إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

رسائل إخوان الصفاء وخِلَّان الوفاء (الجزء الأول- الرسالة الرابعة عشرة)

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • رسائل إخوان الصفاء وخِلَّان الوفاء (الجزء الأول- الرسالة الرابعة عشرة)


    الرسالة الرابعة عشرة

    في معنى أنولوطيقا الثانية



    بسم الله الرحمن الرحيم


    وإذ قد فرغنا من ذكر المقولات العشرة وكمية أنواعها وكيفية اقتراناتها وفنون نتائجها فيما تقدم؛ فنريد الآن أن نبين ما القياس البرهاني وكمية أنواعه وكيفية تأليفه واستعماله واستخراج نتائجه، ولكن نحتاج قبل ذلك كله أن نخبر أولًا ما غرض الفلاسفة في استعمال القياس البرهاني.

    واعلم يا أخي بأنه لما كانت طُرُقُ العلوم والمعارف والاستشعار والإحساس كثيرة، كما بينا بعضها في رسالة الحاس والمحسوس، وبعضها في رسالة العقل والمعقول، وبعضها في رسالة أجناس العلوم، وكانت الطرق التي سلكها الفلاسفة منها في التعاليم وطلبهم معرفة حقائق الأشياء أربعة أنواع، وهي التقسيم والتحليل والحدود والبرهان؛ احتجنا أن نذكر واحدًا واحدًا منها، ونبين كيفية المسلك فيها، وأن المعلومات كيف تعرف بها، ولم هي أربع طرق لا أقل ولا أكثر.

    أما علة ذلك فإنه لما استبان واتضح في قاطيغورياس بطريق القسمة أن الموجودات كلها ليست تخلو أن تكون أجناسًا وأنواعًا وفصولًا وأشخاصًا؛ وجب ضرورةً أن تكون طريقُ المعرفة بكل واحد منها غير الأخرى؛ بيان ذلك أنه بالقسمة تُعرف حقيقة الأجناس من الأنواع، والأنواع من الأشخاص، وبالتحليل تُعرف حقيقةُ الأشخاص؛ أعني: كل واحد منها من ماذا هو مركب، ومن أي الأشياء هو مؤلف، وإلى ماذا ينحل.

    وبالحدود تُعرف حقيقةُ الأنواع من أي الأجناس كل واحد منها، وبكم فصل يمتاز عن غيره، وبالبرهان تعرف حقيقةُ الأجناس التي هي أعيانٌ كليات معقولات، كما سنبين بعد هذا الفصل، فنُريد أن نشرح أولًا طريق التحليل في هذا الفصل؛ إذ قد فرغنا من طريق القسمة في قاطيغورياس، ولعلة أخرى أيضًا أن طريق التحليل أقرب إلى أفهام المتعلمين؛ لأنها طريق يعرف بها حقيقةُ الأشخاص، والأشخاص هي أُمُورٌ جزئيةٌ محسوسة، كما سنبين بعد هذا الفصل.

    وأما طريق الحدود وطريق البرهان فهما أدق وألطف وإنما يعرف بهما الأشياء المعقولة وهي الأنواع والأجناس.
    (١) فصل في طريق التحليل والحدود والبرهان


    واعلمْ بأن معنى قولنا: الشخص إنما هو إشارةٌ إلى جملة مجموعة من أشياء شتى أو مؤلفة من أجزاء عدة منفردة متميزة عن غيرها من الموجودات، والأشخاص نوعان، فمنها مجموع من أجزاء متشابهة مثل هذه السبيكة وهذا الحجر وهذه الخشبة وما شاكل ذلك من الأشخاص التي أجزاؤها كلها من جوهر واحد، ومنها أشخاص مجموعة من أجزاء مختلفة الجواهر، متغايرة الأعراض مثل هذا الجسد وهذه الشجرة وهذه المدينة وما شاكل ذلك من المجموعات من أشياءٍ شَتَّى، فإذا أردنا أن نعرف حقيقة شخص من هذه الأشخاص نظرنا أولًا إلى الأشياء التي هي مركبةٌ منها، ما هي، وبحثنا عن الأجزاء التي هي مؤلفة منها: كم هي.

    واعلم يا أخي بأن الأشياء المركبة كثيرةُ الأنواع، لا يحصي عددها إلا الله — عَزَّ وَجَلَّ — ولكن يجمعها كلها ثلاثة أجناس، إما أن تكون جسمانيةً طبيعية، أو جرمانية صناعية، أو نفسانية روحانية، فنريد أن نذكر من كل جنس منها مثالًا واحدًا؛ لكي ما يقاس عليه سائرها.

    فمِن الأشخاص الجسمانية الطبيعية جسد الإنسان، فإنه جملةٌ مجموعةٌ مؤلفةٌ من أعضاءٍ مختلفة الأشكال كالرأس واليدين والرجلين والرقبة والصدر وما شاكلها، وكل عضو منها أيضًا مركبٌ مِن أجزاء مختلفة الجواهر والأعراض كالعظم والعصب والعروق واللحم والجلد وما شاكلها، وكل واحد منها مكونٌ من الأخلاط الأربعة، وكل واحد من الأخلاط له مزاج من الكيموس، والكيموس من صفو الغذاء، والغذاء مِنْ لُبِّ النبات، والنبات من لطائف الأركان، والأركان من الجسم المطلق بما يخصها من الأوصاف، والجسم مؤلف من الهيولى والصورة، وهما البسيطان الأولان والجسد هو المركب الأخير. وأما سائرُها فبسائطُ ومركباتٌ بالإضافة.

    ومثال آخرُ من الجرمانية الصناعية، وهو قولنا: المدينة، فإنا نُشير به إلى جملة من أسواق ومحال، وكل واحد منها جملةٌ من منازل ودور وحوانيت، وكل واحد منها مؤلفٌ ومركبٌ من حيطان وسقوف، وكل واحد منها أيضًا مركب من الجص والآجر والخشب وما شاكل ذلك، وكلها من الأركان، والأركان من الجسم والجسم من الهيولى والصورة.

    ومثال آخر من الروحاني والنفساني، وهو قولُنا: الغناء؛ إشارة إلى ألحان مؤتلفة، واللحن مؤلف من نغمات متناسبة وأبيات متزنة، والأبياتُ مؤلفةٌ من المفاعيل، والمفاعيل من الأوتاد والأسباب، وكل واحد منهما أيضًا مؤلفٌ من حُرُوف متحركات وسواكن، وإنما يَعرف هذه الأشياء صاحب العروض ومن ينظر في النسب الموسيقية، وعلى هذه المثالات يعتبر طريق التحليل حتى يتضح أن الأشياء المركبة من ماذا هي مركبة ومؤلفة، فعند ذلك يعرف حقيقتها.

    وأما طريق الحدود فالغرض منها حقيقة الأنواع وكيفية المسلك فيه هو أن يُشار إلى نوعٍ من الأنواع ثم يبحث عن جنسه وكمية فُصُوله وتجمع كلها في أَوْجَزِ الألفاظ ويعبر عنها عند السؤال؛ مثال ذلك: ما حَدُّ الإنسان؟ فيقال: حيوانٌ ناطقٌ مائت، فإن قيل: ما حد الحيوان؟ فيقال: جسم متحرك حساس، فإن قيل: ما حد الجسم؟ فيقال: جوهر مركب طويل عريض عميق، فإن قيل: ما حد الجوهر؟ فيقال: لا حد له، ولكن له رسم، وهو أن تقول: هو الموجود القائم بنفسه، القابل للصفات المتضادة، فإن قيل: ما الصفات المتضادة؟ فيقال: أعراض حَالَّةٌ في الجواهر لا كالجزء منها. فعلى هذا القياس يُعتبرُ طريقُ الحدود، وقد أَفْرَدْنَا لها رسالة.

    وأما طريقُ البرهان والغرض المطلوب فيه فهو معرفةُ الصور المقومة التي هي ذوات أعيان موجودة، والفرق بينها وبين الصور المتممة لها التي هي كلها صفات لها ونعوت وأحوال ترادفت عليها، وهي موصوفة بها، ولكن الحواس لا تميزها؛ لأنها مغمورة تحت هذه الأوصاف مغطاة بها، فمِن أجل هذا احتِيج إلى النظر الدقيق والبحث الشافي في معرفتها والتمييز بينها وبين ما يليق بها ويترادف عليها بطريق القياس والبرهان.
    (٢) فصل في ماهية القياس


    واعلمْ يا أخي أنه لَمَّا كان أكثرُ معلومات الإنسان مكتسبًا بطريق القياس، وكان القياس حكمُهُ تارةً يكون صوابًا وتارةً يكون خطأً؛ احتجنا أن نبين ما علة ذلك؛ لكي ما يتحرز من الخطأ عند استعمال القياس، فنقول:

    القياس هو تأليفُ المقدمات، واستعمالُهُ هو استخراج نتائجها، ومقدمات القياس مأخوذةٌ من المعلومات التي في أوائل العقول، وتلك المعلومات أيضًا مأخوذةٌ أوائلها من طُرُق الحواس — كَمَا بَيَّنَّا في رسالة الحاس والمحسوس كيفيتها.
    (٣) فصل في بيان حاجة الإنسان إلى استعمال القياس


    اعلمْ يا أخي بأنه لما كانت الحواس تدرك أن الأشخاص مركبة من جواهر بسيطة في أماكن متباينة، وأعراض جزئية، في محال متميزة؛ عرفت بأنها أعيانٌ غيرياتٌ موجودةٌ فحسب، وأما كمياتها وكيفياتها فلم تعلم على الاستقصاء إلا بالقياسات الموضوعة المركبة، مثال ذلك أنه إذا علم الإنسان بالحواس أن بعض الأجسام ثقيلةٌ أو كثيرةٌ أو عظيمة؛ فإنه لا يمكنُهُ أن يعلم كمية أثقالها إلا بالميزان ولا كثرتها إلا بالكيل ولا عظمها إلا بالذراع وما شاكل هذه، وهي كُلُّها موازينُ ومقاييسُ يعلم الإنسان بها ما لا يمكنُهُ أن يعلمه بالحزر والتخمين.
    (٤) فصل في وُجُوه الخطأ في القياس


    واعلمْ يا أخي بِأَنَّ الخطأ يدخل في القياس مِنْ وُجُوه ثلاثة؛ أحدها أن يكون المقياسُ معوجًّا ناقصًا أو زائدًا، والثاني أن يكون المستعمِل للقياس جاهلًا بكيفية استعماله، والثالث أن يكون القياسُ صحيحًا والمستعمِل عارفًا ولكن يقصد فيغالط دغلًا وغشًّا لمأرب له.
    (٥) فصل في كيفية دخول الخطأ من جهة المستعمل الجاهل


    واعلم يا أخي بأن الإنسان مطبوعٌ على استعمال القياس منذ الصبا كما هو مجبولٌ على استعمال الحواس، وذلك أن الطفل إذا ترعرع واستوى وأخذ يتأمل المحسوسات ونظر إلى والديه وعرفهما حسًّا وميز بينهما وبين نفسه؛ أخذ عند ذلك باستعمال الظنون والتوهُّم والتخمين، فإذا رأى صبيًّا مثله وتأمله عَلِمَ عند ذلك أن له والدين وإن لم يرهما حسًّا قياسًا على نفسه، وهذا قياسٌ صحيحٌ لا خطأ فيه؛ لأنه استدلال بمشاهدة المعلول على إثبات العلة.

    فإن كان له إخوة — وقد عرفهم بالحس — أخذ عند ذلك أيضًا بالتوهم والظن والتخمين، بأن لذلك الصبي أيضًا إخوة قياسًا على نفسه، وهذا القياس يدخله الخطأ والصواب؛ لأنه استدلالٌ بمشاهدة المعلول على إثبات أبناء جنسه، لا على إثبات علته.

    وهكذا أيضًا كلما رأى هذا الصبي امرأة ورجلًا ظن وتوهم أن لهما ولدًا وإن لم ير ولدهما قياسًا على حُكم والديه، وربما صدق هذا القياس حكمه وربما كذب؛ لأنه استدلالٌ بمشاهدة أبناء جنس العلة على إثبات معلولاتها، وعلى هذا المثال يقيس الإنسان من الصبا كلما وجد حالًا أو سببًا لنفسه أو لأبويه أو لإخوته، ظن مثل ذلك وتوهم لسائر الصبيان ولآبائهم وإخوتهم قياسًا على نفسه وأبويه وإخوته، حتى إنه كلما أصابه جوع أو عطش أو عري أو وجد حرًّا أو بردًا أو أكل طعامًا فاستلذه أو شرب شرابًا فاستطابه، أو لبس لباسًا فاستحسنه أو حزن على شيء فاته أو فرح بشيء وجده؛ ظن عندما يصيبه مِن هذه الأحوال شيءٌ أن قد أصاب سائر الصبيان — الذين هم أبناء جنسه — مثلُ ذلك.

    وعلى هذا المثال تجري سائر ظنونه وتوهمه في أحكام المحسوسات حتى ربما كان في دار والديه دابة أو متاع أو أثاث أو بئر ماؤها مالح؛ ظن وتوهم أن سائر دور الصبيان مثل ذلك حتى إذا بلغ وعقل وتفحص الأُمُور المحسوسة واعتبر أحوال الأشخاص الموجودة؛ عرف عند ذلك حقائق ما كان يظن ويتوهم في أيام الصبى، واستبان له شيءٌ بعد شيء صوابًا كان ظنه أو خطأ.
    (٦) فصل في بيان طريق الخطأ عند العقلاء وخطأ القياس عند الفلاسفة


    واعلمْ يا أخي بأن على هذا المثال يجري سائر أحكام العقلاء وظنونهم وتوهمهم في الأشياء قبل البحث والكشف؛ وذلك أن أكثر الناس إذا رأوا في بلدهم ريحًا أو مطرًا أو حرًّا أو بردًا أو ليلًا أو نهارًا أو شتاءً أو صيفًا؛ ظنوا وتوهموا بأن ذلك موجود في سائر البلدان قياسًا على ما يجدون في بلدهم كما كانوا يظنون وهم صبيان في سائر بيوت الناس مثل ما كانوا يجدون في بيوت آبائهم حتى استبان لهم بعد التجربة حقيقة ما كانوا يتوهمون كَمَا بَيَّنَّا قبل، فهكذا يجري حكم العقلاء من الناس في ظنونهم وتوهمهم في مثل هذه الأشياء التي تقدم ذكرها حتى إذا نظروا في العلوم الرياضية، وخاصة علم الهيئة استبان لهم عند ذلك حقيقة ما كانوا يظنون ويتوهمون صوابًا كان أو خطأ.

    واعلمْ يا أخي بأن الإنسان لا ينفك من هذه الظنون والأوهام، لا العقلاء المتيقنون ولا العلماء المرتاضون، ولا الحكماء المتفلسفون أيضًا؛ وذلك أنا نجد كثيرًا ممن يتعاطى الفلسفة والمعقولات والبراهين يظنون ويتوهمون أن الأرض في موضعها الخاص بها هي ثقيلةٌ أيضًا قياسًا على ما وجدوا من ثقل أجزائها، أي جزء كان، فإذا كان هذا هكذا، فغيرُ مأمون أن تكون سائرُ القياسات تجري هذا المجرى، وفي هذا ما يدل على ضعف القياس وفساده ودلالته، وهكذا يظن كثيرٌ منهم من يكون في مقابلة بلدهم من جانب الأرض أن قيامهم يكون منكوسًا؛ قياسًا على ما يجدون مِن حال مَن يكون واقفًا تحت سطح وآخر هو قائم فوقه رجلاه في مقابلة رجليه.

    وهكذا يظن كثيرٌ منهم أَنَّ خارج العالم فضاء بلا نهاية إما ملاء وإما خلاء؛ قياسًا على ما يجدون من خارج دورهم من أماكن أخر وخارج بلدهم بلدانًا أخر، وخارج عالمهم عالم الأفلاك، وهكذا يظنون أن الباري — عَزَّ وَجَلَّ — خلق العالم في مكان وزمان قياسًا على ما يجدون مِن أفعالهم وصنائعهم في مكان وزمان، ولهذه العلة ظن كثيرٌ منهم أن الباري — جَلَّ جلالُهُ — جسم قياسًا على ما شاهدوا؛ إذ لم يجدوا فاعلًا إلا جسمًا ووجدوا الباري فاعلًا وإذا ارتاضوا في العلوم الإلهية استبان لهم أَنَّ الأمر بخلاف ذلك — كَمَا بَيَّنَّا في الرسالة الإلهية.

    واعلم يا أخي بأن الإنسان لا يرتقي في درجات العلوم والمعارف رتبةً إلا وتسنح له أُمُورٌ يكون علمُهُ بها قبل البيان والكشف كظنونه بالأشياء المحسوسات قبل معرفة حقائقها وهو طفل — كَمَا بَيَّنَّا قبل.
    (٧) فصل في معقولات الحواس ونتائجها


    واعلمْ يا أخي بأن نسبة المعلومات التي يدركها الإنسان بالحواس الخمس بالإضافة إلى ما ينتج عنها في أوائل العقول؛ كثيرةٌ كنسبة الحروف المعجمة بالإضافة إلى ما يتركب عنها من الأسماء، ونسبة المعلومات التي هي في أوائل العقول بالإضافة إلى ما ينتج عنها بالبراهين والقياسات من العلوم؛ كثيرةٌ كنسبة الأسماء إلى ما يتألف عنها في المقالات والخطب والمحاورات من الكلام واللغات. والدليل على صحة ما قلنا بأن المعلومات القياسية أكثر عددًا من المعلومات التي هي في أوائل العقول ما ذُكر في كتاب إقليدس، وذلك أنه يذكر في صدر كل مقالة مقدار عشر معلومات أقل أو أكثر مما هي في أوائل العقول، ثم يستخرج من نتائجها مائتي مسألة معلومات برهانية، وهكذا حكم كتاب المجسطي، وأكثر كتب الفلسفة هكذا حكمها.

    وإذ قد فرغنا مِنْ ذِكْرِ كيفية دخول الخطأ في القياس مِن جهة جهل المتعلمين؛ فنريد أن نذكر كيفية دخول الخطأ من جهة القياس واعوجاجه.
    (٨) فصل في كيفية اعوجاج القياس وكيف التحرُّز منه


    واعلم يا أخي بأن الخطأَ الذي يدخل في القياس مِنْ جهة اعوجاجه كثيرُ الفنون كثرةً يطول شرحها، ذكر ذلك في كتب المنطق، إلا أنا نُريد أن نذكر في هذا الفصل شرائطَ القياس المستوي حسب؛ ليتحفظ بها ويقتصر على استعمال ما في البراهين، ويترك ما سواه من القياسات التي لا يؤمن فيها من الخطأ والزلل، فمن القياسات التي تخطئ وتصيب القياس على مجرى العادة بالأنموذج، وهو قياس الجزء على الكل.

    واعلم يا أخي أن القياس الذي لا يدخله الخطأ والزلل هو الذي حفظ في تركيبه واستعماله الشرائط التي أوصى بها أرسطاطاليس تلاميذه، وهي هذه: ينبغي أن يؤخذ في كل علم وتعلم قياسي معنيان معلومان، مما هو في أوائل العقول وهي: هل هو، وما هو، وإنما أوصى هذا من أجل أنه لا يمكن أن يعلم مجهولٌ بمجهول، ولا أن يُقاس على شيء مجهول وشيء معلوم، فلا بد أن يؤخذ شيء معلوم مما هو في أوائل العقول، ثم يقاس عليه سائر ما يطلب بالبرهان.

    والذي في أوائل العقول شيئان اثنان هويات الأشياء وماهياتها، وذلك أن هويات الأشياء تحصل في النفوس بطريق الحواس، وماهياتها بطريق الفكر والروية والتمييز، كَمَا بَيَّنَّا في رسالة الحاس والمحسوس، وإذا حصلت هويات المحسوسات في النفس بطريق الحواس، وماهياتها بطريق الفكر والروية والتمييز، سميت النفوس عند ذلك عاقلة، وإذا تأملت وأردت يا أخي أن تعرف ما العقل الإنساني، فليس هو شيئًا سوى النفس الإنسانية التي صارت علامة بالفعل بعدما كانت علامة بالقوة، وإنما صارت علامة بالفعل بعدما حصل فيها صور هوية الأشياء بطريق الحواس وصور ماهيتها بطريق الفكر والروية.
    (٩) فصل في أساس القياس البرهاني


    واعلم يا أخي بأن على هذين العلمين يبنى سائر القياسات البرهانية؛ أعني: هل هو، وما هو، مثال ذلك ما ذُكر في كتاب إقليدس في أول المقالة الأُولى تسع معلومات مما هو في أوائل العقول، ثم بتوسطها يبرهن على سائر المسائل، وهي قوله: إذا كانت أشياء متساوية لشيء واحد، فهي أيضًا متساوية، وإن زِيد على أشياء متساوية أشياء متساوية صارتْ كلها متساوية، وإن نقص منها متساوية كانت الباقية متساوية، وإن زيد على أشياء غير متساوية أشياء متساوية كانت كلها غير متساوية، وإن نقص منها أشياء متساوية كانت الباقية غير متساوية، وإن كان كل واحد مثلين لشيء واحد فهي متساوية، وإن كان كل واحد نصف الشيء، فهي أيضًا متساوية، وإذا انطبقت مقاديرُها ولم يفضل بعضها على بعض، فهي أيضًا متساوية، والكل أكثر من جزء، فهذه الحكوماتُ كلها مأخوذةٌ من العُلُوم التي هي في أوائل العقول بالسوية لا يختلف العقلاءُ في شيء منها، ثم يقاس عليها ما هم مختلفون فيه.
    (١٠) فصل في أوائل العقول وأوائل المعلومات


    واعلم يا أخي بأن هذه الأشياء وأمثالها تسمى أوائل في العقول؛ لأن كل العقلاء يعلمونها ولا يختلفون فيها إذا تأملوها وأنعموا النظر فيها، وإنما اختلافاتُهُم تكون في الأشياء التي تُعلم بطريق الاستدلال والمقاييس، وسبب اختلافهم فيها كثرةُ الطرق وفنون المقاييس وكيفية استعمالها، وشرح ذلك طويلٌ قد ذكر في كتب المنطق وكتب الجدل، ونريد أن نبين كيف تحصل حقائق هذه المعلومات في أنفُس العقلاء.

    واعلمْ يا أخي بأن هذه المعلومات التي تسمى أوائل في العقول إنما تحصُلُ في نُفُوس العقلاء باستقراء الأُمُور المحسوسة شيئًا بعد شيء، وتَصَفُّحها جزءًا بعد جزء، وتأمُّلها شخصًا بعد شخص، فإذا وجدوا منها أشخاصًا كثيرة تشملها صفة واحدة حصلت في نفوسهم بهذا الاعتبار أن كل ما كان من جنس ذلك الشخص ومن جنس ذلك الجزء؛ هذا حكمه، وإن لم يكونوا يشاهدون جميع أجزاء ذلك الجنس، وأشخاص ذلك النوع، مثال ذلك أن الصبي إذا ترعرع واستوى وأخذ يتأمل أشخاص الحيوانات واحدًا بعد واحد، فيجدها كلها تحس وتتحرك، فيعلم عند ذلك أن كل ما كان من جنسها هذا حكمه، وهكذا إذا تأمل كل جزء من الماء أي جزء كان، فوجده رطبًا سيالًا، وكل جزء من النار فوجده حارًّا محرقًا، وكل جزء من الأحجار فوجده صلبًا يابسًا؛ علم عند ذلك أن كل ما كان من ذلك الجنس فهذا حكمه، فبمثل هذا الاعتبار تحصُلُ المعلوماتُ في أوائل العقول بطريق الحواس.

    واعلم يا أخي بأن مراتبَ العقلاء في مثل هذه الأشياء التي تحصل في النفوس بطريق الحواس متفاوتةٌ في الدرجات؛ وذلك أن كل من كان منهم أنعم نظرًا وأحسن تأملًا وأجود تفكرًا وألطف روية وأكثر اعتبارًا؛ كانت الأشياء التي تعلم ببدائة العقول في نفوسهم أكثر مما في نفوس من يكون طول عمره ساهيًا لاهيًا مشغولًا بالأكل والشرب واللهو واللذات والأمور الجسمانية.

    واعلم يا أخي بأن أكثر ما يدخل الخطأ على المتأملين في حقائق الأشياء المحسوسة إذا حكموا على حقيقتها بحاسة واحدة، مثال ذلك من يرى السراب ويتأمله فيظن أنه غدران وأنهار، وإنما دخل الخطأ عليه؛ لأنه حكم على حقيقته بحاسة واحدة وليس كل الأشياء تعرف حقائقها بحاسة واحدة، ذلك أن بحاسة البصر لا يدرك إلا الألوان والأشكال وحقيقة الماء لا تعرف باللون واللمس والشكل بل بالذوق، وذلك أن كثيرًا من الأجساد السيالة تشبه لون الماء مثل الخل المصعد والنفط الأبيض وما شاكلهما.

    واعلم بأن لكل جنس من المحسوسات حاسة تعرف بها حقيقة ذلك الجنس، والأجسام السيالة يعرف فرقُ ما بينها وبين غيرها باللمس، وبعضها يعرف الفرق بينها بالذوق، وألوانها تعرف بالبصر فلا ينبغي للمتأمل أن يحكم على حقيقة شيء من المحسوسات إلا بتلك الحاسة المختصة بمعرفة حقيقة ذلك الجنس من المحسوسات، كَمَا بَيَّنَّا في رسالة الحاس والمحسوس، ونرجع الآن إلى ما كنا فيه؛ فنقول:

    وأما قوله: ينبغي أن يوضع في القياس البرهاني أولًا شيء معلوم: هل هو، وما هو؛ ليعلم به شيء آخر، كما يفعل المهندس فيضع خط ثم يعمل عليه مثلثًا متساوي الأضلاع أو يقسمه بقسمين، أو يقيم عليه خطًّا آخر أو يعمل عليه زاوية وما شاكل ذلك، مما قد ذكر في كتاب إقليدس وغيره من كُتُب الهندسة، والمعلومُ هل هو، وما هو، خط أو المطلوب المجهول؛ ليعلم أو يعمل هو المثلث، فهكذا ينبغي أيضًا أن يُعمل في القياس البرهاني أن تؤخذ أولًا أشياء مما هي معلومةٌ في أوائل العُقُول، ويركب التأليف ضربًا من التركيب، ثم يطلب بها أشياء مجهولة، ليس تعلم بأوائل العقول ولا تُدرك بالحواس، وأما قوله: ولا ينبغي في البُرهان أن يكون الشيءُ علة نفسه، فهذا بين في أوائل العقول؛ أي أن الشيء المعلول لا يكون علة نفسه، ولكن من أجل أن كثيرًا ممن يتعاطى البرهان ربما جعل المعلول علة لنفسه وهو لا يشعر لطول الخطاب.

    مثال ذلك مَن يتعاطى علم الطبيعيات إذا سُئل ما علةُ كثرة الأمطار في بعض السنين، فيقول: كثرة الغيوم، فإنْ سئل: ما علة كثرة الغيوم، فيقول: كثرةُ البخارات المتصاعدة من البحار والآجام في الهواء، فإن سئل: ما علة كثرة البخارات المتصاعدة، فيقول — أو يظن — كثرة المدود وانصباب مياه الأنهار والأودية والسيول إلى البحار، فإن سئل: ما علة كثرة المياه والمدود والسيول إلى البحار، فيقول: كثرة الأمطار، فعلى هذا القياس يلزمه أن علة كثرة الأمطار هي كثرةُ الأمطار، فمن أجل هذا يحتاج صاحبُ البرهان أن يقول: إحدى العلل كيت وكيت، والثانية والثالثة والرابعة، ليسلم من الاعتراض؛ إذ قد تكونُ الغيوم كثيرة والأمطار قليلة؛ لأن لكل شيء معلولٍ أربعَ علل — كَمَا بَيَّنَّا في رسالة العلل والمعلولات.
    (١١) فصل في أن المعلول لا يوجد قبل العلة


    وقوله: أن لا يكون المعلول قبل العلة، فهذا أيضًا بَيِّنٌ في أوائل العقول؛ لأن المعلول لا يكون قبل العلة، ولكن مِنْ أجل أنهما من جنس المضاف إنما يوجَدان معًا في الحس، وإن كانت العلةُ قبل المعلول بالعقل حتى ربما يشكل، فلا تتبين العلة من المعلول؛ مثال ذلك إذا سُئل مَنْ يتعاطى علم الهيئة ما علة طول النهار في بلد دون بلد، فيقول: كون الشمس فوق الأرض هناك زمانًا أطول، وإذا عكس هذه القضية وقيل: كل بلد يكون فيه مكث الشمس فوق الأرض أكثر، فنهاره أطول؛ فتصدق فيخفى على كثير ممن ليست له رياضة بالتعاليم أيهما علة للآخر، أَكَوْن الشمس فوق الأرض لطول النهار أو طول النهار لكون الشمس فوق الأرض؟ وهكذا النار والدخان ربما يوجدان معًا، وربما يوجد أحدُهُما قبل الآخر، وربما يُستدلُّ بالدخان على النار، وربما تُجعل النار سببًا لوجود الدخان فلا يدرى أيهما علة للآخر.

    واعلمْ يا أخي بأن النار والدخان ليس أحدهما علة للآخر، بل علتهما الهيولانية هي الأجسام المستحيلة، وعلتهما الفاعلية هي الحرارة، وهما يختلفان في الصورة، وذلك أن الحرارة إذا فعلت في الأجسام المستحيلة فعلًا تامًّا صارتْ نارًا، وإن قصرت عن فعلها لرطوبة غالبة صارت دخانًا وبخارًا.
    (١٢) فصل في قوله: وأن لا يستعمل في البرهان الأعراض الملازمة وأن علة الشيء من ذاتياته وكون المقدمة كلية


    قوله: أَنْ لَا يستعمل في البرهان الأعراضُ الملازمة إنما هو؛ لأن الأعراض الملازمة لا تفارق الأشياء التي هي لازمة لها، كما أن العلة لا تفارق معلولها، وذلك أنه متى حكم على شيء بأنه معلول، فقد وجب أن له علة فاعلة له، والأعراض الملازمة، وإن كانت لا تفارق فليست هي فاعلة له، مثال ذلك أن الموت وإن كان لا يفارق القتل، فإنه ليس له بعلة، ولا القتل أيضًا علة للموت ذاتية؛ إذ قد يكون موت كثير بلا قتل فلا يكون معلول بلا علة.

    وأما قوله: وأن تكون العلة ذاتية للشيء فإنما قال هذا من أجل أنه قد يكونُ للشيء الواحد عللٌ عرضية، ولكنها لا تكون مستمرة في جميع أنواع ذلك الجنس، ولا جميع أشخاص النوع؛ كالقتل الذي هو علة عرضية للموت غير مستمرة في جميع أنواعه، ولكن تحتاج أن تكون العلة ذاتية، حتى تكون القضية صادقة قبل العكس وبعده، كقولك: كل ذي لون فهو جسم، فإذا عكسته وقلت: وكل جسم فهو ذو لون؛ لأنه لا يوجد شيءٌ ذو لون إلا وهو جسم، فإذن الجسم علةٌ ذاتيةٌ لذي اللون.

    وأما قوله: وأن تكون المقدمة كلية، فمِن أجل أن المقدمات الجزئية لا تكون نتائجُها ضرورية، ولكن ممكنة، كقولك: زيد كاتب وبعض الكتاب وزير، فيمكن أن يكون زيد وزيرًا، وأما إذا قيل: كل كاتب فهو يقرأ وزيد كاتب، فإذن زيد بالضرورة قارئ.
    (١٣) فصل في أَنَّ الحُكْم بالصفات الذاتية


    وأما قولُهُ: وأن يكون كون المحمول في الموضوع كونًا أوليًّا فمِن أجل أَنَّ المحمولات في الموضوعات على نوعين منها أوليات، ومنها ثوان، مثال ذلك كون ثلاث زوايا في كل مثلث كونًا أولًا؛ لأنها هي الصورة المقومة له، فأما أن تكون حادة أو قائمة أو منفرجة، فهو كونٌ ثانٍ، فقد استبان أنه لا يستعمل في القياس البرهاني إلا الصفات الذاتية الجوهرية، وهي الصورة المقومة للشيء، وبها يكون ذلك الحكم المطلوب الذي يخرج في النتيجة الصادقة.

    واعلمْ يا أخي أن الصفات الذاتية الجوهرية ثلاثةُ أقسام جنسية ونوعية وشخصية، كما بينا في رسالة إيساغوجي، فأقول: واحكم حكمًا حتمًا كما تعلمه ولا تشك فيه بأن كل صفة جنسية فهي تصدق عند الوصف على جميع أنواع ذلك الجنس ضرورة، وهكذا أيضًا كل صفة نوعية فهي تصدق على جميع أشخاص ذلك النوع عند الوصف لها، فهذه الصفات هي التي تخرج في النتيجة صادقة، فاستعملْها في البرهان، واحكمْ بها.

    وأما الصفاتُ الشخصية فإنها ليس من الضرورة أن تصدق على جميع النوع، ولا كل صفة نوعية تصدق على جميع الجنس، فلا تستعملْها في البرهان، ولا تحكم بها حكمًا حتمًا؛ فإنك لست منها على حكم يقين، فقد عرفت واستبان لك أَنَّ الحكماء والمتفلسفين ما وضعوا القياس البرهاني إلا ليعلموا به الأشياءَ التي لا تُعلم إلا بالقياس، وهي الأشياء التي لا يمكن أن تُعلم بالحس ولا بأوائل العقول، بل بطريق الاستدلال، وهو المسمى البرهان.

    واعلمْ يا أخي بأن لكل صناعة أهلًا، ولأهل كل صناعة أُصُولًا في صناعتهم، هم متفقون عليها، وأوائل في علومهم لا يختلفون فيها؛ لأن أوائلَ كل صناعة مأخوذةٌ من صناعة أُخرى قبلها في الترتيب.
    (١٤) فصل في أن صناعة البرهان نوعان


    واعلم بأن أوائل صناعة البرهان مأخوذةٌ مما في بداية العقول، وأن التي في بداية العقول مأخوذةٌ أوائلها من طريق الحواس — كَمَا بَيَّنَّا قبل.

    واعلم أن صناعة البرهان نوعان هندسيةٌ ومنطقية، فالأوائلُ التي في صناعة الهندسة مأخوذةٌ من صناعةٍ أُخرى قبلها مثل قول إقليدس: النقطة هي شيءٌ لا جُزء له، والخط طولٌ بلا عرض، والسطح ما له طول وعرض، وما شاكل هذه من المصادرات المذكورة في أوائل المقالات، فهكذا أيضًا حُكم البراهين المنطقية؛ فإن أوائلها مأخوذةٌ من صناعة قبلها، ولا بد للمتعلمين أن يصادروا عليها قبل البرهان، فمن ذلك قول صاحب المنطق: إن كل شيء موجودٌ سوى الباري — جَلَّ جلالُهُ — فهو إما جوهرٌ وإما عرض، ومثل قوله: إن الجوهر هو القائمُ بنفسه، القابل للمتضادات، وإن العرض هو الذي يكونُ في الشيء لا كجزء منه، يبطل من غير بطلان ذلك الشيء.

    ومثل قوله: إن الجوهر منه ما هو بسيطٌ كالهيولى والصورة، ومنه ما هو مركب كالجسم، ومثل قوله: إن كل جوهر فهو إما علة فاعلةٌ أو معلولٌ منفعل، ومثل قوله: كل علة فاعلة فهي أشرفُ من معلولها المنفعل، ومثل قوله: ليس بين السلب والإيجاب منزلة، ولا بين العدم والوجود رتبة، وإن العرض لا فعل له، وما شاكل هذه المقدمات التي يصادر عليها المتعلمون قبل البراهين.

    وينبغي لمن يريد النظر في البراهين المنطقية أن يكون قد ارتاض في البراهين الهندسية أولًا، وقد أخذ منها طرفًا؛ لأنها أقرب من فهم المتعلمين وأسهل على المتأملين؛ لأن مثالاتها محسوسةٌ مرئيةٌ بالبصر، وإن كانت معانيها مسموعةً ومعقولة؛ لأن الأُمُور المحسوسة أقرب إلى فهم المتعلمين.

    واعلمْ بأن البراهين سواء كانت هندسية أو منطقية فلا تكون إلا من نتائجَ صادقة، والنتيجة الواحدة لا بد لها من مقدمتين صادقتين أو ما زاد على ذلك، بالغًا ما بلغ، مثال ذلك ما بين في كتاب إقليدس في البرهان على أن ثلاث زوايا من كل مثلث مساويةٌ لزاويتين قائمتين، لم يكن ذلك إلا بعد اثنين وثلاثين شكلًا، وعلى هذا المثال سائرُ الأشكال تحتاج إلى براهين أُخر، وأن مربع وتر الزاوية القائمة مساوٍ لمربعَي الضلعين لم يكن البرهان عليه إلا بعد ستة وأربعين شكلًا، ويسمى هذا الشكل بشكل العروس، وعلى هذا المثال سائر المبرهنات، وهكذا أيضًا حكم البراهين المنطقية، وربما تكفيه مقدمتان، وربما يحتاج إلى عدة مقدمات.

    مثال ذلك في البرهان على وجود النفس مع الجسم تكفي ثلاث مقدمات، وهي هذه: كل جسم فهو ذو جهات، وهذه مقدمة كلية موجبة صادقة في أولية العقل، والمقدمة الأُخرى وليس يمكن الجسم أن يتحرك إلى جميع جهاته دفعة واحدة، وهذه مقدمة كلية سالبة صادقة في أولية العقل، والمقدمة الثالثة وكل جسم يتحرك إلى جهة دون جهة فلعلة ما تحرك له مقدمة كلية صادقة في أولية العقل، فينتج من هذه المقدمات وجود النفس، والذي ينبغي ليبرهن بأنها جوهر لا عرض أن يضاف إلى هذه المقدمات التي تقدمت هذه الأخرى وكل علة محركة للجسم لا تخلو أن تكون حركتها على وتيرة واحدة في جهة واحدة، مثل حركة الثقيل إلى أسفل، والخفيف إلى فوق، فتسمى هذه علة طبيعية، وأما أن تكون حركتها إلى جهات مختلفة، وعلى فنون شتى بإرادة واختيار مثل حركة الحيوان، فتسمى نفسانية، وهذه قسمة عقلية مدركة حسًّا، وكل علة محركة للجسم بإرادة واختيار فهي جوهر، فالنفس إذن جوهر؛ لأن العرض لا فعل له، وهذه مقدمات مقبولة في أوائل العقول، فينتج من هذه أن النفس جوهر.
    (١٥) فصل في كيفية البرهان على أنه ليس في العالم خلاء


    ومعنى الخلاء هو المكان الفارغ الذي لا متمكن فيه وليس يعقل في العالم مكان لا مضيء ولا مظلم، مقدمة كلية سالبة صادقة في أولية العقل، مقدمة أخرى: وليس يخلو النور والظلمة أن يكونا جوهرين أو عرضين، أو أحدهما جوهرًا والآخر عرضًا، وهذه أقسامٌ عقليةٌ صحيحة، مقدمة أُخرى فإن يكونا جوهرين فإذن الخلاء ليس بموجود، أو عرضين فالعرض لا يقوم إلا في الجوهر، فالخلاء إذن ليس موجودًا، وإن يكن أحدهما جوهرًا والآخر عرضًا فهكذا الحكم.
    (١٦) فصل في البرهان على أنه ليس في العالم لا خلاء ولا ملاء


    اعلم يا أخي بأن الخلاء والملاء صفتان للمكان، والمكان صفة من صفات الأجسام، فإن كان خارج الفلك جسم آخر، فقولنا: العالم، نعني به ذلك الجسم مع الفلك جميعًا، فمن أين خارج العالم شيء آخر.
    (١٧) فصل في معنى قول الحكماء: هل العالم قديم أو محدث؟


    فإن كان المرادُ بالقديم أنه قد أتى عليه زمانٌ طويلٌ فالقول صحيح، وإن كان المراد به أنه لم يزل ثابت العين على ما هو عليه الآن فلا؛ لأن العالم ليس بثابت العين على حالةٍ واحدة طرفة عين، فضلًا عن أن يكون لم يزل على ما هو عليه الآن، وذلك أن قول الحكماء في تسميتهم العالم إنما يعنون به عالم الأجسام، وهو نوعان فلكي وطبيعي، فأما الأجسامُ الطبيعيةُ التي دون فلك القمر، فهي نوعان الأركان الكليات والمولدات الجزئيات، فالمولدات دائمًا في الكون والفساد، وأما الأركان الكليات فهي دائمًا في التغير والاستحالة لا يخفى هذا على الناظرين في الأُمُور الطبيعية، وأما الأجسام الفلكية فهي دائمًا في الحركة والنقلة والتبدل في المحاذيات، فأين ثباتها على حالة واحدة.

    وأما أن يكون يراد بالثبات الصورة والشكل الكري الذي هو عليه في دائم الأوقات، فليعلم بأن الشكل الكري والحركة الدورية ليسا للجسم من حيث هو جسم، ولا مقومين لذاته، بل هما صورتان متممتان بقصد قاصد كَمَا بَيَّنَّا في رسالة الهيولى والصورة، وكل صورة من المصور بقصد قاصد لا تكون ثابتة العين أبدية الوجود، وإنما يكونُ الشيءُ ثابت العين أبدي الوجود بالصورة المقومة.

    واعلمْ يا أخي بأن الحافظ للعالم على هذه الصورة، هو سرعةُ حركة الفلك المحيط، والمحرك للفلك هو غير الفلك، وأن تسكين الفلك عن الحركة بطلان العالم، وإنما يكون طرفة عين كما قال — عَزَّ وَجَلَّ: وَما أَمرُ الساعَةِ إِلا كَلَمحِ البَصَرِ أَو هُوَ أَقرَبُ.

    واعلم بأنه إن وقف الفلك عن الدوران وقفت الكواكبُ عن مسيرها والبُرُوج عن طلوعها وغروبها، وعند ذلك تبطل صورة العالم وقوامه وتقوم القيامةُ الكبرى، وهذا لا محالة كائن؛ لأن كل شيء في الإمكان إذا فرض له زمان بلا نهاية، فلا بد أن يخرج إلى الفعل، ووقوف الفلك عن الدوران من الممكن؛ لأن الذي يحركه يمكنه أن يسكنه، وهو أهون عليه وله المثل الأعلى، وقد بينا في رسالة المبادئ ما العلة في حدوث عالم الأجسام، وفي رسالة البعث والقيامة ما علة فناء عالم الأجسام.
    (١٨) فصل في أن الإنسان إذا ارتقى نفسًا صار ملكًا


    واعلمْ يا أخي أن الإنسان إذا سلك في مذهب نفسه، وتصرف في أحوالها مثل ما سلك به في خَلْق جسده وصورة بدنه؛ فإنه سيبلغ أقصى نهاية الإنسانية مما يلي رتبة الملائكة، ويقرب من باريه — عَزَّ وَجَلَّ — ويجازى بأحسن الجزاء، مما يقصر الوصف عنه، كما وصف الله — عَزَّ وَجَلَّ — فقال: فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، وأما ما سلك به في خلقه فهو أنه ابتدئ من نطفة من ماء مهين، ثم كان علقةً جامدة في قرارٍ مكين، ثم كان مضغةً ثم كان جنينًا مصورًا تامًّا، ثم كان طفلًا متحركًا حساسًا، ثم كان صبيًّا ذكيًّا فهمًا، ثم كان شابًّا متصرفًا قويًّا نشيطًا، ثم كان كهلًا مجربًا عالمًا عارفًا، ثم كان شيخًا حكيمًا فيلسوفًا ربانيًّا، ثم بعد الموت تكون نفسه ملكًا سماويًّا روحانيًّا أبدي الوجود ملتذًّا مسرورًا فرحًا باقيًا سرمدًا أبدًا.

    واعلم يا أخي بأنك لم تنقل رتبة من هذه المراتب إلا وقد خلع عنك أعراض وأوصاف ناقصة، وألبست ما هو أجود منها وأشرف، فهكذا ينبغي أن لا ترتقي في درجة العلوم والمعارف إلا وتخلع عن نفسك أخلاقًا وعادات وآراء ومذاهب وأعمالًا مما كنت معتادًا لها منذ الصبا من غير بصيرة ولا روية، حتى يمكنك أن تفارق الصورة الإنسانية وتلبس الصورة الملكية، ويمكنك الصعود إلى ملكوت السماوات وسعة عالم الأفلاك، وتجازى هناك بأحسن الجزاء وأوفر الثواب، وتعيش بألذ عيش مع أبناء جنسك الذين سبقوك إليها من الحكماء والأخيار المؤمنين الأبرار، مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسُن أولئك رفيقًا.

    واعلمْ يا أخي بأن الإنسان مطبوعٌ على استعمالِ القياس منذ الصبا، كما هو مجبول على استعمال الحواس بلا فكر ولا روية، كَمَا بَيَّنَّا قبل، ولكن قوانين القياسات مختلفة، كما قد تبين في كُتُب المنطق وشرائط الجدل بشرحٍ طويل، ولكن نذكر منها طرفًا ليكون مثالًا على سائرها، فمن ذلك أن الصبيان يجعلون قوانين القياسات مختلفة، كما يجعلون قياساتهم أحوال أنفسهم وآبائهم وإخوانهم وتصرفهم في الأُمُور وما يجدون في منازلهم من الأشياء أُصُولًا على سائر أحوال الصبيان وتصرف آبائهم، وما يكون في منازلهم وإن لم يروهم ولم يشاهدوا أحوالهم قياسًا على ما عرفوا من أحوال أنفسهم.

    وأما العقلاء البالغون من الناس فإنهم يجعلون قوانين قياساتهم ما عرفوه من الأُمُور في متصرفاتهم وما قد جربوه من الأحوال أُصُولًا يقيسون بها سائر الأشياء مما لم يشاهدوه ولا جربوه، بل قياسًا إلى ما عرفوه حسب، وأما العلماء الذين يتعاطون الجدل ودقيق النظر؛ فإنهم يجعلون قوانين قياساتهم ما قد اتفقوا عليه هم وخصماؤهم أُصُولًا ومقدمات يقيسون عليها ما هم فيه مختلفون، سواء كان ما اتفقوا عليه حقًّا أو باطلًا، صوابًا أو خطأً، وأما المرتاضون بالبراهين الهندسية أو المنطقية فإنهم يجعلون قوانين قياساتهم الأشياء التي هي في أوائل العقول أُصُولًا ومقدمات، ويستخرجون من نتائجها معلومات أخرى ليست بمحسوسات ولا معلومات بأوائل العقول، بل مكتسبة بالبراهين الضرورية ثم يجعلون تلك المعلومات المكتسبة مقدمات وقياسات، ويستخرجون من نتائجها معلومات أُخرى هي ألطف وأدق مما قبلها، وهكذا يفعلون دائمًا طول أعمارهم، ولو عاش الإنسان عمر الدنيا لكان له في ذلك متسع.
    (١٩) فصل في أن الحيوانات تتفاوت في الحواس ومعلوماتها


    واعلم يا أخي بأن من الحيوان ما له حاسةٌ واحدة، ومنه ما له حاستان، ومنه ما له ثلاث حواس، ومنه ما له أربع، ومنه ما له خمسُ حواس — كَمَا بَيَّنَّا في رسالة الحيوان.

    واعلمْ يا أخي بأن كل حيوان كان أكثر حواس فإنه يكون أكثر محسوسات، فأما الإنسانُ فله هذه الخمس بكمالها، ولكن كل من كان من الناس أكثر تأملًا لمحسوساته وأكثر اعتبارًا لأحوالها كانت المعلومات التي في أولية العقل في نفسه أكثر، ومن كان بهذا الوصف وجعل هذه المعلومات الأولية مقدمات وقياسات، واستخرج نتائجها؛ كانت المعلومات البرهانية في نفسه أكثر، وكل من كان أكثر معلومات حقيقة كان بالملائكة أشبه وإلى ربه أقرب.
    (٢٠) فصل في المعلومات البرهانية والأُمُور الروحية


    واعلمْ يا أخي بأن الإنسان العاقل اللبيب إذا أكثر التأمُّل والنظرَ إلى الأُمُور المحسوسة، واعتبر أحوالها بفكرته ومَيَّزَها برويته؛ كثرت المعلومات العقلية في نفسه، وإذا استعمل هذه المعلومات بالقياسات واستخرج نتائجها؛ كثرت المعلومات البرهانية في نفسه، وكل نفس كثرت معلوماتها البرهانية، كانت قوتها على تصوُّر الأُمُور الروحانية التي هي صورة مجردة عن الهيولى بحسب ذلك، وعند ذلك تشبهت بها، وصارت مثلها بالقوة، فإذا فارقت الجسد عند الممات صارت مثلها بالفعل، واستقلت بذاتها، ونجت من جهنم عالم الكون والفساد، وفازت بالدخول إلى الجنة عالم الأرواح التي هي دار الحيوان لو كانوا يعلمون أبناء الدنيا الذين يريدون الحياة الدنيا، ويتمنون الخلود فيها: يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ، فأعيذك أيها الأخ أن تكون منهم، بل كُنْ مِن أبناء الآخرة وأولياء الله الذين مَدَحَهم بقوله تعالى توبيخًا لمن زعم أنه منهم، فقال — جَلَّ جَلَالُه: قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ للهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فبادرْ يا أخي واجتهدْ في طلب المعارف الربانية واكتساب الأخلاق الملكية، وسارع إلى الخيرات من الأعمال الزكية قبل فناء العمر وتقارُب الأجل، واغتنمْ خمسًا قبل خمس، قال رسول الله ﷺ: اغتنم فراغك قبل شغلك، وغناك قبل فقرك، وصحتك قبل سقمك، وشبابك قبل هرمك، وحياتك قبل موتك، وتزودْ فإن خير الزاد التقوى، فلعلك توفق للصعود إلى ملكوت السماء وسعة الأفلاك، وتدخل إلى الجنة عالم الأرواح بنفسك الزكية الروحانية، لا بجسدك الجثة الجرمانية، وفقك الله أيها الأخ للسداد، وهدانا وإياك للرشاد وجميع إخواننا حيث كانوا في البلاد إنه رءوف بالعباد.

    ***

    (تمت الرسالةُ بعون الله — سبحانه وتعالى — والحمد لله وحده، وصلى الله على رسوله سيدنا محمد وآله الطاهرين وسلم تسليمًا، وبها تَمَّ القسم الأول في الرياضيات من كتاب «إخوان الصفا وخِلَّان الوفا»، ويتلوه القسم الثاني في الطبيعيات الجسمانية، أوله رسالة الهيولى والصورة.)

    سلام قولا من رب رحيم

  • #2
    السلام عليكم

    جزاكم الله الف الف خير اخي

    علي كل ما تثري به المنتدي من مواضيع مهمه ومفيده

    لكل من قراها بتمعن وفهم ما فيها من الاشارات

    تعليق


    • #3
      جزاك الله خيرا

      تعليق

      يعمل...
      X