    وأما علة اختلاف تصاريف الرياح من الجهات الست في أوقات الليل والنهار والشتاء والصيف، فقد ذكرناها في رسالة الآثار العلوية.

    وأما الجبال التي ذكرناها بأنها كالمسنيات للبحار والبريدات لها، فهي راسية في الأرض أصولها، شامخة في الجو رءوسها، شاهق في الهواء ارتفاعها ممتد على وجه الأرض بأطوال ما بين مائتي فرسخ إلى ألف، فمنها ما هو من المشرق إلى المغرب، ومنها ما هو من الشمال إلى الجنوب، ومنها ما هو نكباوات بين هذه الجهات، مذكورة في جغرافيا بعض أوصافها.

    واعلم أن الجبال التي ذكرناها منها ما هو صخور صلدة وحجارة صلبة وصفوان أملس، فلا ينبت عليه النبات إلا شيء يسير، مثل جبال تهامة، ومنها ما هي صخور رخوة وطين لين وتراب ورمل وحصاة مختلقة متلبِّدة سافٌ فوق سافٍ، متماسك الأجزاء وهي مع ذلك كثيرة الكهوف والمغارات والأودية والأهوية والعيون والجداول والأنهار والأشجار، كثيرة النباتات والحشائش والأشجار مثل جبال فلسطين، وجبال لكام، وطبرستان، وغيرها، وأما الكهوف والمغارات والأهوية التي في جوف الأرض والجبال إذا لم يكن لها منافذ تخرج منها المياه بقيت تلك المياه هناك محبوسة زمانًا، وإذا حَمِيَ باطن الأرض وجوف تلك الجبال سخنت تلك المياه ولطفتْ وتحلَّلتْ وخرجتْ وصارتْ بخارًا، وارتفعتْ وطلبتْ مكانًا أوسع، فإن كانت الأرض كثيرة التخلخل تحلَّلتْ وخرجتْ تلك البخارات من تلك المنافذ، وإن كان ظاهر الأرض شديد التكاثف حصيفًا مَنَعَها من الخروج، وبقيتْ محتبسة تتموَّج في تلك الأهوية لطلب الخروج، وربما انشقَّتِ الأرض في موضع منها، وخرجتْ تلك الرياح مفاجأة، وانخسف مكانها، ويُسمَع لها دويٌّ وهدَّة وزلزلة، وإن لم تجد لها مخرجًا بقيتْ هناك محتبسة وتدوم تلك الزلزلة إلى أن يبرد جو تلك المغارات والأهوية، ويغلظ، ومتى تكاثفت تلك البخارات واجتمعت أجزاؤها وصارت ماء خرَّتْ راجعة إلى قرار تلك الكهوف والمغارات والأهوية ومكثتْ زمانًا، وكلما طال وقوفها ازدادت صفاءً وغلظًا حتى تصير زئبقًا رجراجًا وتختلط بتربة تلك المعادن وتتحد بحرارة المعدن دائمًا في إنضاجها وطبخها، فتكون منها ضروب من الجواهر المعدنية المختلفة الطبائع كما سنبين.

    وأما علة اختلاف مياه العيون والينابيع التي في جوف الأرض وكهوف الجبال من العذوبة والملوحة والحموضة والعفوصة الكبريتية منها والنفطية والدهنية، وعلة حرارتها في الشتاء وبردها في الصيف، وما كان على حالة واحدة في جميع الأوقات، فهي بحسب اختلاف تُرَب بقاعها وتغييرات أهوية مكانها والعوارض التي تَعرِض لها، ونحتاج إلى أن نذكر طرفًا من عللها ليكون قياسًا على البقية الباقية فنقول: أمَّا علة حرارة مياه أكثر العيون في الشتاء وبردها في الصيف فهي من أجْل كون الحرارة والبرودة ضدان لا يجتمعان في مكان واحد، فإذا جاء الشتاء وبرد الجو، فرَّتِ الحرارة فاستجنَّتْ باطنَ الأرض، فسخنت تلك المياه التي في باطنها وعمقها، فإذا جاء الصيف وحمي الجو فرَّتِ البرودة واستجنَّتْ في باطن الأرض، وبردت تلك المياه التي في باطنها وعمقها، وأما علة حرارة بعض العيون في الشتاء والصيف على حالة واحدة، فهي أن في باطن الأرض وكهوف الجبال مواضع، تربتها كبريتية فتصير تلك الرطوبات التي تنصبُّ هناك دهنية، وتكون الحرارة فيها راسية دائمة بينها أو فوقها مياه في جداول وعروق نافذة، فتسخن تلك المياه بمرورها هناك وجوازها عليها، ثم تخرج وتجري على وجه الأرض وهي حارة حامية، فإذا أصابها نسيم الهواء وبرد الجو بردت، وربما جمدت، إذا كانت غليظة، وانعقدت وصارت زئبقًا، أو رصاصًا أو قيرًا أو نِفْطًا أو مِلْحًا أو كِبْريتًا، أو بُورَقًا، أو شيئًا، أو ما شاكل ذلك بحسب اختلاف تُرَب البقاع وتغييرات الأهوية، وأما علة ملوحة مياه عامة البحار، فهي بعناية من الباري — جلَّ ثناؤه — وحكمة إلهية لما فيه من الصلاح الكلي والنفْع العام؛ وذلك أن البخارات المتصاعدة منها في الجو، إذا اختلطت أجزاؤها مع الهواء وتموَّجت إلى الجهات دبغتْها وملحتْها ومنعتْها من العفَن والتغيير والفساد، فلولا ذلك لهلكتِ الحيوان المستنشقة للهواء دفعة واحدة، وهكذا أيضًا تمتنع ملوحة مياه البحار من أن تأسنَ أو تتغيَّر فيكون ذلك هلاك حيوان البحر جملة واحدة، ولهذه العلة أيضًا شدة أمواج البحار في أكثر الأوقات يختلط أعلاها بأسفلها وأسفلها بأعلاها، لئلَّا تغلظ بطول الوقوف غلظًا شديدًا أو تجمد فتكون أرضًا كلها، ولهذه العلة أيضًا إشراق الشمس والكواكب عليها وتسخينها لها، ومنعها من أن تغلظ وتجمد، وكذلك تفعل بالهواء والجو أيضًا؛ وذلك أنه لولا مطارح شعاعات الكواكب بالليل لجمد الهواء في المواضع التي لا يطلع عليها الشمس والقمر زمانًا، كالتي تحت قطب الشمال والجنوب جميعًا، وأما عفوصة مياه بعض العيون فلأنها تجري إليها من مواضع تربها زاجية، وهكذا حكم ما كان طعمه كبريتيًّا أو نفطيًّا.

    واعلم أن في بعض المواضع يُرى من بعيد على رءوس الجبال وبطون الأودية نيران وضياء بالليل والنهار ودخان معتكر ساطع في الهواء ومرتفع في الجو، وعلته أن في جوف الجبال كهوفًا ومغارات وأهوية حارة ملتهبة تجري إليها مياه كبريتية أو نفطية دهنية، فتكون مادة لها دائمة، وهي مثل التي بجزيرة صقلية وبجبل مزمهر من خوزستان، وفي بعض المواضع جبال تهبُّ عليها رياح لينة دائمًا، وجبال تهب عليها رياح باردة في أوقات مختلفة، وهي الجبال التي تكون عليها الثلوج عند ذوبانها، وذلك أنه يتحلَّل من تلك الرطوبات أجزاء لطيفة تصير بخارًا، وترتفع في الهواء فيدفعها إلى الجهات الخمس أو إلى جهة دون جهة مثل ما يهبُّ من جبل الثلج الذي بدمشق، والذي ببلاد داور من جبال غور وجبل دوماند وما شاكلها من الجبال.

    فأما الجبال التي تهبُّ منها رياح لينة في دائم الأوقات، فمثل التي ببلاد باميان، وذلك أن هذا الجبل تخرج من أسفله عيون كثيرة وحوله مروج كثيرة، وتجري إلى تلك المروج أنهار وجداول من غير أن تُرى عليه ثلوج وأمطار، بل تهبُّ منها أبدًا أرياح ليِّنة، فهذا دليل على أن في جوف هذا الجبل مغارات وكهوفًا وأهوية باردة مفرطة البرد، تجمد الهواء فيصير ماء، ثم ينصبُّ إلى أسفله وينزل من مسام ضيقة تجري منها تلك العيون والجداول إلى تلك المروج والبراري والقرى، وبها ينتفع الناس وسائر الحيوان من الوحوش والسباع والأنعام والطير الذي هناك؛ إذ كان هذا الجبل بعيدًا من البحار، ولعل الغيوم قلَّ ما تصل إلى هناك لطول المسافة، وإذا تأملتَ الذي ذكرناه تبيَّنتَ عناية الباري — جلَّ جلالُه — بتقدير خلقه وحسن سياسته لهم، وشفقته عليهم، وكثرة ما أزاح من العِلَل في مرافقهم وجرَّ المنافع إليهم من كل الوجوه الممكنة من الهَيُولَى المتأنِّي فيها أفعاله.


    فصل


    واعلم أن الأودية والأنهار أكثرها تبتدئ من الجبال والتلال، وتمرُّ في جريانها نحو البحار والآجام والغُدْران والبطائح والبحيرات، فمنها ما هو أنهار طوال جريانها من المشرق إلى المغرب كنهر مأوند من سجستان، فإنه يبتدئ من جبال باميان وجبال غور، ويمر نحو المغرب إلى تربة كرمان ثم إلى بحر هرمز، ومنها ما يمر في جريانه نحو المشرق كالأرس والكرس، وهما نهران ببلاد أَذْرَبِيجَان ابتداؤهما من جبال الروم، ويمران متوجِّهَيْن نحو المشرق إلى بحر طبرستان، فينصبَّان فيه، ومنها ما جريانه من الجنوب إلى الشمال نحو نيل مصر، فإنه يبتدئ من جبال القمر من وراء خط الاستواء، ويمر في جريانه متوجِّهًا نحو الشمال إلى أن ينصبَّ في بحر الروم، ومنها ما يكون جريانه من الشمال إلى الجنوب مثل دجلة، فإنها تبتدئ من جبال نصيبين وتمر في جريانها إلى الجنوب، ثم تنصبُّ إلى بحر فارس بعبادان، ومنها ما يكون جريانه متوجهًا في إحدى نكباوات مثل جيحون خراسان والفرات؛ وذلك أن جيحون يبتدئ من جبال صنعانيان ويمر متنكِّبًا للغرب والشمال، وينصبُّ إلى بحر جرجان بشمال بلاد خوارزم، والفرات يبتدئ من جبال الروم ويمر متنكبًا للمشرق والجنوب، وينصب إلى بحر فارس من عبادان، وعلى هذا المثال سائر الأنهار في الجريان.

    وأما علة مدود أكثر الأنهار التي جريانُها من الشمال إلى الجنوب في أيام الربيع، فهي من أجْل أن الثلوج إذا كثرتْ في الشتاء على رءوس الجبال الشمالية ثم حَمِيَ الجوُّ بقرب الشمس من سمتها، ذابتْ تلك الثلوج وسَالَتْ منها الأودية والأنهار.

    وأما علة مدِّ نيل مصر في أيام الصيف، فهو من أجْل أن هذا النهر يجري من الجنوب إلى الشمال، ومبدأ جريانه من وراء خط الاستواء حيث يكون الشتاء عندنا يكون صيفًا هناك، وفي الصيف عندنا يكون الشتاء هناك، فتكون في ذلك الوقت كثرة الأمطار هناك، ولهذه الأنهار عطفات وعراقيل يطول شرحها وشرح علتها، وهي تسقي في جريانها السوادات والمزارع والمدن والقرى وما يفضل من مياهها ينصبُّ إلى البحار والآجام والبطائح والبحيرات، ويمتزج بمياهها عذبة كانت أو مالحة، فإذا أشرقت عليها الشمس والكواكب سخنتْها وحميتْ ولطفتْ وتحلَّلتْ وصارتْ بخارًا فارتفعت في الهواء وتموَّجت إلى الجهات، ويكون منها الرياح والغيوم والضباب والطل والندى والصقيع والأنداء والثلوج والبرد على رءوس الجبال والبراري والعمران والخراب.

    وأما الأمطار التي تكون على رءوس الجبال فإنها تغيض في شقوق تلك الجبال وخللها، وتنصبُّ إلى مغارات وكهوف وأهوية هناك، وتمتلئ وتكون كالمخزونة ويكون في أسفل تلك الجبال منافذ ضيقة تمر منها تلك المياه، وتجري وتجتمع وتصير أودية وأنهارًا، وتذوب تلك الثلوج على رءوس تلك الجبال وتجري إلى تلك الأودية وتمر في جريانها راجعة نحو البحار، ثم تكون منها البخارات والرياح والغيوم والأمطار كما كان في العام الأول وذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ.


    فصل


    وإذ قد فرغنا من ذكر صورة الأرض ووصْف البحار والبراري والجبال واختلاف تُرَب البلاد ومياهها، فنريد أنْ نذكر ها هنا طرفًا من أسرار المعادن فنقول إنه ليس من جبل من الجبال ولا بحر ولا تربة ولا جزيرة ولا نهر ولا بقعة ولا بلد من بقاع الأرض ولا صغيرة ولا كبيرة لا ظاهرها ولا باطنها إلا ولها خاصية ليست لأخرى أو عدة خواص، فمن خاصية بلد بلد أو بقعة بقعة أنه تتكوَّن هناك ضروب من الجواهر المعدنية أو عدة ضروب أو ينبت نوع من النبات أو يتولد جنس من الحيوان لا يتكون في بلد آخر، ولا ينبت في بقعة أخرى، ولا يتولد إلا هناك، مثال ذلك: أنه لا تتولد الفيلة إلا في جزائر البحار الجنوبية تحت مدار برج الحمل، وكذلك الزرافة لا تولد إلا في بلدان الحبشة، والسمور والسنجاب وغزال المسك لا يتولد إلا في البراري الشرقية الشمالية، وأما الصقور والبُزَاة والنسور وما شاكَلَها من أنواع الطيور، فإنها لا تفرخ إلا في رءوس الجبال الشاهقة، والقطا والنعام لا يفرخ إلا في البراري والفلوات، والبطوط والطِّيطَوَى وأمثالهما لا تفرخ إلا على الشطوط وسواحل البحار والبطايح والآجام، والعصافير والفواخت والقماري وأمثالها من الطيور لا تفرخ إلا بين الأشجار والدغال والقرى والبساتين، وعلى هذا المثال حكم النبات؛ فإن النخل والموز لا ينبتان إلا في البلاد الحارة والأراضي اللينة، والجوز واللوز والفستق والبندق وأمثالها لا تنبت إلا في البلاد الباردة، والحُلْبة والدُّلْب وأم غَيْلان في البراري والقفار، والقصب والصفصاف على شطوط الأنهار، وعلى هذا حكم سائر النبات، وهكذا أيضًا حكم الجواهر المعدنية لكل نوع منها بقعة مخصوصة وتربة معروفة لا تتكون إلا هناك كالذهب، فإنه لا تتكون إلا في البراري الرملية والجبال والأحجار الرخوة، والفضة والنحاس والحديد وأمثالها لا يتكون إلا في جوف الجبال والأحجار المختلطة بالتربة اللينة، والكبريت لا يتكون إلا في الأراضي النَّدِية والتُّرَب اللَّيِّنة والرطوبات الدهنية، والقلقطار والأكحال لا ينعقد إلا في الأرض السبخة والبقاع المشروجة، والجِصُّ والإسفيذاج لا يتكونان إلا في الأرض الرملية المختلطة ترابها بالحصى، والزاجات والشبوب لا تتكون إلا في التُّرَب العفصة القشفة، وعلى هذا القياس حُكْم سائر أنواع الجواهر المعدنية.


    فصل


    واعلم أن الجواهر المعدنية كثيرة الأنواع لا يُحصِي عددها إلا الله تعالى، ولكن منها ما يعرفه الناس، ومنها ما لا يعرفونه، وقد ذكر بعض الحكماء ممَّن كانت له عناية بالنظر في هذا العلم والبحث عن هذه الأشياء، وأنه قد عرف وعدَّ منها نحو تسعمائة نوع، كلها مختلفة الطباع والشكل واللون والطعم والرائحة والثقل والخفة والمضرَّة والنفع، ونريد أن نذكر منها طرفًا ليكون دلالة على الباقية وقياسًا عليها فنقول: إن من الجواهر المعدنية ما هو حجري صلب، لكنْ يَذُوب بالنار ويجمد إذا برد مثل الذهب والفضة والنحاس والحديد والأُسْرُب والرصاص والزجاج وما شاكَلَها، ومنها ما هي صلبة حجرية لا تذوب إلا بالنار الشديدة، ولا تنكسر إلا بالماس كالياقوت والعقيق، ومنها ترابي رخو لا يذوب، ولكن ينفرك كالأملاح والزاجات والطلق، ومنها مائية رطبة تفر من النار كالزئبق، ومنها هوائي دهني تأكله النا كالكباريت والزرانيخ، ومنها نباتي كالمرجان الأبيض والأحمر، ومنها حيواني كالدُّرِّ، ومنها طلٌّ منعقِد كالعنبر والبازهرات، وذلك أن العنبر إنما هو طلٌّ يقع على سطح ماء البحر فينعقد في مواضع مخصوصة في زمان معلوم، وكذلك البازهرات أيضًا، فإنه طلٌّ يقع على بعض الأحجار، ثم يرسخ في خللها وينعقد هناك في بقاع مخصوصة في زمان معلوم، كما أن الزنجبيل إنما هو طلٌّ يقع على نوع من الشوك بخراسان، وهكذا اللَّكُّ إنما هو طلٌّ يقع على نبت مخصوص في زمان معلوم وينعقد عليه، وكذلك الدُّرُّ، فإنه طلٌّ يرسخ في أصداف نوع من الحيوان البحري، ثم يغلظ ويجمد وينعقد فيه، وكذلك الموميأ طلٌّ يرشح في خلل صخور ثم يغلظ هناك ثم يصير ماء ثم يبرز من مسام ضيقة ويجمد وينعقد، والطل هو رطوبة هوائية تجمد من برد الليل، وتقع على النبات والحجر والشجر والصخور، وعلى هذا القياس حكم جميع الجواهر المعدنية؛ فإن مادَّتها إنما هي رطوبات ومياه وأندية وبخارات تنعقد بطول الوقوف وممرِّ الزمان في البقاع المخصوصة لها، فقد تبيَّن بما ذكرنا أن الجواهر المعدنية مركَّبة كلها مع اختلاف أنواعها وطبائعها وألوانها وطعومها وروائحها وثقلها وخفَّتها وصلابتها ورخاوتها ولِينها وخشونتها وخواصها ومنافعها ومضارِّها، مركبة كلها ومؤلَّفة من أجزاء ترابية صلبة ثقيلة مظلمة مشفة، ومن أجزاء مائية رطبة سيَّالة صافية بين الثقل والخفة، ومن أجزاء هوائية خفيفة لينة دهنية صافية نيِّرة، ومن حرارة قوية أو ضعيفة منضجة أو مقصرة، ومن تأليف على نسبة فاضلة أو دون ذلك من النسب التأليفية، وهي اثنتا عشرة مرتبة مضروبة في أربع طبائع، وهي الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، جملتها ثمانٍ وأربعون مرتبة، هذا هو الطُّول مضروبًا في نفسه، يكون ألفين وثلاثمائة وأربعة، هذا هو العرض مضروبًا في جذره ١١١٠٧٢، هذا هو المكعَّب آحاد، ونحتاج أن نشرح هذا الباب؛ لأنه أصل في معرفة كيفية تكوين المعادن.


    فصل


    اعلم يا أخي أن تلك الرطوبات المختنقة في باطن الأرض والبخارات المحتبسة هناك إذا احتوتْ عليها حرارة المعدن تحلَّلتْ ولطفتْ وخفَّتْ وتصاعدتْ علوًّا إلى سقوف تلك الأهوية والمغارات، ومكثتْ هناك زمانًا.

    وإذا برد باطن الأرض في الصيف جمدت وغلظت وتقاطرت راجعة إلى أسفل تلك الأهوية والمغارات، واختلطتْ بتربة تلك البقاع وطينها، ومكثتْ هناك زمانًا، وحرارة المعدن دائمًا في نضجها وطبخها وهي تصفو بطول وقوفها وتزداد ثقلًا وغلظًا، وتصير تلك الرطوبات بما يخالطها من الأجزاء الترابية، وما يأخذ من ثقلها وغلظها وإنضاج الحرارة وطبخها إياه زئبقًا رجراجًا، وتصير تلك الأجزاء الهوائية الدهنية وما يتعلق بها من الأجزاء الترابية بطبخ الحرارة لها بطول الزمان كبريتًا محترقًا.

    فإذا اختلطت أجزاء الكبريت والزئبق مرة ثانية تمازجت واختلطت واتَّحدت، والحرارة دائمة في نضجها وطبخها، فتنعقد عند ذلك ضروب الجواهر المعدنية المختلفة، وذلك أنه إذا كان الزئبق صافيًا والكبريت نقيًّا، واختلطت أجزاؤهما، وكانت مقاديرهما على النسبة الأفضل، واتَّحدت وامتصت الكبريتيةُ رطوبةَ الزئبق ونشفت نداوتَه، وكانت حرارة المعدن على الاعتدال في طبخها ونضجها، ولم يعرض لها عارض من البرد واليبس قبل إنضاجها انعقد من ذلك على طول الزمان الذهب الإبريز، وإن عرض لها البرد قبل النضج انعقدت وصارت فضة بيضاء، وإن عرض لها اليبس من فرط الحرارة وزيادة الأجزاء الأرضية انعقدت فصارت نُحاسًا أحمر يابسًا، وإن عرض لها البرد قبل أن تتحد أجزاء الكبريت والزئبق قبل النضج انعقد منها رصاص قلعي، وإن عرض لها البرد قبل النضج وكانت الأجزاء الترابية أكثر صارتْ حديدًا أسود، وإن كان الزئبق أكثر والكبريت أقل والحرارة ضعيفة انعقد منها الأُسْرُب، وإن انفرطتِ الحرارة فأحرقتْه صار كحلًا، وعلى هذا القياس تختلف الجواهر المعدنية بأسباب عارضة خارجة عن الاعتدال وعن النسبة الأفضل من زيادة الكبريت والزئبق ونقصانهما وإفراط الحرارة أو نقصانها أو برد المعدن قبل نضجها أو خروجها عن الاعتدال، فعلى هذا القياس حكم الجواهر المعدنية الترابية.

    وأما الجواهر الحجرية مثل البلور والياقوت والزبرجد والعقيق وما شاكلها من التي لا تذوب بالنار، فإنها تنعقد من مياه الأمطار والأنداء التي ترشح في تلك المغارات والكهوف والأودية التي من الجبال الصلدة والأحجار الصلبة، ولا يُخالطها شيء من الأجزاء الترابية والطين، بل بطول الزمان، كلما طال وقوفها هناك ازدادت المياه بقاء وثقلًا وغلظًا وحرارة المعدن دائمًا في نضجها وطبخها حتى تنعقد وتصير حجارة صلبة صافية، وتكون ألوانها وصفاؤها ورزانتها بحسب أنوار تلك الكواكب المتولِّية لذلك الجنس من الجواهر ومطارح شعاعاتها على تلك البقاع المختصة كما سنبيِّن في رسالة النبات؛ وذلك أن لون الياقوت الأصفر والذهب الإبريز ولون الزعفران وما شاكلها من النبات منسوبة إلى نور الشمس وبريق شعاعاتها، وكذلك بياض الفضة والملح والبلور والقطن والثلوج وما شاكلها من ألوان النبات منسوب إلى نور القمر وبريق شعاعه، وعلى هذا القياس سائر الألوان كل نوع منسوبة إلى كوكب من الكواكب السيارة والثابتة، مذكور ذلك في كتب أحكام النجوم، كما قيل إن السواد لزُحَل، والحُمْرة للمِرِّيخ، والخُضْرة للمُشتَرِي، والزُّرْقة للزُّهَرة، والصُّفْرة للشمس، والبياض للقمر، والمتلوِّن الألوانَ لعُطَارد.

    وأما حكم الجواهر الترابية في كيفية تكوينها، فهي أن تلك المياه إذا اختلطت بتربة البقاع وعملت فيها حرارة المعدن تحل أكثر تلك الرطوبات وتصير بخارًا يرتفع في الهواء كما ذكرنا قبلُ، وما بَقِيَ منه يكون محبوسًا ملازمًا للأجزاء الأرضية متَّحدًا بها عملت فيها الحرارة ونضجتْها وطبختْها، حتى تغلظ وتنعقد فإن تكن تربة تلك البقاع مشورجة سبخة تكوَّنتْ منها ضروب الأملاح والبوارق والشبوب، وإن تكن تربة البقاع عفصة انعقدتْ منها ضروب الزاجات الخُضْر والصُّفْر والقلقطار، وهو جنس من الزاج وما شاكلها، وإن تكن تربة البقاع حصاة وترابًا ورمالًا مختلطة انعقد منها الجص والإسفيذاج وما شاكلها، وإن تكن تربة البقاع تربة لَيِّنة وطينًا حرًّا انعقدت منها الكمأة، ونبتتْ منها ضروب العشب والحشائش والكلأ والأشجار والزروع.


    فصل


    واعلم يا أخي أن النار هي كالقاضي بين الجواهر المعدنية المتحكِّم فيها كلها والمفرِّق بينها وبين ما كان من غير جنسها، فأشرفها هي التي لا تقدر النار على أن تفرِّق بين أجزائها مثل الذهب والياقوت، وذلك لشدة اتحاد أجزائها بعضها ببعض، فإنه ليس بين خلل أجزائها رطوبة، وأما احتراق بعض الجواهر المعدنية وأكل النار لها وسرعة اشتعالها فيها كالكبريت والزرنيخ والقير والنفط وما شاكلها من المعدنيات فهي من الأجزاء الهوائية الدهنية المتعلقة بالأجزاء الترابية غير متحدة بها، والأجزاء المائية قليلة معها، وهي غير نضجة أيضًا ولا متحدة بها، فإذا أصابتْها حرارة النار ذابتْ بسرعة وتحلَّلتْ وصارتْ دخانًا وبخارًا، وفارقتِ الأجزاء الترابية، وارتفعتْ في الهواء واختلطتْ به، وتفرَّقتْ بين أجزاء الهواء، وأما إذا قيل ما العلة في أن الذهب يذوب ولا يحترق، والياقوت لا يذوب ولا يحترق؟ فنقول إن علة ذوبان الذهب هي من الرطوبة الدهنية المتحدة بالأجزاء الترابية، فإذا أصابتْها حرارة النار ذابتْ، ولانتْ الأجزاء الأرضية التي معها، وأما ما لم يحترق فمِن أجْل الأجزاء المائية المتحدة بالأجزاء الترابية والهوائية، فإنها تُقابِل النار وتدفع عن جسدها الترابي وهج النار ببردها ورطوبتها، فإذا خرجتْ من النار جمدتْ تلك الأجزاء الهوائية، الدهنية وغلظت الأجزاء المائية، وانعقدت وصارت الأجزاء الأرضية كما كانت، وعلى هذا القياس سائر الأجسام الترابية.

    وأما الياقوت فلأنه أجزاء مائية غلظت وصفت بطول الوقوف بين الصخور وأنضجت بدوام طبخ حرارة المعدن لها، واتحدت أجزاؤها ويبست، فصارت لا تذوب بالنار؛ لأنه ليس فيها رطوبة دهنية، وأما علة صفائه فمن أجْل أنه ليس فيه أجزاء ترابية مظلمة، بل كلها أجزاء مائية قد غلظت وصَفَتْ ونضجت وجمدت ويبست، فلا تقدر النار على تفريق أجزائها لشدة اتحادها ويبسها، وأما سرعة ذوبان بعض الأجسام واحتراقها مثل الرصاص والأُسْرُب، فهو من أجْل أن الأجزاء المائية والهوائية غير متحدة بالأجزاء الترابية، وأما سوادها فمن أجْل أنها غير نضجة وثقلها من أجْل كثرة الأجزاء الأرضية فيها، والله أعلم.


    فصل


    واعلم يا أخي أن لهذه الجواهر خواص كثيرة وطباعها مختلفة؛ فمنها متضادة متنافرة، ومنها متشاكلة متآلِفة، ولها تأثيرات بعضها في بعض إمَّا جذبًا أو إمساكًا أو دفعًا أو نفورًا، ولها أيضًا شعور خفيٌّ وحسٌّ لطيف، كما للنبات والحيوان، إما شوقًا ومحبةً وإما بغضًا وعداوة، لا يَعلَم كُنْه عِلَلِها إلا الله تعالى، والدليل على صحة ما قلنا وحقيقة ما وصَفْنا قول الحكماء في كتاب الأحجار ونعتهم لها أن طبيعةً تَألَف طبيعةً، وطبيعةً تُناسِب طبيعةً أخرى، وطبيعة تَلصَق بطبيعة، وطبيعةً تَأنَس بطبيعة، وطبيعةً تَقهَر طبيعة، وطبيعة تَقوَى على طبيعة، وطبيعةً تَضعُف عن طبيعة، وطبيعة تُلهِب طبيعة، وطبيعة تحب طبيعة، وطبيعة تَطِيب مع طبيعة، وطبيعة تَفسد مع طبيعة، وطبيعة تُبيِّض طبيعة، وطبيعة تُحمِّر طبيعة، وطبيعة تَهرَب من طبيعة، وطبيعة تُبغِض طبيعة، وطبيعة تُمازِج طبيعة.

    فأما الطبيعة التي تَألَف طبيعة أخرى فمثل الألماس والذهب، فإنه إذا قرب من الذهب الْتَصَق به وأمسكه، ويقال إن الألماس لا يوجد إلا في معدن الذهب، وفي وادٍ من ناحية المشرق، ومثل طبيعة حجر المغناطيس في جذب الحديد، فإن هذين الحجرين يابسين صلبين بين طبيعتهما أُلْفة واشتياق، فإنه إذا قرب الحديد من هذا الحجر حتى يشم رائحته ذهب إليه والْتَصق به وجذبه الحجر إلى نفسه ومسكه كما يفعل العاشق بالمعشوق، وهكذا يفعل الحجر الجاذب للحم، والحجر الجاذب للشعر، والحجر الجاذب للظفر، والحجر الجاذب للتبن، وعلى هذا القياس ما من حجر من الأحجار المعدنية إلا وبين طبيعته وبين طبيعة شيء آخر أُلْفة واشتياق، عرف الناس ذلك أم لم يعرفوه.

    واعلم أن مثل مقابلة أفعال هذه الأحجار بعضها في بعض يكون مثل تأثيرات الدواء في العضو العليل، وذلك أن من خاصية كل عضو عليل اشتياقًا إلى طبيعة الدواء المضاد لطبيعة العلة التي به، فإذا حصل الدواء بالقرب من العضو العليل أحسَّ به وجذبتْه القوة الجاذبة إلى ذلك العضو، وأمسكتْه الماسكة، واستعان بالقوة المدبِّرة بطبيعة الدواء على دفْع طبيعة العلة المؤلِمة، وقَوِيَتْ عليها وغلبتْها ودفعتْها عن العضو العليل، كما يستعين ويدفع المحارب والمخاصم بقوة مَن يُعينه على خصمه وعدوه في دفعه عن نفسه، وهذه من إتقان حكمة الله — جلَّ جلالُه — وعجيب صُنْعه ولطيف تدبيره بخلقه من الحيوان، وحسن سياسته له؛ إذ جعل لكل داءٍ وعارض دواءً شافيًا، ثم ألْهَمَه إياه، كما ذكر الله — تعالى — حكاية عن موسى — عليه السلام — لمَّا قال له فرعون ولأخيه هارون: «مَن ربُّكما يا موسى؟» قال: رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى؛ يعني خَلَقَه وصوَّره وعرَّفه منافعَه ومضارَّه وقوَّاه وأعانَه وحفِظَه ورعاه ودبَّره وساسَه كما شاء، وكيف شاء، فتبارك الله أحسن الخالقين!

    وأما الطبيعة التي تقهر طبيعة أخرى فمثل طبيعة السنباذج التي تأكل الأحجار عند الحكِّ أكلًا، وتليِّنها وتجعلها ملسًا، ومثل طبيعة الأُسْرُب الوسخ الذي يفتِّت الماس القاهر لسائر الأحجار الصلبة، وذلك أن الماس لا يقهره شيء من الأحجار، وهو قاهر لها كلها، لو أنه تُرك على السندان وطُرق بالمطرقة لدخل في أحدهما ولم ينكسر، وإن جُعل بين صفحتَيْن من أُسْرُب وضُغط عليها تفتَّت.

    ومثل طبيعة الزئبق، التيار الرطب القليل الصبر على حرارة النار إذا طُليت به الأحجار المعدنية الصلبة مثل الذهب والنحاس والفضة أوْهَنَها وأرْخَاها، حتى يمكن أن يُكسَر بأسهل سعي، ويُفتَّت قِطَعًا قطعًا، ومثل الكبريت المنتِن الرائحة المسوِّد للأحجار النيِّرة البرَّاقة المُذهِب لألْوَانِها وأصباغها يُمكِّن النار منها حتى تحترق في أسرع مدة، والعلة في ذلك أن في الكبريت رطوبة دهنية لزجة جامدة، فإذا أصابتْه حرارة النار ذاب والْتَصق بأجساد الأحجار ومازجها، فإذا تمكَّنتِ النار فيه احترق وأحرق معه تلك الأجساد ياقوتًا كانت أم ذهبًا أم غيرهما.

    وأما الطبيعة التي تُزيِّن طبيعة أخرى وتنوِّرها، فمثل النوشادر الذي يغوص في قعر الأحجار ويغسلها من الوسخ.

    وأما الطبيعة التي تُعِين طبيعة أخرى، فمثل البُورَق الذي يُعين النار على سرعة سبْك هذه الأحجار المعدنية الترابية، ومثل الزاجات والشبوب التي تجلوها وتنوِّرها وتصبغها ومثل المنيسا والقلى المعينان على سبك الرمل وتصفيته حتى يكون زجاجًا شفافًا، وعلى هذا القياس والمثال حكم سائر الأحجار المعدنية في تأثيرات بعضها في بعض، فأمَّا تأثيراتها في أجسام الحيوان، فقد ذكر ذلك في كتب الأدوية والطب والعقاقير.


    فصل


    واعلم أن لهذه الجواهر المعدنية خواص غريبة، وخَلْقها وتكوينها عجيب جدًّا، فإذا فكَّر العاقل في لطيف صُنْع الباري — جلَّ جلالُه — وإتقان حكمته فيها يبقى متعجبًا باهتًا، ويزداد بربه معرفة ويقينًا، وخاصة إذا فكَّر في خِلْقة الدُّرَّة وتكوينها، وذلك أن هذه الجوهرة إنما هي ماء ورطوبة هوائية عذبة ودهنية جامدة منعقدة بين صدفين كأنهما خزفتان منطبقتان ظاهرهما خَشِن وسخ وباطنهما أملس نقي أبيض، في جوفها حيوان كأنه قطعة لحم خِلْقته خِلْقة الرَّحِم، مسكنه في قَعْر البحر المالح، وهو قد ضمَّ ذَيْنِك الصدفَيْن على نفسه من جانبَيْه كما يضم الطائر جناحيه عند السكون عن الطيران، مخافة أن يدخل فيه ماء البحر المالح، حتى إذا أحسَّ بسكون البحر عن الاضطراب في أمواجه ارتقى من قعره إلى أعلى سطحه بالليل في وقت من الزمان معلوم مخصوص عنده، وفتح تلك الصدفتين كما تَفتَح فراخ الطير أفواهها عند زَقِّ الطائر لها، وكما يُفتَح فم الرَّحِم عند الجِمَاع فيرشح في جوفه من ندى الهواء ورطوبة الجو، وتجتمع فيه قطرات من الماء العذب من ذلك والصقيع الذي يقع بالليل على النَّبْت والحشيش، فإذا اكتفى ضم تَيْنِك الصدفتين على نفسه ضمًّا شديدًا مخافة أن يرشح فيه ماء البحر المالح، فتفسد تلك الرطوبة العذبة بما يُخالطها من ملوحته، وينزل برفق إلى قرار البحر فيسكن هناك زمانًا، فإذا طال الزمان على تلك الرطوبة العذبة غلظت وثقلت وصارت في قوام الزئبق، وتدحرجت في جوفه بحركته، فيصير حبَّات مستديرات كما يصير الزئبق إذا تبدَّد وتدحرج، ثم على ممر الزمان تَجْمد وتَنعَقِد وتَصير دُرًّا صغارًا وكبارًا. ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ.


    فصل


    واعلم يا أخي إذا تأمَّلتَ المحسوسات وتصفَّحتَ الموجودات وبحثتَ عن الكائنات التي دون فَلك القمر، وجدتَ أصغرَها جسدًا وأضعَفَها خِلْقة أشرَفَها جوهرًا وأجلَّها قدرًا وأعمَّها نفعًا.

    وانظر إلى هذه الثلاثة التي هي الدُّرَّة والدِّيباج والعَسَل، وتأمَّلْها تَجِدْها عند الناس أجلَّ الأشياء قدْرًا وأنعمها لبسًا وأطيبها ذوقًا، أعني هذه الثلاثة، فإذا تأملتَ ما ذكر من خِلْقة هذا الحيوان تبيَّنتَ أنه أحقر حيوانات البحر وأضعفها، وكما ترى النحل أضعف الطيور بنية وأصغرها جثة، وهكذا دود القزِّ تراه أصغر الحيوان جثة.


    فصل


    واعلم أن الله — جلَّ ثناؤه — خلق هذه الأشياء المعدنية منافع للحيوان، وخاصة للناس، وجعلهم مُحتاجين إليها متصرِّفين فيها متنعِّمين بها إلى حين، لكيما يتفكَّر العقلاء في كونها وخَلْقها وصُنْعها، فتكون قياسًا لهم، فيعلمون أن العالَم أيضًا مُحدَث مصنوع كائن بعدَ أنْ لم يكن، وإن كان كبير الجثة عظيم الخِلْقة طويل العمر كبير القباء لا يدري العلماء الحكماء على التحقيق أنه متى كان ولا متى يفسد، ويعلمون أن له خالقًا خلقه وأوجده وصوَّره وركَّب أفلاكَه وأدارها وأجْرَى كواكبه وسيَّرها ومدَّ شعاعها نحو المركز، ومزج الأركان وزوَّج الطبائع وأولد منها الكائنات الفاسدات التي هي الحيوان والنبات والمعادن، وسخرها للإنسان وملَّكه عليها يتصرَّف فيها كيف يشاء ويحكم عليها بما يريد بالانتفاع منها أو دفع المضار بها، وإنما احتاج العلماء والعقلاء إلى الاستدلال بالشاهد على الغائب، وقياس الجزء على الكل، على أن العالم محدث عند حيرة عقولهم، فإذا فكَّروا في حدوثه وكَوْنه بعدَ أنْ لم يكن، وبحثوا عن تلك العلة الداعية للصانع إلى الفعل إن لم يكن فعل، وهي العلة التي تُسمَّى العلة التمامية التي من أجْلها يفعل الفاعل فعلَه.

    ولما فكَّر كثير من العقلاء في هذه العلة وبحثوا عنها لم يعرفوها، وهكذا أيضًا لما فكروا في أمر الفاعل متى فعل، وفي أي زمان عمل، وفي أي مكان لم يعرفوها ولم يتصوَّروا ذلك، وأيضًا لما فكروا وطلبوا أنه من أي شيء عمله وكيف صوَّره، وأين كانت رِجْل البركار لما شكَّل أكر الأفلاك ودور الكواكب وما شاكل هذه المباحث والتفكر في أشياء ليس في طاقة الإنسان معرفتها، ولا في قوة نفسه تصوُّرها، فعند ذلك دعاهم جهلُهم وحيرتُهم وشكوكُهم إلى القول بقِدَم العالَم وأزليَّته بغير عِلْم ولا بيان إلا أوهام كاذبة وتخييلات باطلة وتمويهات مموهة، وقد علم الله — تعالى — قبلَ أن خلقهم أنه تَعرِض لهم هذه الشكوك والحيرة، فأزاح عِلَلَهم بأنْ أراهم أشياء لا يشكون فيها، ولا في كونها، ولا في حقيقتها؛ لتكون مثالًا لهم وقياسًا على ما لا يشهدونه ويتصورونه في حدوث العالم وصفته، وهي هذه الكائنات الفاسدات من النبات والمعادن والحيوان، وجعل أيضًا مركوزًا في جِبِلَّة العقول أن الصنعة المُتقَنَة لا تكون إلا من صانع قدير، وجعل أيضًا أثر الصنعة باقيًا في المصنوع يشاهدونها ليلَهم ونهارَهم من دوران هذه الأفلاك حول المركز وسَيْر الكواكب فيها وتَعاقُب الليل والنهار والشتاء والصيف على الأركان الأربعة والتغييرات والاستحالة وتكوين الكائنات الفاسدات، كل هذه دلالة للعقول وشواهد للنفوس على حدوث العالَم وتكوينه بعد أنْ لم يكن إذ لم يوجد في جميع هذه الكائنات الجزئية شيء خالٍ من علة فاعلية وعلة هيولانية وعلة صورية وعلة تمامية، ونحن قد بيَّنَّا في رسالة المبادئ العقلية ما هذه العلل في حدوث العالم وكونه، فاعرفها من هناك.

    وإذ قد ذكرنا طرفًا من كيفية تكوين المعادن، فنذكر الآن طرفًا من أنواع جوهرها وخواص أنواعها وما ذكره الحكماء، فنبدأ بذكر أشرفها الذي هو الذهب والياقوت، ثم سائر ما يتلوهما نوعًا فنوعًا؛ فأما الذهب فهو جوهر معتدل الطبائع صحيح المزاج نفسه متَّحدة بروحه وروحه متحدة بجسده، ونعني بالنفس الأجزاء الهوائية وبالروح الأجزاء المائية وبالجسد الأجزاء الترابية، ولكن لشدة اتحاد أجزائه وممازجتها لا يحترق بالنار؛ لأن النار لا تقدر على تفريق أجزائه، وهو لا يبلى في التراب ولا يصدى على طول الزمان ولا تُغيِّره الآفات العارضة، وهو جسم ليِّن المغمز أصفر اللون حلو الطعم طيب الرائحة ثقيل رزين، صُفْرة لونه ناريته وصفاؤه وبريقه من هوائيته ولِينه من دهنيته ورطوبته وثقله ورزانته من ترابيته؛ لأن كبريته كان نقيًّا وزيبقه كان صافيًا ومزاجه كان معتدلًا، وحرارة المعدن طبختْه على طول الزمان برفق واعتدال، فإذا أصابتْه حرارة النار ذابتْ رطوبته ودارتْ حول جسده ورطوبته تقابل حرارة النار، وتدفع عن جسده إحراقها، وإذا خرجتْ من النار جمدتْ تلك الرطوبة، وإذا طُرق امتدَّ تحت المطارق حارًّا أو باردًا، واتسع في الجهات ورقَّ وامتدَّ، ويُفتل منه كالخيوط، ويَقبَل جميع الأشكال من الأواني والحلي وهو يُخالِط الفضة والنحاس في السبك وينفصل عنهما إذا طُرح عليه المرقيشا الذهبي؛ لأنه جنس من الكبريت يَحرِق غيرَه ولا يحترق، وإذا سُحق منه وأُدخل في أدوية العين نَفَع، وإذا كُوي به موضع لم يَنفَط، وكان أسرع إلى البرء، وينفع من المرة السوداء وداء الحية وداء الثعلب وأمراض القلب، وهي قسمة الشمس من بين الكواكب، فمِن أجْل هذه الخصال والفضائل تجمعه الملوك وتدَّخِره في الخزائن، ومن أجْل ذلك يقلُّ وجودُه في أيدي الناس ويَعِزُّ وتكثر أثمانُه لا لقلَّة وجوده، ولكن كل مَن ظفر بشيء كثير منه دفنه في الأرض أو صانه وخبَّاه، فلا يُرى منه ظاهرًا إلا القليل.

    وأما اليواقيت فأحجار صلبة حارة يابسة شديدة اليبس رزينة صافية شفافة مختلفة الألوان بين أحمر وأصفر وأخضر وأزرق، وأصلها كلها ماء عذب وقف في معادنها بين الأحجار الصلدة والصخور والصفوان زمانًا طويلًا، فغلظ وصَفَا وثقل وأنضجتْه حرارة المعدن لطول وقوفه، فاتحدت أجزاؤه وصارت صلبة لا تذوب في النار البتة لقلة دهنيته، ولا تفرغ لغلظ رطوبته، بل يزداد حُسْن لونه، وخاصة الأحمر منه لا تعمل فيه المَبَارِد لشدة صلابته ويبسه إلا الماس والسباذج بالحكِّ في الماء ومعدنه في البلاد الجنوبية تحت خط الاستواء وهو قليل الوجود عزيز كثير الثمن لقلة وجوده.

    ومن منافعه أن مَن تختَّم بشيء منه وكان في بلدة قد أصاب أهلَها الوباء والطاعون سَلِم منها بإذن الله — تعالى — ونَبُل في أعين الناس، وسهُل عليه قضاء حوائجه وأمور معائشه.

    وأمر الزُّمُرُّد والزَّبَرْجد فهما حجران يابسان باردان جنسهما واحد موجودان في معادن الذهب وخيرهما وأجودهما أشدهما خُضْرة وصفاء وشفافًا، ومَن أكثر النظر إلى الزبرجد ذهب عن بصره الكلال، ومَن تقلَّد منه أو تختَّم به سَلِم من الصَّرَع، والدهنج عدوٌّ للزبرجد، ويُشبِهه في النظر، وإذا وضع معه في موضع واحد كسره وكدَّر لونَه وذهب بنضارته.

    وأما الدُّرُّ فقد تقدَّم ذكرُه وهيئة تكوينه، وأما خاصيته فإنه ينفع في خفقان القلب من الخوف والجزع الذي يكون من مرة السوداء؛ لأنه يُطرِّي دمَ القلب ويدخل في أدوية العين ويشدُّ أعصاب العين، وإن حُكَّ وطُلي به بياض البرص أذهبه، وإنْ سُقي ذلك الماء مَن كان به صرع أسكنه.

    وأما الفضة فإنها أقرب الجواهر الذائبة إلى الذهب، وهي باردة لينة معتدلة حتى تكاد تكون ذهبًا، لولا أنه غلب عليها البرد في معدنها قبل النضج، وهي في قسمة القمر، فإذا طُرح عليها المس أو الرصاص عند السبك امتزجت بهما، وإذا خُلِّصت منهما تخلَّصت ويسوِّدها الكبريت ويكسرها الزئبق، ويُحسِّن لونَها البُورق ويُعين على سبكها، ويدفع عنها إحراق النار، وإذا سُحقت وأُدخلت في الأدوية المشروبة نفعت من الرطوبات اللزجة، وهي تحترق بالنار إذا ألحَّتْ عليها وتَبلَى في التراب بطول الزمان.

    وأما النحاس فهو جرم حارٌّ يابس مفرط فيه، وهو قريب من الفضة، ليس بينهما تبايُن إلا في الحُمْرة واليبس؛ وذلك أن الفضة بيضاء ليِّنة والنحاس أحمر يابس كثير الوسخ، فحُمْرته من شدة حرارة كبريته ويبسه ووسخه لغلظه، فمَن قدر على تبييضه وتليينه أو تصغير الفضة وتليينها، فقد ظفر بحاجته، والنحاس إذا أُدني من الحموضات أخرج زنجارًا، والزنجار سمٌّ، وإنْ طُلي النحاس بالزئبق أرخاه وكسره، وإنْ سُبك النحاس وطُرح عليه زجاج شامي وطُرح بحرارته في الماء خرج لونه مثل لون الذهب، وإذا أُدني من النار اسودَّ؛ لأن النار هي كالقاضي بين الجواهر المعدنية يفصل بينها بالحق، ومَن أدمَنَ الأكلَ والشرب في أواني النحاس أفسد مزاجَه وعَرضتْ له أعراض كثيرة شديدة، فإذا أُدنيت أواني النحاس من السَّمَك شُمَّ لها رائحة منتِنة، وإن كُبَّتْ آنية النحاس على سمك مشويٍّ أو مطبوخ بحرارتها صار سمًّا قاتلًا.

    وأما الطاليقوني فهو جنس من النحاس طُرحت عليه أدوية حتى صار صلبًا، فإن اتُّخذ منه سكين أو سلاح وجرح به حيوان أضرَّ به مضرَّة مفرِطة، وإن اتُّخذ منه شصٌّ لصيد السمك وتعلَّق به لم يُمكِنه الخلاص، وإن صغر الشص وعظم الحوت، ومَن أصابه وجع اللقوة فدخل بيتًا لا يُرى فيه الضوء ونظر إلى مرآة طاليقون بَرَأ من اللقوة بإذن الله — تعالى — وإن أُحمي الطاليقون وغُمس في الماء لم يقرب ذلك الماء ذباب، وإنْ عُمل منه منقاش ونُتف به الشعر من الجسد ودهن الموضع لم ينبت الشعر بعد ذلك، وإنْ شرب الشراب من إناء طاليقوني لم يَسكَر.

    وأما القَلَعِيُّ فهو قريب من الفضة في لونه، ولكنْ يُبايِنها بثلاث صفات؛ الرائحة والرخاوة والصرير، وهذه الآفات دخلتْ عليه وهو في معدنه كما تدخل الآفات على الجنين وهو في بطن أمه، فرخاوته لكثر هوائيته، وصريره لغلظ كبريته وقلة مزاجه بزئبقه، وهو سافٌ فوق سافٍ، فلذلك يَصِرُّ وتُنتِن رائحتُه لقلَّة نضجه، وإن مُزج بقضيب الريحانة المسمَّى آسًا والمرقيشا والملح والزرانيخ على ما ينبغي برئ من هذه الآفات، وإذا حُرق القَلَعِيُّ وجُعل في المراهم برئ الجرح والقروح التي تكون في عيون الناس.

    وأما الأُسْرُبُّ فهو جنس من الرصاص، ولكنه كثير الكبريت غير نضج، ومنافعه معروفه بين الناس.

    وأما الحديد فهو أجناس؛ فمنه لَيِّن رخو، ومنه ما إذا أُسقي الماء ازداد صلابة وحِدَّة، ولا يستغني عنه الصانع، ومنافعه بيِّنة ظاهرة لا يستغني الناس عنه كما لا يُستغنَى عن الماء والنار والملح، ومنه ما إذا طرحت عليه أدوية ازداد قوة وصلابة، ومن الجواهر المعمولة أيضًا الشبة، وهو نحاس طُرحت عليه أدوية فازداد صفرة ولينًا.

    وأما الإسفندري فهو نحاس مُزج بالقَلَعي، والمفرغ نحاس وأُسْرُب، والمرداسج من الأُسْرُب إذا أُحرق الزنجار مع النحاس، والإسفيذاج من الأُسْرُب والحموضة، والإسريخ منه ومن الكبريت، والزنجفر من الزئبق والكبريت، والمرتك من الأُسْرُب، وأما منافعها — أعني هذه الأحجار — ومضارها فهي معروفة بين الناس، وقد ذُكرت في كتب الطب بشرحها، ومن الجواهر المعدنية الزئبق والكبريت.

    فأما الكبريت فهو حجر دهني لزج يلصق بالأحجار المعدنية عند ذوبانها، ويحترق بالنار ويحرق الأحجار معه؛ لأنه دهن كله.

    وأما الزئبق فهو جسم رطب سيَّال، يَطِير إذا أصابتْه حرارة النار، لا صبر له على حرِّ النار، وهو يُخالِط الأجسام المعدنية بالتدبير ويُرخيها ويكسرها ويوهنها، فإذا أصابتْ تلك الأجسام حرارة النار طار الزئبق ورجع إلى حالته الأولى صلبًا كما كانت، ومَثَلُه مع هذه الأحجار كمَثَل الماء مع الطين اليابس إذا غلبه الماء استرخى وتفتَّت، فإذا أصابتْه حرارة النار أو حرارة الشمس جفَّ وعاد كما كان أولًا.

    واعلم أن الكبريت والزئبق أصلان للجواهر المعدنية الذائبة، كما أن التراب والماء أصلان للأجسام الصناعية كاللَّبِن والآجرِّ والكيزان والغضاير والقُدُور، وكل ما يُعمل من الطين، وقد تقدَّم ذكرُ كيفية تكوين الجواهر المعدنية الذائبة وعِلَل اختلاف طبائعها وصفاتها في فصلٍ قبلَ هذا، ومن الجواهر المعدنية أيضًا أنواع الأملاح والشبوب والبوارق والزاجات؛ فمنها عذْب كملح الطعام والملح الأندراني، ومنها مرٌّ كملح الصاغة، ومنها حادٌّ كالنوشادر، ومنها قابض كالشبوب والزاجات، ومنها دواء كالنفطي والهندي، ومنها بوارق الخبز، ومنها شوارج تصلح للدباغة، ومنها ملح القلى والنورة والرماد والبول يستعمله أصحاب الكيميا، وكل هذه رطوبات ومياه تختلط بتراب بقاع الأرض تحرقها حرارة الشمس أو النار أو حرارة المعدن، فتنعقد وتصير أملاحًا وشبوبًا وبوارق وفنون الزاجات، ومن الجواهر المعدنية أنواع الزرانيخ والمرقشيشا والمغنيسا والشادنج والكحل والتوتيا، ومنها الزجاج والبلور والمينا والطلق والشنج والعقيق والفيروزج والسنبادج والجزع واللَّازْوَرْد والعنبر والدهنج، ومنها القير والنفط والجِصُّ والإسفيذاج وما شاكلها.

    واعلم يا أخي أن لكل نوع من الجواهر خواص ومنافع ومضار تركْنا ذكرها مخافة التطويل؛ إذ قد ذكرها الحكماء في كتبهم وهي موجودة في أيدي الناس، ولكن نذكر من خواص بعضها طرفًا، ليكون دليلًا على الباقي الذي لم نذكره منها، فأما الدهنج فهو حجر يتكون من معدن النحاس وطبيعته باردة لينة؛ لأنه دخان مرتفع من الكبريت المتولد من معدن النحاس، وهو أخضر مثل الزنجار، فإذا صار في موضع من جبال المعدن تكاثف وتلبَّدت أجزاؤه بعضها على بعض، وتجسَّد وتحجَّر فهو مختلف الألوان أخضر كَدِر حَسَن اللون، وفيه خاصية سم؛ مَن سُقي من سحالته تقطَّع١ أمعاه وأمرضه وألْهَبَ معدتَه، وإنْ شرب وهو صحيح أضر، وهو يصفو مع الهواء ويتكدَّر معه، ويُذهِب تكسير الذهب وتشقيقه عند الطرق، ومع التناكر يكون أقوى فعلًا، وإن ذُوِّب ذلك وجُعل مع الذباب على لسع الزنابير سكَّنها، وإنْ سُحق وأُذيب بالخلِّ وطُلي على القوباء أذهَبَها وينفع في السعفة التي في الرأس.
    ومن الجواهر المعدنية البازهر:٢ وهو جوهر ليِّن أمْلس مختلف الألوان، وأصله كان رطوبة هوائية دهنية جمدت في معدنه بطول الزمان، وهو حَجَر شريف تَظهَر منه أفعال كريمة؛ وذلك أنه ينفع من السموم القاتلة حارَّة كانت أو باردة، حيوانية كانت أو نباتية أو معدنية تلك السموم، ونحتاج أن نزيد في شرح هذا الباب؛ إذ كانت عقول الناس قد تحيَّرتْ في كيفية أفعال السمومات والترياقات والبازهرات٣ في الأجسام الطبيعية؛ لأنها أجسام جامدات، وقد قام البرهان على أن الجسم لا فِعْل له من حيث هو جسم، ولا العرض له فعل أيضًا؛ لأنه أعجز من الجسم بكثير، فيجب أن نذكر أولًا كيفية الأفعال التي تَظهَر من هذه الأجسام بعضها من بعض، ثم نبيِّن مَن الفاعل بالحقيقة لها، وفيها ومنها وبها، أما السموم فنوعان حارة وباردة، فالباردة منها تجمد الدم والرطوبات الروحانية اللطيفة التي في أعضاء الحيوان التي بها صحة المزاج وقوام الحياة، والحارة منها تذوب الدم، وتلك الرطوبات وتُطيِّرها، فتفنَى ويذوب بدن الحيوان مع ذوبانها فيهلك، فأمَّا دَبِيب السموم الحارة في أبدان الحيوانات، فمثل دبيب لون الزعفران إذا وقع في الماء صبغه في لحظة، وأما الباردة منها فهي مثل فعل الإنْفَحة إذا وقعتْ في اللبن الحليب جمَّدتْه في أقرب مدة، وأما دبيب البازهرات والترياقات المضادة أفعالها لأفعال تلك السموم فهو مثل فعل الحموضات إذا وقعتْ على صبغ الزعفران غسَلَتْه من ساعتها، ومنعتْه أن يذوب إذا بُودِر بها، وأما ما الفاعل المحرك لهذه الأجسام فهو قوة روحانية من قوى النفس الكلية الفلكية السارية في جميع الأجسام مِن لدن فلك القمر إلى منتهى مركز الأرض، وهي المسمَّاة الطبيعة، فهذه الأجسام الجزئيات من الحيوان والنبات والمعادن هي للطبيعة كالآلات والأدوات للصانع الفاعل، يفعل بها وفيها ومنها أفعالًا مختلفة وأعمالًا مقننة بعضها ببعض، كالنجار الذي يفعل النشر بالمنشار ويعمل النحت بالفأس والثقب بالمثقب والكشاء بالإرتدج ويبرد بالمبرد، والفاعل واحد والأفعال مختلفة بحسب الآلات والأدوات والأغراض المقصودة، وهذه القوة الفاعلة المتقدِّم ذكرُها هي التي يسميها الأطباء والفلاسفة الطبيعة، ويسمِّيها الناموس ملائكة، والطبيب هو خادم الطبيعة، يناولها ما تحتاج إليه في وقت الحاجة كما يناول التلميذ الأستاذ أدواته وقت حاجته ويخدمه بها.


    فصل


    واعلم يا أخي أن هذه النفوس الجزئية المتجسدة الخادمة للنفس الكلية إذا أحسنت في خدمتها للنفس الكلية وطلبتِ الأجرَ والجزاء من الله فلها منزلة جليلة عند الله وكرامة ومكافأة بعد مفارقتها هياكلها، سواء كانت خدمتها في إصلاح أمر الدين أو الدنيا، فإنه لا يذهب لها عند الله شيء إذا كانت محتسبة لوجه الله — تعالى — وطالبة لما عنده من الوجه المقصود منه إليه، فلا يفوتها نصيبها من الدنيا كما ذكر برزويه الطبيب في كتاب كليلة ودمنة: إن الزَّرَّاع لم يزرع طلبًا للعشب، بل للحَبِّ، ولا بد للعشب أن يَنبُت، إنْ شاء الزَّرَّاع أو لم يشأ، كذلك طالب الأجْر والجزاء من الله — تعالى — لا يفوته نصيبه من الدنيا وما قُسم له، ما أراده أو لم يُرِد، كَرِهَ أو رضي، زهِدَ أو رَغِب، طلب أو لم يطلب، وتصديق هذا الرأي قول الله تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ.

    واعلم يا أخي أن عبادة الله ليست كلها صلاة وصومًا، بل عمارة الدين والدنيا جميعًا؛ لأنه يريد أن يكونا عامرين، فمَن يَسعَى في صلاح أحدهما أو كلاهما فأَجْره على الله؛ لأنه مالكهما جميعًا والناس كلهم عبيده، وأحبُّ عِباده إليه مَن سعى في صلاح عباده وعِمارة عالَمَيْه جميعًا، وأبغضُ عبادِه مَن سعى في فسادهما جميعًا أو في فساد أحدهما، كما ذكر الله جلَّ جلالُه: إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ … الآية، وقال تعالى: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى.

    ومن الجواهر المعدنية الماس، وطبيعته البرودة واليبوسة في الدرجة الرابعة، وقلَّ ما تجتمع هاتان الطبيعتان في شيء من الأحجار المعدنية، فبهذه الخاصية صار لا يحتكُّ بجسم من الأحجار المعدنية إلا أثَّر فيه أو كسره أو هشَّمه إلا جنسًا من الأُسْرُبِّ، فإنه يؤثِّر فيه ويكسره ويفتته مع رخاوته ولينه ونتن رائحته.

    واعلم أن مثل تأثير هذا الحجر الضعيف المهين في هذا الجوهر الشريف القوي كمثل تأثير البَقَّة الضعيفة الصغيرة المهينة في الفيل العظيم الجثة الشديد القوة الذي يقهر الحيوانات بعظيم جثته وشدة قوته، وهذا يغلبه ويؤذيه ويضرُّ بِهِ بصغر جثته وخفَّة حركته، فإن في ذلك عبرة لأولي الأبصار، ودلالة لأولي الألباب على أن المسلِّط للصغير على الكبير هو خالقُهما ومصوِّرهما سبحانه.

    وأما السباذج فهو قريب من هاتين الطبيعتين من الماس، ولكن تأثيره دون تأثيره.

    وأما حجر المغناطيس فهو أيضًا عبرة لأولي الأبصار والتفكُّر في الأمور الطبيعية وخواص أفعال بعضها في بعض.

    وذلك أن بين هذا الحجر والحديد مناسبة ومشاكلة في الطبيعة كالمناسبة والمشاكلة التي بين العاشق والمعشوق، وذلك أن الحديد مع شدة يبسه وصلابة جسمه وقهره للأجسام المعدنية والنباتية والحيوانية يتحرك نحو هذا الحجر ويلتصق به ويلتزمه كالْتِزام العاشق المحب المعشوق المحبوب المشتاق، فإذا فكَّر العاقل اللبيب في فعل هذين الحجرين وغيرهما من الأحجار المعدنية والأجسام النباتية علم وتبيَّن له بأن الفاعل المحرِّك لهما هو غيرهما؛ لأن الجسم لا فعل له من حيث هو جسم ببراهين قد قامت ودلائل قد وضحت، وأن هذه الأجسام كلها مع اختلافها واختلاف طبائعها وفنون أشكالها وخواص طبائعها هي كالأدوات والآلات للفاعل الصانع المحرك، وهو النفس الكلية الفلكية التي هذه التأثيرات كلها من أفعالها، وهي المسماة طبيعة، تظهر وتعمل بإذن باريها — جلَّ ثناؤه — وقد تبيَّن بدلائل عقلية أن الباري — جلَّ ثناؤه — لا يُباشِر الأجسام بذاته ولا يتولَّى من الأفعال بنفسه إلا الاختراع والإبداع حسب، وأما التأليف والتركيب والصنائع والأفعال والحركات التي تكون بالآلات والأدوات في الأماكن والأزمان، إنما يأمر ملائكته الموكَّلين وعبادَه المؤيَّدين بأن يفعلوا ما يؤمرون مثل أمر الملوك والرؤساء لعبيدهم وخدمهم وجنودهم.


    فصل


    وقد تبيَّن مما ذكرنا أن الجواهر المعدنية مع كثرة أنواعها واختلاف طبائعها وفنون خواصها أصلها كلها وهيولاها هي الأركان الأربعة التي تُسمى الأمهات، وهي النار والهواء والماء والأرض، وتبيَّن أيضًا أن الفاعل فيها والمؤلف لأجزائها والمركِّب لها هي الطبيعة بإذن الله تعالى، وتبيَّن بأن الغرض من هذه الجواهر المعدنية هو منافع الناس والحيوان وإصلاح أمر الحياة الدنيا ومعيشة الحيوان إلى وقت معلوم.

    واعلم يا أخي بأن الجواهر المعدنية مع اختلاف طبائعها وأنواع أشكالها وفنون جواهرها وخواصها كالأدوات للطبيعة الفاعلة والآلات لها، تفعل بها وفيها ومنها في الأماكن المتباينة والأزمان المختلفة هذه الأفعال والصنائع والأعمال من التركيب والتأليف والجمع والتفريق لأجزاء هذه الأركان الأربعة من الكون والفساد والنشوء والبِلَى حسب دوران الأفلاك وحركات الكواكب وطوالع البروج على آفاق البلد من البر والبحر والسهل والجبل والعمران والخراب، كل ذلك بإذن الله — تعالى — الذي خَلَقَها ووكَّلها بالأركان وأيَّدها بالقوة الإلهية على هذه الأفعال والصنائع من تكوين المعادن والنبات والحيوان.

    واعلم أن الطبيعة إنما هي مَلَك من ملائكة الله المؤيَّدين وعباده الطائعين، يفعلون ما يُؤمرون، لا يعصون الله ما أمرهم وهم من خشيته مشفقون.

    واعلم أن الله — تعالى — غير محتاج في أفعاله إلى الأدوات والآلات والأماكن والأزمان والهَيُولَى والحركات، بل فعله الخاص هو الإبداع والاختراع، إذ الاختراع هو الإخراج من العَدَم إلى الوجود بحسب ما بيَّنَّا في رسالة المبادئ العقلية والأفعال الروحانية.

    واعلم أن طائفة من المجادِلة أنكرتْ أفعالَ الطبيعة لما جهلت ماهية الطبيعة نفسها، ولم تَدْرِ أنها مَلَك من ملائكة الله — تعالى — الموكَّلين بتدبير عالمه وإصلاح خلائقه، فنَسَبتْ كل أفعال الطبيعة إلى الباري — جلَّ ثناؤه — حسنة كانت أو سيئة، خيرًا كانت أو شرًّا، وفيهم مَن نسب ما كان حسنًا إلى الباري، وما كان قبيحًا نسبه إلى غيره، ثم اختلفوا في الغير مَن هو، فمنهم مَن نسب تلك الأفعال إلى الطبيعة وإلى التولد، ومنهم مَن نسبها إلى النجوم، ومنهم من نسبها إلى البَخْت والاتفاق، ومنهم مَن نسبها إلى جريان العادة، ومنهم مَن نسبها إلى الشياطين، ولا يدري ما الشياطين، وكل هذه الأقاويل قالوها لجهلهم ماهية الطبيعة وقلة معرفتهم بأفعالها وأفعال ملائكة الله الموكلين بحفظ عالمه وإدارة أفلاكه وتسيير كواكبه وتوليد حيواناته وتربية نبات أرضه وتكوين معادنها.

    واعلم يا أخي أن الباري — جلَّ ثناؤه — لا يباشر الأجسام بنفسه ولا يتولَّى الأفعال بذاته، بل يأمر ملائكته الموكَّلين وعباده المؤيَّدين فيفعلون ما يؤمرون كما يأمر الملوك الذين هم خلفاء الله في أرضه عبيدهم وخدمهم ورعيتهم لا يتولَّوْن الأفعال بأنفسهم شرفًا وإجلالًا، كذلك يأمر — سبحانه — أو يريد أو يشاء أو يقول: كُنْ، فيكون ما أراد بأمره وإرادته ومشيئته واختراعه وإبداعه وإنشائه وإيجاده وإحداثه الهَيُولَى الأولى والخلق الأول، كما ذكر بقوله تعالى: إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، وقوله تعالى: وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ، وقوله تعالى: مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ.

    واعلم يا أخي أن هذه الصنائع والأفعال التي تجري على أيدي عباده إذا نُسبت إلى الباري — جلَّ جلالُه — فإن نِسبتها على مثل نِسبة أفعال الملوك إذا قيل: بَنَى فلانٌ المَلِك مدينة كذا، وحفر نهر كذا، وعمر بلد كذا، كما يُقال: بَنى الإسكندر الرومي سدَّ يأجوج ومأجوج، وبنى سليمان بن داود — عليه السلام — مسجد إيليا، وبنى إبراهيم٤ الخليل — عليه السلام — البيت الحرام، وبنى المنصور مدينة السلام؛ إذ كان ذلك بأمْرِهم وإرادتهم ومشيئتهم، وإلْقَائهم وعنايتهم، لا أنهم تولَّوا الأفعال بأنفسهم أو باشَروا الأعمال بأجسامهم، وكذلك حكم إضافة أعمال ملائكة الله وأنبيائه وعباده طبيعية كانت أو اختيارية، فنِسبتُها إلى الله — تعالى — على هذا المثال تكون كما ذكر الله — تعالى — لنبيِّه عليه السلام: وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى، وقوله تعالى: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ، وقوله تعالى: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ * أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ، وقوله تعالى: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ، وما شَاكَلَ هذه الإضافات من الأفعال والأعمال والصنائع والتأليف والتركيب والجمع والتفريق والكون والفساد والنشوء والبلاء إذا نُسب إلى الله — تعالى — فعلى هذا السبيل تكون تلك النسبة؛ لأن الله — تعالى — خلق الفاعلين والصناع والعمال وأفعال البشر كانت أو الجن والشياطين والملائكة أو الطبيعة، فحكمها كلها بالإضافة إلى الله حكم واحد؛ لأنهم جميعًا عبيده وجنوده وخدمه، خَلَقَهم وربَّاهم وأنشأهم وقوَّاهم وعلَّمهم وهداهم وأمَرَهم ونَهَاهم، فمُطيع وعاصٍ، وخيِّرٌ وشرِّير، وفاضلٌ وناقصٌ، ومعذَّب ومنعَّم، ومحسِن ومُسِيء، ومبتلًى ومعافًى، خلقهم الله أطوارًا لسعة علمه ونفاذ مشيئته وإجراء أحكامه وعِزِّ سلطانه، لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون.

    فصل


    إن طائفة من المجادِلة لمَّا لم يَعرِفوا ما الطبيعة نَسَبَتْ أفعالَها كلَّها إلى الباري — جل جلاله — ووقعتْ بذلك في شبهة عظيمة وحَيْرة وشكوك، وذلك لمَّا تبيَّن لهم بأن الفعل لا يكون إلا من فاعل، وشاهدوا أفعالًا لم يَرَوْا فاعِلِيها نسبوها إلى الباري — جلَّ ثناؤه — ونظروا فيها وبحثوا عنها فوجدوا بعضها شرورًا وفسادًا مثل موت الأطفال ومصائب الأخيار وتسليط الأشرار وتلف الحيوانات وما يلحقها من الأمراض والأوجاع والجهل والبلوى، كرهوا أن ينسبوا ذلك إلى الباري — عزَّ وجلَّ — فنسبوها إلى التولُّد بزعمهم، ومنهم مَن نسبها إلى البَخْت والاتفاق، ومنهم مَن نسبها إلى النجوم، ومنهم مَن نسبها إلى الباري — تعالى — وقال بالمكافأة والمجازاة، ومنهم مَن قال بالعرض وسابق النظر، ومنهم مَن قال بالأصلح واللطف، وأقاويل أخرى يطول شرحها من التعديل والتجويز، فطوَّلوا الخطب فيها، وقد بينَّا طرفًا من أقاويلهم في رسالة الآراء والمذاهب والديانات، فاعرفه من هناك إن شاء الله تعالى، ونحن قد بيَّنَّا أن هذه كلها أفعال الأنفس الجزئية التي هي كلها قوى النفس الكلية الفلكية كما أنشأها باريها — عزَّ وجلَّ — كما ذكر بقوله تعالى: مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ، فما كان من هذه الأفعال خيرًا نسب إلى النفس الجزئية الخيرية، وما كان منها شرًّا نسب إلى الأنفس الشريرة، وعليها تقع المجازاة والمكافأة عن الثواب والعقاب.

    واعلم يا أخي أن نفسك هي إحدى النفوس الجزئية، وهي قوة من قوى النفس الكلية والفلكية، لا هي بعينها ولا منفصلة منها، كما أن جسدك جزءٌ من أجزاء جسم العالم، لا هو كله ولا منفصل منه، فانظر الآن كيف أعمالك وأفعالك وأخلاقك وآراؤك ومعارفك، فبحسب ذلك يكون جزاؤك ومكافأتك كما قال النبي ﷺ: «إنما هي أعمالكم تُردُّ إليكم.» وقال الله — تعالى — تصديقًا لقول رسول الله ﷺ: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى … الآية، وفَّقك الله أيها الأخ للرشاد، وهداك للسداد، إنه رءوف بالعباد، وحسبنا الله ونعم الوكيل، نعم المولى ونعم النصير، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، اللهم صلِّ على محمدٍ وآله أجمعين.

    (تمَّت رسالة تكوين المعادن، ويتلوها رسالة ماهية الطبيعة.)
    ١ وفي نسخة: تقطعت أمعاؤه.
    ٢ وفي نسخة: الفاذزهر. قال صاحب الشفاء في الطب: باززهر الموجود في أيدي الناس نوعان: معدنيٌّ ينفع من لدغ العقرب فقط مقتصر الحيوان، والحيواني يكون في قلْب الإبل كما ذكره البيطار، وقيل في عينه، نافع للسموم جميعًا، وليس في الأحجار ما يقوم مقامَه، واقتصار صاحب إخوان الصفا على نفْع دفْع السمِّ بالمعدني يُخالِف تجربةَ رجال الطب قاطبة. ا.ﻫ.
    ٣ الفاذزهرات (نسخة).
    ٤ هذا ليس في محله؛ لأن الخليل بنى البيت الحرام بيَدِه كما وَرَدَ في الأخبار الصحيحة. ا.ﻫ.

    سلام قولا من رب رحيم

  • #2
    الف الف شكر اخي العزيز

    تعليق

    يعمل...
    X