الرسالة الثالثة
من الجسمانيات الطبيعيات في بيان الكون والفساد
بسم الله الرحمن الرحيم
الْحَمْدُ لِلهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ
(١) فصل في بيان الكون والفساد
اعلم أيها الأخ البار الرحيم — أيَّدك الله وإيانا بروح منه — أنه لما فرغنا من ذكر الأجسام الفلكية وبينَّا كمية أكرها وكيفية نظامها ومقادير أبعادها واختلاف دورانها وسرعة حركاتها وماهية طبائع جواهرها في الرسالة المُلقَّبة بالسماء والعالم، نريد أن نذكر في هذه الرسالة الملقَّبة بالكون والفساد الأجسام الطبيعية التي دون فلك القمر، وكمية عددها، وكيفية نظامها، واختلاف طبائعها، وكيفية استحالة بعضها إلى بعض بتأثيرات الأجسام الفلكية فيها، وكمية الأجناس الكائنات المتولدة منها.
واعلم أيها الأخ — أيَّدك الله وإيانا بروح منه — أن الأجسام التي تحت فلك القمر سبعة أجناس؛ أربعة منها هي الأمهات الكليات، وهي: النار والهواء والماء والأرض، وثلاثة هي المولَّدات الجزئيات، وهي: الحيوان والنبات والمعادن، فلنبدأ أولًا بوصف الأمهات الكليات، فنقول: إن الأمهات كل واحدة منها مركبة من هَيُولَى وصورة، فهيولاها كلها هو الجسم، وصورها هي التي بها تنفصل كل واحدة منها عن الأخرى، وهي الصورة المقوِّمة لذات كل واحدة منها، ولما كانت الصورة نوعين مقوِّمة ومتمِّمة احتجنا أن نصفهما ليُعرَف الفرق بينهما، فنقول إن الصورة المقوِّمة لذات الشيء هي التي إذا فارقتْ هيولاها بطل وجدان ذلك الشيء، والصورة المتمِّمة هي التي تبلغ الشيء إلى أفضل حالاته التي يمكنه البلوغ إليها، وإذا فارقت هيولاها لم يبطل وجدان الهَيُولَى، مثال ذلك: السكون والحركة فإنهما إذا فارقا الجسم لا يبطل وجدان الجسم، وأما الطول والعرض والعمق فإذا فارقت الهَيُولَى يبطل وجدان الجسم.
واعلم يا أخي أن كل صورة مقوِّمة لذات الشيء تتلوها أخرى متمِّمة، وكل صورة مقوِّمة فاعلة لأخرى تابعة لها يتلو بعضها بعضًا، كما يتلو العدد أزواجُه أفرادَه، وأفرادُه أزواجَه بالغًا ما بلغ، مثال ذلك: الصورة المشاكِلة في جرم النار المقوِّمة لذاتها فهي حركة الغليان، والصورة المتمِّمة التابعة لها هي الحرارة، وتتلوها اليبوسة، ويتلوها تماسُك الأجزاء، فلولا رطوبة الهواء المحيطة بالنيران التي تمنعها أن تُفرِط في اليبوسة، لتماسكتْ أجزاؤها، وجفَّتْ كما تجفُّ نار الصاعقة، ولكن لو أصابها اليُبْس والجفاف لقلَّ الانتفاع بها، وهو الغرض الأقصى منها.
واعلم يا أخي أن الهواء جوهر شريف، فيه فضائل كثيرة وخواص عجيبة، من ذلك أنه يمنع النيران برطوبته أن تَيْبَس وتجفَّ، كما يمنع الأصوات بسيلانه أن تثبت زمانًا طويلًا، فيقلُّ الانتفاع بها، ويكثر الضرر منها، وذلك أن الأصوات ليست تمكث في الهواء إلا ريثما تأخذ المسامع حظَّها ثم تضمحل، ولو ثبتتِ الأصوات في الهواء زمانًا طويلًا لامتلأ الهواء من الأصوات، ولعظم الضرر منها حتى لا يمكن أن يُسمَع ما يُحتاج إليه من الكلام والأقاويل، وهكذا لو يبست النيران وجفت لما سَرَتْ في الأجسام ولم تنضجها، وبقيتِ الأشياء التي يُراد نضجها فجَّة غليظة.
فانظر يا أخي وتفكَّرْ في حكمة الباري — سُبْحَانَه — إذ جعل ثبات النيران بحسب مراد المستعمل لها، فإذا استغنَى عنها ردَّها إلى العدم بأسهل السعي، فلو بقيتْ بحالها لعظم الضرر منها، وقلَّ الانتفاع بها، ومن الصور المتمِّمة لذات النار اللطافة التي تُولِّدها الحرارة وتتلوها سرعة النفوذ في الأجسام، ومن الصور المتمِّمة لذات النار أيضًا النور، ويتلوه الإشراق، فقد اجتمعت في جرم النار عدة صور كلها متمِّمة لها، وهي الحركة والحرارة واليبوسة واللطافة والنور، وهي بكل صورة تفعل فعلًا غير ما تفعل بالأخرى، وذلك أنها بالحركة تُغلي الأجساد، وبالحرارة تُسخِّن، وباليبوسة تُنشِّف، وباللطافة تَنفُذ في الأجسام، وبالنور تُضيء ما حولها، وبالحرارة والحركة تُحِيل الأجسام إلى ذاتها، وأما الصورة المقوِّمة لذات الأرض فهي السكون الذي هو ضد الغليان، والتالية المتمِّمة لها البرودة، والتالية للبرودة اليبوسة، والتالية لها تماسك أجزائها، ومن الصور المتمِّمة لها أيضًا غلظة جوهرها، ومن غلظة جوهرها تماسك أجزائها، ومن تماسك أجزائها نشأتِ الكائنات على ظهورها من الحيوان والنبات والمعادن.
واعلم يا أخي بأن اليبوسة نوعان؛ إحداهما: تابعة للحرارة وهي فاضلة، والأخرى: تابعة للبرودة وهي رذلة، وذلك أن اليبوسة التابعة للحرارة هضمة نضجة، والتي تتبع البرودة فجَّة غير نضجة، ومثال ذلك: يبوسة الياقوت والبلور وأشباهها فإنها قد نضجتها بالطبخ حرارة المعدن، فهي لا تستحيل ولا تتغيَّر، وأما التي تابعة للبرودة مثال يبوسة الثلج والجليد والملح وغيرها، فإنها لما كانت فجَّة غير نضجة صارت رذلة مستحيلة متغيرة، ومن أجْل هذا صارت الأجرام الفلكية لا تقبل الكون والفساد والتغيير والاستحالة؛ لأن تماسُك أجزائها من شدة يبوستِها، ويبوستُها تولَّدتْ من حرارة حركتها، ثم غلبت عليها اليبوسة فطفئت حرارتها، كما بينَّا في رسالة السماء والعالم.
وأما الأجسام الأرضية فلما كان تماسك أجزائها من اليبوسة الرذلة الغير النضجة المتولِّدة من البرودة والمتولِّدة من السكون صارت تستحيل وتتغير وتفسد.
فصل
واعلم يا أخي بأن الصورة المقوِّمة لذات الماء والهواء كليهما الرطوبة المتولدة من امتزاج الأجزاء المتحركة والساكنة جميعًا؛ وذلك أن اليبوسة لما كانت متولدة من شدة حركة أجزاء الهَيُولَى كلها، أو من شدة سكونها كلها، كما بينَّا قبلُ، وكانت الرطوبة ضدًّا لها دلَّتْ على أنها متولِّدة من مزاج الأجزاء المتحركة والساكنة، وأما الصورة المتمِّمة لذات الماء فهي كثيرة الأجزاء الساكنة الغليظة وقليلة الأجزاء المتحركة اللطيفة، ولما كانت الصورة المتمِّمة لذات الماء كثيرة الأجزاء الساكنة الغليظة وقليلة الأجزاء المتحركة اللطيفة صارتْ مُشاكِلة للأرض في البرودة، وصار مركزها مما يَلِي مركز الأرض، وأما الصورة المتمِّمة لذات الهواء فهي كثيرة الأجزاء اللطيفة المتحركة، وقليلة الأجزاء الغليظة الساكنة، ولما كانت الصورة المتمِّمة لذات الهواء كثيرة الأجزاء اللطيفة المتحركة صارت مشاكِلة للنار في الحرارة، وصار مركزها مما يلي مركز النار.
واعلم يا أخي بأنه لما كانت الصورة المقوِّمة للأجسام الفلكية هي شدة اليبوسة المتولدة من شدة الحرارة المتولدة من شدة سرعة الحركة، وكانت الصورة المقوِّمة للأجسام الأرضية اليبوسة المتولدة من شدة البرودة المتولدة من شدة السكون الذي هو ضدُّ حركة الغليان، صارت الأجسام الأرضية مشاكِلة للفلكية في اليبوسة ومضادة لها في الحركة، ولما كانت حركتها حول المركز صار سكون هذه في المركز؛ لأن المضاد يفر من ضده إلى أبعد الأماكن، وأبعد الأماكن من المحيط هو المركز.
ولما كانت الصورة المقوِّمة للماء والهواء هي الرطوبة المتولدة من امتزاج الأجزاء المتحركة والساكنة، وكانت الرطوبة مضادة لليبوسة صار موضعها ما بين المحيط والمركز، ولما كانت الصورة المتمِّمة لذات الماء هي كثيرة الأجزاء الغليظة الساكنة فيه صار الماء مشاكِلًا للأرض في البرودة، وصار مركزه مما يلي مركزها، ولما كانت الصورة المتمِّمة لذات الهواء كثيرة الأجزاء اللطيفة المتحركة صارت مشاكلة للنار في الحرارة، وصار مركزها مما يلي مركزها، فقد بان يا أخي بهذا الشرح أن الأجسام بعضها مشاكِل لبعض في طبيعة ما، مضاد في طبيعة أخرى، ومن أجْل مضادة طباعها تبايَنَتْ مراكزُها، ومن أجْل مشاكلتها تَجَاوَرَتْ مراكزها، ولما ترتَّبتْ هذه الأجسام مراتبها صار كل واحد في مركزه الخاص به واقفًا بلا مماسك ولا عمد لا ثقيلًا ولا خفيفًا، ولا تخرج من مواضعها إلا بعارض قاهر لها، فإذا خَلَتْ رجَعَتْ إلى موضعها الخاص بها، فإن منعها مانع وقع التنازع بينهما، فإن كان النزوع إلى ناحية المحيط يُسمَّى خفيفًا، وإن كان إلى ناحية مركز العالَم يُسمِّى ثقيلًا، ولما ترتبت الأكر وقف كل واحد من هذه الأركان في موضعه الخاص به محيطات بعضها ببعض مستديرات إلا الماء، فقد منعتْه العناية الإلهية والحكمة الربانية من الإحاطة بالأرض من جميع الجهات؛ لأنه لو أحاطت كرة الماء بكرة الأرض من جميع الجهات لمنع كون الحيوان والنبات على وجه الأرض، ولكن جعلت للمياه مستنقعات في الأرض وهي البحار والآبار، وقد ذكرنا في رسالة جغرافيا صورة الأرض وكمية الجبال والبحار والأنهار والأقاليم والبلدان، ولكن لا بد أن نذكر منها ما يُحتاج إلى ذكره ها هنا.
فصل
اعلم يا أخي بأن الأرض كرة واحدة بجميع ما عليها من الجبال والبحار والأنهار والعمران والخراب، وهي واقفة في الهواء في مركز العالم، والهواء محيط بها ملتفٌّ عليها من جميع جهاتها، وأن البحر الأعظم موضعه تحت مدار برج الحمل ممتد من المشرق إلى المغرب، وأما سائر البحار فشُعَب وخِلْجان تأخذ من البحر الأعظم وتمتد إلى ناحية الشمال، وهي سبعة أبْحُر؛ فمنها: بحر الرُّوم وبحر القُلزُم وبحر فارس وبحر الصين وبحر الهند وبحر يأجوج ومأجوج وبحر جرجان، وبين كل بحر منها وبين الآخر جزائر وبراري وعمران وجبال وآجام وأنهار تبتدئ من الجبال وتنتهي إلى البحار، وأن الجبال أصولها راسية في الأرض ورءوسها شامخة في الهواء شاهقة، وبين هذه الجبال أودية غائرة، وفي جوف الجبال مغارات وأهوية، وأن الأرض باطنها كثير التخلخل وظاهرها مختلف التربة، ومنها طينية وسبخة ورملة وحصًى وأحجار صلبة وبقاع مختلفة، وسبب اختلاف هذه كلها بحسب مسامتات الكواكب ومطارح شعاعاتها عليها من الآفاق وممرات درجات الفلك على سمت تلك البقاع، ومنها يكون الكون والفساد في هذه الأجسام التي تحت فلك القمر.
واعلم يا أخي بأن هذه الأركان الأربعة يستحيل بعضها إلى بعض، فيصير الماء تارةً هواء وتارةً أرضًا، وهكذا أيضًا حكم الهواء فإنه يصير تارةً ماء وتارةً نارًا، وكذلك النار، وذلك أن النار إذا أُطفِئَتْ وخمدت صارت هواء، والهواء إذا غلظ صار ماءً، والماء إذا جمد صار أرضًا، وعكس ذلك أن الأرض إذا تحللت ولطفت صارت ماءً، والماء إذا ذاب صار هواءً، والهواء إذا حَمِيَ صار نارًا، وليس للنار أن تلطف فتصير شيئًا آخَر، ولا للأرض أن تغلظ فتصير شيئًا آخر، ولكن إذا اختلطت أجزاء هذه الأركان بعضها ببعض كان منها المتولدات الكائنات الفاسدات التي هي المعادن والنبات والحيوان، وأصل هذه كلها البخارات والعصارات إذا امتزج بعضها ببعضها، فالبخار ما يصعد من لطائف البحار والأنهار والآجام في الهواء من إسخان الشمس والكواكب لها بمطارح شعاعاتها على سطوح البحار والأنهار والآجام والعصارات مما ينجلب في باطن الأرض من مياه الأمطار، وتخلط بالأجزاء الأرضية وتغلظ فتنضجها الحرارة المستبطنة في عمق الأرض.
واعلم يا أخي بأن أول ما يستحيل هي الأربعة الأركان إلى هذين الخليطين، أعني البخار والعصارات، ويكون هذان الخليطان هَيُولَى ومادة لسائر الكائنات الفاسدات التي تحت فلك القمر، وذلك أن الشمس والكواكب إذا سخنت المياه بإشراقها على سطح الأرض والبحار والآجام والأنهار قللت المياه ولطفت أجزاء الأرض، وصارت بخارًا ودخانًا، والبخار والدخان يصيران سحابًا، والسحاب يصير أمطارًا، والأمطار إذا بلَّلتِ التراب واختلطت الأجزاء الأرضية بالأجزاء المائية تتكون منها العصارات، والعصارات تكون مادة وهَيُولَى للكائنات التي هي المعادن والنبات والحيوان، وقد أفردنا لكل نوع منها رسالةً مفردةً، وبينَّا فيها كيفية تكوُّنها منها وتركيبها ونشوئها ونمائها وبلوغها إلى أقصى مدى غاياتها، ثم كيفية فسادها وبلاها واستحالتها وبدئها ورجوعها إلى هذه الأركان الأربعة التي تتكون منها.
واعلم يا أخي بأن الكون والفساد هما ضدان لا يجتمعان في شيءٍ واحد في زمان واحد؛ لأن الكون هو حصول الصور في الهَيُولَى، والفساد هو انخلاعها منها، فإذا فسد شيء منها فلا بد أن يتكوَّن شيء آخَر؛ لأن الهَيُولَى إذا انتُزعت منها صورة أُلبست أخرى، فإن كانتْ التي أُلبست أشرف سُمِّي كونًا، وإن كانت أدْوَن سُمِّي فسادًا، مثال ذلك: أن يصير التراب والماء نباتًا، ويصير النبات حبًّا وثمارًا، والثمار والحب يصيران غذاءً، والغذاء يصير دمًا ولحمًا وعظمًا، فيكون من ذلك حيوان، والفساد أن يحترق النبات فيصير رمادًا، ويموت الحيوان فيصير ترابًا.
واعلم يا أخي أن جسدك الذي تختص به نفسك أحد الكائنات الفاسدات، وما هو بالنسبة إلى نفسك إلا كدارٍ سُكنت أو كلباس أُلبس فلا تكوننَّ كل همتك وأكثر عنايتك بتزويق هذه الدار وتطرية هذا اللباس، فإنك تعلم بأن كل مسكن يخرب وكل لباس لا بد أن يبلى، ولكنِ اجعل بعض أوقاتك للنظر في أمر نفسك وطلب معرفة جوهرها ومبدئها ومعادها، فإنها جوهرة خالدة أبدية الوجود، ولكن تنتقل لها حال بعد حال كما قيل:
اجهدْ على النفسِ واستكمِلْ فضائِلَها
فأنتَ بالنفسِ لا بالجِسمِ إنسانُ
كما رُويَ في الخبر أن ابن أبي طالب — صلوات الله عليه — قال في خطبة له: «إنما خُلقتُم للأبد، ولكن مِن دارٍ إلى دارٍ تُنقَلون من الأصلاب إلى الأرحام، ومن الأرحام إلى الدنيا، ومن الدنيا إلى البرزخ، ومن البرزخ إلى الجنة أو إلى النار.»
فصل
واعلم يا أخي بأن الجنة إنما هي عالم الأرواح، وكله صورة روحانية لا هَيُولَى جرمانية، بل حياة محضة، وراحة ولذة، وسرور وغبطة، لا يعرض لها الكون والفساد، ولا التغيير والبلى؛ لأنها هي دار الحيوان لو كانوا يعلمون، فإذا كانت الدار هي الحيوان، فما ظنك يا أخي بأهل الدار كيف حالهم؟! فإنه يقصر الوصفُ عنهم إلا بالاختصار كما ذكر الله — تعالى — في كتابه على لسان نبيِّه محمد ﷺ فقال: فِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ.
واعلم يا أخي أن النار وجهنم هي عالم الأجسام التي تحت فلك القمر الذي هو دائم في الكون والفساد والتغيير والاستحالة والبلى، وأن أهلها كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ، فازْهَدْ يا أخي في غرور هذه الدار كما زهد أنبياء الله — عزَّ وجلَّ — وأولياؤه والفلاسفة الحكماء، فقد علمتَ أنها ليستْ بدار المقام، فاستعدَّ للرحلة والانتقال باختيار منك لا مُكرهًا ولا مُجبرًا قبل فناء العمر وتقارُب الأَجَل.
واعلم أنه لا يستوي لك هذا إلا بعد أن تعرف فضل الآخرة على الدنيا معرفة صحيحة بلا شك ولا تقليد؛ لأن جِبِلَّة الإنسان أن لا يزهد في الحاضر العاجل ولا يرغب في الغائب الآجِل إلا بعد معرفة فضل الآجِل الغائب على العاجل الحاضر.
واجتهد يا أخي في معرفة طلب ما أشار إليه أنبياء الله — تعالى — في الكتب المنزَّلة على ألسنتهم المأخوذة عن الملائكة معانيها في وصف نعيم الجنان وسعادة أهلها وصفة النيران وشقاوة أهلها، وما أشار إليه أيضًا الفلاسفة والحكماء في رموزهم من وصف عالم الأرواح ومدح أهلها، وذمهم عالم الأجسام وسوء ثنائهم على أهلها، ولعلك تتصوَّر بعقلك ما تصوَّروا، وتشاهد بصفاء جوهر نفسك ما شاهدوا بصفاء جوهر نفوسهم، فتنتبه نفسك من نوم الغفلة ورقدة الجهالة، وتعيش عيش السعداء العلماء، وترتقي في المعارف، وتعلو همتُك نحو ملكوت السماء، وتكون في الآخرة من السعداء، وفقك الله أيها الأخ وإيانا وجميع إخواننا حيث كانوا في البلاد للرشاد، إنه رءوف رحيم بالعباد.
وإذ قد فرغنا من ذكر الأركان الأربعة التي هي دون فلك القمر وهي: النار والهواء والماء والأرض، ووصفنا ما يخص كل واحدة من الصور المقوِّمة المبلِّغة له إلى أفضل حالاته، وبينَّا كيفية استحالات بعضها إلى بعض، وأخبرنا أن أول ما يتحلَّل من البخارات، ومن البخارات تنعقد العصارات، ومن العصارات تتكوَّن الكائنات التي هي المعادن والنباتات والحيوانات، فنختم هذه الرسالة ونبدأ بعدها برسالة أخرى نذكر فيها البخارات الصاعدة في الهواء، ونَصِف كيفية حوادث الجوِّ منها في رسالة أخرى، وهي الملقَّبة برسالة الآثار العلوية وحوادث الجو.
(تمَّت رسالة الكون والفساد، ويتلوها رسالة الآثار العلوية.)
من الجسمانيات الطبيعيات في بيان الكون والفساد
بسم الله الرحمن الرحيم
الْحَمْدُ لِلهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ
(١) فصل في بيان الكون والفساد
اعلم أيها الأخ البار الرحيم — أيَّدك الله وإيانا بروح منه — أنه لما فرغنا من ذكر الأجسام الفلكية وبينَّا كمية أكرها وكيفية نظامها ومقادير أبعادها واختلاف دورانها وسرعة حركاتها وماهية طبائع جواهرها في الرسالة المُلقَّبة بالسماء والعالم، نريد أن نذكر في هذه الرسالة الملقَّبة بالكون والفساد الأجسام الطبيعية التي دون فلك القمر، وكمية عددها، وكيفية نظامها، واختلاف طبائعها، وكيفية استحالة بعضها إلى بعض بتأثيرات الأجسام الفلكية فيها، وكمية الأجناس الكائنات المتولدة منها.
واعلم أيها الأخ — أيَّدك الله وإيانا بروح منه — أن الأجسام التي تحت فلك القمر سبعة أجناس؛ أربعة منها هي الأمهات الكليات، وهي: النار والهواء والماء والأرض، وثلاثة هي المولَّدات الجزئيات، وهي: الحيوان والنبات والمعادن، فلنبدأ أولًا بوصف الأمهات الكليات، فنقول: إن الأمهات كل واحدة منها مركبة من هَيُولَى وصورة، فهيولاها كلها هو الجسم، وصورها هي التي بها تنفصل كل واحدة منها عن الأخرى، وهي الصورة المقوِّمة لذات كل واحدة منها، ولما كانت الصورة نوعين مقوِّمة ومتمِّمة احتجنا أن نصفهما ليُعرَف الفرق بينهما، فنقول إن الصورة المقوِّمة لذات الشيء هي التي إذا فارقتْ هيولاها بطل وجدان ذلك الشيء، والصورة المتمِّمة هي التي تبلغ الشيء إلى أفضل حالاته التي يمكنه البلوغ إليها، وإذا فارقت هيولاها لم يبطل وجدان الهَيُولَى، مثال ذلك: السكون والحركة فإنهما إذا فارقا الجسم لا يبطل وجدان الجسم، وأما الطول والعرض والعمق فإذا فارقت الهَيُولَى يبطل وجدان الجسم.
واعلم يا أخي أن كل صورة مقوِّمة لذات الشيء تتلوها أخرى متمِّمة، وكل صورة مقوِّمة فاعلة لأخرى تابعة لها يتلو بعضها بعضًا، كما يتلو العدد أزواجُه أفرادَه، وأفرادُه أزواجَه بالغًا ما بلغ، مثال ذلك: الصورة المشاكِلة في جرم النار المقوِّمة لذاتها فهي حركة الغليان، والصورة المتمِّمة التابعة لها هي الحرارة، وتتلوها اليبوسة، ويتلوها تماسُك الأجزاء، فلولا رطوبة الهواء المحيطة بالنيران التي تمنعها أن تُفرِط في اليبوسة، لتماسكتْ أجزاؤها، وجفَّتْ كما تجفُّ نار الصاعقة، ولكن لو أصابها اليُبْس والجفاف لقلَّ الانتفاع بها، وهو الغرض الأقصى منها.
واعلم يا أخي أن الهواء جوهر شريف، فيه فضائل كثيرة وخواص عجيبة، من ذلك أنه يمنع النيران برطوبته أن تَيْبَس وتجفَّ، كما يمنع الأصوات بسيلانه أن تثبت زمانًا طويلًا، فيقلُّ الانتفاع بها، ويكثر الضرر منها، وذلك أن الأصوات ليست تمكث في الهواء إلا ريثما تأخذ المسامع حظَّها ثم تضمحل، ولو ثبتتِ الأصوات في الهواء زمانًا طويلًا لامتلأ الهواء من الأصوات، ولعظم الضرر منها حتى لا يمكن أن يُسمَع ما يُحتاج إليه من الكلام والأقاويل، وهكذا لو يبست النيران وجفت لما سَرَتْ في الأجسام ولم تنضجها، وبقيتِ الأشياء التي يُراد نضجها فجَّة غليظة.
فانظر يا أخي وتفكَّرْ في حكمة الباري — سُبْحَانَه — إذ جعل ثبات النيران بحسب مراد المستعمل لها، فإذا استغنَى عنها ردَّها إلى العدم بأسهل السعي، فلو بقيتْ بحالها لعظم الضرر منها، وقلَّ الانتفاع بها، ومن الصور المتمِّمة لذات النار اللطافة التي تُولِّدها الحرارة وتتلوها سرعة النفوذ في الأجسام، ومن الصور المتمِّمة لذات النار أيضًا النور، ويتلوه الإشراق، فقد اجتمعت في جرم النار عدة صور كلها متمِّمة لها، وهي الحركة والحرارة واليبوسة واللطافة والنور، وهي بكل صورة تفعل فعلًا غير ما تفعل بالأخرى، وذلك أنها بالحركة تُغلي الأجساد، وبالحرارة تُسخِّن، وباليبوسة تُنشِّف، وباللطافة تَنفُذ في الأجسام، وبالنور تُضيء ما حولها، وبالحرارة والحركة تُحِيل الأجسام إلى ذاتها، وأما الصورة المقوِّمة لذات الأرض فهي السكون الذي هو ضد الغليان، والتالية المتمِّمة لها البرودة، والتالية للبرودة اليبوسة، والتالية لها تماسك أجزائها، ومن الصور المتمِّمة لها أيضًا غلظة جوهرها، ومن غلظة جوهرها تماسك أجزائها، ومن تماسك أجزائها نشأتِ الكائنات على ظهورها من الحيوان والنبات والمعادن.
واعلم يا أخي بأن اليبوسة نوعان؛ إحداهما: تابعة للحرارة وهي فاضلة، والأخرى: تابعة للبرودة وهي رذلة، وذلك أن اليبوسة التابعة للحرارة هضمة نضجة، والتي تتبع البرودة فجَّة غير نضجة، ومثال ذلك: يبوسة الياقوت والبلور وأشباهها فإنها قد نضجتها بالطبخ حرارة المعدن، فهي لا تستحيل ولا تتغيَّر، وأما التي تابعة للبرودة مثال يبوسة الثلج والجليد والملح وغيرها، فإنها لما كانت فجَّة غير نضجة صارت رذلة مستحيلة متغيرة، ومن أجْل هذا صارت الأجرام الفلكية لا تقبل الكون والفساد والتغيير والاستحالة؛ لأن تماسُك أجزائها من شدة يبوستِها، ويبوستُها تولَّدتْ من حرارة حركتها، ثم غلبت عليها اليبوسة فطفئت حرارتها، كما بينَّا في رسالة السماء والعالم.
وأما الأجسام الأرضية فلما كان تماسك أجزائها من اليبوسة الرذلة الغير النضجة المتولِّدة من البرودة والمتولِّدة من السكون صارت تستحيل وتتغير وتفسد.
فصل
واعلم يا أخي بأن الصورة المقوِّمة لذات الماء والهواء كليهما الرطوبة المتولدة من امتزاج الأجزاء المتحركة والساكنة جميعًا؛ وذلك أن اليبوسة لما كانت متولدة من شدة حركة أجزاء الهَيُولَى كلها، أو من شدة سكونها كلها، كما بينَّا قبلُ، وكانت الرطوبة ضدًّا لها دلَّتْ على أنها متولِّدة من مزاج الأجزاء المتحركة والساكنة، وأما الصورة المتمِّمة لذات الماء فهي كثيرة الأجزاء الساكنة الغليظة وقليلة الأجزاء المتحركة اللطيفة، ولما كانت الصورة المتمِّمة لذات الماء كثيرة الأجزاء الساكنة الغليظة وقليلة الأجزاء المتحركة اللطيفة صارتْ مُشاكِلة للأرض في البرودة، وصار مركزها مما يَلِي مركز الأرض، وأما الصورة المتمِّمة لذات الهواء فهي كثيرة الأجزاء اللطيفة المتحركة، وقليلة الأجزاء الغليظة الساكنة، ولما كانت الصورة المتمِّمة لذات الهواء كثيرة الأجزاء اللطيفة المتحركة صارت مشاكِلة للنار في الحرارة، وصار مركزها مما يلي مركز النار.
واعلم يا أخي بأنه لما كانت الصورة المقوِّمة للأجسام الفلكية هي شدة اليبوسة المتولدة من شدة الحرارة المتولدة من شدة سرعة الحركة، وكانت الصورة المقوِّمة للأجسام الأرضية اليبوسة المتولدة من شدة البرودة المتولدة من شدة السكون الذي هو ضدُّ حركة الغليان، صارت الأجسام الأرضية مشاكِلة للفلكية في اليبوسة ومضادة لها في الحركة، ولما كانت حركتها حول المركز صار سكون هذه في المركز؛ لأن المضاد يفر من ضده إلى أبعد الأماكن، وأبعد الأماكن من المحيط هو المركز.
ولما كانت الصورة المقوِّمة للماء والهواء هي الرطوبة المتولدة من امتزاج الأجزاء المتحركة والساكنة، وكانت الرطوبة مضادة لليبوسة صار موضعها ما بين المحيط والمركز، ولما كانت الصورة المتمِّمة لذات الماء هي كثيرة الأجزاء الغليظة الساكنة فيه صار الماء مشاكِلًا للأرض في البرودة، وصار مركزه مما يلي مركزها، ولما كانت الصورة المتمِّمة لذات الهواء كثيرة الأجزاء اللطيفة المتحركة صارت مشاكلة للنار في الحرارة، وصار مركزها مما يلي مركزها، فقد بان يا أخي بهذا الشرح أن الأجسام بعضها مشاكِل لبعض في طبيعة ما، مضاد في طبيعة أخرى، ومن أجْل مضادة طباعها تبايَنَتْ مراكزُها، ومن أجْل مشاكلتها تَجَاوَرَتْ مراكزها، ولما ترتَّبتْ هذه الأجسام مراتبها صار كل واحد في مركزه الخاص به واقفًا بلا مماسك ولا عمد لا ثقيلًا ولا خفيفًا، ولا تخرج من مواضعها إلا بعارض قاهر لها، فإذا خَلَتْ رجَعَتْ إلى موضعها الخاص بها، فإن منعها مانع وقع التنازع بينهما، فإن كان النزوع إلى ناحية المحيط يُسمَّى خفيفًا، وإن كان إلى ناحية مركز العالَم يُسمِّى ثقيلًا، ولما ترتبت الأكر وقف كل واحد من هذه الأركان في موضعه الخاص به محيطات بعضها ببعض مستديرات إلا الماء، فقد منعتْه العناية الإلهية والحكمة الربانية من الإحاطة بالأرض من جميع الجهات؛ لأنه لو أحاطت كرة الماء بكرة الأرض من جميع الجهات لمنع كون الحيوان والنبات على وجه الأرض، ولكن جعلت للمياه مستنقعات في الأرض وهي البحار والآبار، وقد ذكرنا في رسالة جغرافيا صورة الأرض وكمية الجبال والبحار والأنهار والأقاليم والبلدان، ولكن لا بد أن نذكر منها ما يُحتاج إلى ذكره ها هنا.
فصل
اعلم يا أخي بأن الأرض كرة واحدة بجميع ما عليها من الجبال والبحار والأنهار والعمران والخراب، وهي واقفة في الهواء في مركز العالم، والهواء محيط بها ملتفٌّ عليها من جميع جهاتها، وأن البحر الأعظم موضعه تحت مدار برج الحمل ممتد من المشرق إلى المغرب، وأما سائر البحار فشُعَب وخِلْجان تأخذ من البحر الأعظم وتمتد إلى ناحية الشمال، وهي سبعة أبْحُر؛ فمنها: بحر الرُّوم وبحر القُلزُم وبحر فارس وبحر الصين وبحر الهند وبحر يأجوج ومأجوج وبحر جرجان، وبين كل بحر منها وبين الآخر جزائر وبراري وعمران وجبال وآجام وأنهار تبتدئ من الجبال وتنتهي إلى البحار، وأن الجبال أصولها راسية في الأرض ورءوسها شامخة في الهواء شاهقة، وبين هذه الجبال أودية غائرة، وفي جوف الجبال مغارات وأهوية، وأن الأرض باطنها كثير التخلخل وظاهرها مختلف التربة، ومنها طينية وسبخة ورملة وحصًى وأحجار صلبة وبقاع مختلفة، وسبب اختلاف هذه كلها بحسب مسامتات الكواكب ومطارح شعاعاتها عليها من الآفاق وممرات درجات الفلك على سمت تلك البقاع، ومنها يكون الكون والفساد في هذه الأجسام التي تحت فلك القمر.
واعلم يا أخي بأن هذه الأركان الأربعة يستحيل بعضها إلى بعض، فيصير الماء تارةً هواء وتارةً أرضًا، وهكذا أيضًا حكم الهواء فإنه يصير تارةً ماء وتارةً نارًا، وكذلك النار، وذلك أن النار إذا أُطفِئَتْ وخمدت صارت هواء، والهواء إذا غلظ صار ماءً، والماء إذا جمد صار أرضًا، وعكس ذلك أن الأرض إذا تحللت ولطفت صارت ماءً، والماء إذا ذاب صار هواءً، والهواء إذا حَمِيَ صار نارًا، وليس للنار أن تلطف فتصير شيئًا آخَر، ولا للأرض أن تغلظ فتصير شيئًا آخر، ولكن إذا اختلطت أجزاء هذه الأركان بعضها ببعض كان منها المتولدات الكائنات الفاسدات التي هي المعادن والنبات والحيوان، وأصل هذه كلها البخارات والعصارات إذا امتزج بعضها ببعضها، فالبخار ما يصعد من لطائف البحار والأنهار والآجام في الهواء من إسخان الشمس والكواكب لها بمطارح شعاعاتها على سطوح البحار والأنهار والآجام والعصارات مما ينجلب في باطن الأرض من مياه الأمطار، وتخلط بالأجزاء الأرضية وتغلظ فتنضجها الحرارة المستبطنة في عمق الأرض.
واعلم يا أخي بأن أول ما يستحيل هي الأربعة الأركان إلى هذين الخليطين، أعني البخار والعصارات، ويكون هذان الخليطان هَيُولَى ومادة لسائر الكائنات الفاسدات التي تحت فلك القمر، وذلك أن الشمس والكواكب إذا سخنت المياه بإشراقها على سطح الأرض والبحار والآجام والأنهار قللت المياه ولطفت أجزاء الأرض، وصارت بخارًا ودخانًا، والبخار والدخان يصيران سحابًا، والسحاب يصير أمطارًا، والأمطار إذا بلَّلتِ التراب واختلطت الأجزاء الأرضية بالأجزاء المائية تتكون منها العصارات، والعصارات تكون مادة وهَيُولَى للكائنات التي هي المعادن والنبات والحيوان، وقد أفردنا لكل نوع منها رسالةً مفردةً، وبينَّا فيها كيفية تكوُّنها منها وتركيبها ونشوئها ونمائها وبلوغها إلى أقصى مدى غاياتها، ثم كيفية فسادها وبلاها واستحالتها وبدئها ورجوعها إلى هذه الأركان الأربعة التي تتكون منها.
واعلم يا أخي بأن الكون والفساد هما ضدان لا يجتمعان في شيءٍ واحد في زمان واحد؛ لأن الكون هو حصول الصور في الهَيُولَى، والفساد هو انخلاعها منها، فإذا فسد شيء منها فلا بد أن يتكوَّن شيء آخَر؛ لأن الهَيُولَى إذا انتُزعت منها صورة أُلبست أخرى، فإن كانتْ التي أُلبست أشرف سُمِّي كونًا، وإن كانت أدْوَن سُمِّي فسادًا، مثال ذلك: أن يصير التراب والماء نباتًا، ويصير النبات حبًّا وثمارًا، والثمار والحب يصيران غذاءً، والغذاء يصير دمًا ولحمًا وعظمًا، فيكون من ذلك حيوان، والفساد أن يحترق النبات فيصير رمادًا، ويموت الحيوان فيصير ترابًا.
واعلم يا أخي أن جسدك الذي تختص به نفسك أحد الكائنات الفاسدات، وما هو بالنسبة إلى نفسك إلا كدارٍ سُكنت أو كلباس أُلبس فلا تكوننَّ كل همتك وأكثر عنايتك بتزويق هذه الدار وتطرية هذا اللباس، فإنك تعلم بأن كل مسكن يخرب وكل لباس لا بد أن يبلى، ولكنِ اجعل بعض أوقاتك للنظر في أمر نفسك وطلب معرفة جوهرها ومبدئها ومعادها، فإنها جوهرة خالدة أبدية الوجود، ولكن تنتقل لها حال بعد حال كما قيل:
اجهدْ على النفسِ واستكمِلْ فضائِلَها
فأنتَ بالنفسِ لا بالجِسمِ إنسانُ
كما رُويَ في الخبر أن ابن أبي طالب — صلوات الله عليه — قال في خطبة له: «إنما خُلقتُم للأبد، ولكن مِن دارٍ إلى دارٍ تُنقَلون من الأصلاب إلى الأرحام، ومن الأرحام إلى الدنيا، ومن الدنيا إلى البرزخ، ومن البرزخ إلى الجنة أو إلى النار.»
فصل
واعلم يا أخي بأن الجنة إنما هي عالم الأرواح، وكله صورة روحانية لا هَيُولَى جرمانية، بل حياة محضة، وراحة ولذة، وسرور وغبطة، لا يعرض لها الكون والفساد، ولا التغيير والبلى؛ لأنها هي دار الحيوان لو كانوا يعلمون، فإذا كانت الدار هي الحيوان، فما ظنك يا أخي بأهل الدار كيف حالهم؟! فإنه يقصر الوصفُ عنهم إلا بالاختصار كما ذكر الله — تعالى — في كتابه على لسان نبيِّه محمد ﷺ فقال: فِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ.
واعلم يا أخي أن النار وجهنم هي عالم الأجسام التي تحت فلك القمر الذي هو دائم في الكون والفساد والتغيير والاستحالة والبلى، وأن أهلها كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ، فازْهَدْ يا أخي في غرور هذه الدار كما زهد أنبياء الله — عزَّ وجلَّ — وأولياؤه والفلاسفة الحكماء، فقد علمتَ أنها ليستْ بدار المقام، فاستعدَّ للرحلة والانتقال باختيار منك لا مُكرهًا ولا مُجبرًا قبل فناء العمر وتقارُب الأَجَل.
واعلم أنه لا يستوي لك هذا إلا بعد أن تعرف فضل الآخرة على الدنيا معرفة صحيحة بلا شك ولا تقليد؛ لأن جِبِلَّة الإنسان أن لا يزهد في الحاضر العاجل ولا يرغب في الغائب الآجِل إلا بعد معرفة فضل الآجِل الغائب على العاجل الحاضر.
واجتهد يا أخي في معرفة طلب ما أشار إليه أنبياء الله — تعالى — في الكتب المنزَّلة على ألسنتهم المأخوذة عن الملائكة معانيها في وصف نعيم الجنان وسعادة أهلها وصفة النيران وشقاوة أهلها، وما أشار إليه أيضًا الفلاسفة والحكماء في رموزهم من وصف عالم الأرواح ومدح أهلها، وذمهم عالم الأجسام وسوء ثنائهم على أهلها، ولعلك تتصوَّر بعقلك ما تصوَّروا، وتشاهد بصفاء جوهر نفسك ما شاهدوا بصفاء جوهر نفوسهم، فتنتبه نفسك من نوم الغفلة ورقدة الجهالة، وتعيش عيش السعداء العلماء، وترتقي في المعارف، وتعلو همتُك نحو ملكوت السماء، وتكون في الآخرة من السعداء، وفقك الله أيها الأخ وإيانا وجميع إخواننا حيث كانوا في البلاد للرشاد، إنه رءوف رحيم بالعباد.
وإذ قد فرغنا من ذكر الأركان الأربعة التي هي دون فلك القمر وهي: النار والهواء والماء والأرض، ووصفنا ما يخص كل واحدة من الصور المقوِّمة المبلِّغة له إلى أفضل حالاته، وبينَّا كيفية استحالات بعضها إلى بعض، وأخبرنا أن أول ما يتحلَّل من البخارات، ومن البخارات تنعقد العصارات، ومن العصارات تتكوَّن الكائنات التي هي المعادن والنباتات والحيوانات، فنختم هذه الرسالة ونبدأ بعدها برسالة أخرى نذكر فيها البخارات الصاعدة في الهواء، ونَصِف كيفية حوادث الجوِّ منها في رسالة أخرى، وهي الملقَّبة برسالة الآثار العلوية وحوادث الجو.
(تمَّت رسالة الكون والفساد، ويتلوها رسالة الآثار العلوية.)
تعليق